التَّوَاضُعُ ... أَفْضَلُ العِبَادَةِ

المؤلف: 
نبيل باهي

 

التواضع... أفضل العبادة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

عن عياض بن حمار قال؛ قال رسول الله «وإن الله أوحى إليَّ: أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد» (1).

قال الشيخ ابن عثيمين : "يعني أن يتواضع كل واحد للآخر ولا يترفع عليه، بل يجعله مثله أو يكرمه أكثر، وكان من عادة السلف -رحمهم الله- إن الإنسان منهم يجعل من هو أصغر منه مثل ابنه، ومن هو أكبر مثل أبيه، ومن هو مثله مثل أخيه، فينظر إلى من هو أكبر منه نظرة إكرام وإجلال، وإلى من هو دونه نظرة إشفاق ورحمة، وإلى من هو مثله نظرة مساواة، فلا يبغي أحد على أحد، وهذا من الأمور التي يجب على الإنسان أن يتصف بها، أي بالتواضع لله عزّ وجلّ ولإخوانه من المسلمين" (2).

فالتواضع لا يمتنع منه أحد، والتواضع يكسب السلامة ويورث الألفة ويرفع الحقد ويذهب الصد، وثمرة التواضع المحبة، كما أن ثمرة القناعة الراحة، وإن تواضع الشريف يزيد في شرفه كما أن تكبر الوضيع يزيد في ضِعَتِه(3).

في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال؛ قال رسول الله : «وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل» (4)

قال ابن حبان : "الواجب على العاقل لزوم التواضع ومجانبة التكبر ولو لم يكن في التواضع خصلة تحمله إلا أن المرء كلما كثر تواضعه ازداد بذلك رفعة لكان الواجب عليه أن لا يتزيا بغيره"(5).

قال القاضي عياض : " وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله؛ فيه وجهان:
أحدهما: أن الله تعالى يمنحه ذلك في الدنيا جزاء على تواضعه له، وأن تواضعه يثبت له في القلوب محبة ومكانة وعزة.
والثاني: أن يكون ذلك ثوابه في الآخرة على تواضعه "(6).

ولذا قال تعالى مخاطبا رسوله، ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره التاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُم وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ(7).

 

 

وقال تعالى وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ

قال السعدي : بلين جانبك، ولطف خطابك لهم، وتوددك وتحببك إليهم، وحسن خلقك والإحسان التام بهم"(8).

قال الشوكاني : "وقد وصف الله سبحانه وتعالى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يظهرون العطف والحنو والتواضع للمؤمنين، ويظهرون الشدة والغلظة والترفع على الكافرين"(9).

وقال ابن كثير في قوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ : "هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليه، متعززًا على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ "(10).

بالتواضع وصف الرحمن عباده فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا (11)
قال القرطبي : " يمشون على الأرض حلماء متواضعين، يمشون في اقتصاد" (12)

وقد كان رسول الله ذا تواضع جم، يخفض جناحه للمؤمنين كما أمره رب العالمين، قال أبو هريرة وأبو ذر رضي الله عنهما:" كان رسول الله يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل..."(13).

وقال أنس : "إن رسول الله ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عُمير ما فعل النُّغَير"(14).

وقالت زوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: " كان يكون في مهنة أهله – تعني خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة"(15).

وعن أنس ابن مالك قال: " كان رسول الله يردف خلفه، ويضع طعامه على الأرض، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار"(16).

ولا أدلَّ على تواضعه من إجابة الدعوة، وقبول الهدية مهما قلت قيمتها، فعن أبي هريرة عن النبي قال: «لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت» (17).

وعلى هذا الخلق درج أصحابه رضوان الله عليهم، فالصديق الأكبر قال عنه ابن الجوزي: «لما استخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه أصبح غاديا على السوق، وكان يحلب للحي أغنامهم قبل الخلافة، فلما بويع قالت جارية من الحي الآن لا يحلب لنا، فقال: بلى لأحلبنَّها لكم وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه"(18).

والفاروق يقول لأبي عبيدة لما نهاه أن يخلع خفيه ويضعها على عاتقه، إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله"(19)

وصدقت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين قالت: "إنكم تُغفِلون أفضلَ العبادة : التواضع"(20).

وقال معاذ : " لا يبلغ عبد ذُرَى الإيمان حتى يكون التواضع أحب إليه من الشرف"(21).

وسئل الفضيل بن عياض عن التّواضع؟ فقال: "يخضع للحقّ، وينقاد له ويقبله ممّن قاله"(22).

والحديث عن تواضع السلف لا يسعه المقال فما من خير إلا وقد سبقونا إليه، وعلماء العصر السائرين على نهجهم كانوا آية في التواضع فابن باز -رحمه الله تعالى- كان لا يُجارى في هذا الباب لا يرى لنفسه فضلا، يحب الفقراء والمساكين والأكل معهم، يقبل النصيحة والحق ممن جاءه كبيرا كان أو صغيرا.

ومحدث العصر ناصر السنة كثيرا ما كان يقول عن نفسه "طويلب صغير"، وفقيه الأمة في هذا الزمان الشيخ ابن عثيمين رحمه الله نهل حظا وافرا من هذا الخلق العظيم حتى ظهر للمخالف قبل الموافق ولله در القائل:

تواضع تكن كالنجم لاح لناظره ..... على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه ..... إلى طبقات الجو وهو وضيع

هذا، واعلم أن التواضع تواضعان محمود ومذموم؛

فأما المذموم؛ قال عنه ابن القيم: "ومن التواضع المذموم المهانة، فَهِيَ الدناءة والخسة وبذل النَّفس وابتذالها فِي نيل حظوظها وشهواتها كتواضع السّفل فِي نيل شهواتهم وتواضع الْمَفْعُول بِهِ للْفَاعِل وتواضع طَالب كل حَظّ لمن يَرْجُو نيل حَظه مِنْهُ فَهَذَا كُله ضعة لَا تواضع وَالله سُبْحَانَهُ يحب التَّوَاضُع وَيبغض الضعة والمهانة وَفِي الصَّحِيح عَنهُ وَأوحى إِلَى أَن تواضعوا حَتَّى لَا يفخر أحد على أحد وَلَا يَبْغِي أحد على أحد"(23)

وهو أعني التواضع المذموم -باختصار- "تواضع المرء لذي الدُّنْيا رغبةً في دنياه" (24).

وأما التواضع الْمَحْمُود الذي أُمرنا بالتخلق به فهو تواضع العبد عند أمر الله امتثالًا، وعند نهيه اجتنابًا، فإنَّ النَّفس لطلب الرَّاحة تتلكأ في أمره، فيبدو منها نوع إباء وشِرَاد هربًا مِن العبوديَّة، وتثبت عند نهيه طلبًا للظَّفر بما مُنِع منه، فإذا وضع العبد نفسه لأمر الله ونهيه فقد تواضع للعبوديَّة.

وَالنَّوْع الثَّانِي تواضعه لِعَظَمَة الرب وجلاله وخضوعه لعزته وكبريائه فَكلما شمخت نَفسه ذكر عَظمَة الرب تَعَالَى وتفرده بذلك وغضبه الشَّديد على من نازعه ذَلِك فتواضعت إِلَيْهِ نَفسه وانكسر لِعظمة الله قلبه وَاطمأنَّ لهيبته وأخبت لسلطانه فَهَذَا غَايَة التّواضع وهو يستلزم الأول من غير عكس والمتواضع حَقِيقَة من رزق الْأَمريْنِ وَالله الْمُسْتَعَان"(25)

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.


(1) رواه مسلم (2865).
(2) شرح رياض الصالحين (3/524).
(3) روضة العقلاء لابن حبان ،ص:48.
(4) مسلم (2588).
(5) روضة العقلاء ،ص:46.
(6) إكمال المعلم شرح صحيح مسلم (8/59)
(7) تفسير ابن كثير (10/56)
(8) تيسير الكريم الرحمن ،ص:570.
(9) [الفتح: 29]
(10) تفسير ابن كثير (3/136).
(11) [الفرقان63]
(13) رواه أبو داود (4698) والنسائي (4991) وصححه الشيخ الباني في صحيح أبي داود.
(14) رواه البخاري (6129)
(15) رواه البخاري (676)
(16) صحيح الجامع (4945)
(17) أخرجه البخاري (2568)
(18) البخاري (4080)
(19) التبصرة، ص:408.
(20) الزهد لابن المبارك (1/132) وأحمد في الزهد،ص:304.
(21) الزهد لابن المبارك (2/52).
(22) مدارج السالكين (2/329).
(23) الروح، ص:234.
(24) روضة العقلاء، ص:46.
(25) الروح، ص:234.