احذروا أن تُزهِّدَكم هذه الشُّبهة في دروس مشايخنا الكبار/ إبراهيم بويران

المؤلف: 
إبراهيم بويران

الحمد لله رب العالمين و بعد: فإن من المداخل التي يُحاول أن يتسلَّل منها أهل الإفك والحقد لقصد الطعن في مشايخنا الأفاضل، و التزهيد في دروسهم العلمية النافعة، وتشويه دعوتهم السلفية في الجزائر، قولهم عن دروس مشايخنا: « ليس فيها تأصيل » ، أو « ليست بدروس تأصيلية »، أو « دروس المشايخ غير مؤصلة ولا يتأصل فيها طالب العلم » .

و في الحقيقة أن هذه الشبهة ليست وليدة اليوم، فقد رُفعت رايتها قبل سنين، من قِبَل بعضِ الفاتنين في الدعوة السلفية، الذين كان قصدهم من إثارتها آنذاك، التزهيد في دروس مشايخنا العلمية، و صرف أنظار طلبة العلم عنها، الذي يستلزم بدوره البعدَ عن المشايخ، ليَخلُوَ الجوُّ لأمثال هؤلاء فيُبيِّضوا ويُفرِّخوا كيفما شاءوا، ويبثُّوا من السموم والشرور والشُّبه في الناس ما شاءوا .

وها هي الشبهة الميتة تحيا من جديد هذه الأيام، إلا أنَّ المؤسِف أن يكون مُروِّجوها هذه المرة جماعة من المخدوعين وبعض المراهقين حديثي الاستقامة الذين لم يفهموا من مصطلح التأصيل العلمي إلا دراسة علوم الآلة من نحوٍ، وصرفٍ، وأصول فقه ونحو ذلك، ولحرص هؤلاء على التأصيل العلمي هجروا دروس كبار مشايخنا لخلُوِّها من ذلك في نظرهم، ورحلوا لقصد أن يتأصَّلوا إلى بعض طلبة العلم، هنا وهناك، ولا جرم أن دراسة علوم الآلة يُعدُّ من التأصيل العلمي ولاشك، لكننا نعيب عليهم قصرُ محتواه عليها وفقط، لاسيما من حديث عهد بالاستقامة، ومن بادئٍ في الطلب، لا يعرف الضروريات من أمر دينه، فإن التأصيل العلميَّ الصحيح في حق مثل هؤلاء، هو :

أولًا : تأصيل أنفسهم في باب الأخلاق والأدب، وذلك قبل السعي في الطلب كما درج عليه السلف، قال الإمام سفيان الثوري رحمه الله: « كانوا لا يخرجون أبناءهم لطلب العلم حتى يتأدبوا ويتعبدوا عشرين سنة » .

وقال عبدالله بن المبارك رحمه الله: « طلبت الأدب ثلاثين سنة , وطلبت العلم عشرين سنة , وكانوا يطلبون الأدب قبل العلم »[غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري(1/446)] .
* ولاشك أن هذا التأصيل الأدبي المطلوب من طالب العلم تحصيله ابتداءً، لمسيس حاجته إليه، والذي لا يستقيم علمه إلا به، لا يُنال إلا في مجالس العلماء، وكبار المشايخ السلفيين، فمن فوَّت على نفسه مثل هذه المجالس بأيِّ دافعٍ كان، فاتَه حظُّه الذي يحتاجه من الأدب، وصار علمه إن حصَّل علمًا كالجسد بلا روح .

ولهذا، و لمَّا فَقَد بعضُ إخواننا ممن تعجَّل بالرحلة إلى طلبة العلم لقصد التأصيل العلمي، هذا التأصيلَ الأدبيَّ الابتدائي حصل منهم ما شاهدناه بأم أعيننا من الإساءات البالغة للدعوة السلفية، بل وللعلم والعلماء، ومن كثرة الأمثلة الواقعية على ما ذكرته والتي عاينتها بنفسي أكاد أجزم بأنه لا يُنتفع بعلمٍ خالٍ من الأدب، كما لا يُنتفعُ بِمعلٍّمٍ عارٍ عن الأدب .

* ومن أسوء ما سمعته من هؤلاء الذي تركوا التأصيل الأدبي الابتدائي في دروس مشايخنا الكبار، وتعجَّلوا في الرحلة إلى بعض طلبة العلم بدعوى التأصيل العلمي، وهم قِلَّة إن شاء الله وسط إخوانهم، تزهيدهم في دروس المشايخ، بل واحتقار بعضهم للمشايخ، وتفضيل طلبة العلم عليهم، حتى إن أحدهم خاطبني شخصيًّا وفي يده كتاب في علم الصرف، قائلًا: هل تظن بأن فلانا (لأحد كبار مشايخنا) يستطيع تدريس هذا الكتاب؟!!، وبعضهم إذا رجع من رحلته العلمية في بعض العُطل إذا نصحته بحضور دروس المشايخ، قال: والله إني مشغول بمراجعة دروسي التي اصطحبتها معي من هناك .

ونُذكِّر هؤلاء بسؤال وُجِّه للعلامة العثيمين رحمه الله، قال صاحبه: هناك بعض طلبة العلم يحرص على حضور دروس طلبة العلم، دون أن يُلقي اهتماما بدروس العلماء الذين جمعوا ما لم يجمعه طلبة العلم، فما توجيه فضيلتكم-حفظكم الله تعالى-؟

فأجاب رحمه الله:« الذي أراه أنَّ الإنسان ينبغي أن يطلب العلم على عالم ناضج، لأنَّ بعض طلبة العلم يتصدّر للتّدريس، فيُحقّق المسألة من المسائل، سواء حديثية أو فقهية أو عقائدية، يُحقّقها تمامًا ويُراجع عليها، فإذا سمعه الناشيء من طلبة العلم ظنّ أنّه من أكابر العلماء، لكن لو خرج قَيْدَ أنمُلة عن هذا الموضوع الذي حقّقه ونقّحه وراجع عليه، وجدت أنه ليس عنده علم، لذلك يجب على طالب العلم المبتدىء أن يتلقّى العلم على يد العلماء الموثوق بعلمهم وأمانتهم ودينهم » ["كتاب العلم "( ص106-107)].

ثانيًا: ومن التأصيل المهم والابتدائي بل والضروري لمثل هؤلاء المذكورين، قبل تعجلهم في الرحلة إلى طلاب العلم لدراسة علوم الآلة: تحصيل العلم العيني، الذي هو فرض عينٍ عليهم تعلُّمه وتحصيلُه وهو مقدم في طلبه وتعلمه على علوم الآلة، التي تعلمها فرض كفاية, فيتفقهون في أبواب الطهارة بأنواعها، وكذا أبواب الصلاة، وغير ذلك من أحكام العبادات، ويتعلمون التوحيد و العقائد السلفية الصحيحة، ويتعرَّفون على أصول منهج أهل السنة وهديهم، و لاشك أن مثل هذه العلوم العينية وغيرها، مما تزخَر به دروس مشايخنا الأفاضل، زيادة على ما يستفيده الطالب من المشايخ من السمت والأدب الذي لا يُستفاد إلا من مجالسهم ومجالستهم، وهو من المهمات الأولية لطالب العلم كما سبق بيانه، ولا ينبغي لطالب العلم أن يعكس الأمر، كما هو حاصل من بعض الشباب المتحمِّس الذي بمجرَّد استقامته على المنهج الحق، زيادة على حداثة سنِّه، وجهله بضروريات دينه، يسارع إلى دروس طلبة العلم، لدراسة فروض الكفايات، و علوم الآلة، في وقتٍ هو مطالب فيه أولًا بتحصيل ما ذُكر من العلم العيني، مع الأدب، الذي هو التأصيلُ الأوَّليُّ في حقه، وفقنا الله وجميع إخواننا لما يحبه ويرضاه .