من هم القدرية؟ بوفلجة بن عباس

المؤلف: 
بوفلجة بن عباس

من هم القدرية؟

إن المتبادر إلى أذهان الناس عند إطلاق لفظ القدرية هم القدرية النفاة، الذين ظهروا في أواخر زمن صغار الصحابة، وكان أولهم معبد الجهني الذي زعم أن الأمر أنف، وأن الله لا يعلم ما يقع حتى يقع, فأنكر العلم والكتابة، فقام جمهور الصحابة الموجودين في ذلك الزمن بإنكار مقالته وإبطالها، وأشهر من أنكر عليهم وتبرأ منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب كما في الحديث الذي انفرد به مسلم من طريقه في أول صحيحه، والقصة مشهورة عن يحي بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري، وقد رواها مسلم بكاملها كما في الحديث المشار إليه.

وقد كفرهم أئمة السلف، وقالوا مقالاتهم المشهورة: "حاجوهم بالعلم، فإن أنكروه كفروا"، وأما القدرية المعتزلة أتباع واصل بن عطاء الغزالن وعمرو بن عبيد فلم يكونوا ينكرون العلم والكتابة، إلا ما ذكر في بعض الروايات عن عمرو بن عبيد، لكن المشهور عنهم هو إنكار الخلق والقدرة، لشبه قامت في نفوسهم ليس هذا موضع تفصيلها.

فهاهنا إذا إطلاقان للفظ القدرية مشهوران:

الإطلاق الأول: وهو المشهور عند الصحابة وأئمة السلف، ومن بعدهم: من أنه يطلق على نفاة العلم والكتابة، وهؤلاء قد كفرهم أئمة السلف، وقد ذكر عنهم: أنهم انقرضوا، والله أعلم بذلك؛ إذ قد تغير الحال في هذا الزمان, وقد سمعنا ممن هو معتقد لهذا المذهب، والله المستعان.

قال الإمام وكيع بن الجراح: (القدرية يقولون: الأمر مستقبل، وإن الله لم يقدر المصائب، وهذا هو الكفر) أخرجه ابن بطة في الإبانة(2/261).

وسئل الإمام أحمد عمن قال بالقدر يكون كافرا؟ قال: (إذا جحد العلم، إذا قال: الله جل وعز لم يكن عالما حتى خلق علما فعلم، فجحد علم الله عزوجل: كافر) أخرجه الخلال في السنة(3/529).

الإطلاق الثاني: وهو المشهور عند جماهير العلم من السلف والخلف: من إطلاق لفظ القدر على المعتزلة أتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، الذين أقروا بالعلم والكتابة، لكن أنكروا الخلق والمشيئة، لشبهات قامت في نفوسهم، وهؤلاء لم يكفرهم الأئمة، بل حكموا عليهم بالبدعة المغلظة، كما ذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه.

وهذان الإطلاق كل منهما يطلق على القدرية النفاة، وهما من أشهر الإطلاقات عند جمهور الناس.

لكن هاهنا إطلاق ثالث, وجد في كلام بعض السلف: وهو إطلاق لفظ القدرية على الجبرية المثبتة؛ القائلين بأن العباد مجبورون ومقسورون على أفعالهم الاختيارية، بمعنى أنه لا اختيار لهم ولا مشيئة؛ وهذا الإطلاق لا يكاد يشتهر إلا عند بعض الناس, وسبب هذا الإطلاق أمران:

أحدهما: أن جماع الأمر الذي اشترك فيه القدرية النفاة والقدرية المجبرة هو الخوض بالباطل في القدر.

الثاني: أن القدرية الجبرية بالغوا في إثبات القدر, وغلوا فيه حتى أنكروا قدرة العباد ومشيئتهم الاختيارية.

ومما يدل على ذلك صنيع الإمام الخلال في كتابه السنة حيث قال: (الرد على القدرية وقولهم: إن الله جبر العباد على المعاصي) السنة(3/549) -دار الراية-.

قال ابن تيمية: (ولهذا كان يدخل عندهم -يعني السلف- المجبرة في مسمى القدرية المذمومين؛ لخوضهم في القدر بالباطل؛ إذ هذا جماع المعنى الذي ذمت به القدرية) مجموع الفتاوى(3/322).

وقال أيضا في معرض رده على من يدعي شهود الحقيقة الكونية, ويغفل عن الحقيقة الشرعية من غلاة المتصوفة المجبرة: (وهؤلاء يدخلون في مسمى القدرية الذين ذمهم السلف، بل هم أحق بالذم من المعتزلة ونحوهم؛ كما قال أبو بكر الخلال في كتابه: السنة: الرد على القدرية, وقولهم: إن الله أجبر العباد على المعاصي....- إلى أن قال ابن تيمية-: والمقصود هنا: أن الخلال وغيره من أهل العلم أدخلوا القائلين بالجبر في مسمى القدرية وإن كانوا لا يحتجون بالقدر على المعاصي، فكيف بمن يحتج به على المعاصي، ومعلوم أنه يدخل في ذم من ذم من القدرية من يحتج به على إسقاط الأمر والنهي أعظم مما يدخل فيه المنكر له؛ فإن ضلال هذا أعظم، ولهذا قرنت القدرية بالمرجئة في كلام غير واحد من السلف، وروي في ذلك حديث مرفوع؛ لأن كلا من هاتين البدعتين تفسد الأمر والنهي والوعد والوعيد؛ فالإرجاء يضعف الإيمان بالوعيد، ويهون أمر الفرائض والمحارم، والقدري إن احتج به كان عونا للمرجئ, وإن كذب به كان هو والمرجئ قد تقابلا, هذا يبالغ في التشديد, حتى لا يجعل العبد يستعين بالله على فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وهذا يبالغ في الناحية الأخرى) مجموع الفتاوى(8/103-106).

وقال ابن أبي العز الحنفي: (وقد تسمى الجبرية قدرية؛ لأنهم غلوا في إثبات القدر) شرح الطحاوية (2/797).

هذا، والحمد لله رب العالمين.