الفَوَائِدُ الحِسَان المنتَقَاة مِن مَجالِسِ شَيخِنا عبد الغنيِّ عوسات (الحَلقَةُ الأُولَى)

المؤلف: 
إبراهيم بويران

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وبعد:

فهذه دررٌ من الفوائدِ والنَّصائِح الغوالي انتقيتها من مجالسِ شيخِنا الهُمام الفاضل المِفضال عبد الغني عوسات حفظه الله وسدَّد خُطاه وثبَّته على الحقِّ حتى يلقاه.

اقتبستها من معينٍ صافٍ ونهرٍ عذبٍ زلال، جادت بها قريحة هذا الشَّيخ المُربِّي، والعالم السَّلفي، الذي بالله يصول وبه يجول، وفي دينه ومنهجه بإذن الله ثابتٌ لا يتزعزع عنه و لا يحول.

ولستُ هنا في سياق الترجمة لشيخنا و إلا لأجريت حبر القلم بسرد جميل مناقبه، ومحاسن أفعاله، وعظيم جهوده في نشر التوحيد و العلم والسنة، و ذِكر تزكيات مشايخ العلم لشخصه، ولكني إنما أردت بما اقتبسته من كلماتٍ مُختصرةٍ من بحر معارفه، إفادةَ نفسي وإخواني، عسانا نستضيء بنور توجيهاته السَّديدة، ونصائِحه الرَّشيدة فننتفِعُ جميعًا بذلك في ديننا ودنيانا وآخرتنا.

ولي أسوةٌ في عملي هذا بنُخبةٍ من نُجباءِ طلبة العلم ممَّن لا زموا بعض المشايخ والعلماء حرصًا على الاقتباس من علومهم وأدبهم، فاستفادوا خيرًا كثيرًا ونشروه في الناس في مقالات، بل في رسائل بل في كتب ومؤلفات، فعمَّ النفع، وانتشر الخير، وكانوا بذلك دلائل على الهدى مفاتيح للخير.

أخرج ابن عبد البر في « جامع بيان العلم و فضله »(2/34) بسنده عن سليمان بن موسى قال : « يجلس إلى العالم ثلاثة: رجل يأخذ كل ما يسمع فذلك حاطب ليل، ورجلٌ لا يكتب و يسمع فيقال له جليس العالم، ورجل ينتقي وهو خيرهم »انتهى.

فطمعًا مني في أن أنضويَ في سلكِ الصِّنف الثالث عزمت أمري على نشر ما اجتمع لديَّ من الفوائد الجياد، والفرائد الحسان، من جوامع كلِم شيخنا الهمام، عبر حلقاتٍ متتالية في صفحات هذا المنتدى المبارك، وقد انتقيت مما اجتمع عندي في بطون دفاتري من الفرائِد، ما له تعلقٌ بالمسائل المنهجية و الدَّعوية خاصة، (ولا ينبِّئك مثلُ خبير)، و قد ألحقتها بتعليقاتٍ مختصرةً كاشِفةٍ للمقصود، مُوضِّحةً للمراد، فإلى المقصود، والله المستعان وعليه التكلان، لا إله غيره ولا رب سواه، وهو حسبي ونعم الوكيل.
 

بين قُلتُ...و.. نَقَلتُ..!!

في إحدى المجالس العامرة التي جمعتنا بوالدنا وشيخنا الكبير عبد الغني عوسات حفظه الله، وكان ذلك في المدينة النبوية في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، دار الكلام مع شيخنا حول موضوع التعالم، فكان من صُور التعالم التي نبَّه عليها شيخنا حفظه الله، قول بعض طلبة العلم في كتاباتهم: قلتُ..، وقال بأن هذا التعبير مما لا ينبغي أن يُعبِّر به طالب العلم، لأن مثله إنما يقول: نَقلتُ، وليس: قلتُ!

 

 

* ثم ذكر شيخنا حفظه الله قصةً – رواها بالمعنى - عن الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله، أنه و في مناقشته لدكتوراه أحد الطلاب، قال الطالب في بعض المواضع من رسالته: قلتُ، فقال له الشيخ حماد رحمه الله: قلتَ في الصفحة الفلانية: قلتُ، فقال الطالب: نعم، فقال له الشيخ حماد رحمه الله: من أين لك بهذا الذي قلتَه؟ ما ينبغي لك أن تقول قلتُ...

قال شيخنا عبد الغني معلقًا على كلام الشيخ حماد رحمه الله: لعله لو كان آخرٌ مكان الشيخ الأنصاري لقال للطالب: لعلك حرَّفت كلمة نقلتُ، وحذفتَ حرف النون فقلتَ: قلتُ! .
ثم قال شيخنا عبد الغني حفظه الله: المهم: الشيخ حمَّاد عابَ على الطالب قولَه: قلتُ، وقال له: أنت تقول: « نقلتُ، ولا تقل: قلتُ».
ثم قال شيخنا: « على مثلِ هذا ينبغي أن يتربَّى الناس، لكن للأسف، التَّعالم صار من حُسن التَّعلم، والمتعالِم هو المتعلِّم» انتهى.

هذه فائدةٌ عزيزة من شيخنا لله درُّه، يحسن نشرها في أوساط طلبة العلم و صنوف المتعلمين، ولاسيما منهم من تصدَّر للكتابة والتأليف والتدريس و الدَّعوة! فعلى مثل هذا ينبغي أن يتربى طلبة العلم كما قال شيخنا، أي: على التواضع، ومعرفة طالب العلم لقدر نفسه، وعدم إعجابه بنفسه واعتداده برأيه، فإن ذلك نوعٌ من التعالم مذموم، يورِثُ صاحبه الغرور، و قد يفضي به إلى احتقار وازدراء من هو أكبر منه سِنًّا وعلمًا.

ومع الأسف؛ فإن هذا هو الذي آل إليه حال بعض أصحاب:«قلتُ»!

حيث وجدنا بعضهم ممن يدرِّس بعض المتون يستدرك على علماء من أهل الاجتهاد كشيخ الإسلام ابن باز والفقيه ابن عثيمين، وإذا ناقش مسألة علمية قررها العالم في المتن الذي انبرى هذا الطالب لشرحه، ناقشه فيها بقلة أدب كأنه له قرين، وجعل يستدرك عليه حتى في ما هو من اختصاص ذلك العالم! كما فعل أحدهم حيث جعل يستدرك على العلامة العثيمين رحمه الله في شروط المجتهد وآداب المفتي! كأنه هو المجتهد و المفتي الذي سارت الركبان بفتاويه!

ومن أصحاب «قلتُ» قالًا أوحالًا، من اعتدَّ ببضاعته العلمية المزجاة واستقل بدعوته عن مشايخ بلده وتفرد عنهم، و شذَّ عن جماعتهم، و رآى بأن لا حاجة له للارتباط بالمشايخ والتواصل معهم والاحتكاك بهم، ، إعجابًا منه بنفسه، و اغترارًا بنتف معلوماته، التي قد لا تسعفه في أدنى معضلة!
و من أهل «قلتُ» قالًا أو حالًا، من صار يُدرِّس في جميع الفنون والعلوم! كأنه شيخ الإسلام!
و منهم من نصَّب نفسه مفتيًا للأمة!! وفتح هاتفه للسائلين من كل مكان فلا يردُّ يد لامس! حتى في أعوص المسائل، بل في النوازل!

ومن مضحكات أصحاب «قلتُ»، أنك تجدهم يحيل بعضهم إلى بعض وينصح بعضهم ببعض دون العلماء وكبار المشايخ، كما تجدهم يحيلون في كثير من مسائل العلم إلى كتاباتهم وسمعياتهم دون مؤلفات العلماء ربطًا منهم للناس بأشخاصهم، و اغترارًا بما عندهم من العلم.

هذا غيضٌ من فيضٍ وقطرةٌ من بحرٍ فاض بتعالم هذه الأصناف، وما أكثرهم في هذه الأزمنة المتأخرة، والسنين الخداعة لا كثرهم الله.

وكلهم معنيون بنصيحة شيخنا ومقصودون بتوجيهه لمن ألقى منهم السمع وهو شهيد « لكن للأسف: صار التعالم من حسن التَّعلم، والمتعالِم هو المتعلِّم» كما قال شيخنا سدَّده الله.
 

لقد صار الشُّذوذُ والتَّفرُّد عن أهلِ العلمِ ومخالفةُ القاعدَةِ السَّلفية: «إيَّاك أن تتكلَّم في مسألَةٍ ليسَ لكَ فيها إِمام » مفخرةٌ ومنقبةٌ يُتبَجَّح بها عند البعض»

هذه المقولة الطَّيِّبة قالها شيخنا في معرض كلامه على التَّعالم في ثنايا الجلسة السَّابقة، متأسِّفًا على الحالةِ التي آل إليها بعض المتعالمين كأصحاب «قلتُ».

فمن رزاياهم مخالفة القاعدة السَّلفية : « إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام »، والأدهى أنهم يعدُّون مخالفتهم لهذا الأصل منقبةٌ يفتخرون بها كما قال شيخنا!

فيأتون بما لم يسبقهم إليه عالم ولا إمام، من الغرائب والمنكرات من الأقوال و الاجتهادات، مُتقدِّمين بين يدي العلماء، و يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

وقد كانت الغرائب تعدُّ من شرِّ العلم عند العلماء، وخير العلم عندهم الظاهر الذي تداوله الناس، وتناقلوه كابرًا عن كابر.

قال مالك رحمه الله: «شرُّ العلم الغريب، وخيرُ العلم الظاهر، الذي قد رواه الناس» .

وقال ابن المبارك رحمه الله: «العلم الذي يجيئك من هاهنا، و من هاهنا» .

قال ابن رجبٍ في " شرح علل الترمذي" يعني به: المشهور.

 

ومع الأسف، فإننا نرى بعض المتعالمين من أصحاب «قلتُ» من هو مولعٌ بالغرائب ومُحبًّا للإغراب والإتيان بالغريب الذي لم يُسبق إليه !! ولسان حاله يقول:
 

إنِّي وإن كنتُ الأخيرَ زمانه لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل
 

والأدهى أننا نجد بعضهم يسمي غرائبه التي لم يسبق إليها: استنباطات واجتهادات!! وما هي في الحقيقة إلا تفرداتٌ منكرة، وشذوذات مذمومة، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.

وإلا فلو كان خيرًا ما جاء به لسُبق إليه، فماذا ترك الأول للآخر؟ لاسيما مع البون الشاسع بين ذاك الأول و هذا الآخر، وبين ذلك المتقدِّم وهذا المتأخِّر رتبة و زمنًا.

و لا تستغرب!! فهذا الإمام الحاكم على جلالته في علم الحديث و رسوخ قدمه فيه، عدَّ أهل العلم من أوهامه في كتابه المستدرك استدراكه على الشيخين أحاديث مُعلَّة بعِللٍ قادحة، اطَّلع عليها الشيخان؛ لأجلِها تركا إخراج تلك الأحاديث في صحيحيهما، بينما لم يتفطن الحاكم لتلك العلل وهو من هو !!فاستدرك عليهما تلك الأحاديث.

قال ابن كثير في " الباعث الحثيث ": «وقد قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم: قلَّ ما يفوت البخاري ومسلماً من الأحاديث الصحيحة، وقد ناقشه ابن الصلاح في ذلك، فإن الحاكم قد استدرك عليهما أحاديث كثيرة وإن كان في بعضها مقال، إلا أنه يصفو له شيء كثير.
قلت (ابن كثير): في هذا نظر، فإنه يلزمهما بإخراج أحاديث لا تلزمهما، لضعف رواتها عندهما، أو لتعليلهما ذلك والله أعلم» انتهى.

و قل مثل ذلك فيما ينفرد به بعض المتعالمين كأصحاب «قلتُ» مما يظنونه فوائد واستنباطات لم يسبقوا إليها، فلعل العلماء وقفوا عليها وتركوا الإفادة بها لنكارتها وضعفها و غرابتها، فيأت هذا المسكين فيستدرك بها على العلماء، ثمَّ يتبجَّح بكونه لم يقف على من سبقه إليها منهم!! فإنا لله وإنا إليه راجعون! 

وقد كان مشايخنا الكبار كالألباني وابن العثيمين رحمهما الله وغيرهما يبدوا لأحدهم رأيٌ في مسألة ما فيستحسنه، فيقول: لولا أني لم أجد من سبقني إليه، أو إلى القول به لقلت به، وتارة يقول: قد ظهر لي في هذه المسألة أن الصواب فيها كذا إلا أني لم أجد من قال بهذا القول قبلي فإن وُجد فإني أقول به وإلا فلا.

« فعلى مثل هذا ينبغي أن يتربى طلبة العلم » كما قال شيخنا المربي.

و كم كان يُكرِّر شيخنا عبدُ الغنيِّ في مجالسه أثر سفيان الثوري رحمه الله الذي أخرجه الخطيب البغدادي في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع » (1/142) «إن استطعت ألا تحكَّ رأسك إلَّا بأثرٍ فافعل».

و من مفاسد امتطاء هذا النهج، وانتهاج هذا السبيل، زيادة على مخالفة القاعدة السَّلفية في هذا الباب« إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام »، أنه:

* يورث صاحبه الغرور والعُجب بنفسه و بما عنده من العلم القليل، مما يفضي به إلى التعالم، و احتقار الآخرين.

* قد يتعجَّبُ بعضُ الجهلة من تفرُّداته فيستحسنونها وذلك لتشوف النفوس وطربها بمثل هذه الغرائب، فيؤدي بهم ذلك إلى إطرائه والغلو فيه فيقسمون بذلك ظهره، إلى غير ذلك من المفاسد، ولمثل هؤلاء عبرة بقصة عبد الله بن عمر في حديث النَّخلة، والله أعلم .

* لا خير فينا و لا بارك الله فينا إذا انتصرنا لأنفسنا على حساب هزيمة الحق و الدَّعوة *
 

سبق ذكر هذه المقولة الغالية من شيخنا حفظه الله معزُوَّةً إلى مصدرها، مع تعليقٍ يسيرٍ عليها في مقال « التعليقات المليحة على بيان منهج السلف في النصيحة»

و مُلخَّصُ ذلك أنه إذا كان الانتقام للنفس والانتصار لها يفضي إلى الإضرار بالدَّعوة و أهلها، وإلحاق الأذية بالدَّعوة والقائمين عليها، فإن هذا لا يجوز، لأن مصلحة الدعوة السلفية أكبر وأعظم من مصالحنا الشخصية، و حظوظِ أنفسِنا، فإن فعلنا ذلك: « فلا خير فينا و لا بارك الله فينا»، فكيف إذا وصل الأمر إلى حدِّ السَّعي في هدم الدَّعوة ،و تحطيمها، بل والدَّوس عليه بالأرجل عياذًا بالله!! من أجل نُصرة النُّفوس العاصية، والأهواء البطالة؟ فأيُّ خِزيٍ أعظم من هذا؟ وأيُّ خيرٍ و بركةٍ يرجوها من كان هذا حاله! فاللهم انصر الدَّعوة، و القائمين عليها، ومكِّن لهم ولدعوتهم النَّقيَّة، وانصر بهم دينك، وأعل بهم كلمتك .

*في رَأسِي و لَيسَ في رأسِ الشَّيخ ربيع*
 

في إحدى السفريات مع شيخنا عبد الغني حفظه الله، قصَّ علينا قصَّةً حدثت له أثناء إلقائه لكلمة في بيت العلامة ربيع المدخلي حفظه الله، حيث صوَّب الشيخُ ربيعٌ شيخنا عبد الغني في مسألة كان الصواب فيها حقًّا مع شيخنا عبد الغني، قال شيخنا: فسكتُّ، ولم أعقِّب على الشيخ، وقلت في نفسي:«في رأسي و ليس في رأس الشيخ ربيع!» .

لله درُّك شيخنا كيف تُؤصِّل عمليًا لإخوانك و أبنائك و تغرس فيهم محبة أهل العلم و احترامهم، و المحافظة على أعراضهم، و دعوتهم، و نحن بِدورنا نقول لك و لمشايخنا: في رؤوسنا و ليس في رؤوسكم، في نحورنا و ليس في نحوركم.

نعم؛ هذه هي التربية السلفية الحقَّة، وهي دينٌ فانظروا إخواني عمن تأخذونها!

إنَّ لِهَذا الموقفِ المُشرِّف من شيخنا دِلالاته، و مراميه، و اللَّبيب بالإشارة يفهمُ!

و من لم يفهم مُراد شيخنا بالإشارة، فسنُفهِمُه إيَّاه بالعبارة.

إنَّ شيخنا حفظه الله و أطال في عمره على طاعته، و ألبسه لباس الصحة و العافية، إنَّما يُريد من أبناء هذه الدَّعوة، المنتسبين إليها حقًّا وصدقًا، أن يُجنِّد كلُّ واحدٍ منهم نفسَه فيَجعل منها محاميًا عن هذه الدَّعوة و رجالها، و دِرعًا لهم ولدعوتهم، من سِهامِ الخصوم، فيُؤثر أن تقع الضَّربات على رأسه بدلًا من رءوس المشايخ والعلماء، و يُقدِّم مصلحة الدَّعوة السَّلفية على مصلحته الشَخصية، بل و يُضحِّي بمصالحه حفاظًا على مصلحة الدَّعوة.

هذا هو السَّلفي! الذي أخذ ياء النِّسبة بحقِّها، ولا أدلَّ على صِحَّة انتسابه لهذه الدَّعوة من هذه العبء الذي تحمَّله على كاهله، و الثِّقل الذي أنقض ظهره، مع هوانِ ذلك عليه خدمةً لهذه الدعوة، و ذبًّا عنها و عن أهلها القائمين عليها.

ثم هو بعد هذا كلِّه لا يمنُّ على هذه الدَّعوة! فلا يقول: فعلتُ..، وأنفقتُ من مالي ..، و صنعتُ من أمري..، و أفرغتُ من وقتي..، وبذلتُ من جهدي..،!! لأنَّه بِبساطةٍ يعلمُ بأنَّ هذه الدَّعوة تحتاج منه و تدينه بما هو أعظم من هذا! و لا يقول خدمتُ الدَّعوة، ولا حملتُ الدَّعوة! لأنَّه يعلمُ بأنَّ الدَّعوة هي التي خدَمَتُه، و هي التي حملته! كيف لا! و لولاها لكان نسيًا منسيًّا! فمهما اجتهد في خدمتها فلن يردَّ لها معروفها، فإن ادَّعى أحدٌ ذلك قلنا له ما قاله الصحابيُّ الجليل عبد الله بن عمر لذلك الرَّجل اليماني الذي وجده يحمل أمَّه على ظهره ويطوف بها فقال له: يا ابن عمر ! أتراني جزيتها؟ فقال له ابن عمر: لا، ولا بزفرة من زفراتها!

هذا السَّلفيُّ حقًّا، أمَّا السلفيُّ ادِّعاءً فإنَّ حقيقته تنكشف عند أوَّل معضلةٍ تحلُّ بالدَّعوة، فتراه كيف يُضحِّي بها على حساب المحافظة على مصالحه، ويخذلها أحوج ما تكون بحاجةٍ إليه! فما أشبه هؤلاء بالولد العاقِّ النَّاكر للمعروف.

.....يتبع بإذن الله .

تنبيه:

لا يُحاولنَّ أحدٌ استغلال مثل هذه المقالات و تنزيلها على مُعيَّنٍ لم يرد ذكر اسمه فيها، فقد يكون المقصود بكلام مشايخنا رجلٌ من آسيا، أو أفريقيا، أو أمريكا، و كلُّ ذلك لا يهم، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب، كما لا نحتاج إلى شوشرة أحدٍ من النَّاس بدعوى أنَّه هو المقصود بالمقال الفلاني، أو المقال الفلاني، بل الواجب علينا جميعًا أن نستفيد مما في المقالات العلمية من نصائح غالية من مشايخنا، و الأخذ بما فيها من نصحٍ و حثٍّ و ترغيب، أو زجرٍ و نهيٍ و ترهيب.

فإن رأى أحدُنا نفسه واقعًا أو متلبِّسًا بشيءٍ مما جاء التحذير منه من قبل مشايخنا، فليس له إلَّا مُراجعة نفسه، و إصلاح حاله، و التوبة من أخطائه، فإنَّه ليس بخيرٍ ممن كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يرى منهم ما يستدعي نصحهم فيصعد المنبر و يقول: «ما بالُ أقوامٍ، يقولون كذا، أو يفعلون كذا».

و إن رأى نفسه سالمًا من ذلك، غيرَ مُتلبِّسٍ بشيءٍ منه فليحمد الله الذي عافاه مما ابتلى به غيره، و ليجتهد في البعد عما حذَّر منه مشايخنا، ونُصح من رآه واقعًا في شيءٍ من ذلك من إخوانه بالأساليب الشَّرعية.

و من نُصِح من قِبل إخوانه سواءٌ كان ذلك مباشرةً أو على طريقة « ما بالُ أقوامٍ » فليستفِد من النَّصيحة فذلك خيرٌ له، و السَّلفيُّ حقًّا لا تجده إلَّا رجَّاعًا إلى الحقِّ متى ما تبيَّن له أنه خالفه، ولو لم يُنتقَد عليه خطؤه، أو لم يأته من يُنبِّهُه عليه، لأنَّه يتعامل مع ربِّه، فإذا انتقده أحدٌ على خطإ صدر منه سهوًا لم ينتبه له، أو جهلًا لم يتفطَّن إليه، و رآه مصيبًا فيما انتقده عليه فلا يسعه إلَّا قبول الانتقاد، ولو كان من مُبغضٍ أو عدوٍّ أو حاقدٍ، فإنَّ الحقَّ يُقبل من كلِّ من جاء به.

و الله أعلى وأعلم .