منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم مشاركات اليوم Right Nav

Left Container Right Container
 

العودة   منتديات التصفية و التربية السلفية » القــــــــسم العــــــــام » الــمــــنــــــــتـــــــدى الـــــــــعــــــــام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16 May 2008, 06:29 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

المنتسب إلى الدعوة السلفية ”يُقتل!“:

قال الشيخ عائض القرني في شريط سمعي: ’فرّ من الحزبية فرارك من الأسد‘: ”من أوجب على الناس أن يكون أحدهم إخوانيا أو تبليغيا أو سلفيا فإنه يُسستتاب و إلا قُتل!!!“.
قلت: هنيئا للشيخ عائض بقتل جميع الأمة إذاً؛ لأن الأمة في غالبيتها ليست إلا هذه الجماعات!!

إنه لا يُستغرب أن يقول مثل هذا أبو قتادة و أترابه، و لكن المستغرب أن يقوله من وُلد في بلد سلفي، و ينتسب لعلماء سلفيين، و يقول: سماحة الوالد ابن باز، و العلامة الألباني قرين أحمد بن حنبل الشيباني...!

ماذا يقول عائض في قول ابن تيمية كما في 'مجموع الفتاوى' (4 / 149): [لا عيب على من أظهر مذهب السلف، و انتسب إليه، و اعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق؛ فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقا]؟!

وكيف يستنكر عائض ضرورة كون المرء سلفيا، مع أن هذا الاستنكار هو شعار أهل البدع؟! قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في 'مجموعه' أيضا (4 / 155): [فلما كانوا أبعد عن متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة، فعُلم أن شعار أهل البدع هو ترك انتحال اتباع السلف'.

و قال الذهبي في 'السير' (13 / 380): [فالذي يحتاج إليه الحافظ أن يكون تقيا ذكيا، نحويا لغويا، زكيا حييا، سلفيا...].

و قال في ترجمة الدارقطني (16 / 457): [لم يدخل الرجل أبدا في علم الكلام و الجدال، و لا خاض في ذلك، بل كان سلفيا].

و قال في ترجمة أبي طاهر السِّلفي (21 / 6): [...فالسِّلفي مستفاد من السَّلفي بفتحتين، و هو من كان على مذهب السلف].

و له كلام كثير مثله، و في 'مجموعة رسائل لإصلاح الفرد و المجتمع' للشيخ محمد جميل زينو (ص 126) أن الشيخ ابن باز سُئل عن الفرقة الناجية، فقال: [هم السلفيون، و من مشى على طريقة السلف الصالح].

و قال الشيخ ابن عثيمين في 'شرح العقيدة الواسطية' (1 / 54): [فأهل السنة و الجماعة هم السلف معتقدا، حتى المتأخر إلى يوم القيامة إذا كان على طريقة النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ و أصحابه، فهو سلفي].

بعد هذه النقول السريعة، فما هو قول الشيخ عائض؟

و ما قيمة إنكاره السابق؟! قال الشيخ الألباني: [لا شك أن مثل هذا الإنكار ـ لو كان يعنيه ـ يلزم منه التبرؤ من الإسلام الصحيح، الذي كان عليه سلفنا الصالح، و على رأسهم النبي ت صلى الله عليه و سلم ـ، كما يشير الحديث المتواتر الذي في الصحيحين و غيرهما، عنه ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، فلا يجوز لمسلم أن يتبرأ من الانتساب إلى السلف الصالح، بينما لو تبرأ من أية نسبة أخرى لم يمكن لأحد من أهل العلم أن ينسبه إلى كفر أو فسوق...

و أما الذي يُنسب إلى السلف الصالح فإنه ينتسب إلى العصمة على وجه العموم، و قد ذكر النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ من علامات الفرقة الناجية أنها تتمسك بما كان عليه رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و ما كان عليه أصحابه، فمن تمسك بهم كان يقينا على هدى من ربه...

و لا شك أن التسمية الواضحة الجلية المميِّزة البيِّنة هي أن نقول: أنا مسلم، على الكتاب و السنة، و على منهج سلفنا الصالح، و هي أن نقول باختصار: أنا سلفي]، من مجلة 'الأصالة'، العدد (9)، في (ص 90)، بتاريخ (15 شعبان 1416 هـ).

و في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية بالملكة العربية السعودية، برقم (1361) (2 / 165-166) أنه طُرح السؤال الآتي: ما هي السلفية، و ما رأيكم فيها؟

فكان الجواب: [السلفية نسبة إلى السلف، و السلف هم صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ و أئمة الهدى من القرون الثلاثة الأولى ـ رضي الله عنهم ـ، الذين شهد لهم رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ بالخير في قوله: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء تسبق شهادة أحدهم يمينه، و يمينه شهادته" رواه أحمد في مسنده و البخاري و مسلم، و السلفيون جمع سلفي، نسبة إلى السلف، و قد تقدم معناه، و هم الذين ساروا على منهاج السلف، من اتباع الكتاب و السنة، و الدعوة إليهما، و العمل بهما، فكانوا بذلك أهل السنة و الجماعة].

إنه لمن المصائب العظام أن يُحوِجنا عائض إلى هذا العرض، و نحن و إياه في البلاد السلفية، لقد كنا في غنى عنه لو كان الولاء لأهل السنة السلفيين صحيحا، و لكن القطيعة الحركية تأبى ذلك!!!

و تَوجُّه هذه البلاد إلى إحياء سيرة سلفنا الصالح معلوم من خطاب قادتهما، قال الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ـ رحمه الله ـ: [يقولون: إننا وهّابية، و الحقيقة إننا سلفيون محافظون على ديننا، نتبع كتاب الله و سنة رسوله، و ليس بيننا و بين المسلمين إلا كتاب الله و سنة رسوله]، من مجلة 'السلفية'، العدد (5)، في (ص 20)، بتاريخ: (1420-1421 هـ).

هذه هي الدعوة التي قامت عليها هذه البلاد، فـ {لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} (الأعراف 56).

لقد وقع هؤلاء فريسة دعوة ’الإخوان المسلمين‘ الذين غزوا ديارهم بأفكار لم يكونوا يسمعون بها، و تلوّنوا بلونهم برهة من الزمن، و أعطوهم من ألسنتهم ما ليس في قلوبهم، حتى إذا ذلت لهم الطريق، و آنسوا من بلاد الغربة الرفيق، استولدوا بنات أفكارهم في أوكارهم، فتخرّج على أيديهم أشكال غريبة عن دعوة علمائهم، كهذين اللذين سبق ذكر شيء من إنتاجهما المصنوع على عين ’الإخوان‘ في الطعن على الدعوة السلفية.

و لقد قرأت نظما للشيخ عائض القرني في كتابه ’لحن الخلود‘، فما صدقت ما وجدت فيه من شركيات و بدع و ضلالات حركية، لو جاز أن نراها في جميع البلاد الإسلامية، ما جاز أن نراها في بلاد التوحيد و السنة، و لكن زهد هؤلاء في التوحيد و السنة هو الذي أوقعهم فيما يناقض التوحيد و السنة، منها الدعوة إلى شد الرحال إلى قبر النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ و الأمر بتقبيله، و طلب الشفاعة منه، وطلب النجاة يوم القيامة منه أيضا، و تكفير من لا يشتغل بفقه الواقع، و الاستخفاف بكتب الفقه، و التحريض على الخروج، و غيرها.

و قد سُقت شيئا منها في كتاب 'مدارك النظر في السياسة'، فلا أعيده، كما سقت هناك علاقة عائض بحزب ’الإخوان المسلمين‘، و أشرت إلى تزكيته العطِرة لرؤوسهم، فلا تغتر بما قاله هنا فيهم و في التبليغ؛ فإن المقصود الأول و الأخير بالطعن هو السلفيون، و إنما جَبن عن التصريح بهم وحدهم ليعمى على الناظرين الغرض المرمي؛ و إلا فإن موقفه المتميع من الجماعات معلوم!

و قد أرسل العلامة عبد العزيز بن باز رسالة إلى الشيخ عائض القرني يستتيبه فيها مما سبق و من غيره، و كذلك فعل العلامة النجمي ـ حفظه الله ـ، و هو مرجع أهل الجنوب في الفتوى بالسعودية، و انتقده بعلم و غيرة سلفية في كتابه 'المورد العذب الزلال فيما انتقد على بعض المناهج الدعوية من العقائد و الأعمال'، قال في (ص 37): [هل تذكر ـ يا شيخ عائض! ـ أني قلت حينما ممرتَ علي في خيمتي بعرفات من حج عام (1416 هـ)، و جرى بيننا النقاش حول بعض الخطاء التي صدرت منك، و احتججت بهذه الحجة: أي أنك قلتها (أي القصيدة) و أنت طالب في المعهد، فقلت لك: و لمَ سمحت بطلعها و نشرها؟ فسكتّ!!

و المهم أن هذه الحجة ليست بحجة، فإذا كنت قلتها قبل أن تكتمل بِنْيتك العلمية كان الواجب عليك أن تعدمها و أنت تعرف أنها خطأ؛ حتى لا يجدها بعض أبنائك فيغتر بها، و الحق أن نشرها يدينك، و التوبة تجبّ ما قبلها].

و فد أردت بهذا أن أبيّن للقراء أن هجوم ’فرقة الإخوان المسلمين‘ على بلاد التوحيد ليفسدوها كان قديما، كما ترى في شهادة الشيخ عائض هنا أنه اِلتقم ثدي الحركيين و هو في المستوى الثانوي، و الأغرب أنه لم يُفطم إلى يوم الناس هذا، ’و محاوراته الصحفية‘ اليوم ليست فطاما؛ و إلا فما يمنعه من أن يكتب كتابا يحذر فيه من الفكر الحركي الذي ورّطه فيما ورّطه فيه، و يعلن خروجه من تنظيمه، و قد تجرع مرّ تغريمه؟!

و أقْدم منه ما كان يُذاع في الإذاعة السعودية من كتب سيد قطب، قال سيد قطب في كتابه ’لماذا أعدموني؟‘ (ص 77): ”و من نحو ستة أشهر وردت إلي رسالة مسجلة من دار الإذاعة السعودية، مرفق بها تحويل بمبلغ (143 جنيها) على بنك بور سعيد، و ذكر في الرسالة أن هذا المبلغ هو قيمة ما أذاعته الإذاعة السعودية من أحاديث مقتبسة من كتابي ’في ظلال القرآن‘ في شهري شعبان و رمضان 1385 هـ، و كنت قد علمت أن الإذاعة السعودية تذيع أحاديث مقتبسة من كتابي منذ سنوات، و أنها مستمرة في إذاعتها، فلما قررت هي مكافأة معينة، رأيت أن أطالبها بقيمة السابق و اللاحق من الإذاعات، و هذا حقي طبيعي كمؤلف“.

قلت: لقد مكثت مدة طويلة و الحيرة تصاحبني من رجال نشأوا في بلاد التوحيد و السنة، يدافعون عن سيد قطب و كتبه التي حوت بدعا و ضلالات غليظة، كما سيأتي إن شاء الله؛ لأنه طبيعي جدا أن يدافع عنه بنو قومه المشاركون له في فكره، أما أن يتحول (أهل السنة!) أبواقا له، فهذا أمر عجب، لكن إذا عرف السبب بطل العجب، و السبب ما بينته لك قريبا.

و ثَم أمر آخر، و هو أن سيد قطب لم يتب مما في ’ظلاله‘ كما يُجهد بعضهم نفسه لإثبات ذلك؛ و إلا فما معنى طلبه أجرة على ما كتب، كما نقلناه قريبا من ’لماذا أعدموني؟‘، و هو آخر ما كتب؟! و ليس غريبا أن يطلب المؤلف أجرة على تأليفه، لكن الغريب أن تباع بدع و ضلالات بأجرة، و قد قيل: أحَشفًا و سوءَ كَيلة؟!

إن كثيرا من علماء بلدك ـ يا عائض! ـ الذين زهدت فيهم يعلّمون أحسن الموضوعات، و بأحسن بيان: بيان الكتاب و السنة، و لا يسألون عليه أجرا كما علمتُ و تعلم أنت، و شيخك في الحركة، يكتب بلا بركة، ثم يسأل ذلك أجرا، فانظر ما بين الرجلين لتعلم قيمة ما أضعت!

ثن إنني تصفحت كتاب القرني ’المسك و العنبر في خطب المنبر‘، فهالني أن أجد جل خطبه ذات طابع ثوري، تقطر بالعبارات المحرضة على الخروج، بل وجدته قد حفظ كل العبارات التي كنا نسمعها من ثوار الجزائر و مصر في حق دولهم، و اتخذها هو علكة يمضغها في خطبه، و ما درى أن تلك العلكة لو زُعم أنها تصلح لغير بلده، فإنها لا تصلح لبلده؛ لأنني رأيت ـ كما رأى هو أيضا إن أنصف ـ من إكرام المملكة لعلمائها و دعاتها ما لم تره عيني في بلد آخر!

فأيقنت أن الرجل صُوِّر له تمثيلية مصرية حركية؛ لأنه تربى على أيدي ’إخوان‘ ذاك البلد و خرافيّيه، يُراد نقل صورة صراعاتها السياسية إلى بلد آمن موحد سني، شَعبه منسجم مع ولاة أمره، الذين أكرموا الشيخ عائضا كغيره من الدعاة، فمكنته من الخطابة و الكتابة، و كذا المحاضرة في أي مكان شاء...

فكان من جزاء الرجل لدولته، أن توهم مرض تلك المسرحية قد انتقل إلى بلاده، و تصور دولته عدوا ملاحقا له، و تخيل السجون و القبور، و هو يغدو و يروح بين القصور، فيا لنلك المعركة بلا نقع، و لذلك الضِّراب بلا وقع!

و إليك بعضا مما وجدته في خطب الشيخ عائض القرني، مما دوّنه في كتابه ’المسك و العنبر‘، فقد قال و هو يتحدث عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ (1 / 34): ”قُتل هذا العظيم... و العظماء يُقتلون دائما؛ لتَعلم أنهم عظماء، فتعيش على نهجهم، و تنظم من دمائهم نظما زكيا تحيا به، و تبني من جماجمهم مكرمات ما كان لها أن تبنى، و تجعل من أشلائهم، تُحفا تتحدى بها التاريخ!!“.

قلت: و لا ريب أن هذه اللهجة معروفة لدى القارئ الحصيف، إنها لهجة من لا يعرف من سيرة الفاروق إلا ما يعرّض به عن سيرة ولي أمره؛ ليعرّف الناس فساد ما هم عليه من سكوت عن هذا الذي ينبغي ’أن تُنظم له دماء زكية لإسقاطه، و تبنى المكرمات على الجماجم، و أن يتركوا أشلاءهم تُحَفا للتاريخ!!!“.

فانظر كيف يدرسون سيرة العظماء العادلين، و لا تكن من المتغافلين!
إنهم لا يدرسونها و لا يدرّسونها إلا ليفهم الناس منها ’المواجهة‘ التي يسميها الفقهاء (خروجا)، و هم يسمونها ’مكرمة و دماء زكية و تحديا للتاريخ!!‘.

و قبل أن يرميني (متصولح) بأنني أدخل في النوايا لقرأ تصريحه نفسه بذلك في قوله في (1 / 356): ”إننا نتحدث عن علي بن أبي طالب في هذا اليوم؛ لأنه بطل المواجهة، و نحن نفتقر إلى المواجهة، لا نتحمل المواجهة!!!
أمة سلّمت قيادها لغيرها، أمة سُحقت كرامتها؛ لأنها لا تملك بطلا للمواجهة!!“.

قلت: فهل آن (للمتصولح) أن يفهم مراد القرني من الكرامة التي أراد أن يبنيها على الجماجم هناك؟!

ثم تابع القرني خطبته معرّضا بدولته و شعبه قائلا: ”أمة أصبح القرار بيد غيرها؛ لأنها لا تقوى على المواجهة!!“

و كونه لم يجد الأبطال، يدخل فيهم العلماء دخولا أوّليا؛ لأن العلماء أولى الناس بالبطولات و المكرمات، و الشيخ عائض يعلم جيدا الظن السيِّء الذي يكنّه شبابه خاصة لأهل العلم، فعلى أي محل تقع الخطبة عندهم؟!

و قال أيضا في (1 / 348): ”إننا نتحدث عن هذا البطل؛ لأننا في عصر نحتاج فيه إلى الأبطال فلا نجدهم! نبحث عن أبطال المواجهة في الحرب و السلم فلا نجد لهم أثرا!!“.

قلت: هذه خطب الجمعة في بلاد الشيخ عائض القرني: بلاد السعودية الآمنة!

تُرى: يواجه من؟

فإن قال المؤيد المتستر بالصلاح و الإصلاح: لعله يقصد بلادا أخرى؟

قلنا: فأنتم فقهاء واقع، فكيف لا تنطلقون من الواقع؟!!

ثم أنتم ترمون غيركم ـ ممن يشارككم في إثارة الفتن ـ بالجبن، فلِمَ جبنتم هنا عن التصريح بما في نفوسكم و أنتم أبطال المواجهة؟!

فإما هو يقصد السعودية كما هو واضح جلي، فهو إذًا على رأي الخوارج و المعتزلة في الإثارة و الخروج، و إما هو يقصد غيرها كما هو رأي (المتصولح المتغافل)، فأين فقه الشيخ للواقع؟! و الله المستعان.

أما قولي: إنه يعرّض بدولته و شعبه فهذا أوان بيانه، قال في (1 / 193): ”لا يُبعث نبي إلا و قد هيّأ الله هناك طاغية يتربص به، و لا يحمل رائد من روّاد الدعوة مبدأ إلا و يتهيّأ له ظالم يرصده...
قطيع الضأن: الشعوب التي لا تفهم إلا الخبز، و لا تفهم إلا الأكل، و لا تفهم إلا ثقافة القِدر و الجيب و البطن، تصفق للطاغية، و تحثو على رأس الداعية، الشعوب المهلهلة المهترية المتهالكة من داخل... !!“.

قلت: هذه الخطبة أيضا أُلقيت في بلاد الشيخ عائض!

قام الخطيب هنا بالطعن في شعبه و في دولته؛ أما الشعب فهو عنده قطيع ضأن، ليس يحسن إلا التصفيق للطاغية و أتباعه، و ليس له من دين سوى اللهث وراء ما يدخل بطنه!!

و أما الدولة فهي عنده طاغية، و إلا فمن هو المقصود من كلامه آنفا؟!

ثم لم يسلم إلا ’روّاد الدعوة‘، يعني نفسه و أمثاله ممن تفطن لما عليه الطاغية!!

هكذا تصوّر هذه البلاد، و على هذا التهييج على سفك الدماء تستثار عواطف الحضور، فبأي عقيدة يخرج الشاب الممتلئ حماسة من مسجد هذا الخطيب؟!

هذه الخطب لا تربي في نفوس الشعوب إلا الحقد على ولاة أمورهم، و هي أكبر عامل لحل معاقد أمورهم.

على هذه الخطب يتربى المراهقون السياسيون، و في أوكارها يفرّخ الخوارج المارقون، و لتجدنهم أحرص الناس على حياتها و تلميع أصحابها، و الأمر لله.

و كيف يكون تصور من يعيش خارجها؟!

إنه لا يتصور إلا السجون و الدماء، لاسيّما عند المبتدعة الحاقدين على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ، الذين يطربون لتصوير السعودية قاعدة من قواعد أمريكا في جزيرة العرب، و لا يهمهم في ذلك أدنى تحقُّق، بل لوجاءهم في ذلك خبر من إعلام الكفار لصدقوه بـ(نَعم)، و وافقوه بنهم!!

و لذلك بكى الشيخ عائض على استيلاء جبابرة على بلاد نجد في زعمه، و الذين حوّلوا أهلها ـ بجبروتهم ـ إلى يتامى ذليلين، حيث قال في كتابه ’لحن الخلود‘ (ص 46-47):

فبكت لمّا رأت نجدا و ما [][][] دمعها إلا معان و كلاما

وقال أيضا:

لا تحدثني عم العمران في [][][] أرضكم يا صاح و الأهل يتامى
أنا لا أَرغب سكنى القصر ما [][][] دام قلبي في حثى الذل مساما

و قال في أيضا في (ص 49):

لا تبع ذمّتك العظمى و لو [][][] ألبسوك بشتا ذهبي

قلت: البشت: هو الرداء الذي يلبسه المرء فوق ثيابه، مفتوح من قدّام فتحا كاملا، اشتهر بلبسه ذوو الوجاهة من الأمراء و العلماء، و قد قال الشيخ عبد العزيز بن علي الحربي في كتابه 'ما هبّ و دبّ' (ص 29): [و ليس في (القاموس) و لا في (اللسان) و لا في العربية أصلا لفظة (بِشْت بكسر الباء]، و أنشد في (ص 27):

و ليس في القاموس و اللسان [][][] لفظة (غترة) و لا (الفستان)
و (البشت) و (البوت) كذا (الفنيلة) [][][] و (الكلسون) ثم (بوت) (بوتة)

و المقصود أن الشيخ عائضا ههنا يطعن على العلماء بأنهم باعوا ذممهم لولاة الأمر بـ 'بشت ذهبي'!!

و تأمل دعوته إلى الدماء في قوله في (ص 56):

و عبيد الأرض لا حول لهم [][][] و زوال الملك عنهم في وشك
أيها المؤمن لا تحفل بمن [][][] يرفع السوط و يلقي الشرك
فارفع الذل و لا ترضى الخضوع [][][] لرئيس مستبد أو ملك
أنت كالبركان لا يُدرى به [][][] فإذا ثار تلظى و احترك
دمك الطهري لا بخل به [][][] و ابذل النفس بساح المعترك

هذه نماذج من خطب الشيخ عائض القرني و نظمه، هذه النماذج التي لا يرى فيها قوم ما يستنكر، مع أنها لو تليت على الأصم لأهطع!

و أخيرا،فإن ما تركته أكثر بكثير مما سقته هنا، و هو يحاول تشويه صورة العلماء، و أي علماء! !

كما يحاول تشويه صورة ولي أمره، و إظهاره للناس على أنه ’دكتاتوري‘ متغطرس، و لو كانت دولته ’دكتاتورية‘ كما تفوح به هذه الخطب الثورية، لما كان لمثله أن يرقى المنبر مجاهرا بلا تورية، أو تراه لو قالها في دولة الحَجّاج يبيت ليلة واحدة؟!!

قال الله ـ تعالى ـ: {و إذا قلتم فاعدلوا و لو كان ذا قربى} (الأنعام 152).
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 17 May 2008, 08:31 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

أبو قتادة يُسقِط العلماء و يزكي نفسه


لقد أجهد المشبوه نفسه لصرف الناس عن علمائهم كما نقلته آنفا،و أجهد نفسه لربطهم بالثوار، و حذرهم من الإنصات إلى مخالفة المشايخ لهم، كقوله في خطبته تلك: ”و خلاف المشايخ هذه الأيام هو أكبر حجة و مطية يمتطيها ضعيف النفس؛ ليتحلل من انتمائه للمجاهدين!!“

هكذا يدعو المشبوه الأمة إلى الاستقلال عن العلماء، و يزعم أن رجوعهم إليهم هو أكبر حجة للضعفاء، و الحقيقة أن أكبر حجتنا هو حجة الكتاب و السنة ـ و الحمد لله ـ، و أم العلماء فمن توفيق الله أنهم أكدوا لنا صحة هذه الحجة؛ لأنهم أوتوا من العلم ما يجعلنا نتقاصر دونهم، لله درهم.

و قد قال الله ـ تعالى ـ: {و ما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} (الشورى: 10)، و قال: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم و لا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} (الأعراف: 3).

و أما تزكية أبي قتادة لنفسه ففي قوله في خطبته تلك: ”مَن هذا الرجل الشجاع الذي يستطيع الآن أن يقف أمام دولة تأويه أو تحميه أو تعطيه لجوء، أن يقف مجاهرا: أنا أؤيد الجاهدين، أو أنا أؤيد أولئك حملة السلاح؟! من هذا الرجل الشجاع الذي يستطيع أن يقف هذا الموقف؟! لا ! إلا من أقامه الله ـ عز و جل ـ برهانا و بلاغا على بقية البشر... و إنها طريق لا بد أن يُسال فيها الدماء...!“

النقد:
لم يبق من هذه الكلمات إلا أن يُسمّي نفسه، و هنا مربط الفرس، و الهدف المنشود من كلماته تلك: أي أن يتخلص من فتاوى أهل العلم؛ ليقلدوا رقابهم فتاوى هذا الشجاع، الذي رأى أنه آوى إلى (ركن شديد!): بريطانيا، يُبَرجِم من وراء ديار الكفر، فيا لها من شجاعة نادرة !!

إذاً فليست الشجاعة عنده في شيء إلا شجاعة متكفف أموال بريطانيا، مستكنٍّ بنظام إيوائها، و من صرحها فليناد (الشجعان!)، و في حرم ديمقراطيتها يعيش من يخالف قول رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" رواه الترمذي، و هو صحيح!

إنه أبو قتادة الذي قال عن نفسه: ”أقامه الله برهانا و بلاغا على بقية البشر“!!

فهل يجد العقلاء أقبح من هذه الصراحة في أن الرجل يدعو إلى نفسه؟!

قال الله ـ تعالى ـ: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} (النجم 32)، و عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال: "ثلاثٌ مهلكاتٌ، و ثلاث منجيات، ثلاث مهلكات: شح مطاع، و هوى متبع، و إعجاب المرء بنفسه، و ثلاث منجيات: خشية الله في السر و العلانية، و القصد في الفقر و الغنى، و العدل في الغضب و الرضا" أخرجه الطبراني في 'الأوسط' (5584) و غيره، و حسنه الألباني في 'الصحيحة' (1802).

إن بلادك تلك ـ لندن ـ يعجبها منك أن تتخذها قاعدة تنفث منها سمومك على بلاد الإسلام، و يرضيها أن تظل بلاد الإسلام تحت نار الفتن، و على هذا فشجاعتك هذه تقدّم لها خدمة جليلة، فلتعطينّ لك و لأمثالك ألف بطاقة إيواء و لجوء و ... !

و لتوفرنّ لك أظفارك التي قلّمها لك أهل السنة، و لتربينّ لك أنيابك التي هتَمها لك أهل السنة، و لتجبرنّ لك قرنيك اللذين هشمهما لك أهل السنة؛ ما دام الذي بينك و بينها شمّ و تقبيل، و الذي بينك و بين بلاد الإسلام عض و تقتيل!

فكيف لا ترضى عنك، و أنت خير من توطن مواطنها، و إن لم تكن مواطنها؟!

و الله أعلم بحقيقة الحال، إلا أنه وعد فقال: {إن الله مخرجٌ ما تحذرون} (التوبة 64) !

أما وضع الجزائر، فحقيقته أن الخارجين على الأمة بالسيف ليس فيهم علماء، و رب السماء!

و إنما هي شهوة غضبية غازلها جهل بالنفس و تجهيل لأهل العلم، مما مكّن للرويبضة أن يولد ادلهمت الفتن و تتابعت الخطوب، و إنا لله!

إن الذي لم يسمُ به مستواه العلمي إلى أن يهتدي إلى الحق في مثل هذه المسألة، يكفيه أن يطّلع على أماراته؛ فإن من أمارات الخسران: عزل العلماء عن وظيفتهم و هم مرابطون على ثغورها و لكن لا تبصرون، و اغتصابها منهم بزعم تقصيرهم فيها، كما هو وصف الرويبضة الذي قال فيه رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصدق فيها الكاذب، و يُكذّب فيها الصادق، و يُؤتمن فيها الخائن، و يُخوّن فيها الأمين، و ينطق فيها الرويبضة! قيل: و ما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة" رواه ابن ماجه، و هو صحيح.

و قد كان السلف يرون رجوع الناس إليهم من الفتنة المعجَّلة، و من ذلك ما حصل لسفيان بن عيينة ـ رحمه الله ـ أنه لمّا توفي جمع من أهل العلم رجع الناس إليه، فلم يفرح بذلك و لا دعا الناس إليه كما هو شأن المشبوه هنا، بل عدّه من الشقاء، فقد روى ابن أبي حاتم في 'الجرح و التعديل' (1 / 51) بسند صحيح عن أبي قدامة السرخسي أنه قال: سمعت ابن عيينة كثيرا ما يرثي نفسه يقول:
ذهب الزمان فصرت غير مسود [][][] و من الشقاء تفرّدي بالسؤدد

و في 'تاريخ نيسابور' لعبد الغافر الفارسي كما في 'المنتخب من السياق لتاريخ نيسابور' (189) و 'تاريخ بغداد' للخطيب (9 / 177-187) عن محمد بن عمرو الباهلي يقول: [سمعت ابن عيينة يقول: كنت أخرج إلى المسجد فأتصفح الخلق، فإذا رأيت مشيخة أو كهولا جلست إليهم، و أنا اليوم قد اكتنفني هؤلاء الصبيان، ثم ينشد:
خلت الديار فسُدْتُ غير مسوّد [][][] و من الشقاء تفردي بالسؤدد
و إسناده صحيح؛ فإن إسماعيل بن نجيد الذي في إسناد 'تاريخ نيسابور' قد وثقه ابن الجوزي في 'المنتظم' (14 / 249).

قال الشيخ عبد الرحمن المُعَلّمي ـ رحمه الله ـ في تعليقه على كتاب ابن أبي حاتم: [أي صِرت سيدا و هو الصواب، أني لخلوّ الديار عن مستحق السيادة صرت سيدا!!]، و بوّب له ابن أبي حاتم بقوله: 'باب تواضع ابن عيينة و ذمه نفسه'.

هذا سفيان الذي كان جلّة العلماء يقصدون مجلسه لا يتكلمون بين يديه، كم روى ابن أبي حاتم في المصدر السابق (1 / 50) عن محمود بن آدم (الصدوق) قال: [ما رأيت وكيعا عند ابن عيينة قط إلا جاثيا بين يديه على ركبتيه ساكتا لا يتكلم].

أبو قتادة يطعن على كبار العلماء بالسعودية
قال المشبوه في مجلة ’الأنصار‘، العدد (128)، في (ص 7)، بتاريخ: (29 رجب 1416 هـ): ”لقد لستطاعت الحكومة الطاغوتية السعودية أن تجنِّد الكثير من المشايخ السلفيين في العالم عملاء لها يكتبون لها التقارير الأمنية عن نشاط الحركات الإسلامية، و هذه كذلك نتيجة سننيَّة؛ فإن السلفي الذي يعتقد بإمامة عبد العزيز بن باز و محمد بن صالح العثيمين و اللحيدان و الفوزان و ربيع المدخلي، كائنا من كان هذا السلفي، و من أي بلد كان، فإنه سيعتقد في النهاية بإمامة آل سعود؛ لأن مشايخه هؤلاء يدينون بالولاء و الطاعة لآل سعود، فإمام شيخي إمامي، و إمام ابن باز إمام السلفيين، و لذلك ففهد بن عبد العزيز هو إمام السلفيين في العالم أجمع...!!“.

قلت: تأمل هذا الأسلوب الخبيث الذي توصل به إلى الطعن على أهل السنة، إنه الآن يسميهم و يقرضهم بالمقاريض، بعد أن طال صبره بالتقية و المعاريض.

و تأمل أيضا هذا الأسلوب الخبيث الذي أراد به التوصل إلى الطعن على السلفيين جميعا؛ لأنه قال: ”كائنا من كان هذا السلفي! !“.

و قال أيضا في مقاله السابق: ”و قد أصبح هؤلاء السلفيون عملاء مرزقة... فهذا النوع من السلفيين علينا أن نضعهم في صف العملاء المرتزقة، لهم ما لهم، و عليهم ما عليهم من غير جمجمة و لا تقية! !“

و في (ص 5) جعل العلماء ”عيونا على المسلمين في مصلحة الطاغوت السعودي الخبيث! ! “، كذا قال تحت عنوان: ’من صميم المنهج! ! ‘

كل هذا ليخلص إلى القول في (ص 7): ”الحذر الحذر من هذه السلفية الخبيثة“!!

لا سبيل إلى الطعن على العلماء الذين يعترفون بإمامة ولي الأمر، ما لم يروا كفرا بواحا؛ لأن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ أوجب على كل مسلم أن تكون له بيعة لولي أمره، فقال: "من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، و من مات و ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" رواه مسلم (1851)، و إن وجود الذنوب لدى السلطان لا يعدّ مسوغا شرعيا لخلع بيعته، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر؛ فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية" رواه مسلم (1849).

و إنما تُنقَض بيعة السلطان إذا كفر كفرا بيّنا صريحا ليس فيه لبس، فعن جنادة بني أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت و هو مريض، قلنا: أصلحك الله، حدّْث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ، قال: دعانا النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا "أن بياعنا على السمع و الطاعة في منشطنا و مكرهنا، و عسرنا و يسرنا، و أثرة علينا، و أن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان" متفق عليه.

و العلماء هم أهل لأَن يروا ذلك الكفر البواح لو وُجِد؛ لأن العالم هو الذي يميّز الحق من الباطل، لذلك أنكر الله التسوية بين العالم و غير العالم، فقال: {قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب} (الزمر 9)، فلا يجوز اتهام أهل العلم بالعمالة أو الضلالة بمجرد أن فتاواهم تخالف أهواء الثائرين على ولاة أمورهم، قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "ليس منا من لم يُجِلَّ كبيرنا، و يرحم صغيرنا، و يعرف لعالمنا حقه" رواه أحمد و الحاكم، و حسنه الألباني في 'صحيح الجامع' (4553).

صورة المقال السابق

[ ]

صورة المقال الذي بعده

[ ]

فتوى أبي قتادة في قتل الخطباء و العلماء

الحقيقة أن هذا الفكر كداء الكلَب، لا يجد صاحبه راحة في نفسه و لو أخذتْ نهمتها على رغبتها؛ لأنه بمثابة من يطفئ النار بالهشيم، و لذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "إنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عِرْق و لا مِفْصل إلا دخله" رواه أحمد (4 / 102) و أبو داود (4597)، و هو صحيح.

و كما رأيت ـ أخي القارئ! ـ أن المشبوه قد كفّر الحكام، ثم لم يكتف بذلك حتى كفّر جندهم؛ بدعوى أنهم سياج للحكام، ثم لم يكتف بذلك حتى دعا إلى تكفير العلماء و الدعاة الذين ليسوا معه و لا مع جماعته، و ما دام المشبوه لا يجرؤ في البداية على التصريح بحِلّ دمائهم، فإنه يفتري عليهم ليمهد لذلك، كأن يصفهم زورا بأنهم ينصرون المبدلين للشريعة، فقد قال تحت عنوان: ’فتاوى جهادية: فتوى عظيمة الشأن في حكم الخطباء الذين دخلوا في نصرة و تأييد المبدلين لشريعة الرحمن‘!!

هذا عنوان مقاله في العدد (92)، من مجلة الأنصار، في (ص 11)، بتاريخ (الخميس 13 من ذي القعدة 1415 هـ).

صورة المقال السابق (ص 11) منه

[ ]

صورة (ص 12) منه

[ ]

صورة (ص 13) منه

[ ]
و لا ريب أن كلمة ’نصرة‘ في هذا العنوان وضعها عمدا للتمويه؛ حتى يفهمها كل إنسان بحسبه:
- فمنهم من يرى سكوت خطيب المسجد عن مثالب الولاة نصرة لهم!
- و منهم من يرى كلام الخطيب عن حقوق الولاة نصرة لهم!
- و منهم من يرى أن عدم تكفير الخطيب للولاة نصرة لهم!
- و منهم من يرى أن تحذير الخطيب من التكفير نصرة لهم!
- و منهم من يرى أن بقاء الخطيب في وظيفته نصرة لهم!
- و منهم أشكال لا تُحصى...

فكل يطبّق حكم تكفيره للخطباء بحسب فهمه لهذا الوصف، أو بحسب حقده على من يحرص على تكفيره منهم، فتأمل!

و اعلم أنك إذا قرأت مقال المشبوه هنا تبين لك أنه يعني بالخطباء أولئك الذين لا يوافقونه و جماعته على تكفير الحكام الذين وصفهم جميعا بتبديل الشريعة، لا سيما و هو يكفرهم عينا، فقال: ”و صار أمر ردة هؤلاء الحكّام و طوائفهم من المعلوم ضرورة، و لا يجهله إلا من طمس الله بصيرته، و جهل حقيقة التوحيد الذي بُعث الأنبياء من آدم إلى إلى محمد ـ عليهم الصلاة و السلام ـ، و لمّا كان الشيطان و أتباعه و جنده و رجله يُنشئ في كل زمان من الشبه ما يصرف بها الناس عن حقيقة التوحيد و يلبّس عليهم حقيقة الشرك حتى يوقعهم فيه، فقد تكلم بعضهم و زعم أن تكفير المبدلين للشريعة أمر لم يعرفه الأوائل، و ليس هو من باب الردة الصريحة التي أبان السلف أمرها، و زعم من كان سكوته خيرا من كلامه أن هؤلاء الموحدين الذين كفّروا العصرية هم محدثون لهذا، و ليس لهم سلف من الأئمة الهداة، فإنا نسوق في هذه الورقات فتوى أطلقها الأئمة الذين عاصروا الدولة العبيدية عندما كانت في المغرب في حق حكامها و من دخل معهم من المشايخ و الخطباء الذين خطبوا على المنابر، و دعوا لهم بالتوفيق...“.

قلت: تلاحظ هنا أنه شبّه الحكام الذين سبق أن ذكرت بعضهم ممن يكفرهم هو بالعبيديين، و من العبث أن أحاول نفي هذا التشبيه؛ لأن شر البلية ما يضحك؛ و إلا فأين العبيديون الذين يجعلون الحاكم بأمر الله في رتبة الإله، و يلعنون أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ أولهم و آخرهم، هذا بعض ما لديهم، أين هؤلاء من هؤلاء الحكام اليوم الذين لا يحب هو أن يجرى عليهم التفصيل الذي عند أهل السنة و الجماعة في المسألة أولا، و في أعيانهم ثانيا؟!

بل و أين الباطنية من هؤلاء الذين يصرحون بأنهم من أهل السن و الجماعة كحكام البلاد الجزائرية و السعودية و الأردن و اليمن و غيرها...؟ !

قال الذهبي ـ رحمه الله ـ في 'السير' (15 / 154): [و قد أجمع علماء المغرب على محاربة آل عبيد؛ لما شهّروه من الكفر الصراح الذي لا حيلة فيه].
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 18 May 2008, 08:58 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

دليل المشبوه على المسألة:

إن الذي سدّ انتباهي عند قراءة فتواه هذه أنني وجدتها أفْرَغ من جيب مفلس؛ لأنها خالي من أدلة الكتاب و السنة!

فقلت: كيف يقول ’فتوى خطيرة عظيمة الشأن...‘، ثم يدعها عارية من دليل السنة و القرآن؟!!

إن هؤلاء يكفّرون الناس؛ لأنهم لا يحكمون بما أنزل الله في كل بقاع الأرض بزعمهم، ثم لا تجد في فتواهم شيئا مما أنزل الله: لا آية و لا حديثا، كيف تستقيم لهم هذه الدعوى؟!

كل ما عندهم: قال فلان.. و قال فلان.. كما هو الشأن في كل الصفحات الثلاث التي دوّن فيها المشبوه فتواه، من (ص 11) إلى (ص 13)، ليس فيها إلا تحاكمه إلى الرجال، و قد صوّرتها قريبا! !

أهكذا تُستباح رقاب العلماء؟!

و قد مرّ بنا قريبا رميه السلفيين بالتقليد، فها هو يستبيح الرقاب بمجرد التقليد، و من حفر حفرا لأخيه وقع فيه!

و الفتوى التي ضرب بها المثل لأهل السنة هي في حق الباطنية، فكأن الرجل يبحث عن أي شُبه تشبه ضلاله لينزّل حكمها على أهل زمانه، و هاك نموذجا مما استدل به، و هو أول فتوى نقلها في هذا العدد، قال: ”سُئل ابن عذرة عن خطباء بني عبيد، و قيل لهم: إنهم سنِّيّة؟ فقال: أليس يقولون: اللهم صل على عبد الحاكم ورثة الأرض؟ قالوا: نعم! قال: أرأيتم لو أن خطيبا خطب فأثنى على الله و رسوله فأحسن الثناء، ثم قال: أبو جهل في الجنة، أيكون كافرا؟! قالوا: نعم! قال: فالحاكم أشد من أبي جهل“.

ثم قال: ”قال عياض: و سُئل الدّاودي عن المسألة، فقال: خطيبهم الذي يخطب لهم يدعو لهم يوم الجمعة كافر يقتل و لا يستتاب، و تحرم عليه زوجته، و لا يرث و لا يورث، و ماله فيء للمسلمين... و أحكامه كلها أحكام كفر...“

هذان نموذجان من لفتاوى التي تحاكم إليها المشبوه؛ ليبرر ما فعله الغلاة من شرذمته في قتلهم الدعاة في الجزائر، و اختطاف الأئمة إلى غير رجعة، و تعذيبهم بأشد ما سمعت به الدنيا في عالم التعذيب و التنكيل، و الله المستعان!

و تصديق ذلك أن المشبوه كتب مقالا أراد أن يبرر فيه قتل جماعته للشيخ محمد سعيد الوناس في الجزائر كما سيأتي إن شاء الله، فأحال القارئ على فتواه هذه و قال: ”انظر الفتوى في كفر الخطباء و المشايخ الذين دخلوا في نصرة و تأييد المبدلين لشريعة الرحمن، بتعليقي! !“، و ذلك في العدد (132) من مجلته، في (ص 12)، و الأمر لله!

إذاً فالشيخ محمد سعيد هو عنده واحد ممن استحق القتل؛ لأنه في حكم الخطباء الذين دخلوا في نصرة المبدلين... ! !

فهذا التمثيل الذي مثّل به لتبرير قتل الشيخ يعتبر تطبيقا عمليا لفتواه تلك، و هو الذي هدانا لأن نفهم مراده من فتواه.

صورة المقال السابق

[ ]

و إذا كان المشبوه لا يخرج عن التقليد كما رأيت في خلوّ فتواه الأخيرة من الدليل، فكيف يتهم غيره بالتقليد؟!

ويقول في مجلة الأنصار، العدد (134) و قد سبق تصوريه، في (ص 5)، بتاريخ: (الخميس 12 رمضان 1416 هـ): ”و قوم آخرون زعموا التمسك بالسنة و بفهم السلف الصالح، و أخرجوا الناس من تقليد الأوائل، و لكنهم لم يبرؤوا من جرثومة التقليد، فأخرجوا الناس من تقليد الشافعي إلى تقليد ابن باز، و من تقليد مالك إلى تقليد ابن عثيمين، و من تقليد أحمد إلى تقليد الألباني، تحاور الرجل منهم الساعة و الساعتين، و ترمي بوجهه الدليل تلو الدليل فلا يجد في قلبه من الشر إلا أن يقول لك: و لكن الألباني يقول بغير ذلك؟! و لكن ابن باز لم يقل هذا! ! هل قال بهذا ابن عثيمين و ابن باز و الألباني؟! من قال بهذا؟!

و لو قلت له: (قال الأئمة العظام) لتعارض هذا القول في نفسه فيما يقول هؤلاء الذين اتخذهم آلهة من دون الله، و لا يقول ما يقولوا (كذا)، و لا يدين إلا بمذهبهم، و كأنهم أنبياء هذا الزمان،و كان من مقت الله تعالى لهؤلاء القوم أن مسخ الله قلوبهم و عقولهم؛ حيث جعل الإمامة ـ و هي أعلى المراتب و أشرفها في هذه الدنيا ـ من حق من مسخ الله قلبه و أتى المكفّرات العظيمة كآل سعود و الملك حسين و القذافي و صدّام و آل الصباح، فانتسابهم للسلف لم يعلمهم التوحيد الذي يوجب عليهم البراءة من كل طواغيت الأرض“!!!

و قد مرّ تصوير هذا العدد من مجلته.

النقد:

1- تأمل حَنَقَ الرجل على أهل العلم، و الريق المسموم الذي يقطر به لسانه تجاههم؛ بسبب مضايقة فتاوى أولئك الأكابر لهمجية هؤلاء الأصاغر.

و هذا سبيل جماعات التكفير اليوم مع هؤلاء المذكورين من العلماء، و لذلك فبمجرد ما تُوُفيّ هؤلاء اجتهد أولئك في التركيز على مسائل الإرجاء، و أعطوها حجما لا تستحقه؛ ليحوّلوا المعركة من حَلَبة الخوارج الحقيقية إلى حَلَبة المرجئة شبه الوهمية، مع أن الفساد الذي حصل من جهة الفكر الإرجائي لا يكاد يُذكر إلى جنب الفساد الذي حصل من جهة الفكر الخارجي!

إن الموفّق من جعله الله مرابطا على الثغرين جميعا: التكفير و الإرجاء؛ لأن كلا منهما بدعة شنيعة، لكن لينصِف المنصفون: أي البدعتين أتبع؟ و أيهما أشنع؟ و أي الساحتين أوسع؟

فإن عسر عليكم عد أحيائهم، فعدوا أمواتهم؛ لأن إحصاء الأموات أيسر، فانظروا أي المقبرتين أعمر؟

يضاف إلى ما سبق أن بعض مسائل الإرجاء المعروضة اليوم ـ و التي أقاموا عليها الولاء و البراء ـ مسائل نظرية، بل خيالية لا أرضية لها كما يقال؛ لأن أصحابها رموا بالإرجاء من لم يكفر تارك العمل، مع أنهم لم ثبتوا لنا مخلوقا يترك العمل كلية، و إنه لعجب أن تقوم معركة ساخنة على مسألة خيالية، و أن يقوم للولاء و البراء سوق على بضاعة لا رواج لها.

و يُضاف إليه أيضا أن بدعة الإرجاء ألصق بأصحاب الحركة اليوم منهم بغيرهم؛ أولئك الذين يستخفون بالتمسك بالسنة؛ فقد يصفون المتمسك بها متمسكا بالقشور! و يهوّنون من شأن البدع و أهلها، و يُجهدون أنفسهم للستر عليهم بتأويلاتهم المتكلفة، مع العلم أن البدعة شر من المعصية، كما هو معلوم لدى من أطلعه الله على آثار السلف في ذلك.

2- إن الإمامة ـ أي مرتبة الخلافة التي دندن حولها صاحب هذا المقال في آخر كلامه ـ ليست أعلى المراتب و لا أشرفها، لا في الدنيا و لا في الآخرة، وهذا القيد بـ ’هذه الدنيا‘ في كلامه المتقدم مُلغى لا معنى له، و إنما ذكره مراوغة و متنفسا يلجأ إليه إذا قيل له: إنك وقعت فيما يدّعيه الشيعة الروافض من الغلوّ في شأن الإمامة، كما نقل ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في 'منهاج السنة' (1 / 73-74) أن ابن المطهر الرافضي قال: ”فهذه رسالة شريفة، و مقالة لطيفة، اشتملت على أهم المطالب في أحكام الدين، و أشرف مسائل المسلمين، وهي مسألة الإمامة...“، ثم ردّ عليه بقوله (1 / 75): [إن قول القائل: ”إن مسألة الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين، و أشرف مسائل المسلمين“ كذب بإجماع المسلمين سنّيهم و شيعيّهم، بل هذا كفر؛ فإن الإيمان بالله و رسوله أهم من مسألة الإمامة، و هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام...]، إلى أن قال (1 / 78): [الثاني: أن يقال: الإيمان بالله و رسوله في كل زمان و مكان أعظم من مسألة الإمامة، فلم تكن في وقت من الأوقات لا الأهم و لا الأشرف.

الثالث: أن يقال: فقد كان يجب بيانها من النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ لأمته الباقين من بعده، كما بيّن لهم أمور الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج، وعيّن أمر الإيمان بالله و توحيده و اليوم الآخر، و من المعلوم أنه ليس بيان مسألة الإمامة في الكتاب و السنة كبيان هذه الأصول].

و قال: (1 / 98): [و أيضا فمن المعلوم أن أشرف مسائل المسلمين و أهم المطالب في الدين، ينبغي أن يكون ذكرها في كتاب الله أعظم من غيرها، و بيان الرسول لها أولى من بيان غيرها، و القرآن مملوء بذكر توحيد الله، و ذكر أسمائه و صفاته و آياته و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و القصص و الأمر و النهي و الحدود و الفرائض، بخلاف الإمامة، فكيف يكون القرآن مملوءا بغير الأهم و الأشرف؟!].

قلت: و ما دام أمر الخلافة قد غلا فيه هذا و أمثاله إلى حد ما رأيت، فإنني انقل هنا كلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في رده على كلام الرافضي السابق، وهو رد على جميع الذين يستعظمون أمر الخلافة ـ التي هي حق بلا ريب ـ على استعظام التوحيد و أصوله و ثمراته، قال في (1 / 106-109): [من جعل هذا ـ يريد الإمامة ـ من الإيمان إلا أهل الجهل و البهتان، و سنتكلم ـ إن شاء الله ـ على ماذكره من ذلك.
و الله ـ تعالى ـ وصف المؤمنين و أحوالهم، و النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ قد فسر الإيمان و ذكر شعبه، و لم يذكر الله و لا رسوله الإمامة في أركان الإيمان، ففي الحديث الصحيح حديث جبريل لمّا أتى النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ في صورة أعرابي و سأله عن الإسلام و الإيمان و الإحسان، قال له: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، و أن محمدا رسول الله، وتقيمَ الصلاة، و تؤتي زكاة، و تصوم رمضان، و تحج البيت"، قال: "و الإيمان أن تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و البعث بعد الموت، و تؤمن بالقدر خيره و شره"، ولم يذكر الإمامة.

قال: "و الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، هذا الحديث متفق على صحته...].

ثم قال: [وهَب أنّا لا نحتج بالحديث، فقد قال الله ـ تعالى ـ: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمان و على ربهم يتوكلون (2) الذين يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون (3) أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم و مغفرة و رزق كريم} (الأنفال 2-4).

فشهد لهؤلاء بالإيمان من غير ذكر الإمامة.

و قال ـ تعالى ـ: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله ثم لم يرتابوا و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} (الحجرات 15).

فجعلهم صادقين في الإيمان من غير ذكر الإمامة.

و قال ـ تعالى ـ: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين و آتى المال على حبه ذوي القربى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب و أقام الصلاة و آتى الزكاة و الموفون بعهدهم إذا عاهدوا و الصابرين في البأساء و الضراء و حين البأس أولئك الذين صدقوا و أولئك هم المتقون} (البقرة 177).

و لم يذكر الإمامة.

و قال ـ تعالى ـ: { ألم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2) الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون (3) و الذين يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك و بالآخرة هم يوقنون (4) أولئك على هدى من ربهم و أولئك هم المفلحون} (البقرة 1-5).

فجعلهم مهتدين مفلحين و لم يذكر الإمامة].

سبحان الله! لو عُرض هذا الكلام على هؤلاء الحركيين من غير تصريح باسم صاحبه لأوشكوا على رميه بالعلمنة، و لكن يمنعهم من ذلك جلالة اسم ابن تيمية و هيبته، كما كان يجبن كثير من هؤلاء على رمي العلامة ابن باز ـ رحمه الله ـ بالإرجاء في حياته، و إن كانوا يعتقدون ذلك فيه؛ لأنه لم يعطهم ما يريدون من تكفير للحكّام، فلمّا تُوُفّي جاؤوا يركضون، فمنهم من آثر التلميح، يلسع إذا تمكّن، فإذا فُطن له تمسكن!

و منهم من ظاهره صمت، و باطنه مقت، قال الله ـ عز و جل ـ: {ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم و نجواهم و أن الله علام الغيوب} (التوبة 78).

و منهم من صرح بتبديعه بذلك، كذاك المرّاكشي بو النِّيت(1)!

ثم ذكر ابن تيمية ـ رحمه الله ـ شبهة السياسيين من الحركيين الذين يركزون في أحاديثهم على الخلافة، فقال (1 / 109-110): [فإن قيل: قد دخلَت في عموم النصوص، أو هي من باب ما لا يتم الواجب إلا به، أو دلّ عليها نص آخر.

قيل: هذا كله لو صحّ لكان غايته أن تكون من بعض فروع الدين، لا أن تكون من أركان الإيمان، فإن ركن الإيمان ما لا يحصل الإيمان إلا به كالشهادتين، فلا يكون الرجل مؤمنا حتى يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، فلو كانت الإمامة ركنا في الإيمان لا يتم إيمان أحد إلا به لوجب أن يبين ذلك الرسول بيانا عاما قاطعا للعذر، كما بيّن الشهادتين و الإيمان بالملائكة و الكتب و الرسل و اليوم الآخر، فكيف و نحن نعلم بالاضطرار من دينه ان الناس الذين دخلوا في دينه أفواجا لم يشترط على أحد منهم في الإيمان الإيمان بالإمامة لا مطلقا ة لا معيّنا؟!].

إن الحركيّين اليوم خرجوا على الأمة بتقسيم جديد للتوحيد، فأضافوا توحيد الحاكمية إلى التقسيم المعروف، و هو كلمة حق في جملته لا في تقسيمه، و لكن أُريد بها باطل؛ لأنهم أرادوا بذلك التخلص من مثل كلام ابن تيمية هذا من الأصول، أي أرادوا انتشالها من وضعها في باب الأحكام العملية السلطانية، إلى وضع عقدي، فلذلك حرصوا على ألا تكون إلا قسما مستقلا من أقسام التوحيد! !

و أنا ما أردت بهذا مناقشتهم في هذا بقدر ما أردت بيان تلاعبهم في استعمال المصطلحات الشرعية لتلبس ما يريدون من المعاني، و إلا فالمسألة تحتاج إلى تفصيل، و التفصيل لا يصلح أن نستدرج إليه مع ذوي الأغراض...

ثم كيف جعل المشبوه الخلافة أشرف المراتب و أعلاها في الدنيا، مع أن العالم أعلى درجة من الحاكم، بل النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ أعلاهم جميعا لمقام النبوة؟! بل كم نبي لم يُستخلف في الأرض، فهل يكون قد حُرم الشرف؟!!

قال ابن تيمية في 'المنهاج' (1 / 80): [إن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ لم تجب طاعته على الناس لكونه إماما، بل لكونه رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ إلى الناس، و هذا المعنى ثابت له حيا و ميّتا...].

و الحقيقة أنه ليس ثَمّ فرق كبير بين معتقد الرافضة في الإمامة و معتقد هؤلاء في الخلافة؛ لأن أولئك صرّحوا بلسان قالِهم، و هؤلاء صرحوا بلسان حالهم، و قد قيل: لسان الحال أنطق من لسان المقال، و الله المستعان.

و أعود للرد على المشبوه في مقاله ذلك، فأقول:

3- إن الذين ذكر أنه حاورهم فتركوا قوله لقول الجبال الثلاثة الأئمة الثقات الأثبات: ابن باز و الألباني و العثيمين ـ رحمهم الله ـ، أقول: قد أحسنوا صنعا، و فعلهم هذا هو عين الحكمة و هو سبيل العقلاء أتباع الكتاب و السنة، و ليس هو من التقليد المذموم في شيء؛ لأن ما حاورهم فيه من أمور الجهاد هو من نوازل هذه الأيام، و قد أمر الله عندها بالرجوع إلى أهل العلم، بل إلى أهل الاستنباط منهم، فقال: {و إذا جاءهم أمر من الخوف أو الأمن أذاعوا به و لو ردّوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (النساء 83)، و قد بيّنتُ وجه استدلال أهل العلم بهذه الآية في مسائل النوازل، و ذكرت لذلك آثارا عن السلف في كتابي: 'مدارك النظر في السياسة' فلا أعيده.

و لو كان المشبوه عالما فتركوه لأولئك المجتهدين فلقد أحسنوا؛ استجابة لأمر الله في هذه الآية، فكيف و أحسن أحواله أنه مجهول؟!

4- في هذا النص شهادة من المشبوه على أن جهاده، بل (جهاد! !) أصحابه ـ أما هو فلا يجاهد! ! ـ ليس بجهاد شرعي؛ لأنه شهِد بنفسه أن أهل العلم ـ بل المجتهدين من أهل العلم في هذا العصر ـ يخالفونه فيه، و في هذا عبرة للذين لا يزالون يشكّون في رأي أهل العلم، و قد قال الله ـ عز و جل ـ: {و شهد شاهد من أهلها} (يوسف 26) !

5- ليس في الأخذ بأقوال أهل العلم و ترك أقوال هذا المشبوه تقليد مذموم؛ لأن العاقل إذا خُيّر بينهم و بين مجهول فلن يرضى بهم بديلا، كيف و قد صحّ في مسند أحمد و غيره أن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".

أقول هذا على افتراض أن العلماء المذكورين يُفتون بغير حجة، و إلا فقد عوّدونا تنوير فتواهم بحجة الكتاب و السنة، رحمهم الله.

6- لقد كفّر المشبوه السلفيين بتقسيمهم: العلماء، و أتباعهم من طلبة العلم و العوام، فأما العلماء فقد كفّرهم؛ لأنهم يرون إمامة بعض الحكّام و لا يشاركونه في تكفيره لهم، كما مر.

و أما طلبة العلم و من يتبعهم من عوام؛ فلأنهم يقلدون ابن باز و الألباني و ابن عثيمين ـ رحمهم الله ـ، حيث قال: ”يقول هؤلاء الذين اتخذهم آلهة من دون الله! !“

و أصرح منه قوله السابق: ”و صار أمر ردّة هؤلاء الحكام و طوائفهم من المعلوم ضرورة، و لا يجهله إلا من طمس الله بصيرته و جهل حقيقة التوحيد...“ ! !

و معلوم لديك ـ أخي القارئ! ـ أنه يقصد بـ”طوائفهم“ العلماء و العامة الذين لا يؤيدونه، و قد مر تصريحه بذلك، و باح به في خطبته المشار إليها، و شبيه به قوله في مجلة الأنصار، العدد (90)، في (ص 12)، بتاريخ: (الخميس 29 شوال 1415 هـ)، الموافق لـ (30/3/1995 م): ”و لذلك فليُعلم أن نساء و ذرية كل طائفة تعامَل معاملة الطائفة ممتنِعة (كذا) بقوة و شوكة التي انتسبت إليها... ! !“.

صورة المقال السابق

[ ]

--------------------------------------
1: لأخي الفاضل شوقي بن عوّاد العويسي ردّ عليه باسم 'رجوم المعتدين على العقيدة السلفية و دعاتها السلفيين'، سدد الله خطاه فيه و يسر له إتمامه، و الغريب أن كتاب المرّاكشي هذا طُبع قبل سنوات، و رمى فيه صاحبُه أئمة العصر: الألباني و ابن باز و ابن عثيمين بالإرجاء، و سمّاهم الثالوث، عامله الله بما يستحق، فلم نر من أهل (الغيرة! !) من المتظاهرين بالاهتمام بهذا الباب من تحرك لنصرة الحق و أهله، مع أنه قد اجتهد الشباب المتسمّم بداء التكفير لتلويث البيئة السلفية بمثل ما ذُكر، و لا يزال الصمت مخيّما! !
و لأخي الفاضل أبي رواحة عبد الله الموري اليماني نظم حافل بذكر السنة و مآثر أهلها من أئمة العصر، ضمّنه رثاء طيّبا بعنوان 'النهر العرسض في الذب عن أهل السنة بالقريض'، يرثي فيه جمعا من أهل العلم الذين توفّوا في وقت متقارب جدا أي من حوالي السنة العشرين من هذا القرن، و هم الشيخ محمد أمان، و الشيخ حمّاد الأنصاري، الشيخ ابن غصون، و الشيخ عبد الرزاق عفيفي، و الشيخ ابن باز، و الشيخ الألباني، و الشيخ ابن عثيمين، و الشيخ بديع الدين السندي، و الشيخ مقبل و غيرهم ـ رحمة الله عليهم ـ، أنقل منه ما يأتي مفرقا (ص 76-81):

لا النظم نظمي و الأشعار أشعاري [][][] و القريض قريضي يا ابنة الجار
في عقد عشرين حطّت كل فاجعة [][][] رحالها و تولّت حين إدبار
في عقد عشرين تبكي العين راضية [][][] فدمعها نازل كالغيث مدرار
على شيوخ لهدي المصطفى نشروا [][][] يعلنون سنّته في كل أمصار
إذا ابن باز بيوم الأمس ندفنه [][][] و اليوم ندفن شيخ العصر و الدار
يا ناصر الدين إن لم ترض جيرتنا [][][] فقد رضيت بأخرى جيرة الباري
بكت عليك رياض العلم دامعة [][][] و ذاب من فقدكم أشياخ أمصاري
كم بدعة يا إمام العصر كنت لها [][][] سدّا منيعا فصارت وسط غوار
كم منهج فاسد صيرت قامته [][][] قصيرة فاكتوى من ردك الناري
يا ناصر الدين من يَبكيك رائعةً [][][] أهل الهوى؟ لا و ربي الخالق الباري
فليس يبكيك إلا تابع سلفا [][][] و نهجه يُستقى من خير مختار
و من يردّ دعاة الغي إذا نعقوا [][][] إلا ابن نوح بسيف منه بتار
و كيف يستطيع خصم في مناقشة [][][] نقاش ذاك الهِزَبْر العاقر الضار
كم باحث ناقد في الشيخ خطّته [][][] و نقده لا يساوي عشر معشار
يسير خلف ذوي الأهواء مجتهدا [][][] و باعه لا يساوي شبر مغوار
يرميه زورا بذا الإرجاء في سفه [][][] ونهجه خارجي نهج جزار

و مما قاله أيضا في (ص 200):
ثم اتجهت لأرض مكة قاصدا [][][] في ذا شيوخ العلم و العرفان
حتى وصلت لدار شيخ عالم [][][] فذًّ نصوح ثابت الأركان
ذي حنكة و سياسة شرعية [][][] وذكاؤه قد فاق في الرجحان
هذا و إن له لفقها ظاهرا [][][] إذ صار مأخوذا من القرآن
وكذاك من قول النبي محمد [][][] و من اقتفاه بغابر الأزمان
فسألت من هذا و كلي دهشة [][][] من حفظه إذ كان ذا إتقان
و عجبت لمّا أن نظرت بوجهه [][][] فإذا له عينان لا تريان
و هنا أجابون بصوت خافت [][][] هذا ابن باز عالم رباني
أو ما نظرت لدمعه متحدّرا [][][] من خشية للخالق المنان
وَصَموك يا شيخَ الجزيرة حقبة [][][] بعمالة و جهالة سِيّان
لكن سيُوقف كل عبد شاتم [][][] يوم القيامة في الورى بعيان
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 19 May 2008, 08:45 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

تكفير الرعية بكفر راعيها هو مذهب الخوارج


اعلم أن هذا الذي نقلته لك من تكفير المشبوه للناس بكفر حاكمهم هو قول فرقة من فرق الخوارج،قال أبو الحسن الشعري ـ رحمه الله ـ في 'مقالات الإسلاميين' (1 / 194) و هو يعدّد فرق الخوارج: [و قالت طائفة من البيهسية: إذا كفر الإمام كفرت الرعية، و قالت: الدار دار شرك،و أهلها جميعا مشركون، و تركت الصلاة إلا خلف من تعرف، و ذهبت إلى قتل أهل القبلة و ضيق الأموال، و استحلت القتل و السَّبي على كل حال].

قلت: كل هذه الأوصاف رأيتها في جماعات التكفير عندنا، مع ذلك زعم الحركيّون أن السلفيين يحيون مذاهب ماتت، و ينبشون قبورا درست، فأيّ الفريقين أحق بالجهل بالواقع إذاً؟! عافانا الله من البغي.

7- كيف يطمئن الناصح لنفسه إلى فتاوى المشبوه و ليس عنده إلا قال فلان.. و قال فلا..؟ !

ثم إذا رجعنا إلى هذه الأقوال وجدنا الأمر فيها على قسمين:
- إمّا كذب على أصحابها، كما ستراه في فصل: خياناته للأمانة العلمية.
- و إما تحريف للمعنى و تحميل لكلام العالم ما لا يحتمل،أو تنزيل لكلامه على غير محله، كما مرّ شيء منه، و سيأتي زيادة عليه ـ إن شاء الله.

8- لقد أخذ بكلامه شرذمته من الجزائريين و تركوا العلماء، فورّطهم في قتل النساء و العجزة و الصبيان و سائر المدنيّين فضلا عن العسكريين، و وجدوا أنفسهم في وضع لا يُحسَدون عليه، و قرعوا سنّ نادم حتى لعن بعضهم نفسه!

و لمّا أحس المشبوه ببشاعة الأمر و فداحة النتائج، و أن جاهه يكاد يسقط إلى غير نهوض، سحب البساط من تحتهم، و انسلّ من بين أيديهم ليصفهم بـ’الخوارج‘، فقال في تصريحه المذكور لجريدة ’الحياة‘، و قد مرّ تصويره: ”أسحب تأييدي لهم!“، و قال: ”انحرفت هذه الجماعة و سلكت خطّا هو خطّ الخوارج“!!

قلت: و هل ورّطهم في ذلك الخطّ سواك؟! و سيأتي ـ إن شاء الله ـ في فصل 'تنقضاته'.

9- لقد تعرض المشبوه في أول كلامه للمستبدلين شريعة الكفار بشريعة الله، و كفّرهم بذلك، و أنا لا أريد أن أناقشه في هذا بقدر ما أريد أن أبيّن للقارئ أن في عرض المسألة نفسها بهذه الصفة غلطا بيّنا، بل تغليطا مقصودا؛ و ذلك بطرح السؤال الآتي: من الذي غيّر الأحكام الشرعية: أهم الحكّام أم هو الاستعمار؟

إن الذي يطّلع على العرض السابق يفهم أن الحاكم الجزائري استلم الحكم بعد الاستعمار و بلاده تحكم بالشريعة الإسلامية، فجاء و أقصاها، و الحقيقة أن هذا الوصف خلاف واقع البلاد الإسلامية؛ فجاء و أقصاها،و الحقيقة أن هذا الوصف خلاف واقع البلاد الإسلامية؛ لأن جلّ هذه البلاد كان قد استعمره الكافر، و بثّ فيه ما بثّ من أحكام كفره، و غيّر ما كان أمكنه من دين الله ـ عز و جل ـ، هذا هو الوصف الصحيح لوضع أكثر بلاد المسلمين، بصرف النظر عمّا كان من كمال أتاتورك، و على هذا فالسؤال المطابق للواقع هو أن يُقال: ما حُكم من أسند إليه إمارة بلد لا يحكم فيه بشريعة الله في أكثر مناحي الحياة؟ ثم هو لم يغيّر ذلك بعد خروج المستعمر المستبدل؟

فمن عرض المسألة من أهل العدل على غير هذا التفصيل كان جاهلا؛ لأنه أخبر بخلاف الواقع، و من كفّر هذا الحاكم بلا تفصيل كان ظالما، و يوشك أن يكفّ النجاشي ـ رحمه الله ـ؛ لأن هذا الأخير لم يغير الأحكام النصرانية التي كان يحكم بها قبل إسلامه، قال ابن تيمية في 'منهاج السنة' (5 / 113): [و النجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن؛ فإن قومه لا يقرّونه على ذلك، و كثيرا ما يتولّى الرجل بين المسلمين و التتار قاضيا، بل و إماما، و في نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها، فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، و لا يكلّف الله نفسا إلا وسعها].

و لا نقول هذا محاماة للمحرّفين لشريعة الله، و لكنّه العدل الذي أُمرنا به و لو مع المخالف، لأن الله قال: {يأيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط و لا يجرمنّكم شنآن قوم على ألّا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى و اتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (المائدة 8)، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في 'منهاج السنة' (1 / 547): [أهل السنة يخبرون بالواقع و يأمرون بالواجب، فيشهدون بما وقع، و يأمرون بما أمر الله].

إن وجود قوانين وضعية في بلد ما لا يحملنا على أن ننسب إلى أميره وضعها، بل ينبغي النظر في تاريخها لمعرفة واضعيها، ثم بعد تصوُّرِ المسألة على حقيقتها يحكم المجتهدون من أهل العلم على أصحابها بما يدلّ عليه الدليل؛ إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوّره، و إنما يغلط من يغلط في هذا الباب من ذوي المقاصد السيّئة من لا يحبّ أن يلاحظ هذا و يجتهد في اللعب بالمصطلحات، و لذلك تجد الراسخين في العلم لا يتجاوبون مع أصحاب هذ الطرح، بل يأخذون كلامهم بحذر شديد، كما في أجوبة العلامة الألباني ـ رحمه الله ـ، و قد سمعت العلامة ابن باز ـ رحمه الله ـ في مناسبات شتّى يُعترَض عليه بمسألة الاستبدال هذه فلا يزيد على الجواب العام المعروف في كتب المتقدمين على آية الحكم بغير ما أنزل الله، و من أهل العلم من كان لا يجيب على هذا السؤال إذا شمّ من صاحبه تعنّتا خارجيا، رأيت ذلك في جواب العلامة ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ مرارا، لاسيما في آخر حياته.

و هذا كلّه يدلّ على فطنة نادرة عُرف بها هذا الطراز من أهل العلم، و لذلك لم يرفع المبتدعة من التكفيريين رؤوسهم في حياة هؤلاء، و يشبهه في الاحتراز من أغراض أهل البدع الدنيئة ما رواه ابن جرير في 'تفسيره' (11 / 253 – شاكر) وابن أبي حاتم في 'تفسيره' (7086 – الطيّب) و أبو الشيخ في 'طبقات المحدّثين بأصبهان' (1 / 352 – 353) بإسناد حسن، من طُرق عن يعقوب القمِّي عن جعفر بن أبي المغيرة عن ابن أبزى، قال: [جاءه رجل من الخوارج يقرأ عليه هذه الآية: {الحمد لله الذي خلق السماوات و الأرض و جعل الظلمات و النور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} (الأنعام 1)، قال له: أليس الذين كفروا بربهم يعدلون؟ قال: بلى! قال: فنصرف عنه الرجل، فقال له رجل من القوم: يا ابن أبزى! إن هذا قد أراد تفسير هذه غير هذا؛ إنه رجل من الخوارج! فقال ردّوه علي، فلما جاءه، قال: هل تدري فيمن نزلت هذه الآية؟ قال: لا! قال: إنها نزلت في أهل الكتاب، اذهب و لا تضعها على غير حدّها!] و ابن أبزى هو سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، كما صرّحت بذلك رواية أبي الشيخ.

وروى ابن أبي حاتم في 'تفسيره' (7086 – الطيّب) من طريق يعقوب القمّي عن جعفر بن أبي المغيرة عن ابن أبزى عن عليّ، قال: (أتاه رجل من الخوارج فقال له: {الحمد لله الذي خلق السماوات و الأرض و جعل الظلمات و النور ثم الذيم كفروا بربهم يعدلون} (الأنعام 1)، أليس كذلك؟ قال: نعم! فانصرف عنه، ثم قال له علي: ارجع! ارجع!ارجع! أي قل إنّما أُنزلت على أهل الكتاب؛ و هم الذين عدلوا بربهم، يعني أهل الكتاب).

و هذا إسناد حسن إن كان ابن أبزى هو عبد الرحمن والد سعيد المذكور؛ فإنه يروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ و كلاهما يروي عنه جعفر بن أبي المغيرة، و ليس يبعد أن تقع القصة لابن أبزى كما في الرواية الأولى، و لعلي بن أبي طالب كما في الرواية الثانية؛ لوجود داعيه في وقت علي ـ رضي الله عنه ـ، و يكون علي قد فطن لما وراء السؤال، قال المعلّقان عن تفسير ابن جرير: [و أراد السائل من الخوارج بسؤاله الاستدلال بالآية على تكفير أهل القبلة في أمر تحكيم علي بنأبي طالب، و ذلك هو رأي الخوارج].

هذا و قد تعرضتُ هنا لمسألة (الاستبدال)، ومن قبلها لمسألة (ترك العمل) بهذه الطريقة؛ لأنني رأيت خلافا كبيرا قام عليهما، و فتنة عريضة شغلت أهل الخير عن الخير، و قُطِّعت أرحام أهل السنة بهما، بعد مكر من ذوي الأغراض الفاسدة، و خاض فيهما بعض الأفاضل، مع أن الأُولى نظريةُ أكثر منها عملية، و الثانية خياليّة أكثر منها واقعية كما مر، و قد ودِدنا أن لو صُرِفت هذه الجهود المضنية في غير هذا، و لكن الله يفعل ما يريد.

و قتلُ شيخ الأزهر أيضا!

لا يزال المشبوه يتبع خطوات الشيطان في غرور لا نظير له، و كلما رُسم له منها خيال تبعه، حتى جعل سبيل الخروج من المأزق متمثلا في اغتيال كل عالم يفتي بغير فتياه، قال في مجلة الأنصار، العدد (94)، في (ص 5)، بتاريخ: (27 من ذي القعدة 1415 هـ): ”نعم! لو قُدِّر لرجل مسلم يحترم عقله أن يرى شيخ الأزهر و هو يتكلّم في إحدى محطّات التلفزيون لأيقن أنه لا نهض لأمتنا،و لا خروج من مأزقها حتى ترفع شعار: اقتلوا آخر حاكم مرتد بأمعاء آخر قسِّيس خبيث“!!

قلت: هكذا حلولهم كلها دماء! !

و هنيئا له رفع شعار الكفار، و هو قولهم: ”اقتلوا آخر ملك بأمعاء آخر قِسِّيس“، بل حصر خروج أمة محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ في رفع شِعار الذين لا يؤمنون بالله و اليوم الآخر، و إنا لله!

و أقول للذين لا يزالون يرفضون نسبة هذه الدماء لهؤلاء: لعلكم تقولون: إن المشبوه من جند الدولة!

قلنا لهم: و كيف تفسّرون كون الجماعة الإسلامية المسلحة و غيرها تجعله مرجعا لها؟!

هذا لسان القوم: إنهم يجعلون انتصار الجماعات الثائرة انتصارا للإسلام، فإذا خُذِلوا بما يرتكبون من فظائع وجدوا السبيل إلى رمي غيرهم بها!

صورة المقال السابق

[ ]

تبرير أبي قتادة قتل محمد سعيد الونّاس

الشيخ محمد سعيد الونّاس ـ رحمه الله ـ كان من رؤوس (الإخوان المسلمين الإقليميّين) في الجزائر، و بحكم ممارسته للدعوة، فقد حاول المشاركة مع بعض الأحزاب السياسية التي ظهرت بقوة في حدود سنة (1410 هـ) تقريبا، مع أنه لم يكن مقتنعا بدخول الإسلاميين في ذلك التيار السياسي مرحليا لا منهجيا، فلم يشعر إلا و هو مع جبهة الإنقاذ الإسلامية التي حاربته من أوّل يوم و أهانته يوما ما أمام الملأ، ثم تبوّأ منها الصدارة بعد غياب شيوخها، هذا مع احتفاظه بفكره الذي كان لا ينسجم مع فكرة الجبهة المذكورة.

و كان لدى الرجل نوع تعقّل و روِيّة، لكن الجبهة التي ألقته السياسة بين مخالبها كانت عبارة عن خليط فكري لا يزكيه إلا التهوّر، فلذلك لم يجد (اللغة السياسية!) المناسبة ـ على اختلاف رطاناتها ـ التي يقنع بها الجميع، مع العلم بأن استعمال التعقل و الرَّويَّة يومها كان مرفوضا عندهم بلا مراجعة!

و أيام الفتن سريعة الحركة، قليلة البركة، يجتمع في ساعاتها محن سنوات، و تتبدل فيها الأرض في اليوم مرات و مرات، و لذلك حين أصاب الرجل من الفتن ما أصابه، اختفى خوفا على نفسه من السلطة، فإذا به يجد نفسه كمن فرّ من الذئب ليطّرِح بين فكّي الأسد، بين الجيش الإسلامي للإنقاذ و الجماعة الإسلامية المسلحة.

فالجيش الإسلامي للإنقاذ كان يمارس العنف بسياسة، فالمس مس أرنب، و الطبع طبع ثعلب، و أما الجماعة الإسلامية المسلحة فهي عرين غلاة التكفير، أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، و أجهل من تكلّم في دين الرحمن، غِلاظ أجلاف كأن أسماعهم لم يطرقها آية رحمة، و لأسباب لسنا الآن بصددها فقد قتلوا الشيخ محمد سعيد الونّاس و لم يشعروا بأدنى تأثّم، لاسيما و هم يقرؤون قول صاحبهم أبي قتادة: ”من لم يندفع فساده إلا بقتله قُتل، و إن كان على معصية لا يستحق بها القتل!!“، من مجلة الأنصار، في عددها (132)، و (ص 11)، بتاريخ (27 شعبان 1416 هـ).

إنني أعلم لهذا الكلام الأخير حظّه من النظر عند الفقهاء، و لكن إلقاءه على هؤلاء هو الفتنة؛ لأن تطبيقه يرجع إلى السلطان،لا إلى هؤلاء الجهال الخارجين، الذين لا يملكون سلطة، بل من هوانهم على الله أنهم مختفون في الكهوف و الجبال، أكلهم سرقة و نهب، و قتلهم غدر و غضب.

و لذلك ذكر ابن تيمية هذه القاعدة في رسالته 'الحِسْبَة'، كما في 'مجموع الفتاوى' (28 / 108)، و جعلها من واجبات السلطان؛ بل منع صاحب الحسبة نفسه من تطبيقها؛ مع أنه مولّى من قبل السلطان، فقال في (28 / 109): [و ليست هذه القاعدة المختصرة موضع ذلك؛ فإن المحتسب ليس له القتل و القطع].

فإذا كان هذا في حق المحتسب، فكيف هو في الخارج المنتهب؟!

فانظر كم بين كلام الفقهاء و كلام السفهاء! !

صورة المقال السابق

[ ]

و هاك الآن تفسير أبي قتادة لعمل جماعته:

1- مفتي الجماعة يعترف بقتل جماعته الشيخَ محمد سعيد:

كتبت الجماعة الإسلامية المسلحة بيانا تعترف فيه بل تفتخر باغتيالها الشيخ محمد سعيد الوناس، فسارع أبو قتادة إلى التسديد و المقاربة، فقال في مجلة الأنصار، العدد (132)، في (ص 10)، بتاريخ (27 شعبان 1416 هـ):
”اعلم ـ أخي المسلم! ـ أن البيان الذي اطلعتَ عليه في العدد السابق في نشرية الأنصار قد أثار الكثير من التساؤلات حول حقيقة الواقع الذي تمّ موجبا لهذا البيان، وهو قتل الشيخ محمد سعيد الوناس و صاحبه عبد الرزاق رجّام و بعض أفراد تنظيمهم الذي كشفت ’الجماعة الإسلامية المسلحة‘ عنه“!

قلت: إذاً فهو اعتراف من الجماعة نفسها بأنها صاحبة الاغتيال، و بهذا تقطع الجماعة الطريق على أولئك المتكايسين من السياسيين الثوريين الذين يبرؤونها منه، و يلصقون هذا العمل و مثله دائما بالمخابرات... !

صورة البيان السابق

[ ]

2- وحوش أبي قتادة مجتهدون (كاجتهاد الصحابة!):

قال المشبوه في مقاله ذلك: ”اعلم ـ حفظك الله تعالى ـ أن المجتهد له أجر واحد إن أخطأ، و المصيب له أجران، و أن الخطأ في الدماء لا يكاد يسلم منه جهاد، و لا جهاد الصحابة...“ ! !

قلت: انظر كيف يهوّن من شأن الدماء بمثل هذا التبرير السمج، الذي لا يمكن أن يفهم منه أتباعه إلا الاستمرار في الهجوم على الدماء، و الله العاصم.

ثم أقول:
أ- من أين لهم أن قتالهم جهاد حتى يفرّعوا عنه ما ذكروه، فضلا عن أن يشبهوا أنفسهم بالصحابة؟!
ب- لو كان قتالهم جهادا، ما وقع فيه وقعَ اجتهادا، فمن أين لهم الاجتهاد و ليس فيهم نصف عالم؟!
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في 'الرد على الأخنائي' (ص 9-11):
[فإن من الناس من يكون عنده نوع من الدين مع جهل عظيم، فهؤلاء يتكلم أحدهم بلا علم فيخطئ، و يخبر عن الأمور بخلاف ما هي عليه خبرا غير مطابق، و من تكلم في الدين بغير الاجتهاد المسوّغ له الكلام و أخطأ فإنه كاذب آثم؛ كما قاله النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ في الحديث الذي في السنن عن بُريْدة عن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ أنه قال: "القضاة ثلاثة: قاضيان في النار و قاض في الجنة، رجل قضى على جهل فهو في النار، و رجل عرف الحق و قضى بخلافه فهو في النار، و رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة"، ثم قال في الرجل الأول: [فهو الذي يجهل ـ و إن لم يتعمّد خلاف الحق ـ فهو في النار، بخلاف المجتهد الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، و إن اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر"].

و قد فصلت القول في هذا في آخر كتابي 'مدارك النظر في السياسة'، في فصل 'شبهتان و الرد عليهما'، فليرجع إليه من شاء.

ج- ثَمّ فرق كبير بين جهاد الصحابة و جهاد هؤلاء؛ لأن الصحابة يندمون على أخطائهم و لا يعودون إليها، و أما هؤلاء فمستمرون على ما هم عليه، فإذا دخلوا المضايق و سدّت أمامهم المخارج نظروا في أعذار خيار أهل الأرض بعد الأنبياء، فتدّثروا بها، و إن لم يندموا يوما على فعالهم!

و ما أشبه هؤلاء باللصوص الفجرة الذين إذا ضُبِطوا قالوا: كان في مجتمع الصحابة لصوص! !

عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ أنه قال: "من قتل مؤمنا فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفا و لا عدلا" أخرجه أبو داود (4270) و الطبراني في 'مسند الشاميين' (1311) و الضياء في 'المختارة' (416،417)، و هو صحيح.

قال خالد بن دهقان: [سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله "اعتبط' بقتله'؟ قال: الذين يقاتلون في الفتنة، فيقتل أحدهم، فيرى أنه على هدى لا يستغفر الله، يعني: من ذلك، قال أبو داود: و قال: فاعتبط يصب دمه صبا].

هكذا رواه أبو داود (4271) و هو صحيح، و لا ريب أن هذا فعل من يريق داء الأبرياء و هو يحسب أنه يحسن صنعا!

و ضُبط بالغَين أي "فاغتبط"، أي سُرّ بقتله، و الله المستعان!

د- كان جيش أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ مشتملا على مجتهدين و علماء يُرجع إليهم، فيشملهم حينئذ حديث الأجر أو الأجرين المذكور آنفا، و أما هؤلاء المارقون فأتحدى جمعهم أن يثبتوا لنا واحدا معهم يكون من أهل الاجتهاد، و لو كان في سرداب الرافضة! بل لو جُمعت علومهم كلها في رجل واحد لما كوّنوا رجلا واحدا من علمائنا، و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، و سيأتي زيادة بيان ـ إن شاء الله ـ في ردّ تعلقهم بالشيخ الغنيمان.

هـ- يُفهم من كلام المشبوه هنا أنه يعترف بخطأ جماعته، و قد أراد إفهام القراء ذلك باستعماله هذا الأسلوب المرن، إلا أن الحقيقة خلاف ذلك، كما ستراه قريبا ـ إن شاء الله ـ في تبريره هذه الجريمة و تصويبه الجماعة فيها، و إنما يستعمل هذه الطريقة لمخادعة المؤمنين، قال الله ـ تعالى ـ: {يخادعون الله و الذين آمنوا و ما يخدعون إلا أنفسهم و ما يشعرون} (البقرة 9).
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 20 May 2008, 10:08 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

3
- أبو قتادة يدافع عنهم مع اعترافه بأنه لايدري سبب فعلهم:

لقد كتبتْ جماعة أبي قتادة بيانا تفتخر فيه باغتيال الشيخ محمد سعيد الوناس و من معه، لكن أبا قتادة لم يتبين له السبب،و كتب مع ذلك مقاله السابق ـ و تأمل البرودة التي يتكلم بها في الدماء ـ فقال: ”و البيان لم يوضّح سببا شافيا و قاطعا لهذا القتل، بل أبقى الكثير من الاحتمالات، فإذا تعاملنا مع البيان فقط فهذا معتقدي، لكن عندي ما يجعل لقتله عذرا و تأويلا...“ !!

ثم ساق بعض الاحتمالات، و ذكر بعدها الحالات التي يجوز فيها الاغتيال، ثم عاد ليعترف ـ بعد دفاع مرير عن جماعته ـ في الصفحة التي تليها، فقال: ”و البيان الذي أخرجته الجماعة لم يحدّد لنا أحد هذه الأسباب“!!

و هذا اعتراف صريح منه بأنه يهرف بما لا يعرف، و بأنه ينصر من لا يعرف، فأين ذهب عن قول الله ـ تعالى ـ: {و لا تقف ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} (الإسراء 36)؟ !

و فيه شهادة صريحة منه على أن نصرته لهذه الجماعة ليس إلا عصبية جاهلية؛ فأين ذهب عن قول الله ـ تعالى ـ: {إلا من شهد بالحق و هم يعلمون} (الزخرف 86)؟ !

و أنا أنقل هذا من قلم صاحبه؛ لأبين للمتعاطفين مع جماعته أننا نتعامل مع قوم يتكلّمون في دماء المسلمين بعشوائية كاملة، و يلغون فيها بوحشية قاتلة، كفى الله المسلمين شر هؤلاء المجرمين.

4- تفسير أبي قتادة لقتل الشيخ محمد سعيد الوناس:
قال المشبوه في مقاله ذلك (ص 10): ”اعلم ـ حفظك الله تعالى ـ أنه لا أحد فوق شرع الله ـ تعالى ـ؛ لقوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرَق الشريف تركوه، و إذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، و أيمُ الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها" رواه البخاري في كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رُفع إلى السلطان، من حديث عائشة ـ رضي الله عنها.

على هذا، فإنه ليسوء المرء المسلم أن يقتل أمثال محمد السعيد ممن عُرف بلاءه (كذا) في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ، و ليس محمد السعيد ككل أحد، لكن لا ينبغي التهويش باسمه دون النظر المبصر لسبب القتل“!!

قلت: هذه مقدمة قدمها ليقبَل قوله الآتي في تصحيح ذلك العمل الإجرامي، فالله حسبه.

و سبق أن نقلت من كلام المشبوه اعترافه بأنه لا يملك سببا قاطعا لتفسير قتل الشيخ محمد سعيد، و في مقاله هذا نفسه اجتهد اجتهادا بالغا لتصحيح هذا العمل الإجرامي، بحيث تبقى جماعته بمنأى عن كل طعن، بل تأوّل كل ما أورِد عليها؛ حتى يبرهن على أنها هي الطائفة المنصورة المعصومة.

و في الوقت الذي يشهد فيه على نفسه بأنه لا يدري سبب القتل بالضبط، فقد جعل يتأول لوحوشه حتى يدخل عملهم ذاك في عِداد عمل الآدميين، بل و في عداد ما يأمر به شرع أرحم الراحمين!

و بسبب تهافته في تفسير هذه الوحشية، فقد تردد جوابه بين إحدى ثلاث:
- تفسيره الأول: اتهم الشيخ محمد سعيد بفتح باب الحوار مع الطواغيت، و هذا يستلزم عنده القتل بال كرامة، قال بعد مقاله السابق: ”و ليس محمد سعيد ككل أحد، و لكن لا ينبغي التهويش باسمه دون النظر المبصر لسبب القتل، و البيان لم يوضِّح سببا شافيا قاطعا لهذا القتل، بل أبقى الكثير من الاحتمالات، فإذا تعاملنا مع البيان فقط فهذا معتقدي، و لكن عندي ما يجعل لقتله عذرا و تأويلا؛ فمن أراد أن يفتح باب الحوار مع الطواغيت أو ينشئ علاقات مع طواغيت أجانب عن بلده كالقذافي و غيره، أو يسعى عاملا للعودة إلى الديمقراطية، فهذا حكمه القتل و لا كرامة، و الله الحافظ و الهادي إلى كل خير، و إن لم يكن لهم عذر صحيح فهم آثمون“!!

و اعلم أنه يقصد بقتله كفرا، إلا أنه جبن عن التصريح بذلك، لكنني لا أفضحه إلا بقلمه؛ فقد قال في (ص 12) من مقاله ذلك: ”و أنا أعتقد بكفر من رفع راية الديمقراطية في حزب أو تنظيم في وضع مثل الجزائر، فمن دعا إلى العودة إلى الديمقراطية و حلِّ الأزمة كما يسمّونها ـ كذبا و زورا ـ عن طريق العودة إلى البرلمان و التعددية الحزبية، و بالتآلف و التحالف الوطني فهو يُقتل ردة بعد استتابته إن كان مقدورا عليه، و بدون استتابة إن كان غير مقدورا عليه (كذا) كما في الجزائر، و خاصة أن أمثال هؤلاء دورهم الرئيسي هو القضاء على الجهد، و إعطاء فرصة للدولة الطاغوتية للاطمئنان و ترتيب أوراقها للقضاء على الإسلام و أهله“!!

قلت: لقد عمّم الكلام هنا، مع أنه يدري بأن الشيخ محمد سعيد كان ممن ينحون هذا المنحى الديمقراطي، كما مرّ!

- تفسيره الثاني: أن محمد سعيد كان من المبتدعة عنده، ثم تاب بعد القدرة عليه، و من كانت حاله كذلك جاز قتله عندهم؛ قال المشبوه في منشوره السابق (ص 11): ”كانت هناك وقفة طويلة لقتل التائبين من التهمة، و أن الرجل إن تاب فلا يحل قتله، فكيف قتلت الجماعة الإسلامية المسلحة التائبين؟“

ثم أخذ يجيب على السؤال، محاولا إخراجه من الصبغة الإجرامية إلى الصبغة الفقهية المحمية بـ(الخلاف السائغ!)، ثم قال: ”و البيان الذي أخرجَته الجماعة لم يحدد لنا أحد هذه الأسباب، و بالتحقيق تبين أن التوبة كانت بعد القدرة عليهم، هذا مع العلم أني أعتقد أن الأفضل أنه كان على الجماعة أن تعفو عن التائبين، و خاصة في هذا الظرف العصيب، و يعالجوهم بإحدى طرق التعزير الأخرى، و لكن هذا رأي، و الرأي غير ملزم، و في هذه الأمور إنما يمضي أمر صاحب الشوكة، و هو أمير الجماعة، لا أمثالي من الناصحين المناصرين“!!!

قلت: إذا فإهدار دم الشيخ محمد سعيد دائر عندهم بين فاضل و مفضول، و إلى الله تُرجع الأمور!

تناقض:
قد مر نقل كلام المشبوه في أن الداعي إلى الرجوع للحل الديمقراطي يُعدّ كافرا، و يقتل بلا كرامة و لو تاب، إذا كانت توبته بعد القدرة عليه، كما مرّ أن الشيخ محمد سعيد هو ـ عنده ـ من هذا الصنف، فكيف كان الأفضل عنده ألا يُقتل؟!

- تفسيره الثالث: أنه قُتل على أساس أنه مبتدع حاول الوصول إلى القيادة و تغيير منهجها؛ قال المشبوه في (ص 12): ”فالقول إن الجماعة الإسلامية المسلحة قتلت الشيخ محمد سعيد و عبد الرزاق رجّام؛ لأنهما مبتدعة على عقيدة الأشاعرة قول ينقصه الدليل“.

ثم كرّ على كلامه هذا بالإبطال، فقال: ”نعم! يجوز للأمير السني السلفي أن يقتل المبتدعة إذا حاولوا الوصول إلى القيادة و تغيير منهجها؛ لأن حالهم حينئذ أشد من حالة الداعي إلى بدعته، فالمبتدعة هنا دعاة و زيادة“!!!

قلت: سبحان الله! شريعتنا تدرأ الحدود بالشبهات، و هؤلاء يقتلون بأدنى الشبهات!

و أرواح الرجال تتردد عندهم بين الاحتمال و البهتان، و تزهق أرواحهم كما تُزهق أرواح الخرفان!

قال أبو العباس القرطبي ـ رحمه الله ـ في 'المفهِم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم' (5 / 27): [و الدماء أحق ما احتيط لها؛ إذ الأصل صيانتها في أُهبها، فلا نستبيحها إلا بأمر بيّن لا إشكال فيه].

قلت: قد عصم رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ دماء كفارٍ تابوا بعد القدرة عليهم، فالإطلاق السابق يقيّده ما جاء في الصحيحين البخاري (4019) و مسلم (95) عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن المقداد بن عمرو الكندي ـ وكان حليفا لبني زهرة، و كان ممن شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ أخبره أنه قال لرسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: أرأيتَ إن لقيت رجلا من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أأقتله ـ يا رسول الله! ـ بعد أن قالها؟ فقال رسول الله ـ صلى اله عليه و سلم ـ: "لا تقتله؛ فإن قتلته فإنه فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، و إنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال".

قال النووي ـ رحمه الله ـ في 'رياض الصالحين (ص 186-الألباني): [و معنى "إنه بمنزلتك" أي معصوم الدم محكوم بإسلامه، و معنى "إنك بمنزلته" أي: مباح الدم بالقصاص لورثته، لا أنهم بمنزلته في الكفر، و الله أعلم].

تزكية أبي قتادة لجماعته بعد هذه الفظائع

قال المشبوه عند نهاية مقاله ذاك: ”و في الختام: إن الجماعة الإسلامية المسلحة بقيادة الشيخ أبو عبد الرحمن (كذا) أمين(1) هي راية أهل السنة و الجماعة على أرض الجزائر، و لا تسقط هذه الراية بالاحتمالات العقلية الجائزة، و لسنا بمغيرين ذلك إلا ببيّنة مثل عين الشمس، و الله الموفق“!!

و قال أيضا (ص 11): ”فالجماعة الإسلامية المسلحة لم يصدر منها ـ و إلى الآن ـ إلا التسديد و المقاربة في إصابة الحق و تحري منهج الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في قتالهم للمرتدين في الجزائر، فالواجب عدم إشاعة الفاحشة بمتابعة هوى النفس في إبطال هذه الراية و هذا المنهج“!!

قلت: و أي فاحشة أعظم من قوله: ’فتوى عظيمة الشان في جواز قتل الذرية و النسوان...‘؟ ! !و سيأتي إن شاء الله.

بهذا و ذاك الذي سبق يتبين أنه لم تكن هذه المحاماة المتهافتة من أجل حماية روح مسلمة، و إنما كانت من أجل إحياء جماعة من الوحوش الضارية و بعث نَفَس جديد لإجرامها، قال الله ـ تعالى ـ: {و لاتجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوّانا أثيما} (النساء 107).

أما كون وحوشه يتحرون منهج الصحابة، فأنّى لهم ذلك و هم من اجهل الخلق بدين الله، فكيف بمنهج الصحابة؟!

و هاك بعض ما كان عليه الصحابة و التورع في الدماء و التحرز من مواطن الفتن، أخرج البخاري (6863) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله).

و أخرج أيضا (4513) عن ابن عمر أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: إن الناس ضُيّعوا، و أنت ابن عمر و صاحب النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ، فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي، فقالا: ألم يقل الله: {و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة} (البقرة 193)؟ !فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة و كان الدين لله، و أنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة و يكون الدين لغير الله!).

و أخرج أيضا (4650) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: (أن رجلا جاءه، فقال: يا أبا عبد الرحمن! ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: {و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} إلى آخر الآية (الحجرات 9)، فما يمنعك أن لا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟ فقال: يا ابن أخي! أعيَّر بهذه الآية و لا أقاتِل، أحب إليّ من أن أعيّر بهذه الآية التي يقول الله ـ تعالى ـ: {و من يقتل مؤمنا متعمدا} إلى آخرها (النساء 93)، قال: فإن الله يقول: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} (البقرة 193)، قال ابن عمر: قد فعلنا على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ إذ كان الإسلام قليلا، فكان الرجل يُفتن في دينه؛ إما أن يقتلوه، و إما أن يوثقوه، حتى كثُر الإسلام فلم تكن فتنة، فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يريد، قال: فما قولك في علي و عثمان؟ قال ابن عمر: ما قولي في علي و عثمان؟ أما عثمان،فكان الله عفا عنه، فكرهتم أن يعفو عنه، و أما علي، فابن عم رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ و خَتَنه، و أشار بيده: و هذه ابنته أو بنته حيث ترون!).

و في رواية عنده (4515) رجّحها ابن حجر في 'الفتح' (8 / 311) بلفظ (هذا بيته حيث ترون).

قال ابن حجر (8 / 310): [و أما قوله: فما هو قولك في علي و عثمان؟ فيؤيّد أن السائل من الخوارج؛ فإنهم كانوا يتولّون الشيخين و يحطّون عثمان و عليّاً].

و أخرج أيضا عن سعيد بن جُبَير قال: (خرج علينا أو إلينا ابن عمر، فقال رجل: كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال: و هل تدري ما الفتنة؟ كان محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقاتل المشركين، و كان الدخول عليهم فتنة، و ليس كقتالكم على الملك).

قلت: و لا ريب أن قتال هؤلاء اليوم على الملك، و إن بهرجوا بخلافه؛ لأنه من الصعوبة بمكان أن يشهد الإنسان على نفسه بأنه مبتغي دنيا و طالب ملك، و قد قال الله ـ عز و جل ـ: {أفمن زُيّن له سوء عمله فرآه حسنا} (فاطر 8)، و إنما يعرف ذلك بقرائنه، و لو أرادوا بما فعلوا وجه الله لوقفوا عند حدوده، و لتعرّفوا على الحق فيه عن طريق أهله الذين هم العلماء، و لم يهجموا على الأرواح المعصومة لأدنى شبهة.

و قبل أن يعجل عليّ عَجِل، فإنني أنقل للقارئ الكريم شهادة عزيزة من المشبوه نفسه، يشهد فيها على قتال هذه الجماعات، فقد قال في ’الجهاد و الاجتهاد‘ (ص 305): ”إن الجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ حركة بشرية، و حركة من أجل السلطان و الملك، ففيه تتداخل كل انفعالات الإنسان، و من دعا للسيف أو حرّض على السيف فلا ينتظر أن يناقشه الناس و يحاربوه بالخطب الرنّانة و الورق الصقيل، بل عليه أن يحضّر نفسه ليذوق حر السيف، هذه هي سنة الله ـ تعالى ـ“؟!!

قلت: هذه الشهادة الصريحة غريبة، لكنها وقعت كما نقلتُ، و هي تأكيد على أن الله هو الذي يوفق أهل التوفيق للخير، و أنه هو يخذل أهل الخذلان، و الأمور لا تجري على سَنَن الحيل و الذكاء، و لكن الله يحكم ما يريد!

و المتبع لأصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ حقيقة لا ادعاء لا يختار لنفسه الدخول في هذه الدماء التي أُنتنت بها أرض الجزائر، بل يحقنها ما استطاع، و يتأسى في ذلك بالسيّد الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ، فعن الحسن البصري قال: (استقبل ـ و الله! ـ الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا توّلي حتى تقتل أقرانها، فقال له معاوية ـ و كان و الله خير الرجلين ـ: أي عمرو! إنْ قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، من لي بأمور الناس؟ من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم؟)، و ذكر القصة إلى أن قال الحسن البصري: (و لقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ على المنبر ـ و الحسن بن علي إلى جنبه ـ و هو يقبل على الناس مرة و عليه أخرى، و يقول: "إن ابني هذا سيد، و لعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين") رواه البخاري (2704).

و في رواية للآجري في 'الشريعة' (1659) تعليقا، و من طريقه عبد الغني المقدسي في 'تحريم القتل' (12)، و اسماعيل الخطبي في 'تاريخه' كما في 'الإصابة' لان حجر (2 / 72)، و من طريقه ابن عساكر في 'تاريخ دمشق' (13 / 234) قال الحسن (أي البصري): (فرآهم أمثال الجبال في الحديد، فقال: أضرب بين هؤلاء و هؤلاء في ملك من الدنيا؟! لا حاجة لي فيه)، و هو صحيح بشواهده الكثيرة التي منها ما رواه أحم في 'فضائل الصحابة' (1364)، و الآجرِّي في 'الشريعة' (1660) بإسناد صحيح عن رياح بن الحارث قال: (اجتمع الناس إلى الحسن بن علي ـ رضي الله عنه ـ بعد وفاة علي ـ رضي الله عنه ـ، فخطبهم، فحمد الله ـ عز و جل ـ و أثنى عليه، ثم قال: إن كلّ ما هو آت قريب، و إن أمر الله ـ عز و جل ـ لواقع، ما له من دافع، و لو كره الناس، و إني ما أحب أن أليَ من أمر أمة محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ ما يزن مثقال ذرة حبة خردل يهراق فيها محجمة من دم، قد عرفت ما ينفعني مما يضرني، فالحقوا بطيبَتكم).

هذا هو عمل المصلحين، و هذا هو خوف المتورّعين، على الرغم من أنهم بهذه المثابة من الاستحقاق، و لكن حرمة المؤمن عظيمة،و ليس من الحكمة أن يصر المرء على السعي لتحقيق مصلحة محضة فيما يتوهّم، و يغفل عن مفسدة راجحة محدقة به، و التي قد تعطي نتيجة معكوسة غير متوقعة، كما قال الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ: (لو نظرتم إلى ما بين جابرس إلى جابلق ما وجدتم رجلا جده نبي غيري و أخي، أرى أن تجتمعوا على معاوية، {و إن أدري لعله فنتة لكم و متاع إلى حين} (الأنبياء 111)، قال معمر: معنى جابرس و جابلق: المشرق و المغرب) أخرجه عبد الرزاق (11 / 20980) و أحمد في 'فضائل الصحابة' (1355) و الطبراني (3 / 87) و الآجري في 'الشريعة' (1661) و غيرهم، و هو صحيح، و أخرجه الحاكم (3 / 175) بلفظ: (إن أكْيَسَ الكَيْس التُّقى، و إن أعجز العجز الفجور، و إن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا و معاوية حق لامرئ، و كان أحق بحقه مني، أو حق لي فتركته لمعاوية؛ إرادة استضلاع المسلمين و حقن دمائهم، {و إن أدري لعله فتنة لكم و متاع إلى حين} (الأنبياء 111)، أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم).

و في هذا دليل على سقوط تعليل علي بن حاج لما فعله الحسن ـ رضي الله عنه ـ، فقد قال في ’وجوب نصرة المجاهدين‘ (ص 29): ”إن الحسن عندما تنازل عن الخلافة لمعاوية لا على أنه أقر الاغتصاب؛ و الدليل على ذلك ما قاله عند التنازل: (ما أردت بمصالحتي معاوية إلا أن أدفع عنكم القتل؛ عندما رأيت من تباطؤ أصحابي عن الحرب! ! !“

قلت: ههنا ثلاثة أمور:
الأول: رمى علي بن حاج في هذا التحليل الصحابي معاوية ـ رضي الله عنه ـ بالاغتصاب، و الكلام في معاوية كاتب الوحي ـ رضي الله عنه ـ دليل فساد عند السلف، سيأتي ـ إن شاء الله ـ عند فصل علاقة المشبوه بسيد قطب.

و الذي يشد الانتباه أنه حكم في كتابه كله على المغتصب بالقتل، بل و بدخول النار، و من ذلك ما نقله عن الإخوانيِّ المرِّ الخالدي في (ص 31) مقرّا له على قوله: ”إن حكم اغتصاب السلطة هو مقاتلة المغتصب بالسلاح قتالا مستمرا حتى يخلع، و إن قُتل فهو في النار، هو و كل من يقاتل معه! ! !“.

أهكذا يعامل ’السني! ‘ صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ و أمينه على الوحي؟!

و قد عنون لفصل من كتابه في (ص 23) بقوله: ’اغتصاب السلطة جريمة يحاربها الإسلام‘، إذا فقد خُدع أهل السنة حين دافعوا في عقائدهم عن مجرم و امتحنوا الناس به، بل كيف خُدع المسلمون الأولون حين وكلوا أمر كتابة الوحي إلى مجرم، و إنا لله؟!

ثم نقل مثله في الصفحة نفسها عن المودودي و محمد الغزالي، و قد قيل:
وفي السماء طيور اسمها بَقَع [][][] إن الطيور على أشكالها تقعُ ! !

الثاني: أتى بقصة لا خطام لها و لا زمام كعادته، ثم بنى عليها ما يريد، و زعم أن الحسن ـ رضي الله عنه ـ ما منعه من قتال المسلمين إلا أنه لم يجد قوة، و صرّح به في (ص 30)، فقال: ”لو وجد قوة على المحاربة لفعل! ! “، و هذا خلاف الروايات الصحيحة التي نقلتها من قبل؛ إذ فيها أن الحسن كان يملك جيشا عرمرما، كما في الرواية: (كتائب أمثال الجبال)، إلا أن الذي منعه من خوض المعركة هو حقن دماء المسلمين، كيف لا و هو الذي يناصح أباه عليّا ـ رضي الله عنه ـ بترك القتال في المعارك التي كانت بين المسلمين، رضي الله عن الجميع، و كان أبوه ـ بعد ندمه ـ يذكر هذه الحسنة لابنه، و هي روايات صحيحة مشهورة.

الثالث:
إن ما جاء في الروايات الصحيحة التي سُقتها صريح في أن الحسن امتنع من دخول المعركة حقنا لدماء المسلمين جميعا، سواء معه، أو أولئك الذين يخالفونه من أهل الشام، أم علي بن حاج فقد جاء برواية أخرى لا خطام لها أيضا و لا زمام، أثبت بها أن الحسن ما أراد بحقن الدماء إلا دماء جماعته،فزعم في (ص 29) أن الحسن ـ رضي الله عنه ـ قال: (فصالحت بقيا على شيعتنا خاصة من القتل، و رأيت دفع هذه لحرب إلى يوم ما! !“.

و مما يفنّد دعوى علي بن حاج في أن الحسن ـ رضي الله عنه ـ لم يجد بمن يقاتل، ما رواه أبو نعيم في 'الحلية' (2 / 37) بإسناد صحيح عن جُبير بن نفير قال: (قلت للحسن (أي ابن علي ـ رضي الله عنهما ـ): إن الناس يقولون إنك تريد الخلافة؟ فقال: قد كانت جماجم العرب في يدي يحاربون من حاربت، و يسالمون من سالمت، فتركتها ابتغاء وجه الله وحقن دماء أمة محمد ـ صلى الله عيه و سلم ـ).

فهذا دليل واضح على أن الحسن ـ رضي الله عنه ـ كان يملك عُدة بشرية هائلة، أما علي بن حاج فقد صور هذا المصلح ـ رضي الله عنه ـ ريحانة رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ سفّاكا للدماء، و أنه كان يتمنى إراقة دماء مسلمي الشام، فانظر ماذا تفعل السياسة البشرية بأهلها؛ إذ تُحوِّّل الآدمي من رجل سياسي إلى متوحّش دموي، لا يردّه دين، و لا يردعه تقوى، و قارن بينه و بين قول أهل السنة في هذا، قال الآجري ـ رحمه الله ـ عقب روايته التي سقتها أعلاه: [انظروا ـ رحمكم الله ـ و ميّزوا فعل الحسن الكريم بن الكريم، أخ كريم بن الكريم، ابن فاطمة الزهراء مهجة رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ الذي قد حوى جميع الشرف، لمّا نظر إلى أنه لا يتم ملك من ملك الدنيا إلا بتلف الأنفس و ذهاب الدين، و فتنة متواترة و أمور تُتخوّف عواقبها على المسلمين، صان دينه و عرضه، و صان أمة محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و لم يحبَّ بلوغ ما له فيه حظ من أمور الدنيا، و قد كان لذلك أهلا، فترك ذلك بعد القدرة منه على ذلك؛ تنزيها منه لدينه، و لصلاح أمة محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و لشرفه، و كيف لا يكون ذلك، و قد قال النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "إن ابني هذا سيّد، و إن الله ـ عز و جل ـ يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"، فكان كما قال النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ، رضي اللخ عن الحسن و الحسين و عن أبيهما و عن أمهما، و نفعنا بحبهم].

تنبيه:
كان حق كتاب علي بن حاج المسمى ’وجوب نصرة المجاهدين‘ أن يسمى: ’وجوب نصرة الديمقراطيين‘؛ فإن صاحبه قرّر مذهبهم بحماسة منقطعة النظير، و دافع عن مبدئهم في أن الحكم يرجع إلى الشعب باستماتة، كما في (ص10، و 23، و 24، و 25، و 26، و 29، و 30، و 31، إلى آخر الكتاب)، فهذه الصفحات، و ذاك المداد الكثير كلّه مهر للديمقراطية، كما طعن في الصحابة: معاوية و أبي موسى الأشعري، و عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهم ـ، إلى أن شبّههم في (ص 34، و 35) بلجنة الحوار الوطني الجزائرية، التي يكفّرها هو نفسه! !

و لولا أنني في غير هذا الصدد لبيّنت فيه مواضع أخرى من الضلال، و الله المستعان.

و من نظر إلى حال هؤلاء الدعاة السياسيين اليوم وجدهم صائرين في النهاية إلى تكفيريين أو إلى ديمقراطيين، فهل هذا علامة على التوفيق أو هو علامة على الخذلان؟!

و لو تأمل علي بن حاج حاله: من أين بدأ و إلى أين انتهى لعرف الجواب؛ فإن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال: "إنما الأعمال بالخواتيم" متفق عليه، و الله العاصم! !

ثم أعود لأقول: كان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم و رضي الله عنهم ـ يفرّون من مواطن الفتن و الدماء، فعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: (إني لأعرف رجلا لا تضره الفتنة: محمد بن مَسلَمة، فأتينا المدينة، فإذا فُسطاط مضروب، و إذا فيه محمد بن مسلمة الأنصاري، فسألته، فقال: لا أستقر بمصر من أمصارهم حتى تنجلي هذه الفتنة عن جماعة المسلمين) رواه الحاكم (3 / 434)، وقال: [هذه فضيلة كبيرة بإسناد صحيح]، و وافقه الذهبي على تصحيحه.

و قد كان علي ـ رضي الله عنه ـ يلوم محمد بن مسلمة على عدم مشاركته في قتال الفتنة المعروفة، فعن الحسن البصري قال: (إن علياّ بعث إلى محمد بن مسلمة، فجيء به، فقال: ما خلّفك عن هذا الأمر؟ قال: دفع إليّ ابن عمك ـ يعني النبي صلى الله عليه و سلم ـ سيفا، فقال: قاتل ما قوتل العدو، فإذا رأيت الناس يقتل بعضهم بعضا فاعمد به إلى الصخرة، فاضرب بها، ثم الزم بيتك حتى تأتيك منية قاضية أو يد خاطئة، قال (أي علي): خلّوا عنه) رواه أحمد (4 / 225) و ابن أبي شيبة (7 / 457، 452) و الطبراني في 'الأوسط' (1289) و في 'الكبير' (6 / 32) و غيرهم، و هو صحيح إن كان الحسن سمع من محمد بن مسلمة؛ لأنه عاصره و كان في بلدته، و إلا فهو حسن لكثرة طرقه.

فأنت ترى تورع الصحابة عن المشاركة في الدماء، على الرغم من أن الذين دعوهم إلى ذلك من أمثال الزبير و علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ، و معرفة المصيب من المخطئ في تلك القضايا كانت ممكنة، لكن شأن الدماء عظيم.

و قد قال مروان بن الحكم لابن عمر: هلمّ أبايعك؛ لأنك سيّد العرب و ابن سيّدها، فقال ابن عمر: (كيف أصنع بأهل المشرق؟ و الله! ما أحب أنها دانت لي سبعين سنة، و أنه قتل في سببي رجل واحد! فخرج مروان و هو يقول:
إني أرى فتنة تغلي مراجلها [][][] و الملك بعد أبي ليلى لمن غلبا.
أخرجه ابن سعد في 'الطبقات' (4 / 169) و ابن أبي الدنيا في 'الإشراف في منازل الأشراف' (7) و ابن عساكر في 'تاريخه' (31 / 185) و عبد الغني المقدسي في 'تحريم القتل و تعظيمه' (85)، و إسناده حسن كما قال محقق المرجع الخير.

هذا هو ورع أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و خوفهم من تبعة الدماء، و قد كانوا يتّهمون خيرة الناس في وقتهم بالتلبس بالدنيا إذا وجدوهم يشاركون في الفتن و لو كانت باسم الجهاد، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في 'منهاج السنة' (5 / 152-153): [و بالجملة العادة المعروفة أن الخروج على ولاة الأمور يكون لطلب ما في أيديهم من المال و الإمارة، و هذا قتال على الدنيا، و لهذا قال أو برزة الأسلمي عن فتنة ابن الزبير و فتنة القرّاء مع الحجاج و فتنة مروان بالشام: (هؤلاء و هؤلاء إنما يقاتلون على الدنيا!).

قلت: و قد روى هذا الأثر ابن سعد في 'الطبقات' (4 / 300) و أبو نعيم في 'الحلية' (2 / 32-33) بإسناد قوي عن أبي المنهال قال: (لمّا كان زمن أخرج ابن زياد وثب مروان بالشام، و ابن الزبير بمكة، و وثب الذين كانوا يُدعون القرّاء بالبصرة، غمّ أبي غمّّاً، و كان يثني على أبيه خيرا، قال: قال لي: انطلق إلى هذا الرجل الذي من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: إلى أبي برزة الأسلمي، فانطلقت معه حتى دخلنا عليه في داره، و إذا هو في ظلٍّ علوٍّ ه من قصب في يوم شديد الحر، فجلست إليه، قال: فأنشأ أبي يستطعمه الحديث، و قال: يا أبا برزة! ألا ترى؟ قال: فكان أول شيء تكلم به أن قال: إني أحتسب عند الله ـ عز و جل ـ أني أصبحت ساخطا على أحياء قريش، و أنكم ـ معشر العرب! ـ كنتم على الحال الذي قد علمت من جهالتكم و القلّة و الذلّة و الضلالة، و أن الله ـ عز و جل ـ نعَشَكم بالإسلام و بمحمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ خير الأنام، حتى بلغ بكم ما ترون، و أن هذه الدنيا هي التي أفسدت بينكم، و إن ذاك الذي بالشام ـ و الله! ـ إن يقاتل إلا على الدنيا، و إن الذي حولكم الذين تدعونهم قرّاءكم ـ و الله! ـ لن يقاتلوا إلا على الدنيا، قال: فلما لم يدع أحدا، قال له أبي: بما تأمر إذاً؟ قال" لا أرى خير الناس اليوم إلا عصابة ملبّدة، خماص البطون من أموال الناس، خفاف الظهور من دمائهم).

قلت: تأمل قوله: (إني أحتسب عند الله ـ عز و جل ـ أني أصبحت ساخطا على أحياء قريش)؛ فإن معناه أنه يتقرّب إلى الله ـ عز و جل ـ بسخطه على الذين دخلوا في هذا الأمر من الخروج، مع أن الخارجين ذوو قدر و جلالة، و المخروج عليهم ذوو إفساد و صيالة، كالحجاج بن يوسف، فكيف لو رأى هؤلاء اليوم؟! و الله وليّ التوفيق.

و لذلك قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في 'منهاج السنة' (4 / 468): [و قتال الفتنة مثل قتال الجاهلية، لا تنضبط مقاصد أهله و اعتقاداتهم].

و كي لا يقول قائل: إن هذه الأحاديث و الآثار ليست في بابنا،؛ لأن قتال المشركين غير قتال المسلمين، فإنني أنقل هنا قصة في قتال المشركين استدل بها الصحابي على المنع من قتال المسلمين، و هي ما رواه مسلم (160) عن صفوان بن محرز: (أن جند بن عبد الله البجلي بعث إلى عسعسَ بن سلامة زمن فتنة ابن الزبير، فقال: اجمع لي نفرا من إخوانك حتى أحدّثهم، فبعث رسولا إليهم، فلما اجتمعوا جاء جندب و عليه برنس أصفر، فقال: تحدّثوا بما كنتم تحدّثون به، حتى دار الحديث، فلما دار الحديث حسر البرنس عن رأسه، فقال: إني أتيتكم و لا أريد أن أخبركم عن نبيّكم(2)، إن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ بعث بعثا من المسلمين إلى قوم من المشركين، و إنهم التقوا، فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقص إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله، و إن رجلا من المسلمين قصد غفلته، قال: و كنا نتحدث أنه أسامة بن زيد، فلما رفع عليه السيف، قال: لا إله إلا الله، فقتله! فجاء البشير إلى النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ فسأله فأخبره، حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع، فدعاه فسأله، فقال: لم قتلته؟ فقال: يا رسول الله! أوجع في المسلمين، و قتل فلانا و فلانا، و سمّى له نفرا، و إني حملت عليه، فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله! قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: أقتلته؟ قال: نعم! قال: فكيف تصنع بـ(لا إله إلا الله) إذا جاءت يوم القيامة؟! قال: يا رسول الله! استغفر لي، قال: و كيف تصنع بـ(لا إله إلا الله) إذا جاءت يوم القيامة؟! قال: فجعل لا يزيده على أن يقول: كيف تصنع بـ(لا إله إلا الله) إذا جاءت يوم القيامة؟!).

قلت: تأمل، فإن القتال هنا مع ابن الزبير، ابن حواري رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ و قد بويع له قبل خصمه، مع ذلك منعوا من الخروج معه، فأي حجة أكبر من هذه يريد القوم؟!

----------------------------

1: هو جمال زيتوني، أمير الغلاة قبل أن يهلك.
2: قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرحه: [فكذا وقع في جميع الأصول، و فيه إشكال من حيث إنه قال في أول الحديث: (بعث إلى عسعس، فقال اجمع لي نفرا من إخوانك حتى أحدّثهم، ثم يقول بعده: أتيتكم و لا أريد أن أخبركم)، فيحتمل هذا الكلام وجهين:
أحدهما: أن تكون (لا)زائدة، كما في قوله ـ تعالى ـ: {لئلا يعلم أهل الكتاب} (الحديد 29)، و قوله ـ تعالى ـ: {قال ما منعك ألا تسجد} (الأعراف 12).
و الثاني: أن يكون على ظاهره: أتيتكم و لا أريد أن أخبركم عن نبيكم ـ صلى الله عليه و سلم ـ، بل أعظكم و أحدثكم بكلام من عند نفسي، لكني الآن أزيدكم على ما كنت نويته، فأخبركم أن رسول الله ت صلى الله عليه و سلم ـ بعث بعثا، و ذكر الحديث، و الله أعلم].

التعديل الأخير تم بواسطة أبو البراء إلياس الباتني ; 20 May 2008 الساعة 10:15 PM سبب آخر: تصحيح
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 21 May 2008, 09:59 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

فتوى أبي قتادة في قتل النساء و الأطفال

وصف حال الإجرام التي وقعت في الجزائر


قبل أن أخوض في الموضوع، أعرض على القارئ بعض الصور الإجرامية التي وقعت في الجزائر باسم الجهاد في سبيل الله؛ وذلك لأنه أكثرُ عونا على فهم فتوى المشبوه، فأقول:
1- حصل أن اغتيل بعض رؤوس الكفر ممن يعلنون كفرهم، و لكن هذا النوع من الاغتيال من أندر ما وقع.
2- حصل قتل بعض المسؤولين الذين ترى بعض الجماعات القتالية كفرهم، و هذا في ندرته كسابقه.
3- حصل قتل الشرطة و سائر أجهزة الأمن، و هذا كان منه العدد الكبير الذي لا يحصر، بل يُقتلون يوميا كقتل الذباب، و جلّ من قُتل من هؤلاء هم الذين لا يقدّمون من الأمر شيئا و لا يؤخرون و إنما هم طلّاب رزق لعيالهم. و قد قُتل هؤلاء على أساس أنهم داخلون في حكم طائفة حكامهم، كما قُتلوا على أساس إضعاف الدولة و إحداث النكاية فيها!
4- محاولة اغتيال المسؤولين في الأوساط الشعبية، و الغالب أنهم لا يصيبونهم، و إنما تقع الإصابة على سائر الشعب المسلم الذي لا حماية له.
5- قتل رجال الأمن أو المسؤولين بمن حولهم من مدنيين و نساء و أطفال و عجزة...
6- غزو قرى المسلمين و تذبيح الجميع بلا تمييز، و هذا أيضا منه شيء كثير؛ على أساس تكفير الشعب بتكفير حكامه، و أن الدار دار حرب، أي ـ كما يقول المشبوه و أتباعه ـ كفر الحاكم و كفر طائفته التي هي الشعب؛ و لو لم تكن هذه الطائفة كافرة لالتحقت بالثوار، و إذ لم تفعل فحكمها حكمه، كذا هي فلسفتهم!
7- اغتصاب أموال التجار و الأغنياء لصالح مقاتليهم، فمن أعطى فهو آمن، و من تردد فغير ضامن، و من قال: (كيف؟!)، أخذه السيف، و حصل من هذا عدد لا يُحصى!
8- و صور أخرى لا تنضبط؛ و هذه هي حالة القتال غير المنضبط بالشرع، و الله المستعان.

عن أبي هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال: "من خرج من الطاعة و فارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية، و من قاتل تحت راية عُمِّيَّ يغضب لعَصَبة، أو يدعو إلى عَصَبَة، أو ينصر عصَبة، فقُتل فقتلة جاهلية، و من خرج على أمتي يضرب برّها و فاجرها، و لا يتحاش من مؤمنها، و لا يفي لذي عهد عهده، فليس مني و لست منه" رواه مسلم (1848).

ظروف الفتوى

قبل أن يعرض المشبوه فتواه، قدّم بكلمة تحت عنوان ’ظروف الفتوى‘.

و هذه ’الظروف‘ عبارة عن حكايات لألوان التعذيب التي تعرض لها من ذكرهم و هو في فلسطين و سوريا و روسيا...

و مثاله قوله في مجلة الأنصار، العدد (90)، في (ص 10)، بتاريخ: (29 شوّال 1415 هـ): ”هل نحدّثك ـ أخي القارئ! ـ عن وضع الأخوات في سجون البعثي...؟ !“، ثم صوّر هناك بأن الأسارى في الجزائر يعيشون أسوأ أيامهم، و لذلك احتاجوا إلى فتواه لإنقاذهم مما هم فيه.

و هذا العرض العاطفي للمسائل الشرعية نفثة حركية معلومة؛ يلجأ أصحابها المفلسون من الحجة الشرعية إلى الأسلوب الخطابي العاطفي، يلهبون به مشاعر الناس نحو ما يقع ’لمجاهديهم! ‘ من العقوبات، أو يلجؤون إلى طريقة القصّاص في حكاية بطولات رؤوسهم، فيقولون مثلا: إن سّيد قطب مات من أجل قضية الإسلام، أو إنه أُعدم و هو رافع سبّابة التوحيد...!

و ما هي إلا حكايات من لغو البطولات، و فقه غريب مدهون بالعواطف العاصفات، يفتحون بها شهيّة الثوّار، و يغلقون بها عقول الأغمار، حتى إذا استدرّوا عواطفهم، و أدمعوا أعينهم، أوجدوا لشبهاتهم أرضيّة لتحطّ رحالها و لا ترحل، و هناك يحرم على الفقه أن يدخل بقيوده، و على الشرع أن يتكلم بضوابطه، و إنما هي أهواء، تحت غطاء الولاء و البراء.

تنبيه مهم:
الملاحظ هنا أن المشبوه يريد الكلام عن ضرورة الجهاد في سبيل الله لإقامة الدولة الإسلامية، لأنه يسمي الحكام ’مرتدّين‘ من هذا الباب.

و إذا كان جهاده ـ كجهاد من هم على مشربه ـ قائما لهذا الغرض، فعلام حكاية هذه الشكايات المشار إليها أعلاه؟!

و المقصود ههنا تحرير سبب قيام هؤلاء على دولهم: أهو من أجل حماية جناب ’الحاكمية‘، أم هو من أجل حماية أنفسهم؟

و إذا قيل إن الجهاد شُرع من أجل هذا و هذا، قلنا: فبأي دافع بدأتم، و لأي الغرضين خرجتم؟

إنني نبّهت على هذا؛ لأن الغالب على هذه الحركات الدمويّة و الجهاديّة اليوم أنها لا تتحرك نحو ما تسميه ’جهادا‘ إلا إذا أُخذ على أيدي أفرادها.

و إنك لتجد الحكم بالشريعة معطّلا في البلاد سنوات طويلة، فلا يتحركون للمواجهة إلا ما كان من حركة اللسان، فإذا حصل لبعض أفرادهم مكروه جاءت الفتاوى في مشروعية الجهاد، بل في وجوبه، بل في الرمي بالنفاق لمن لا يرى ذلك! و لو حاول القارئ المنصف أن يتذكر أول دافع لخروج كل من خرج في هذا العصر و من قبله لوجد ذلك جليا في أكثر البلاد.

و كم يلبّس الشيطان على هؤلاء؛ إذ يلبس نيّتهم لباس التقوى، و يظهر لهم من أنفسهم أنهم قاموا لتحكيم الشريعة، و لكن أمارات تكذيب ذلك تظهر على أعمالهم:
- إما بالانحراف عن سيرة الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ في طريقة النهي عن المنكر، و عدم التحاكم إلى هديه في ذلك.
- و إما بالاستجابة إلى نوازع النفس و إشباع رغباتها في الانتصار لها من الظالم، و إضفاء الصبغة الجهادية عليها، فيظل أحدهم يدافع على نفسه في معركة ضارية، و لا يجري على لسانه إلا الدفاع عن الدين!

و قد تظهر نواياهم أحيانا في لحن القول، كما قال ـ تعالى ـ: {و لو شاء الله لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم و تعرفنهم في لحن القول و الله يعلم أعمالكم} (محمد 30)، و هذا هو الذي حصل للمشبوه هنا.

و قد يتفلت من ألسنتهم ألفاظ صريحة، تنادي على أصحابها بالفضيحة، كما حصل للشيخ سلمان العودة في محاضرة ’مهرجان بريدة‘، حيث قال: ”أتدرون كم دفعت الجزائر كدولة، و كأمّة؟ كم دفعت ثمنا للعدوان على رجال الإسلام: على عباسي مدني، و على علي بن حاج، و على غيرهم من رموز الدعوة و رموز الإسلام؟“.

قلت: و إن عجبت لهذه الفلتة، فاعجب لجوابه، حيث قال: ”فقط عشرة آلاف قتيل... ! ! “.

إنه تصريح من سلمان على أنهم ماتوا في سبيل رجال... !

فأين إخلاص الدين لله؟!

وأين الجهاد لإقامة دولة الإسلام؟!

و أين الجهاد لنفي الشرك الذي سمّاه فتنة، فقال: {و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله} (الأنفال 39).

و لو كانت هذه التضحية مشروعة من أجل حماية الرجال، فلماذا لم تحظ قضية الحاكمية بمثلها، و قد كان مقتضيها قائما قبل وجود هؤلاء ’الرجال‘؟!

أي لماذا لا يخرجون عند إقصاء الشريعة، و إنما يخرجون دائما عقب الأخذ على أيدي رموزهم؟!

إن سلمان العودة يريد إفهام مريديه بضرورة التفكير في إراقة الدماء في البلاد السعودية، لو حصل له و لأشكاله مكروه؛ بدليل قوله في المحاضرة نفسها: ”قضيتنا (أي في السعودية) أكبر من هذا البلد (أي الجزائر)، لكن هذا البلد أيضا من ضمن قضايانا! ! !“.

هكذا صراحة، مع ذلك لا يزال قوم يستغفلوننا بأن الرجل لم يحرّض على شيء!

هذا أمر، و أمر آخر: هو ربطه الخروج بزمن العدوان على أشخاصهم؛ كأن الشريعة ليست إلا هم، و هم ليسوا إلا الشريعة!

و إذا قيل إنهم أوذوا بسبب دعوتهم إلى تحكيم الشريعة، قلنا: فلماذا لم يُفتوا بالخروج بمجرد إقامتهم الحجة البيانية على منابرهم؟!

لماذا يمكثون سنوات و هم يزمجرون على المنابر من غير خروج، فإذا أوذوا جادت أنفسهم به؟!

أليس خروجهم من أجل الشريعة أولى من خروجهم من أجل أنفسهم؟!

أقول هذا كله انطلاقا من منطقهم، و إلا فقد دلّ ما ترون على أن جهادهم انقلب من حماية الدعوة إلى طلب الحماية بالدعوة، فتأمّل! ! !

و قد صرّح به المشبوه عند كلامه على الجماعة الإسلامية المصرية، فقال في حواره مع جريدة ’الحياة‘: ”إن العمل المسلّح لدى الجماعة المصرية لم يكن أصلا في منهجها، و إنما تطوّرات الواقع ـ مثل اغتيالات بعض قادتها ـ هي التي أدّت بهم إلى دفع الصائل! !“.

و إذا كانت الجماعة المصرية تراجعت عن العمل المسلح بسبب ضعفها، فهل يشرع للمستضعف أن يدفع عن نفسه صيالة الصائل، و هو يعلم أنه عاجز، عمّا يترتب عليه؟

لقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ يُؤذى و يُعتدى عليه و هو مستضعف، فكيف كان ردّه؟

لقد كان يمر بآل ياسر و هم يُؤذون، بل يُقتلون،فلا يزيد على قوله: "صبرا يا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة"، و هو صحيح كما قال العلامة الألباني في تعليقه على 'فقه السيرة' (ص 103)، و قد أخرجه ابن سعد (3 / 249) و الطبراني في 'الأوسط' (1508) و الحاكم (3 / 383، 388-389) و أبو نعيم في 'معرفة الصحابة' (6664) و البيهقي في 'الدلائل' (2 / 282) و ابن عساكر في 'تاريخ دمشق' (43 / 371) من طرق عن مسلم بن إبراهيم عن هشام الدستوائي عن أبي الزبير عن جابر، إلا أن ابن سعد أسقط الصحابي، و يبدو أن الإسقاط منه؛ لأن ابن عساكر رواه من طريقه بالإسقاط نفسه، أما بقيتهم فقد أثبتوه.
و هذا إسناد صحيح لولا عنعنة أبي الزبير.

و أخرجه ابن سعد أيضا (3 / 248-249) و (4 / 136-137) و أحمد (1 / 62) و الحارث بن أبي أسامة كما في 'بغية الباحث' للهيثمي (1016) و أبو نعيم في 'الحلية' (1 / 140) و في 'معرفة الصحابة' (6662) و أبو أحمد الحاكم و ابن منده كما في 'الإصابة' لابن حجر (6 / 639) من طريق سالم بن أبان، لكنه توبع عند أحمد و غيره، بل ذكر أبو نعيم في المصدر المذكور أنه قد جاء من طريق عبد الملك الجُدِّّي و أبي قطن و موسى بن إسماعيل المنقري في آخرين.

و أخرجه عنه أيضا الطبراني في 'الكبير' (24 / 303) و أبو نعيم في 'معرفة الصحابة' (7690) من طريق عبد الله بن الحارث و هو بن نوفل، و قد روى عن عثمان، إلا الدارقطني قال في 'العلل' (3 / 39): [و الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص].

و في 'الإصابة' أيضا أنه رواه أبو أحمد الحاكم من طريق عقيل عن الزهري عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر عن أبيه، فيكون من مرسلات صغار الصحابة، و هي حجة.

و في 'الإصابة' أيضا أنه رواه الطبراني في 'التفسير' من طريق أبي صالح عن ابن عباس نحوه.

و أخرجه ابن سعد (3 / 249) و (4 / 136) أبو نعيم في 'مع رفة الصحابة' (6663) بسند صحيح من طريق يوسف بن ماهك المكي، و كذا أحمد في 'الزهد' كما في 'الإصابة'، إلا أنه مرسل.

و أخرجه أبو نعيم في 'معرفة الصحابة' (7689) بإسناده إلى محمد بن إسحاق بلاغا، و كذا في 'الشعب' (2 / 239)، إلا أن محمد بن إسحاق قال: عن رجال من آل ياسر.

و الحديث يتقوّى بهذه الطرق بلا ريب.

و معلوم أن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ كان يعمل يومها بالصبر و دفع السيئة بالحسنة؛ لأن الله ـ تعالى ـ قد قال: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل و لا تستعجل لهم} (الأحقاف 35)، و جعله شرطا في نصر نبيه ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و بيّن أنه لو شاء لأراه انتقامه من أعدائه، لكن مع الدفع بالتي هي أحسن، فقال له : {و إنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون (95) ادفع بالتي هي أحسن نحن أعلم بما يصفون (96)} (المؤمنون)، بل أمره بلزوم الصبر حتى لو لم ير الانتقام منهم في حياته ـ صلى الله عليه و سلم ـ، فقال سبحانه: {فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينّك بعض الذي نعدهم أو نتوفينّك فإلينا يرجعون} (غافر 77)، و الصبر هنا مع عدم الانتصار من الصائل دليل على صدق التمسك بالوحي و التجرد من نوازع النفس التي تميل إلى الانتصار؛ لأن الذي أمر بالجهاد في موطن، هو الذي أمر بالصبر في هذا الموطن، قال ـ سبحانه ـ: {فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون (41) أو نرينّك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون (42) فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم (43)} (الزخرف).

و مما ينبغي التنبه له أن هذه الآيات مكيّة، فكان الصبر هو الترياق الناجع، بل قد كان الصبر على أذى أهل الكتاب و المشركين مأمورا به في المدينة أيضا، إلى أن أمر الله بقتالهم، قال الله ـ تعالى ـ: {لتبلونّ في أموالكم و أنفسكم و لتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا و إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} (آل عمران 186)، و قد روى البخاري في صحيحه (4566) عند هذه الآية حديثا في ذلك عن أسامة بن زيد، و فيه: (و كان النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ يعفون عن المشركين و أهل الكتاب كما أمرهم الله، و يصبرون على الأذى، قال الله ـ عز و جل ـ: {و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا} الآية، و قال الله: {ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم} إلى آخر الآية (البقرة 109)، و كان النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ يتأوّل العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم، فلمّا غزا رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ بدراً فقتل الله به صناديد كفّار قريش...).

قلت: يريد من سوقه الآية الأخيرة تتمّتها؛ فإن فيها أمره ـ تعالى ـ بالعفو و الصفح، و ذلك هو قوله: {فاعفوا و اصفحوا}، كما نبّه عليه ابن حجر من رواية أبي نعيم في 'المستخرج'، ثم قال (8 / 232-233): [قوله: (حتى أذن الله فيهم) أي في قتالهم، أي فترك العفو عنهم، و ليس المراد تركه أصلا، بل بالنسبة إلى ترك القتال أولا و وقوعه آخرا، و إلا فعفوه ـ صلى الله عليه و سلم ـ عن كثير من المشركين و اليهود بالمن و الفداء و صفحه عن المنافقين مشهور في الأحاديث و السير].

بعد هذا الاستطراد يتبيّن أن إناطة المشبوه حكم حمل السلاح بدفع الصائل ليس بشيء؛ لأنه إذا شهد على المسلمين اليوم بالضعف كما هو مشاهد، فقد وجب على جماعته اتباع النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ في ترك دفع الصائل أيام الضَّعف، قال الله ـ عز و جل ـ: {و إن تطيعوه تهتدوا و ما على الرسول إلا البلاغ المبين} (النور 54)، و بالله التوفيق.

أبو قتادة يفتي بقتل النساء و الأطفال
لا ريب أن المشبوه أفتى بجواز قتل النساء و الأطفال في الجزائر!!

لقد كان ذلك في العدد (90) من مجلة الأنصار، و لبشاعة ما فيها فقد ردّ عليه من جماعته أقوام، بل إن أنصاره اليوم لا يعطونك هذه الفتوى؛ خجلا مما فيها، مع أنها حين نزلت الأسواق نزلت سافرة لا جلباب، حتى إذا نفرت منها الطباع، و نَبَتْ عنها الأسماع، توارت بحجاب!

ولست أستغرب أن يفتي أبو قتادة بهذه الشناعة؛ فإن الرجل مشبوه، و إنما المستغرب كيف وجدتْ فتواه عقلا بشريا يقبلها، فضلا عن أن يكون عقلا مسلما؟!

ففي صحيح البخاري (3014) و مسلم (1744) بألفاظ مقاربة، من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: "أن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ نهى عن قتل النساء و الصبيان".

و صح عند مال في 'الموطأ' و عند غيره أن أبا بكر الصديق بعث جيوشا إلى الشام، و قال: (لا تقتلنّ امرأة و لا صبيا و لا كبيرا هرما، و لا تقطعنّ شجرا مثمرا، و لا تخربنّ عامرا...).

و عن الأسود بن سريع قال: (أتيت رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ و غزوت معه، فأصبت ظَهْر أفضل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان، و قال مرة: الذريّة، فبلغ ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ، فقال: "ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذريّة؟!" فقال رجل: يا رسول الله! إنما هم أولاد المشركين، فقال: "ألا إن خياركم أبناء المشركين"، ثم قال: "ألا لا تقتلوا ذريّة، ألا لا تقتلوا ذرية"، قال: "نَسَمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها، فأبواها يهوّدانها و ينصّرانها" أخرجه أحمد (3 / 435) و الدارمي (2 / 223) و الحاكم (2 / 123)، و غيرهم، و صححه الحاكم و وافقه الذهبي، و كذا الألباني في 'السلسلة الصحيحة' (402).

و الغريب في الأمر أن المشبوه قد ساق في فتواه مثل هذه النصوص تحت عنوان ’باب عدم جواز قتل النساء و الذرية‘ في (ص 11) من مقاله المذكور، ثم كرّ عليها بالإبطال في الصفحة نفسها تحت عنوان ’باب جواز قتل النساء و الذريّة لمقاصد شرعية! !‘، بحيث لا يصبح لأحاديث الباب السابق معنى و لا وجود، فهو على هذا كمن قال الله ـ تعالى ـ فيهم: {يعرفونه كما يعرفون أبناءهم و إن فريقا منهم ليكتمون الحق و هم يعلمون} (البقرة 146)، و كتمانه الحق هنا بمثابة كتمان المؤوّلة للمعاني الصحيحة للنصوص.

صورة المقال السابق

[ ]
لقد أفتى المشبوه بمخالفة هذه النصوص، و شرع لغلاظ الأكباد في الجزائر أن يذبحوا النساء و فلذات الأكباد، و ذلك في العدد (90) من مجلة الأنصار،في (ص 10)، بتاريخ (الخميس 29 شوال 1415 هـ)، الموافق لـ (30 مارس 1995 م)، تحت عنوان: ’فتوى خطيرة الشان حول جواز قتل الذرية و النسوان درءاً لخطر هتك الأعراض و قتل الإخوان‘!!

و كان مما قال فيها في (ص 12): ”بهذا يتبيّن أن ما فعلته الجماعة الإسلامية المسلحة من تهديد ذرية و نساء المرتدّين بالقتل؛ من أجل تخفيف وطأتهم على النساء و المساجين و الإخوان، هو عمل شرعيّ لا شبهة فيه! !“، و قد تقدّم تصوير هذا المقال الأخير، و أما الذي قبله فهذه صورته:

صورة المقال السابق

[ ]
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 22 May 2008, 08:46 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

قلت: هل يبقى ـ مع هذا التصريح ـ مجال لعشّاق الثّورات و مدمني الفتن أن يقولوا: إن اتهام الإسلاميين بقتل هؤلاء أمر مرفوض؛ لأنه ـ عندهم دائما ـ هو من فعل المخابرات؟!

فإما أن ينزِعوا عن ولائهم البارد لهذه الجماعات؛ لأن الدليل الحسي بين أيديهم كما ترى، و إما أن يشهدوا على ’مجاهديهم هؤلاء! ‘ بأن فتاواهم يجهّزها لهم رجال المخابرات كهذا المشبوه، إن كانت أخلاقهم تستسهل التُّهم، و أحلاهما مرّ! !

ثم لم يكتف المشبوه بفتوى بنانه، حتى ضم إليها فتوى بيانه، و ذلك في خطبته التي أشرنا إليها، فقد قال: ”هل يجوز للمسلمين في الحرب أن يقتلوا النساء و يقتلوا الأطفال؟ و الأطفال ـ كما تعلمون ـ على الفطرة، الأطفال على الفطرة، لا يلحق عليهم وصف كفر أو إسلام، بل على الصحيح أطفال المشركين إذا ماتوا أنهم في الجنة...

إذا كان أهل العلم قد أجازوا في مسألة التِّرْس، أي التَّتَرُّس، كما أفتى الإمام مالك، و أقرّها عليه أهل العلم، قالوا: إذا كان قد تترّس الكفار بمسلمين أسراء، جاء الكفار أسروا جماعة من المسلمين و وضعوهم في صدر الجيش، مسلمين، فماذا نصنع؟ ماذا نصنع؟ لا نصل إلى الكفار حتى نقتل المسلمين، قال: يُقتل المسلمين (كذا) الذين تترّس بهم الكفار، فإذا كان مسلمين (كذا)، و مجمع على عدم جواز قتلهم، أنه لا يُقتل الكفار حتى يقتل المسلمين (كذا)، و مع ذلك أجازوا قتل المسلمين، إذا كان في ذلك مصلحة إلى الوصول إلى الكفّار، الله ـ عز و جل ـ قال: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} (الحشر 5)، أجاز الشارع قطع الشجر الذي نهى عنه في حديث أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ، و هو يوصي جيش أسامة: لا تقطعوا شجرا، و لا تقتلوا وليدا، و ستجدون أقواما قد فحصوا رؤوسهم في الصوامع فلا تقربوهم، و مع ذلك فقد أجاز الشارع قطع الشجر من أجل المصلحة.

فهل قتل أولئك النساء و الأطفال؛ حتى لا يُدفع الشر عن المسلمين عن المسلمات الذي يفجُر بهم أولئك الكفار المرتدون إلا بقتل أبنائهم و التهديد بهم؟! هل هذه المسألة؟ دعني أقول لكم: ألا يبقى فيها شبهة قوية في جوازها؟!
ألا يبقى شبهة قوية بجواز الوصول إليها؟!!“.

ثم اصطنع أريحيّة في الخلاف الذي نسجه بنفسه، فقال: ”فمن اهتدى من قوله إلى أنه جائز (حتما! !) فنعم ما قال! !
و من قال غير جائز فنعم ما قال! !“.

قلت: نعوذ بالله من التلاعب بأرواح المؤمنين!
و إنا لله و إنا إليه راجعون!

أمر فظيع يقشعرّ لسماعه الجلد البشري من أي دين كان، و تشمئز له النفوس، و أعتقد أن لغة هذه الفتوى لا تُفهم إلا في بريّة الوحوش!

قال الله ـ تعالى ـ: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة و إن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار و إن منها لما يشقّق فيخرج منه الماء و إن منها لما يهبط من خشية الله و ما الله بغافل عما تعملون} (البقرة 74).

فتوى قدمها صاحبها في صيغة سؤال، و جعل يلوذ بتغيير صيغاتها، و يبحث لها عن العبارات المناسبة تخفيفا لوطئها، لعلها تكون متنفّسا لسلواه، و إن لم تكن حدّا لبلواه؛ لأنه لا يقول بها إلا من انسلخ من طبيعة البشرية، و لم يكن للرحمة محل من قلبه، قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "خاب عبد و خسر لم يجعل الله ـ تعالى ـ في قلبه رحمة للبشر" رواه الدُّولابي في 'الكنى' (1 / 173) و غيره، و حسّنه الألباني في 'السلسلة الصحيحة' (456).

و قد كان لفتواه هذه في الجزائر زَهَم من لحوم الصبيان الذي جرى على أعناقهم الغضة البريئة خناجر الخوارج، و هم يجأرون إلى الله، و ليس الخبر كالمعاينة!

و الحدود تُدرأ بالشبهات، و هؤلاء يقتلون أصحاب الفطرة بالشبهات!

نعوذ بالله من فقد الحياء!

هذه شهادة من صاحبها على نفسه، بل على طائفته، نحتفظ لكم بها التاريخ، و قبل ذلك كلِّه ما هو مدوّن في صحيفة العبد عند من لا تخفى عليه خافية، الذي قال: {كلا سنكتب ما يقول و نمُدُّ له من العذاب مدا (79) و نرثه ما يقول و يأتينا فردا (80)} (مريم)، و قال: {و كل شيء فعلوه في الزبر (52) و كل صغير و كبير مستطر (53)} (القمر 52-53).

و ليمسك أولئك المحامون لأهل البدع عشّاق الفتن و الثورات عن قولهم: لا يجوز أن ننسب شيئا من المجازر إلى الجماعات الإسلامية؛ قال الله ـ عز و جل ـ: {إن يتبعون إلا الظن و تهوى الأنفس و لقد جاءهم من ربهم الهدى} (النجم 23).

نعم لقد جاءهم من ربهم الهدى؛ لأن الله أنطق هذا المفتي ـ مفتي الوحوش! ـ حتى اعترف بأنه صاحب هذه المقالة، و أن وحوش الجزائر هم منفّذوا تلك الضلالة، فأي شهادة أكبر من الإقرار، و قد قيل: الإقرار سيد الأدلة؟!

و لقد جعل غليظ الكبد مسألة التِّرس نظير مسألتنا هذه، و هذا أمر لا يطاق؛ لأن صورة التترّس هي أن يحتمي الكفار بالحصون و فيها أسرى مسلمون، أو أن يجعلوا هؤلاء في المقدمة كالدرع لهم، بحيث يأتي الرمي عليهم لا على الكفار.

أقول: اسألوا أهل الجزائر: متى أخرجت الدولة النساء و الأولاد لتجعلهم ترسا لها ضد مقاتليها؟!

اسألوهم جميعا حتى المتعصبين لأولئك الثوار! !

فهذا أكبر دليل على أن الرجل صاحب هوى، و إلا فما محل مسألة التترّس في باب استحلالهم قتل النساء و الصبيان و الأبرياء عموما؟!

فهذا لا يفسره لنا إلا قول ربنا ـ عز و جل ـ: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله} (آل عمران 7)، و الله العاصم.

تنبيه:
نفى أبو قتادة عن أبناء المسلمين وصف (الإسلام) بقوله السابق: ”و الأطفال ـ كما تعلمون ـ على الفطرة، الأطفال على الفطرة، لا يلحق عليهم وصف كفر و لا إسلام! !“

و لعل القارئ قد أدرك من هذا السياق سبب نفيه عنهم وصف الإسلام؛ إنه أراد الوصول إلى استحلال دمائهم كما مرّ، و لا بدّ حينئذ من وصف يرفع به عنهم هيبة 'حرمة المسلم و دمه'!

قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في 'شرح حديث لا زني الزاني حين يزني و هو مؤمن' (ص 38): [و قد قال النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "كل مولود يولد على الفطرة"1، و في رواية: "على فطرة الإسلام"، فالقلب مخلوق حنيفا، مفطور على فطرة الإسلام، و هو الاستسلام، و هو الاستسلام لله دون ما سواه...].

و هذه الرواية "على فطرة الإسلام" رواها ابن حِبّان (132) و الطبراني (1 / 283) من حديث الأسود بن سريع،و هي رافعة للخلاف، أفيقول رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "على فطرة الإسلام"، و تقول أنت: لا كفر و لا إسلام؟!

و في رواية عند مسلم (2658) بلفظ: "ما من مولود يولد إلا على هذه الملة"، و انظر 'مجموع فتاوى بن تيمية' (16 / 345)، و المشبوه على علم بها؛ فإنه رآها في تعليقه على 'معارج القبول' لحافظ حكمي ـ رحمه الله ـ (1 / 91)، و أشار هناك إلى رواية البخاري، و فيها تصريح ابن شهاب الزهري بـ "فطرة الإسلام"، حيث قال ـ رحمه الله ـ: [يُصلى على كل مولود متوفّى و إن كان لغِيَّة2؛ من أجل أنه وُلد على فطرة الإسلام...].

فلماذا سكت عن اختيار المؤلف الحكمي الذي نقل عن ابن كثير أن الفطرة هي الإسلام عند تحقيقه لـ 'معارج القبول' (1 / 91)، ثم جعل هنا صبيان المسلمين في منزلة بين المنزلتين؟!

و أغرب من هذا أن الشيخ حافظا الحكمي ـ رحمه الله ـ ساق في الصفحة نفسها حديثا جمع بين وصفه الذرية بالفطرة و بين تحريم قتلهم، و لكن ذلك كله لم ينفع محققه، فنعوذ بالله من علم لا ينفع.

قال ابن حجر في 'فتح الباري' (11 / 111): [و قوله: "على الفطرة" أي على الدين القويم ملة إبراهيم؛ فإنه ـ عليه السلام ـ أسلم و استسلم، قال الله ـ تعالى ـ عنه: {جاء ربه بقلب سليم} (الصافات 84)، و قال: عنه: {قال أسلمت لرب العالمين} (البقرة 131)، و قال: {فلما أسلما} (الصافات 103)]، و كذلك قال الخطابي في شرحه على السنن، أي فسّر الفطرة بـ "دين الإسلام".

و مما يقوّي ما ذهب إليه هؤلاء أن أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ حين روى هذا الحديث، قال: (اقرؤوا إن شئتم: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم و لكن أكثر الناس لا يعلمون} (الروم 30))، و ذلك في رواية البخاري و مسلم التي تقدّمت الإشارة إليها، فكلمة {فطرة الله} هي إضافة مدح، و قد أمر الله نبيّه ـ صلى الله عليه و سلم ـ بلزومها، فعُلم أنها الإسلام، كما في 'فتح الباري' (3 / 248)، و قال البخاري ـ رحمه الله ـ في 'صحيحه' (8 / 512): [و الفطرة الإسلام]، ثم ساق الحديث، و لذلك قال شارح 'العقيدة الطحاوية' (ص 83-84 / الألباني): [و لا يقال: إن معناه يولد ساذجا لا يعرف توحيدا و لا شركا كما قال بعضهم؛ لِما تلونا3، و لقوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ فيما يرويه عن ربه ـ عز و جل ـ: "خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين" الحديث4، و في الحديث المتقدم ما يدل على ذلك؛ حيث قال: "يهوّدانه او ينصّرانه أو يمجّسانه"، و لم يقل: و يسْلمانه، و في رواية: "يولد على الملة"، و في أخرى: "على هذه الملة").

و قد حكى ابن القيم في 'أحكام أهل الذمة' (2 / 572) و ابن حجر في 'فتح الباري' عن محمد بن نصر أن آخر قولي أحمد أن المراد بالفطرة الإسلام، و منها رواية عند الخلال في 'الجامع / أهل الملل و الردة' (28)، فسر فيها أحمد الفطرة بالدين، و قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في 'مجموع فتاواه' (10 / 134): [و القلب إنما خلق لأجل حبّ الله ـ تعالى ـ، و هذه الفطرة التي فطر الله عليها الله عباده، كما قال النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء"، ثم يقول أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ اقرؤوا إن شئتم: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} أخرجه البخاري و مسلم، فالله ـ سبحانه ـ فطر عباده على محبّته و عبادته وحده، فإذا تركت الفطرة بلا فساد كان القلب عارفا بالله، محبا له، عابدا له وحده، لكن تفسد فطرته من مرضه، كأبويه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسّانه، و هذه كلّها تغيّر فطرته التي فطر الناس عليها].

و لست أقصد هنا الكلام عما قيل في معنى الفطرة؛ لأن العبرة من هذا كله هي بيان أن الرجل أراد الوصول إلى دماء صبيان المسلمين، فنفى عنهم وصف الإسلام إذا وُلِدوا كما سبق، و بيان أنه قد يحقق من الكتب السلفية ما يوهم به أنه مؤمن بما فيها، لكنه ينقض ذلك كله في واقع دعوته.

أما ما قيل في معنى الفطرة فقد جاء فيه روايات، منها ما هو على معنى أن كل مولود يولد على المعرفة بربه، و منها ما هو على معنى العهد الذي أخذ على ذرية آدم في عالم الذّر، كما رواه أبو داود عن حماد بن سلمة كما في 'فتح الباري' (11 / 249)، و منها ما هو على معنى ما كُتب على الإنسان في أم الكتاب من الشقاوة و السعادة، كما مقل الخلّال عن أحمد في 'الجامع / أهل الملل و الردة' (31-33)، لكن نص ابن القيم على أنه قوله الأول كما في 'أحكام أهل الذمة' (2 / 573)، و إن كان ابن تيمية قد حقق أن لا منافاة بين هذا القول و القول المختار أولا، انظر'مجموع فتاواه' (4 / 246)، و ثَمّ أقوال يمكنك مراجعتها في 'فتح الباري' (11 / 249) و 'مجموعة الرسائل الكبرى' لابن تيمية (2 / 333).

لكن [أشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام، قال ابن عبد البر: و هو المعروف عند عامة السلف]، كما في 'فتح الباري' (11 / 248).

و هذا واحد من الأدلة على أن ادِّعاء هؤلاء القوم الانتساب إلى السلف في عقيدتهم أو تحقيق ما كتبوه في ذلك إنما هو مجرد دعوى لا حقيقة لها، و الله المستعان.

ثم تأمل ما رواه البخاري (6311) و مسلم (2710) و أبو داود (5046) و الترمذي (3574) عن البراء ابن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "إذا أتيت مضجعك قتوضّأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، و قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، و فّضت أمري إليك، و ألجأت ظهري إليك؛ رغبة و رهبة إليك، لا ملجأ و لا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، و نبيّك الذي أرسلت؛ فإن متّ متّ على الفطرة، فاجعلهن آخر ما تقول، فقلت أستذكرهن: و برسولك الذي أرسلت، قال: لا! و بنبيّك الذي أرسلت"

قلت: فما معنى الفطرة ههنا عند المشبوه؟
أفتكون هذه الجمل العقدية العظيمة هي غير الإسلام على زعمه في خطبته تلك؟!

تفصيل الفتوى

بدأ المشبوه عرض فتواه بقوله في مجلة الأنصار، العدد (90)، في (ص 10)، بتاريخ: (29شوّال 1415 هـ)، و قد تقدّم تصويره: ”هذا البحث شامل لمسألتين من مسائل الجهاد، هما:
1- جواز قتل الذرية و النسوان درءا لخطر هتك الأعراض و قتل الإخوان! !
2- جواز العمليات الاستشهادية، و أنها ليست بقتل النفس!5
و سبب بحث هاتين المسألتين هنا، هو ما وقع من المجاهدين في الجزائر، من القيام بهذه الأعمال، ثم رفع بعض المخالفين رأس الخلاف لهاتين المسألتين؛ حيث ظن من لا خبرة له أن ما قام به المجاهدون في الجزائر ليس له وجه شرعي، و هو مخالف للدين من كل وجه، فأحببت أن يطلع المحبُّ المخالفُ، و كذلك المؤيّد، على دليل ما قام به الإخوة؛ ليطمئن بال المحبّين، أن ما وقع من المجاهدين هو عمل شرعي، و لا ينكر عليهم، و الخطاب هنا هو لمن آمن و اعترف أن جهاد هذه الطوائف الحاكمة لبلادنا هو تحت باب قتال المرتدّين و جهادهم، و أن ما وقع في عصر الصحابة من قتال مسيلمة و سَجَاج و من معهما هو نفس قتال المجاهدين في الجزائر لطائفة الرّدّة الحاكمة، و أن مخرجهما واحد، لا يفترق في نقير أو قطمير! !“.

النقد:

يستفاد من مقدمة المشبوه فائدتان:
الأولى: اعترافه بقتل ’مجاهديه‘ في الجزائر للذريّة و النساء، هذه الحقيقة المرّة التي يتفانى لإنكارها الحركيّون على بكرة أبيهم، و يجهدون أنفسهم لإلصاقها كلّها بالمخابرات؛ حتى تبْرأ ساحتهم مما كسبت أيديهم، و قد اجتمع على هذا الرأي الدّمويّون و الثوريّون و السياسيّون و المرتابون المتردّدون، و هم الذين مدّوا في أجل الفتنة مع الأسف.

و لعلّ في اعتراف مفتي هذه الجماعة بما سبق إنهاء للخلاف، فعلام يصرّ أهل الفتن على تزكية أولئك لولا أنهم يشاركونهم في الفكر على تقيّة و جبن، فإن لم يكونوا على فكرهم فلينطقوا بعلم، و إلا فليسكتوا بحلم، و الله يقول: {و لا تكن للخائنين خصيما} (النساء 105).؟!

و الثانية: أن قتال هؤلاء للشعب الجزائري كان منطلقا فيه من أساس تكفيره؛ لأن المشبوه قد صرّح بأن قتال هؤلاء للحكّام و لطائفتهم ـ التي هي الشعب ـ كقتال الصحابة لمسيلمة الكذاب و سجاج و من معهما، فأي صراحة أكبر من هذه؟!

و أسأل ههنا القارئ المنصف: ما رأيك فيمن يعتبر الشعب الجزائري المسلم بمثابة من كان مؤمنا بمسيلمة الكذّاب المدّعي للنبوة؟

ثم إن المشبوه قد أوضح رأيه هذا بقوله فيما تقدّم تصويره من مجلته (ص 12): ”و تبقى مسألة: قد يقول قائل: إن منهج جماعات الجهاد هو تكفير الطائفة، فهل تدخل نساء المرتدين في مسمى الطائفة؟ فيقال ههنا: إن جنس جهاد هؤلاء المرتدين هو جنس قتال الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ للمرتدين من أتباع مسيلمة و مانعي الزكاة، و قد عامل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ هذه الطائفة معاملة المشركين، أصحاب الشوكة و المنَعة في إقامة الحجة عليهم، و ذلك عن طريق البلاغ العام، فقد روى الطبري ـ رحمه الله ـ ذلك في تاريخه، في المجلد الثاني عند خبر المرتدين، فكون هذه الطائفة ممتنعة، و لها شوكة و قوّة، فإنها تعامل معاملة الكفرة الممتنعين بشوكة و قوة، و حكمكم في كل أمر حكمهم بلا فارق، إلا ما افترقت أحكام المرتدّين عن أحكام الكفرة الأصليين! !

و قد أنذر الإخوة المجاهدون في الجزائر نساء المرتدين بأن أزواجهن قد ارتدوا، فوجب الفراق، و أنه لا يجوز لها أن تمكّن المرتد منها، فإن رفضت فحكمها حكمه! !

و من أحكامها هو ما تقدّم في هذا البحث، و قد اختلف أهل العلم قديما في حكم نساء المرتدّين: أتسبى أم لا؟

و هذا له مقام آخر! !

و لذلك فليعلم أن نساء و ذرية كل طائفة تعامل معاملة الطائفة ممتنعة (كذا) بقوة و شوكة التي انتسبت إليها، في الأحكام الشرعية، إلا ما خصوا به دون المقاتلة! !“.

النقد:

ههنا ثلاثة أمور:
1- إن الذي يقرأ له هذا يتصوّر أن المسؤولين في الجزائر لا يفارقون نساءهم، فلذلك اضطرت جماعته إلى اغتيالهم بنسائهم، و هذا كذب في تصوير المسألة، لأن المسؤولين يغدون و يروحون إلى وظائفهم، بل هم في أكثر الحالات مفارقون لأهليهم؛ خوفا من أن يباغتوا في بيوتهم مع من فيها.

ثم إن الأمر هنا لا يتمثل في قتل النساء و الذرية بمعزل عن أوليائهم المراد اغتيالهم أصلا، بل قصدهم بأعيانهم و اختطافهم حيث وجدوهم، و قد صرّح بذلك هو نفسه، فقال في مقاله السابق (ص 12): ”بهذا يتبين أن ما فعلته الجماعة الإسلامية المسلحة من تهديد ذرية و نساء المرتدّين بالقتل؛ من أجل تخفيف وطأتهم على النساء و المساجين و الإخوان، هو عمل شرعي لا شبهة فيه! !“.

2- لو فرضنا أن هؤلاء الرجال المكفّرين من قبلهم كانوا كفارا حقيقة، فعلى أي أساس تُقتل نساؤهم بعد إنذارهن كما قال؟! إن هذا لدليل على أن امرأة فرعون المؤمنة لو عاشت وقتهم لأعملوا فيها السيف؛ لأنها لم تفارق زوجها الكافر، مع أن الله مدحها و جعلها مضرب المثل للذين آمنوا، فقال: {و ضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة و نجّني من فرعون و عمله و نجني من القوم الظالمين} (التحريم 11) !

3- إذا كان حكم نساء المسؤولين و ذريتهم هو القتل، فما بال سائر الشعب؟!
أي ما داموا يقتلون النساء لأنهن لا يفارقن أزواجهن المرتدين عند المشبوه فما بالهم يقتلون بقية الشعب؟!

و الجواب أن هذا المشبوه و مريديه يكفرون الشعب، فلذلك استباحوا دمه، و ليس الأمر قاصرا على نساء المسؤولين و ذريتهم، و قد مضى بعض ما يدلّ عليه، و أزيد هنا من أدلتهم قول المشبوه في مقاله السابق (ص 11)، تحت عنوان: ’باب جواز قتل النساء و الذرية لمقاصد شرعية‘: ”إذا بيّت المسلمون الأعداء، فلم يستطيعوا إصابة الرجل إلا بقتل الذريّة و النساء: روى البخاري في صحيحه و مسلم في صحيحه عن الصعب بن جُثامَة6 قال: سُئل النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ عن الذراري من المشركين يبيّتون، فيصيبون من نسائهم و ذراريهم؟ فقال: "هم منهم"، هذا لفظ مسلم، و لفظ البخاري: فسئل عن أهل الدار يبيّتون من المشركين، فيصاب من نسائهم و ذراريهم؟ قال: "هم منهم"7... فالحديث يدل على جواز قتل الذريّة و النساء إذا تترّس الكفار بهم!“

قلت: إن الحديث جاء جوابا على سؤال حول الذراري من المشركين و المشبوه طبّقه على ذراري المسلمين، فأين عقول تابعيه؟!

----------------------------
1: رواه البخاري (1358) و مسلم (2658).
2: أي من زنا.
3: يريد الآية السابقة مع غيرها مما في معناها.
4: أخرجه أحمد و مسلم من حديث عياض بن حمار ـ رضي الله عنه.
5: هذه من نوازل هذه الأيام و إن كانت مطروقة عند المتقدّمين، إلا أن تطبيقها على واقع البلاد الإسلامية يحتاج إلى العالم المجتهد، مع ذلك فقد هجم عليها الأحداث الأغمار فأتوا بالعجائب، و لا بأس من أن ارشد القارئ للرجوع إلى شريط سمعي بعنوان 'فتاوى العلماء في الاغتيالات و التفجيرات و العمليات الانتحاري و الاعتصامات و القنوت' لمجموعة من أهل العلم الأكابر،منهم ابن باز و الألباني و ابن عثيمين و صالح الأطرم و صالح الفوزان وعبد العزيز آل الشيخ و غيرهم، تسجيلات دار بن رجب للإنتاج و التوزيع بالمدينة، فاستمع إليه؛ لتفرق بين العالم و الحالم.
6: هكذا هو عنده، و الصواب "جَثَّامة"، بفتح الجيم و تشديد الثاء.
7: قال الصنعاني ـ رحمه الله ـ في 'سبل السلام' (4 / 101-102): [التبييت: الإغارة عليهم في الليل على غفلة مع اختلاطهم بصبيانهم و نسائهم، فيصاب النساء و الصبيان من غير قصد لقتلهم ابتداء، و هذا الحديث أخرجه بن حبان من حديث الصعب، و زاد فيه: (ثم نهى عنهم يوم حنين)، وهي مدرجة في حديث الصعب، و في سنن أبي داود زيادة في آخره، قال سفيان: قال الزهري: ثم نهى رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه و على آله و سلم ـ بعد ذلك عن قتل النساء و الصبيان، يؤيّد أن النهي في حنين ما في البخاري، قال النبي ـ صلى الله عليه و على آله و سلم ـ لأحدهم: "الحق خالدا، فقل له: لا تقتل ذريّة و لا عسيفا"...].
و يدلّ له ما رواه ابن حبان عن الصعب بن جَثَّامة قال:سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقول: "لا حِمى إلا لله و لرسوله، و سألته عن أولاد المشركين، أنقتلهم معهم؟ قال: نعم؛ فإنهم منهم، ثم نهى عن قتلهم يوم حنين"، و صححه الألباني في 'صحيح موارد الظمآن' (1380).

و لذلك بوّب أبو عوانة في 'مسنده' (4 / 222) بقوله:[بيان الخبر المبيح بيات المشركين و الغارة عليهم بالليل و قتلهم و إن أُصيب في قتلهم نساؤهم و صبيانهم حتى قُتلوا معهم، و الدليل أن نهيه عن قتل النساء و الصبيان هو المتأخر، و أن السنة في ترك الغارة بالليل حتى يصبح، و على أنه لا يجوز حرق القرية التي فيها مسلم أو الغارة أو نصب المنجنيق عليها].

التعديل الأخير تم بواسطة أبو البراء إلياس الباتني ; 23 May 2008 الساعة 01:30 PM
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013