العلامة السلفي: ابن العُنَّابي الحنفي/ هشام بن حسن

المؤلف: 
هشام بن حسن

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

العلامة السلفيّ ابن العُنّابيّ الحنفيّ الجزائريّ
(ت 1267هـ - 1850م)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد :
فهذه سيرة مقتضبة لعلم من أعلام بلادنا الجزائر، ورائد من روّاد الإصلاح على نهج السلف الصالح، كثير منّا لا يعرف عن هذا العلم شيئا، فأحببت أن أسهم بالتعريف بهذا الإمام، وإن كان قد سبقني لهذا بعض المؤرخين والباحثين[1]، ولكنّي رأيت من الأهمية بمكان المشاركة في ذلك لتقريب سيرته وإبراز جوانب مهمّة منها، خصوصا وأنّ هذا العلم من الغرب الإسلامي وبالتحديد من بلادنا الجزائر، حيث إنّنا نشكو من قلّة اشتهار أعلامنا مقارنة بأهل المشرق، وبالإضافة إلى ذلك فصاحب هذه الترجمة حنفي المذهب سلفيّ المعتقد، وهذا شيء عزيز، فكثير من الأحناف هم ماتريدية في الاعتقاد، فأن تجد ما يخالف ذلك، فهذا ممّا يُعضّ عليه بالنواجذ، إذ إنّ فيه إعزازا للحقّ وإقامة للحجّة على من اتّبع الأئمّة في الفروع الفقهيّة وخالفهم في أصول الاعتقاد، والله المستعان .
وفي هذه اللمحة الموجزة عنه -رحمه الله-، أسعى للتركيز فيها على جوانب من عقيدته التي خالف فيها ما كان شائعا عند الحنفيّة أو في زمنه من انتشار مذهب الاشاعرة أو الماتريدية، وأمّا حياته الشخصية وآثاره فقد ذكرها المترجمون له بإسهاب وخصوصا الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله -رحمه الله- .
*فهو الشيخ الفقيه المفتي : محمد بن محمود بن محمد الجزائري الحنفي، الشهير بابن العنّابي، أصل أسرته من تركيا واستوطنوا مدينة عنابة بالجزائر إبان الخلافة العثمانية [2]
وُلد -رحمه الله- سنة 1189هـ الموافق لـ : 1775م بالجزائر ، وتوفي سنة 1267هـ الموافق لـ : 1851م في الإسكندرية بمصر .[3]
قال عنه الشيخ العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ -رحمه الله-: "وقد شهد أهل العلم والفضل من أهل عصره أنّه ( أي : الإمام المجدّد : محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- ) أظهر توحيد الله، وجدَّد دينه، ودعا إليه.قال العلامة حسين بن غنَام -رحمه الله-:لقد رفع المولى به رتّبة الهدى بوقت به يعلو الضلال ويرفع . وذكر في تاريخه عن أكابر أهل عصره أنهم شهدوا له بالعلم والدين، وأنه من جملة المجدّدين لما جاء به سيد المرسلين، وكذلك أهل مصر والشام والعراق والحرمين تواتر عن فضلائهم وأذكيائهم مدحه والثناء عليه والشهادة له أنه جدّد هذا الدين كما قال شيخنا محمد بن محمود الجزائري رحمه الله تعالى."[4]
وذكره في موضع آخر عند الكلام على الحديث الضعيف:" اللهم إني أسألك بحق السائلين..." فقال:
"وأما ما ورد في السنن من السؤال"بحق السائلين وبحق ممشى الذاهب إلى المسجد" ونحو ذلك، فالله سبحانه وتعالى جعل على نفسه حقا تفضلا منه وإحسانا إلى عباده، فهو توسل إليه بوعده وإحسانه، وما جعله لعباده المؤمنين على نفسه، فليس من هذا الباب، أعني باب مسألة الله بخلقه، وقد منع ذلك فقهاء الحنفية، كما حدثني به محمد بن محمود الجزائري الحنفي رحمه الله تعالى بداره بالإسكندرية، وذكر أنهم قالوا: لا حق لمخلوق على الخالق." [5]
وقال عنه العلامة عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ : "ولقيت بمصر مفتي الجزائر محمد بن محمود الجزائري الحنفي الأثري فوجدته حسن العقيدة طويل الباع في العلوم الشرعية وأول حديث حدثنيه المسلسل بالأولية رواه لنا عن شيخه محمود الجزائري بشرطه متصلا إلي سفيان بن عيينة كما تقدم وأجازني بمر وياته عن شيخه المذكور وشيخه علي بن الأمين وقرأت عليه جملة في صحيح مسلم وأول البخاري رواية ابن سعادة بالسند المتصل إلي المؤلف رحمه الله تعالى وقرأت عليه جملة من الأحكام الكبرى للحافظ عبد الحق الاشبيلي رحمه الله وكتبت أسانيده في الثبت الذي كتبته عنه."[6]
وبالإضافة إلى هذه التزكية بحسن العقيدة، وكذلكم ثناؤه على دعوة الإمام المجدّد : محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-فإنّنا نجد بعض النصوص النادرة التي تدلّ على ذلك.
منها ما ذكره مؤرخ الجزائر الدكتور سعد الله -رحمه الله-حين قال: "وأقدم نص وجدناه له يدل على ذلك. فقد عثرنا له على جواب أجاب به على مسألة في التوحيد بدأه هكذا (ورد علي سؤال نصه بعد عنوانه، إذا قيل حيث كان أهل الحق مطبقين على أن الحق تعالى يرى في الآخرة بالأبصار وأن الرؤية عبارة عن الإدراك المفسر بخلق الله تعالى فينا علما ضروريا عند ذلك فمتعلق هذا الإدراك نفس الذات العلية أم لا فأقول اعلم أولا أن المدركات تنقسم إلى ما يدخل في الخيال كالصور المتخيلة والأجسام المتلونة المتشكلة وإلى ما يدخل في الخيال كالذات العلية، وكل ما ليس بجسم كالعلم والقدرة والإرادة ...) وعندما وصل في هذه المسألة إلى الفصل بين رأي المعتزلة وأهل السنة اختار ابن العنابي رأي أهل السنة قائلا عن رأي المعتزلة (ونحن لا نقول به لضيق مجاله فنسلمه لأربابه، سالكين مسلك الجمهور من أهل السنة لوضوح أدلتهم ...)"[7].
ومن النصوص النادرة أيضا ردّه وتشنيعه على غلاة المتصوّفة الزنادقة، فقال -رحمه الله- كما نقله عنه المؤرّخ الأستاذ الدكتور سعد الله -رحمه الله-: "رأيه في المرأة:"إنّه لا يجوز للمرأة أن تكشف للأجنبي سوى باطن كفيها وما تحت الكعبين من قدميها، وأما الوجه فإنه وإن لم يكن عورة في حق الصلاة وفي حق النظر إليه إن أمن الشهوة - فإنه تمنع المرأة الشابة من كشفه بين الأجانب دفعا للفتنة وحسما لمادة الفساد والشر. وحكم المس في ذلك أغلظ، قال في مختارات النوازل (ولا يمس وجهها وكفيها وإن يأمن من الشهوة لعدم الضرورة فيه إن كانت شابة لأن حكم المس أغلظ من حكم النظر. ولهذا لم تثبت به حرمة المصاهرة).
وإذا عرف هذا فلا يحل لامرأة تؤمن بل وإن كانت عجوزا فانية أن تكشف عضديها وذراعيها وما أشبه ذلك لأجنبي أصلا.
وأما مؤاخاة المرأة في الله بهذا الغرض المحرم فإنها من كبائر المعاصي. فإن اعتقدها مع ذلك قربة كما يقع من كثير من الدراويش المتقشفة، فإنه يصير بذلك كافرا مرتدا لاستحلاله الحرام القطعي، فإن حرمة النظر إلى موضع الزينة من الأجنبية من الأمور القطعية الثابتة بقوله تعالى: {ولا يبدين زيتهن} الآية. وعلى ذلك إجماع الأمة وهو من ضروريات الدين. ومن استحل الحرام القطعي الذي يعلمه كل أحد من أهل الإسلام فإنه يصير كافرا. فإن غلب فاعل ذلك الجهل والغباوة فإنه يزجر عنه. وتكشف شبهته، فإن انتهى فذاك المراد وإن أبا (كذا) إلا تماديا على ضلاله وغيه فيجب على أمراء الإسلام قتله وإراحة المسلمين من شره لظهور زندقته والزنديق إذا أخذ قبل التوبة قتل ولا تقبل له توبة. ورفع فساد هؤلاء الزنادقة الذين أدخلوا على الإسلام وأهله أعظم الفساد والشر من أعظم ما يتقرب به إلى الله تعالى، فهو من أعظم الجهاد، ولا تغتر بما يظهرونه من الإصلاح والنسك فإنه من مكر الزندقة وخداعها أخزاهم الله وأبعدهم وسلط عليهم من ملوك الإسلام الذابين عن حمى شريعة سيد المرسلين من يشتت شملهم ويحسم مادة فتنتهم وشرهم " [8].
هذا ما يمكن إيراده عن هذا العلم المصلح الذي لا نعرف عنه إلا القليل لندرة مؤلفاته وعدم وصول أكثرها إلينا، ولله الأمر من قبل ومن بعد .وصلّى الله على نبيّنا محمّد وآله وصحبه وسلّم .
ــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
[1] فممّن أفرده بالترجمة المؤرخ الكبير : أبو القاسم سعد الله، وذلك في كتابه رائد التجديد الإسلامي محمد بن العنابي صاحب كتاب السعي المحمود في نظام الجنود، طبع دار الغرب الإسلامي، بيروت – لبنان ط الثانية 1410هـ - 1990م، وممّن ترجم له باختصار : الزركلي في الأعلام (7/89) وإسماعيل البغدادي في هدية العارفين (2/378) وعمر رضا كحالة في معجم المؤلفين(12/5) وعادل نويهض في معجم أعلام الجزائر (1/245) والمحقق الباحث محمد زياد بن عمر التكلة في مقدمة تحقيقه لـ : مجموع فيه إجازات من علامة الجزائر ابن العنابي الأثري، طبع ضمن لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام (المجلد 10)، صدر عن دار البشائر الإسلامية-بيروت-ط الأولى : 1429هـ-2008م .
[2] الأعلام (7/89) ، معجم المؤلفين ( 12/5)، مقدمة محمد التكلة (10/6) ،
[3] رائد التجديد الإسلامي لأبي القاسم سعد الله ص21 ،
[4] مصباح الظلام في الرد على من كذب الشيخ الإمام ونسبه إلى تكفير أهل الإيمان والإسلام 1/92-93 .
[5] المصدر السابق 2/287 .
[6] مشاهير علماء نجد وغيرهم لعبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ ص 68 .
[7] رائد التجديد الإسلامي ص 30 .
[8] رائد التجديد الإسلامي ص 121-122 .