الهدى والرَّشاد أساس خصال من جعله الله قدوة للعباد

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الحمد لله الهادي إلى الحقِّ والرَّشاد، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّد خير العباد، وعلى آله وأصحابه ومن اتَّبع سبيلهم إلى يوم التَّناد، أما بعد:

فقد وصف النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مَن بعده ممَّن أمر باتباعهم واقتفاء آثارهم بوصفين عظيمين عليهما المُعوَّل وهما الأساس لكلِّ قدوة أو أسوة في هذه الأمَّة، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «فإنَّه من يعش منكم بعدي سيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين، عضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة».

أخرجه أحمد (٤/ ١٢٦، ١٢٧)، وأبو داود (رقم ٤٦٠٧) و (رقم ٢٦٧٦)، وابن أبي عاصم في «السُّنَّة» (رقم ٥٤) والحاكم (١/ ٩٧) وابن حبَّان كما في «الموارد» رقم (١٠٢) وصحَّحه الحاكم ووافقه الذَّهبي، وقال التِّرمذي: «حديث حسن صحيح»، وصحَّحه الألباني في «ظلال الجنَّة».

هذا الحديث العظيم الَّذي تجلَّت فيه نبوَّةٌ من نبوَّات نبيِّنا الكريم كما وصفها وحذَّر من شرها، فقد وقع الخلاف والاختلاف، وتتابعت الفتن وتوالت المحن على هذه الأمَّة الَّتي أكرمها الله ومنَّ عليها ببعثة هذا النَّبيِّ الكريم، قال تعالى: «لَقَد مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِم رَسُولًا مِنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُم الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» [آل عمران:164].

كما تضمَّن الحديث بيان الأصلين العظيمين اللَّذين ينبغي أن يتَّصف بهما من يُقتدى به من أهل الخير والصَّلاح، وهما الهدى والرَّشاد، فالقدوة والدَّاعية الَّذي يدلُّ النَّاس على الخير ويدعوهم إليه بحاله وسمته وأفعاله قبل أقواله ينبغي أن يكون مهتديًا وهاديًا وراشدًا رشيدًا، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «...وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين من بعدي»، فالهداية والرَّشاد أصلان أساسيان وخصلتان ضروريَّتان يتعيَّن تحقُّقهما في كلِّ من بوَّأه الله منزلة الإمامة في الدِّين وجعله قدوةً للمسلمين، فالقدوة الأولى والمعلِّم الأعظم لنا هو رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، وهو المثَل البشريُّ الأعلى، وهو خير خلق الله على الإطلاق، ونحن مأمورون بالاقتداء به والسَّير على نهجه بنصِّ القرآن، قال الله تعالى: «وَمَا آتَاكُم الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا» [الحشر:8]، ودراسةُ سيرته مطلوبة لكلِّ مؤمن، حتَّى يتخلَّق بخلقه ويسير على نهجه، وفي تعلُّم أخباره وتفهُّم مواقفه كثيرٌ من الحكمة والعِظة، وقد قال عزَّ وجل: «لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ» [الأحزاب:21].

وقد تحقَّقت هذه القدوة، حيث تعلَّم الصَّحابة ـ صغارًا وكبارًا ـ كلَّ معاني الأخلاق الكريمة، واكتسبوا منه كلَّ الأعمال الصَّالحة، حتَّى كان منهم رجال أنزل الله فيهم قرآنًا يُتلى، وتحقَّقت فيهم تربيته حتَّى وصف الله حالهم الزَّكيَّة وأعمالهم المرضيَّة بقوله: «محمَّدٌ رَسُولُ اللهِ والَّذينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاء بَينَهُم تَرَاهُم رُكَّعًا سُجَّدًا يبتغُونَ فَضْلًا مِن اللهِ وَرِضوَانًا سِيمَاهُم فِي وجُوهِهِم مِن أَثَرِ السُّجُودِ ذَلكَ مَثَلُهم فِي التَّورَاةِ وَمَثَلُهُم فِي الإنجِيلِ كَزَرعٍ أَخرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاستَغلَظَ فَاستَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعجِبُ الزُرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِم الكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنهُم مَغفِرَةً وَأَجرًا عَظِيمًا» [الفتح: ٢٩]، وامتدحهم بقوله: «كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيل مَا يَهجَعُونَ، وَبِالأَسحَارِ هُم يَستَغْفِرُونَ» [الذَّاريات: ١٧]، وبقوله: «والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبلِهِم يُحِبُّونَ مَن هَاجَرَ إِلَيهِم وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ» [الحشر: ٩].

فيكفيهم  فخرًا وشرفًا أن ذكرهم الله في كتابه الَّذي تعهَّد بحفظه، وجعل لهم به ذكرًا في الآخرين، وأبقى حسن أثرهم في الباقين، وهذا غيضٌ من فيضٍ ممَّا نزل في كريم مآثرهم، وجميل محامدهم، وقد تحقَّق بهم فعلًا إقامة المجتمع الفاضل الَّذي شهد له القاصي والدَّاني بالخيريَّة،  فقبَّح الله منتقصيهم، المكذِّبين للكتاب ولسنَّة سيِّد العباد، والمخالفين لما كان عليه سلف هذه الأمَّة الأمجاد.

وقبل بيان منزلة هذين الأصلين العظيمين والخصلتين الكريمتين وحسن أثرهما يجدر بنا أن نقف عند حدودهما ونبيِّن مدلوليهما.

 

الأصل الأوَّل: الرَّشاد

معنى الرُّشْد، قال الجوهري: «الرَّشادُ: خلاف الغيِّ، وقد رشَد يَرْشُدُ رُشْدًا، ورَشِدَ ـ بالكسر ـ يَرْشَدُ رَشَدًا، لُغَةٌ فيه» [«الصَّحَاح»]،وقال بعضهم: الرَّشَد ـ بفتحتين ـ أخصُّ من الرُّشْد، لأنَّ الرُّشد ـ بالضَّمِّ ـ يقال في الأمور الدنيوية والأخرويَّة، والرَشَد يُقال في الأمور الأخرويَّة لا غير» [«مفردات القرآن» للرَّاغب].

وأصل الكلمة (ر ش د) يرجع إلى شيءٍ واحدٍ، وهو ما  يدلُّ على استقامةِ الطَّريق [«معجم مقاييس اللُّغةٌ لابن فارس (2/298)]، ومنه يقال: رشَد الولد: بلغ سنَّ الرُّشْدِ ، وهو البلوغ، ورشَد الرَّجل : أصاب  واهتدى  واستقام، وعرف طريق الرَّشاد، رشَد الشَّابُّ أَمْرَهُ : وُفِّقَ فيه، وثاب فلانٌ إلى رُشده : رجع إلى طبيعته وعاد إلى صوابه، وذهب الحادثُ برُشدِه : أفقده صوابه، وفقَد رُشْدَه: جُنَّ ، وتصرَّف بطيْش وتسرُّع.

هذا في اللُّغة، أمَّا عند الفقهاء فهو: أن يَبْلُغ الصَّبيُّ حدَّ التَّكليف صالحًا في دينه مُصلحًا لماله.

وقد أشار ابن القيِّم رحمه الله في «إغاثة اللَّهفان» (2/168) إلى أنَّ الرُّشْدَ جاء في الكتاب والسُّنَّة تقابله عدَّة أمور:

الأوَّل: الغيُّ، وذلك في موضعين، هما قوله عزَّ وجل: «لَا إِكرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ» [البقرة: 245]، وقوله: «وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا» [سورة الأعراف: 145].

وبهذا المعنى جاء في حديث عنه صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: «مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى حَتَّى يَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ» [أخرجه البيهقيُّ في «معرفة السُّنن والآثار» (6494) من حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما].

قال الجوهري: «الغَيُّ: الضَّلال والخيبة، وقد غَوي بالفتح يَغْوي غَيًّا وغَوايَةً، فهو غاوٍ وغوٍ، وأغْواهُ غيرُه فهو غَوِيٌّ على فَعيلٍ» [«الصَّحاح»].

الثَّاني: الشَّرُّ، قال سبحانه وتعالى: «وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا» [الجن:10].

الثَّالث: الضِّرُّ، قال عزَّ وجل: «قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا» [سورة الجن، الآية: 21].

ولقد ورد الرُّشد بوصفه أمرًا محسوسًا يُمكن لمسه في تصرُّفات الرَّاشد في قوله سبحانه وتعالى: «وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَاكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا» [النِّساء: 5].

قال ابن عطيَّة في معرض تفسيره للآية: «قال الحسن وقتادة: الرُّشد في العقل والدِّين، وقال ابن عبَّاس: بل في العقل وتدبير المال لا غير، وهو قول ابن القاسم، والرِّواية الأخرى: أنَّه في العقل والدِّين، مروية عن مالك» [«المحرَّر الوجيز»]، وقال الطَّبري بعد ذكر أقوال المفسِّرين في معنى الرُّشد في هذه الآية: «وأولى هذه الأقوال عندي بمعنى «الرشد» في هذا الموضع، العقلُ وإصلاح المال، لإجماع الجميع على أنَّه إذا كان كذلك، لم يكن ممَّن يستحق الحجرَ عليه في ماله، وحَوْزَ ما في يده عنه، وإن كان فاجرًا في دينه» [تفسير الطَّبري].

من هنا يكون للرُّشد معنى الصَّلاح في أمر الدِّين، وهو الأكثر، ومعنى الصَّلاح في أمر الدُّنيا أيضًا.

فلما كان معنى الرُّشد والرَّشاد يدور حول الصَّلاح  والاستقامة على الجادَّة والبعد عن الغيِّ والشَّرِّ، كان هو الأصل الأوَّل والرُّكن الأمتن الَّذي يتحلَّى به معلِّم النَّاس وقدوتهم وإمامهم ليصلح لهم دينهم ودنياهم، ولعلَّه لهذا المعنى تأتي كلمة الرُّشد في سياق قصص القرآن والحديث عن الأنبياء الَّذين هم قادة النَّاس والقدوة لهم،  فوردت في سياق الحديث عن قصص كلٍّ من لوط وشعيب وموسى عليهم السَّلام مع أقوامهم، ووردت في ذكر أخبار مؤمني الأمم السَّابقة كمؤمن آل فرعون وأصحاب الكهف([1]).

أمَّا غير الرَّشيد الَّذي ضلَّ طريقه وغوى وأساء التَّوجُّه والتَّوجيه وأساء التَّصرُّف سواء في الأموال وغيرها، كأن يُستأمن على أموال المسلمين فيعمد إلى تبديدها وتبذيرها سواء في زخرفة المساجد المحرَّمة كذلك الإمام الَّذي يتبجَّح في الملأ بأنَّ كلفة نقش البلَّاطِين المغاربة لسقف مسجده بَلَغَت أكثر من مليار ونصف سنتيم، أو صاحبه الَّذي ما وسعته بيوت الله لإقامة المسابقات والدَّورات حتى أقامها في الفنادق الفاخرة على حساب ما جاد به المحسنون الغافلون الَّذين ابتلوا بأمثال هؤلاء الغير راشدين، فأنَّى لهم أن يُرشدوا، والأسوأ منهم أولئك الَّذين ما تميَّزوا طريقهم ولا أوضحوا سبيلهم، فهم عند أهل الغيِّ مرضيُّون، وعند أهل الرُّشد ضبابيِّون، كأنِّي بهم على منهج من نعتهم ربُّنا بقوله: «وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْ إِلَى شَيَاطِينِهِم قَالُوا إِنَّا مَعَكُم إِنَّمَا نَحْنُ مُستَهْزِئُونَ» [البقرة: 14].

الأصل الثَّاني: الهدى

الهدى من حيث اللُّغة، فإنَّ لفظ (الهدى) يفيد معنى الإرشاد والدَّلالة؛ يقال: هداه إلى الطَّريق وللطَّريق: أي أرشده ودلَّه إليه، والمسلم يطلب الهداية إلى الطَّريق المستقيم صباح مساء فيقول: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيم»، أي: أرشدنا يا الله إلى طريق الحقِّ والصَّواب، ودلَّنا على ما فيه فلاحنا في الدُّنيا والآخرة.

قال ابن الأنباري: «أصل الهدى في كلام العرب: التَّوفيق»، وقال ابن عطيَّة: «الهداية في اللُّغة: الإرشاد، لكنَّها تتصرَّف على وجوه، يعبِّر عنها المفسرون بغير لفظ الإرشاد، وكلُّها إذا تُؤمِّلت رجعت إليه»، وقال الرَّاغب: «الهداية: دلالةٌ بلطف، ومنه الهديَّة، وخُصَّ ما كان دلالة بـ (هَدَيْت)، وما كان إعطاء بـ (أَهْدَيت)، نحو: أهديت الهديَّة، وهَدَيت إلى البيت» [«مفردات القرآن» (538)].

وقد ورد الهدى في القرآن بمعانٍ كثيرة، أوصلها ابن الجوزي في «نزهة الأعين النَّواظر» (625) إلى أربعة وعشرين وجهًا، منها:

الأوَّل: بمعنى البيان، ومنه قوله تعالى: «أولئك على هدى من ربهم» [البقرة:5]، ومثله قوله سبحانه: «إنا هديناه السبيل» [الإنسان:3].

الثَّاني: بمعنى دين الإسلام، ومنه قوله تعالى: «إنَّ هدى الله هو الهدى» [البقرة:120]، ونحوه قوله سبحانه: «إنك لعلى هدى مستقيم» [الحج:67].    

الثَّالث: بمعنى الإيمان، ومنه قوله تعالى: «وزدناهم هدى» [الكهف:13]، ونحوه قوله سبحانه: «أنحن صددناكم عن الهدى» [سبأ:32].

الرَّابع: بمعنى الدَّعوة إلى الله، ومنه قوله تعالى: «وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا» [الأنبياء:73]، ونحوه قوله سبحانه: «وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا» [السجدة:24].  

الخامس: بمعنى الدَّلالة والإرشاد والتَّعريف، ومنه قوله تعالى: «وعلامات وبالنَّجم هم يهتدون» [النحل:16]، ونحوه قوله سبحانه: «أن يهديني سواء السبيل» [الأنبياء:31].

السَّادس: بمعنى أمر محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، ومنه قوله تعالى: «إنَّ الَّذين يكتمون ما أنزلنا من البيِّنات والهدى» [البقرة:159]، ونحوه قوله سبحانه: «من بعد ما تبين لهم الهدى» [محمد:25،32].

السَّابع: بمعنى القرآن، ومنه قوله تعالى: «وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى» [الإسراء:94]، ونحوه قوله سبحانه: «ولقد جاءهم من ربهم الهدى» [النجم:23].    

الثَّامن: بمعنى نهج الأنبياء السابقين، ومنه قوله تعالى: «فبهداهم اقتده» [الأنعام:90].

التَّاسع: بمعنى التَّسديد والتَّصويب، ومنه قوله تعالى: «وأنَّ الله لا يهدي كيد الخائنين» [يوسف:53]، ونحوه قوله تعالى: «أرأيت إن كان على الهدى» [العلق:11].

العاشر: بمعنى الثبات، ومنه قوله تعالى: «اهدنا الصِّراط المستقيم».

وعلى هذا جاء التَّوجيه النَّبويُّ الكريم لاتِّباع هدي من كانت هذه صفاتهم بعد الأمر باتِّباع العصمة المتمثِّلة في سنَّته صلَّى الله عليه وسلَّم الَّتي هي خير الهدي وأفضله، وأتمُّ الرَّشاد وأكمله، وقد نفى الله تعالى عنه ما يضاد الهدى والرَّشاد فقال تعالى: «مَا ضلَّ صَاحِبكُم وَمَا غَوَى» [النَّجم:2]، قال الزَّمخشري عند هذه الآية: «والضَّلال نقيض الهدى، والغيُّ نقيض الرُّشد»، وقال شيخ الإسلام شارحًا معنى الصِّراط المستقيم في «مجموع الفتاوى» (1/198): «فالصِّراط المستقيم هو ما بعث الله به رسوله محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بفعل ما أمر وترك ما حظر وتصديقه فيما أخبر، ولا طريق إلى الله إلَّا ذلك، وهذا سبيل أولياء الله المتَّقين وحزب الله المفلحين وجند الله الغالبين، وكلُّ ما خالف ذلك فهو من طرق أهل الغيِّ والضَّلال، وقد نزَّه الله تعالى نبيَّه عن هذا وهذا، فقال تعالى: «وَالنَّجمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إِن هُوَ إِلَّا وَحيٌ يُوحَى» [النَّجم:1-4]، وقد أمرنا الله سبحانه أن نقول في صلاتنا «اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمْتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِم وَلَا الضَّالِين»، وقد روى التِّرمذيُّ وغيره عن عديِّ بن حاتم عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: «اليَهُودُ مغضوبٌ عَلَيهِم، وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ»، قال التِّرمذي: «حديث صحيح»، وقال سفيان بن عيينة: «كانوا يقولون: من فسد من علمائنا ففيه شبهٌ من اليهود، ومن فسد من عبَّادنا ففيه شبهٌ من النَّصارى»، وكان غير واحد من السَّلف يقول: «احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإنَّ فتنتهما فتنةٌ لكلِّ مفتون»، فمن عرف الحقَّ ولم يعمل به أشبه اليهود الَّذين قال الله فيهم: «أتأمرون النَّاس بالبرِّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون» [البقرة:44]، ومن عبد الله بغير علم بل بالغلوِّ والشِّرك أشبه النَّصارى الذين قال الله فيهم: «يَا أَهلَ الكِتَابِ لَا تَغلُوا فِي دِينِكُم غَيرَ الحَقِّ وَلَا تَتَّبُعوا أَهوَاءَ قَومٍ قَد ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ» [المائدة:77]، فالأوَّل من الغاوين، والثَّاني من الضَّالين، فإنَّ الغيَّ اتِّباع الهوى، والضَّلالُ عدم الهدى، قال تعالى: «وَاتلُ عَلَيهِم نَبَأَ الَّذِي آتَينَاهُ آيَاتِنَا فانسَلَخَ مِنهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ، وَلَو شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّه أَخلَدَ إِلَى الأَرضَ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلَهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيهِ يَلْهَثْ أَو تَتْرُكْه يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ القَومِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ» [الأعراف:175-176]، وقال تعالى: «سَأصرِفُ عَن آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُون فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ وَإِن يَرَوا كُلَّ آيةٍ لَا يُؤمِنُوا بِهَا وَإن يَرَوا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأنَّهُم كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنهَا غَافِلِينَ» [الأعراف:147]، ومن جمع الضَّلال والغيَّ ففيه شبهٌ من هؤلاء وهؤلاء».

وبناءً عليه كان لزامًا على الدُّعاة المخلصين والهداة المصلحين أن يجتهدوا لتحقيق هذه المعاني الجليلة والخصال الكريمة، لتثمر جهودهم وتظهر آثار دعوتهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] انظر مقالًا عن «مفهوم الرُّشد» على الرَّابط: http://www.maghress.com/almithaq/3410