منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم مشاركات اليوم Right Nav

Left Container Right Container
 

العودة   منتديات التصفية و التربية السلفية » القــــــــسم العــــــــام » الــمــــنــــــــتـــــــدى الـــــــــعــــــــام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14 Jul 2010, 10:39 PM
أحمد سالم أحمد سالم غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: الجزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 608
افتراضي كتاب (مدارك النَّظر في السّياسةلفضيلة الشّيخعبد المالك بن أحمد بن المبارك رمضاني الجزائري) مفرغ

مدارك النَّظر في السّياسة
بين التطبيقات الشّرعية والانفعالات الحَمَاسية

تأليف
عبد المالك بن أحمد بن المبارك رمضاني الجزائري

قرأه وقرّظه
العلاّمة الشيخ: محمد ناصر الدين الألباني
والعلاّمة الشيخ: عبد المحسن بن حمد العبّاد البدر

تجد في هذا الكتاب
تأصيلاً لقاعدة: الفتوى في النوازل السياسية قاصرة على المجتهد:
قال الله تعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وقال ابن القيم: " العالِم بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة فهو المجتهد في النوازل، فهذا النوع الذي يَسوغ لهم الإفتاء ويَسوغ استفتاؤهم ويتأدى بهم فرضُ الاجتهاد، وهم الذين قال فيهم رسول الله e: (( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها )) ".
وبيانَ أنه لا يفتي في دقائق الجهاد إلا هو، وأنه يَحرُم استفتاء طلبة العلم فيها
ـ فضلاً عن غيرهم ـ مهما زعموا أنهم فقهاء الواقع:
قال ابن تيمية: " وفي الجملة فالبحث في هذه الدقائق ـ أي دقائق أحكام الجهاد ـ من وظيفة خواص أهل العلم .. ".
وبيانَ أنه لو أفتى فيها مَن ليس في رتبة العالم المجتهد أفسد البلاد وأرهق العباد؛ لأن العالِم يشمّ الفتنة قبل وقوعها، وأما غيره فلا يعرفها إلا إذا وقع فيها، وقد لا يعرفها:
قال الحسن البصري: " إن هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كلُّ عالم، و إذا أدبرت عرفها كلُّ جاهل ".
وتحذيراً من مسالك الحركيين من الإسلاميّين الذين اتَّخذوا من السياسة جارحةَ صيد، واتَّخذها الأعداء آلةَ كيد:
قال عبد الحميد بن باديس: " فإننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها عن علم وبصيرة ... ولو أردنا أن ندخُل الميدان السياسي لدخلناه جهراً ... ولقُدنا الأمّة كلها للمطالبة بحقوقها، ولكان أسهل شيءٍ علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها، وأن نَبْلغ من نفوسها إلى أقصى غايات التأثير عليها؛ فإن مما نعلمه، ولا يخفى على غيرنا أن القائد الذي يقول للأمّة: (إنّكِ مظلومة في حقوقك، وإنّني أريد إيصالكِ إليها)، يجد منها ما لا يجد من يقول لها: (إنّك ضالة عن أصول دينك، وإنّني أريد هدايتَك)، فذلك تلبِّيه كلها، وهذا يقاومه معظمُها أو شطرُها ...".
وتحذيراً من الحزبية التي فرّقت شمل المسلمين:
قال محمد البشير الإبراهيمي: " أوصيكم بالابتعاد عن هذه الحزبيات التي نَجَمَ بالشّر ناجمُها، وهجم ـ ليفتك بالخير والعلم ـ هاجمُها، وسَجَم على الوطن بالملح الأُجاج ساجِمُها، إنّ هذه الأحزاب! كالميزاب؛ جمع الماء كَدَراً وفرّقه هَدَراً، فلا الزُّلال جمع، ولا الأرض نفع! ".
وتحذيراً من مسالك الثوار:
قال ابن خلدون: " ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء؛ فإن كثيرا من المنْتَحِلين للعبادة وسلوك الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجَور من الأمراء، داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه، والأمر بالمعروف رجاءً في الثواب عليه من الله، فيَكثُر أتباعُهم والمتشبِّثون بهم من الغوغاء والدهماء، ويُعَرِّضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يَهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين؛ لأن الله سبحانه لم يَكتب ذلك عليهم ... ".
وبيانَ مغبَّة الخروج على السلطان:
قال الحسن البصري: " والله! لو أنّ الناس إذا ابتُلُوا مِن قِبَل سلطانهم صبروا، ما لبِثوا أن يرفع اللهُ ذلك عنهم؛ وذلك أنهم يَفزَعون إلى السيف فيوكَلُوا إليه! ووالله! ما جاؤوا بيوم خير قطّ!"، ثم تلا: {وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ودَمَّرْنا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُون}.
تقريظ الكتاب
للعلاّمة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني
حفظه الله تعالى

يتبع

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 14 Jul 2010, 10:43 PM
أحمد سالم أحمد سالم غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: الجزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 608
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى الأخ الفاضل عبدالمالك بن أحمد رمضاني
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته
أمابعد؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله لنا ولك التوفيق فيما نقول ونذر.
وجواباً على خطابكم المؤرخ في: 15/10/1415هـ، أقول:
أولاً: أنا شاكرٌ لك حسن ثنائك عليَّ بما لا أستحقه، متذكِّراً وداعياً بقول الصدِّيق الأكبر t: " اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون "، ومذكِّراً لك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنْ كان أحدكم مادِحاً أخاه لا محالة فليقل: أحسِبُ فلاناً كذا وكذا ـ إن كان يُرى أنه كذلك ـ ولا أزكي على الله أحداً )) رواه مسلم().
ثانياً: لقد رغبتَ في أن تعلم رأيي في كتابك: (( السياسة بين فراسة المجتهدين وتكيس المراهقين ))() قبل أن تطبعه.
ورغم ضيق وقتي، وضعف نشاطي الصحي، وكثرة أعمالي العلمية، فقد وجدتُ نفسي مشدوداً لقراءته، وكلما قرأتُ فيه بحثًا مُعَلِّلاً نفسي أن أكتفي به، كلما ازددتُ مُضيًّا في القراءة حتى أتيت عليه كلِّه، فوجدتُه بحقٍّ فريداً في بابه؛ فيه حقائق عن بعض الدعاة ومناهجهم المخالفة لما كان عليه السلف الصالح، واستفدت أنا شخصيًّا فوائد جمَّةً حول ثورة الجزائر وبعض الرؤوس المتسببين لها، والمؤيِّدين لها بعواطفهم الجامحة، والمبالغين في تقويمها ممن لا يهتمون بقاعدة التصفية والتربية.
ولقد سررتُ جدًّا من إشادتك بها، ودندنتك حولها كثيراً، في الوقت الذي لم ينتبه لدورها الهامّ أكثر الدعاة في تحقيق المجتمع الإسلامي وإقامة حكم الله في الأرض، بل إنها الأساس في ذلك، فجزاك الله خيراً.
وأخيرا: ونظراً لتلهّفكم الشديد للجديد من مؤلفاتي، فإني أبشِّركم بأنَّ تحت الطبع منها:
1ـ المجلد الثالث من (( مختصر صحيح البخاري )).
2ـ المجلد الخامس من (( سلسلة الأحاديث الضعيفة )).
3ـ المجلد السادس من (( سلسلة الأحاديث الصحيحة )).
4ـ (( صحيح موارد الظمآن )).
5ـ (( ضعيف موارد الظمآن )).
6ـ (( الرد على ابن حزم ومقلِّديه في إباحة المعازف )).
7ـ المجلد الثاني من (( صحيح الترغيب والترهيب ))
وختاماً أسأل الله تعالى أن يستعملنا في طاعته، وأن يوفقنا جميعاً لخدمة سنة نبيّه، وأن يصرف عنا شر الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وكتب
محمد ناصر الدين الألباني
عمان/ صباح الثلاثاء 25/11/1415هـ.
هذه صورة تقريظ الشيخ محمد ناصر الدين الألباني

تقريظ الكتاب
للعلاّمة الشيخ عبد المحسن بن حمد العَبَّاد البدر
حفظه الله تعالى



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، نبيّنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد يسّر الله لي قراءة كتاب (( مدارك النظر في السياسة بين التطبيقات الشرعية، والانفعالات الحماسية )) الذي ألّفه أخونا الشيخ عبد المالك بن أحمد بن المبارك الرمضاني الجزائري، فألفيته كتاباً مفيداً، مشتملاً على التأصيل للمنهج القويم الذي يليق بالمسلم الناصح لنفسه أن يسلكه، ومشتملاً أيضاً على تصحيح مفاهيم خاطئة لبعض الشباب في داخل البلاد السعودية وفي خارجها، وخاصة تصحيح مفاهيم بعض أصحاب الفقه الجديد: فقه واقع القصاصات من الصحف والمجلات، وتتبُّع الإذاعات الكافرة وغير الكافرة، وتلقّف أخبارها، وتحليلهم إياها تحليلات اعتبروها أموراً مسلّمة، وقد أثبت الواقعُ في الغالب خطأَ نتائج هذا التحليل، ولم يقف الأمرُ بهم عند هذا الحدّ، بل تجاوز إلى النَيْل من أجِلَّة علماء هذا العصر ذوي الفقه في الدين، وحملة ميراث النبي الكريم e، وفي مقدّمتهم سماحة شيخنا العلاّمة الجليل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ـ حفظه الله ـ، وفضيلة الشيخ العلاّمة الجليل محمد بن صالح العثيمين ـ حفظه الله ـ، الذين نفع الله بعلمهم وفتاويهم، ويرحم الله الإمامَ الطحاوي إذ يقول في عقيدة أهل السنة والجماعة: " وعلماء السلف مِن السابقين ومَن بعدهم مِن اللاحقين أهل الخَبر والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يُذْكَرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل ".
وفي الكتاب فوائد عظيمة، ودفاع عن الحق وحملة العلم الشرعي، وتوضيح لبعض الحقائق من خبير بها، كالأوضاع في الجزائر بلادِ المؤلِّف.
وفي الكتاب ذِكرُ كلامٍ في صفحتي: (243) و(351)() لاثنين من شباب هذه البلاد ـ هداهما الله ـ اتَّهمَ كلٌّ منهما كبارَ علماء العصر في هذه البلاد بالقصور؛ لأنهم أَفتوا بتسويغ مجيء قوات أجنبية للمشاركة في الدفاع عن البلاد إثر الهجوم الغاشم من طاغية العراق على الكويت، وكانت نتيجة ذلك دحر العدو، والإبقاء بحمد الله تعالى على الأمن والاطمئنان، وكان الأليق بهما وقد أعجبهما الرأي المخالف لِمَا رآه العلماء أن يتَّهِما رأيهما، ويتذكّرا نتيجة الرأي الذي رآه بعض الصحابة y في أحد شروط صلح الحديبية، حيث تبيّن لهم أخيراً خطأ ذلك الرأي، فكان الواحد منهم يقول فيما بعد: " يا أيها الناس! اتَّهموا الرأي في الدين "، وتسويغ كبار العلماء مجيء تلك القوات في حينه إنما كان للضرورة، وهو نظير استعانة المسلم بغير المسلم في التخلّص من اعتداء لصوص أرادوا اقتحام داره وممارسة أنواع الإجرام فيها وفي أهلها، أَفَيُقال لهذا المعتدَى عليه: لا يَسوغ لك الاستعانة بكافر في دفع ذلك الضرر؟! ثم إن الخلاف حاصل في أكثر مسائل العلم منذ زمن الصحابة y، ولم يكن بعضهم يُسفِّه بعضاً فضلاً عن أن يكون الصغار هم الذين يجترؤون على تسفيه رأي الكبار كما حصل من هذين الشابين أصلحهما الله.
وفي صفحة (376)() ذكرُ كلامٍ لثلاثة من شباب هذه البلاد أتوا فيه بالغريب العجيب؛ ألا وهو التنويه والإشادة بخروج النساء إلى الشوارع للمظاهرات، وقد أوضح المؤلف ـ جزاه الله خيراً ـ قبل هذه الصفحة فساد ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف.
وفي صفحة (287)() نقلُ كلامٍ لأحد الشباب في هذه البلاد يقرّر فيه خلاف مذهب أهل السنة والجماعة في معاملة ولاة الأمر ويهيج الغوغاء من الرجال والنساء على الإقدام على ما يثير الفتن وما يؤول بغير أهل العقل والثبات والرزانة إلى تعريض أنفسهم للضرر، ومنه إيداعهم السجون، ولا شك أن من عرّض غيره للضرر يكون له نصيب من تبعة ذلك.
وهذا الكلامُ المثيرُ للفتنة قد فاحت ريحُه منذ سنوات في حفل أُقيم لتكريم حَفَظة السُّنَّة أشرف عليه هذا الشابُّ؛ وقد سمعتُ تسجيلَ ذلك الحفل، ومع كون أحاديث الصحيحين تبلغ عدة آلاف فإن اختيار الأحاديث القليلة التي أُلقيَت على الطلبة لاختبار حفظهم ملفتٌ للنظر؛ لتعلّق جملة منها بالولاة! يُضاف إلى ذلك كون هذا الشاب أصلحه الله عند ذكر هذه البلاد لا يصفها بالسعودية بل يعبّر بالجزيرة! أخبرني بهذا من أثق به.
ومن الخير لهذا الشاب ومن يطأ عقبه من الشباب أن يكونوا مع الجماعة ويجتنبوا الشذوذ والخلاف والفُرقة، وأن يفيئوا إلى الرشد؛ فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، كما قال ذلك المحدَّث الملهم عمر بن الخطاب t.
وفي صفحة (269)() تجد كلاماً ساقطاً لمهيِّج الغوغاء المشار إليه آنفاً، ينعى فيه على خطيب لا يتكلّم في الأحداث السياسية، ويُعنَى في خطبته بذكر أحوال الآخرة والقبر والموت والجنة والنار والبعث والحساب وغيرها!! فإن مجرّد اطّلاعك على هذا الكلام يغنيك عن أي تعليق عليه، ولم يُخْلِه المؤلف من التعليق.
وفي الكتاب صورة منشور لشخص حاقد موتور، لا علاقة له بالعلم الشرعي والفقه في الدين، احتضنته عاصمة الاستعمار، وفيها عُشّ رُويبضات الزمن ـ كما قال المؤلف ـ نال في منشوره من ثلاثة أعلام أفذاذ:
الأول: صاحب رسول الله e معاوية بن أبي سفيان t أمير المؤمنين وكاتب وحي ربّ العالمين، وأول ملوك المسلمين وخير ملوكهم، وهو أحد الخلفاء الذين قال فيهم النبي e: (( لا يزال الإسلامُ عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ))، أخرجه مسلم في (( صحيحه )) من حديث جابر بن سمرة t، وقد دَوَّنْتُ جملةً من أقوال أهل الإنصاف في هذا الصحابي الجليل t في رسالة مطبوعة بعنوان: (( من أقوال المنصفين في الصحابي الخليفة معاوية t )).
الثاني: شيخ الإسلام مجدّد القرن الثاني عشر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
الثالث: شيخنا العلاّمة الجليل مفتي الأنام مجدّد القرن الخامس عشر الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله.
وليس بغريب أن يصدر من مثله هذا المنشور، وإنما الغريب أن يوجد في بعض شباب بلاد التوحيد ـ هداهم الله وأصلحهم ـ من يتلقَّفُه ويَفرح به!
يُقضى على المرء في أيام محنته حتى يَرى حسناً ما ليس بالحسن
اللّهم أرِنا وإياهم الحق حقًّا ووفقنا لاتّباعه، والباطلَ باطلاً ووفقنا لاجتنباه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضلّ.
وقد أفصح صاحب المنشور عن حزبه الذي ينتمي إليه، وأكّد أنه سوف يظلّ وفيًّا لمبادئه {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
وإذا كانت هذه الوقيعة الشنيعة في ثلاثة من خيار الناس من الأموات والأحياء صدرت ممّن زعم نفسه ناطقاً رسميًّا للجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية المزعومة، فكيف سيكون الدفاع المزعوم؟! وهل هؤلاء الأخيار لا يستحقّون أن يُذبّ عنهم أو أنَّ نَصيبهم من هذا الناطق الذمّ بوقاحة وفَقْد حياء، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}، ويقول الرسول الكريم e: (( إنَّ مما أدرك الناسُ من كلام النبوّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت ))، أخرجه البخاري في (( صحيحه )).
وأقبح شيء تقيّأه في منشوره قوله في معاوية t وفي خلافته: " إنني أعتبر معاوية مغتصباً، وإنني أعتقد أنه سيلقى جزاءه من الله يوم القيامة على ما ارتكبه من جرائم!! "، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً}، وخلافة معاوية t حصلت في قرن الصحابة خير القرون، وقد رضي الصحابة بخلافته، واعتُبر عام (41) عام ولايته عام الجماعة؛ إذ تحقّق فيه ما أخبر به النبي e عن سبطه الحسن بن علي رضي الله عنهما حيث قال: (( إن ابني هذا سيّدٌ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ))، أخرجه البخاري في (( صحيحه )).
ومع هذا كلّه يجيء هذا الرويبضة في القرن الخامس عشر ويقول فيه هذا الإفك المبين والبهتان العظيم.
وإذا كان هذا زعمه في معاوية t وفي خلافته فأيُّ حاكم يعجبه؟ وأيُّ ولاية ينشُدُها ويحلم بها؟ نعوذ بالله من الخذلان! وقد قال الحافظ ابن حجر في (( فتح الباري )): (( اتفق أهلُ السنّة على وجوب منع الطعن على أحدٍ من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك، ولو عُرف المحقّ منهم؛ لأنّهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلاّ عن اجتهاد، وقد عفا اللهُ تعالى عن المخطيء في الاجتهاد، بل ثبت أنه يُؤْجَرُ أجراً واحداً، وأنّ المُصيب يُؤْجَرُ أجرين )).
وما أحسن قول أبي زرعة الرازي ـ رحمه الله ـ في الوالغين في أعراض الصحابة y؛ إذ قال كما رواه عنه الخطيب البغدادي في (( الكفاية )): (( إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله e فاعلم أنّه زنديق؛ وذلك أنّ الرسول e عندنا حقٌّ، والقرآن حقٌّ، وإنّما أدَّى إلينا القرآنَ والسننَ أصحابُ رسول الله e، وإنّما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا القرآن والسنّة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة )).
وأثناء قراءتي للكتاب بدا لي ملاحظات يسيرة، ذكرتها للمؤلّف، ووعد بتلافيها في الطبعات التالية.
وفي الختام أوصي بقراءة هذا الكتاب والاستفادة منه، وأوصي شباب هذه البلاد السعودية أن يحذروا الأفكار الفاسدة الحاقدة الوافدة إلى بلادهم لإضعاف دينهم وتمزيق شملهم والتنكر لما كان عليه أسلافهم، وأن يأخذ كلُّ شابٍّ ناصحٍ لنفسه العبرةَ والعظةَ من قول عبد الله بن مسعود t كما في
(( الإبانة )) لابن بطّة: (( إنّها ستكون أمور مشتبهات! فعليكم بالتؤدة؛ فإنّك أن تكون تابعاً في الخير خيرٌ من أن تكون رأساً في الشرِّ )).
ولرغبة المؤلّف كتابةَ شيءٍ بعدَ قراءتي للكتاب، جرى تحريرُ ذلك، وأسأل اللهَ للمؤلّف جزيل المثوبة وعظيم الأجر، ولمن نبّه على أخطائهم الهدايةَ لطريق الحقِّ والهدى، وصلّى اللهُ وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه.
كتبه:
عبد المحسن بن حمد العبّاد البدر
المدرّس بالمسجد النبوي وبالجامعة
الإسلامية بالمدينة المنوّرة 25 / 3 / 1418هـ
ملاحظتان
الأولى: اطّلع العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين ـ حفظه الله ـ على فتاواه المدرجة في هذا الكتاب ووافق عليها في ليلة الأحد (22 ربيع الثاني 1416هـ)، فجزاه الله خيراً.
توقيع الشيخ:

يتبع
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 15 Jul 2010, 10:04 PM
أحمد سالم أحمد سالم غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: الجزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 608
افتراضي

-- ------------------------------------------------------------------------------

الثانية: قال كاتبه ـ عفا الله عنه ـ : لما كانت هذه الكتابة الخطيرة في موضوع الكتاب قد أَقْدَم عليها العبدُ الضعيف ـ وهو قاصر عنها ـ فقد تأَنَّيْتُ في طبعه حتى يَطَّلِع عليه من أهل العلم مَن يُرضَى، وقد كان هذا والحمد لله، ولا أعلم أحداً منهم إلا وأثنى عليه، منهم: الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، والشيخ صالح الفوزان عضوَا هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، ومن الأساتذة الكبار: الشيخ حماد بن محمد الأنصاري ـ رحمه الله ـ، والشيخ ربيع بن هادي المدخلي، والشيخ محمد بن عبد الله بن سبيل الرئيس العامّ لشئون المسجد الحرام وإمام وخطيب المسجد الحرام وعضو هيئة كبار العلماء، والشيخ عبد الله الزاحم رئيس المحاكم الشرعية بالمدينة وإمام وخطيب المسجد النبوي، والشيخ صالح العبود مدير الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وغيرهم كثير ... فضلاً عن كبار طلبة العلم الذين لا يُحصَون كثرةً، فجزاهم اللهُ خيراً جميعاً.
وقد ذكرت هذا ـ لا ليمدحني القارئ! ـ ولكن ليطمئن قلبُه؛ فإن الفضل لله وحده، وهو الذي حمدُه زَيْنٌ، وذَمُّه شَيْنٌ على الحقيقة.

M
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله.
{يأيّها الذين ءامنوا اتقوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُسْلِمُونَ}.
{يأيّها الناسُ اتّقُوا ربَّكمُ الَّذي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً واتَّقُوا اللهََ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كان عَلَيْكُمْ رَقِيباً}.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكمْ ويَغْفِرْ لَكمْ ذُنوبَكُمْ ومَن يُطِعِ اللهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}.
أما بعد. فقد منَّ الله تعالى على أمة نبيّه محمد e بإكمال دينها، وإتمام نعمته عليها، ورضاه عنها بالإسلام الذي لا يقبل منها دينا سواه، قال الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً}.
عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين! إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلَتْ لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: وأيُّ آية؟ قال: قوله: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فقال عمر: " والله! إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله e والساعة التي نزلت فيها على رسول الله e: عشية عرفة في يوم جمعة" رواه أحمد والبخاري ومسلم.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " فالنعمة المطلقة هي المتصلة بسعادة الأبد، وهي نعمة الإسلام والسنة ". ثم قال بعد ذكر النبيين والصديقين والشهداء والصالحين: " فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة، وأصحابها أيضا هم المعنيّون بقول الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً}"().
قال أبو العالية ـ رحمه الله ـ: " قرأت المحْكَم بعد وفاة نبيكم e بعشر سنين، فقد أنعم الله علَيَّ بنعمتين، لا أدري أيهما أفضل: أن هداني للإسلام، ولم يجعلني حَرورياً "().
أي نعمة الهداية إلى الإسلام من بين الملل الكافرة، ونعمة الهداية إلى السنة من بين الطوائف المبتدعة؛ وكانت بدعةُ الخوارج الحَروريين أشدَّها خطفاً للقلوب وترويعاً للمسلمين! والله العاصم.
ثم أما بعد، فقد أحكمَ الله U كتابه وأحسن تفصيله، وفصَّل لنا فيه كل ما ينفعنا ويضرنا، وهو القائل: {الــــر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ ءاياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} وقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً}، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين}، وقال: {وأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمْ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}، وقال: {وما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}.
وعن ابن مسعود t أن رسول الله e قال:» ليس من عمل يقرِّب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به، ولا عمل يقرِّب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه، لا يستبطئنّ أحد منكم رزقه، إن جبريل عليه السلام ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه، فاتقوا الله أيها الناس! وأجملوا في الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية، فإن الله لا يُنال فضله بمعصية « رواه الحاكم وغيره وهو صحيح.
وإذا كان النبي e بيَّن لنا الهدى وحثَّنا عليه، وبيَّن لنا الضلال وحذَّرنا منه، لم يبق لأحد عذر في الطمع في غير هذه الشريعة الكاملة، قال ابن القيم
ـ رحمه الله ـ: " وأما الرضى بنبيّه رسولاً: فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره ألبتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه، لا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه، فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم، وأحسن أحواله أن يكون من باب التراب الذي إنما يُتيمَّم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور.
وأما الرضى بدينه: فإذا قال أوحكم أو أمر أو نهى، رضي كل الرضى، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسلَّم له تسليما، ولو كان مخالفا لمراد نفسه أو هواها، أو قول مقلَّده وشيخه وطائفته "().
وكما أن الله أكمل دينه علماً، فقد أكمله عملاً؛ إذ كما لا يخلو زمن من قائم لله بحجته، فلا يخلو زمن من طائفة مؤمنة تعمل بهذا الدين، فعن حميد بن عبد الرحمن قال:سمعت معاوية خطيباً يقول: سمعت النبي e يقول: » من يُرِد الله به خيراً يفقِّهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال من هذه الأمة أمة قائمة على أمر الله، لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك « متفق عليه.
ثم اعلم ـ أيها القاريء! ـ أن الذي دفعني إلى هذه الكتابة على الرغم من القصور، أنني رأيت شباب المسلمين يَرِدون مواقع الحِمام، يرشفون سمّه بسقي أيديهم ولا يُحِسّون بملام، فدعوتُ إلى صون العمل السياسي عن العبث الذي هو أحد أسباب هذا الواقع المشؤوم، بتأصيل احترام التخصص انطلاقاً من قاعدة: {وما مِنّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}، ثم تنَفَّلتُ بضرب المثل بتجربة الجزائر؛ زيادةً في البيان وإمعاناً في الإعذار لذوي البصائر.
ولعلك واجد في هذه النافلة أخباراً لا تروقُك، أو لا يُصدِّقها ظنُّك، فتجاوزْها! فإن ذلك لا يضرّك؛ لأنني لست ممن يُحكِّم الواقع في الشرع الحنيف، وقِفْ عند القواعد العلمية؛ فإنها أصل هذا التصنيف، والله الموفق لسلوك هدي خير البرية.
ثم إنني شاكر للشيخ العلامة الألباني وللشيخ العلامة عبد المحسن العبّاد
ـ حفظهما الله تعالى ـ تفرُّغهما لقراءة هذا الكتاب المتواضع وحسن عنايتهما بالنصيحة للمسلمين، وشاكر لسائر المشايخ والإخوة الذين لم يبخلوا عليّ بإرشاداتهم وتنبيهاتهم القيّمة، فجزاهم الله خيراً.
وقبل الخوض في الموضوع، إليك تنبيهات سريعة على أصول مهمة، لا أستقصي بحثها وجمع أدلتها، وإنما هي لفت انتباه وتذكير.



الأصل الأول: الطريق واحد
اعلم ـ رحمك الله! ـ أن الطريق الذي يضمن لك نعمة الإسلام واحد لا يتعدد؛ لأن الله كتب الفلاح لحزب واحد فقط فقال: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُون}، وكتب الغلبة لهذا الحزب وحده فقال: {وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغالِبُون}.
ومهما بحثتَ في كتاب الله وسنة رسوله e، فلن تجد تفريق الأمة إلى جماعات وتحزيبها في تكتلات إلا مذموماً، قال الله تعالى: {ولاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِين فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُون}، وكيف يُقِر ربنا U أمة على التشتت بعدما عَصَمَها بحبله، وهو يُبرِّيء نبيّه e منها حين تكون كذلك وتوعَّدها عليه فيقول: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ إنَّما أَمْرُهُمْ إلى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهمْ بِما كانُوا يَفْعَلُون}.
وعن ابن مسعود t قال: " خطَّ لنا رسول الله e خطا، ثم قال: » هذا سبيل الله «ourier New Euro"، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: » هذه سبل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه «"، ثم قرأ: {وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} " رواه أحمد وغيره وهو صحيح.
فدلّ هذا الحديث بنصه على أن الطريق واحد، قال ابن القيم: " وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد، وهو ما بَعث به رسله وأنزل به كتبه، ولا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق، ولو أتى الناسُ من كل طريق واستفتحوا من كل باب، فالطرق عليهم مسدودة، والأبواب عليهم مغلقة، إلا من هذا الطريق الواحد، فإنه متّصل بالله موصل إلى الله "().
قلت: ولكن كثرة بُنَيّاته العاديات تشكك فيه وتُخذِّل عنه، وإنما انحرف عنه من انحرف من الفرق استئناساً بالتَّعدُّد، وتوحُّشاً من التفرُّد، واستعجالاً للوصول، وجُبْناً عن تحمّل الطول؛ قال ابن القيم: " من استطال الطريق ضعُف مشيُه "().
والله المستعان.
الأصل الثاني: اتباع الكتاب والسنة
على فهم السلف الصالح()
إنَّ الذي لم يختلف فيه المسلمون قديماً وحديثاً هو أن الطريق الذي ارتضاه لنا ربنا هو طريق الكتاب والسنة، فإليه يَرِدون ومنه يصدرون، وإن اختلفوا في وجوه الاستدلال بهما.
ذلك؛ لأنَّ الله ضَمِن الاستقامة لمتبع الكتاب فقال على لسان مؤمني الجن: {يا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وإلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}.
كما ضَمِنها لمتبع الرسول e الذي قال له ربه: {وإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
لكن الذي جعل الفرق الإسلامية تنحرف عن الصراط هو إغفالها ركناً ثالثاً جاء التنويه به في الوحيين جميعاً، ألاَ وهو فَهْمُ السلف الصالح للكتاب والسنة.
وقد اشتملت سورة الفاتحة على هذه الأركان الثلاثة في أكمل بيان:
فقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} اشتمل على ركني الكتاب والسنة، كما سبق.
وقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} اشتمل على فهم السلف لهذا الصراط، مع أنه لا يشكّ أحد في أن من التزم بالكتاب والسنة فقد اهتدى إلى الصراط المستقيم، إلا أنه لما كان فَهْم الناس للكتاب والسنة منه الصحيح ومنه السقيم، اقتضى الأمرُ ركْناً ثالثاً لرفع الخلاف، ألا وهو تقييدُ فَهْم الأخلاف بِفَهْم الأسلاف؛ قال ابن القيم: " وتأمل سراً بديعاً في ذِكْر السبب والجزاء للطوائف الثلاثة بأوجز لفظ وأخصره؛ فإن الإنعام عليهم يتضمن إنعامه بالهداية التي هي العلم النافع والعمل الصالح"().
وقال: " فكلُّ من كان أعرف للحق وأتبع له كان أولى بالصراط المستقيم، ولا ريب أن أصحاب رسول الله e و رضي الله عنهم هم أولى بهذه الصفة من الروافض ... ولهذا فسَّر السلف الصراط المستقيم وأهله بأبي بكر وعمر وأصحاب رسول الله e ..."().
وفي هذا تنصيص منه ـ رحمه الله ـ على أن أفضل من أنعم الله عليه بالعلم والعمل هم أصحاب رسول الله e؛ لأنهم شَهِدوا التنزيل، وشاهَدوا من هدي الرسول الكريم ما فهموا به التأويل السليم، كما قال ابن مسعود t: " من كان منكم مُسْتَنًّا فلْيستنَّ بمَن قد مات، فإن الحيّ لا تُؤْمَن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد e، كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرَّها قلوباً، وأعمقها عِلْماً، وأقلّها تكلُّفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيّه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتَّبِعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم؛ فإنهم كانوا على الهدي المستقيم "().
وقال أيضا: " إنَّ الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد e خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيّه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسَناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيِّئاً فهو عند الله سيّء "().
إذًا فالمسلمون المقصودون لابن مسعود هم الصحابة y؛ قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: " أصول السنة عندنا التمسُّك بما كان عليه أصحاب رسول الله e والاقتداء بهم "().
ومَن حظيَ برضى الله مِن بعدهم فلاقتدائه بهديهم، قال الله تعالى: {والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}().
وقد جاء تحديد زمن السلف الذين لا تجوز مخالفتهم بإحداث فهْم لم يفهموه، في حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله e: »\f "Courier New Euro" خيرُ الناسِ قَرْني، ثم الَّذين يَلُونَهم، ثم الَّذين يَلُونَهم، ثم يجيءُ قومٌ تَسبقُ شهادةُ أحدهم يمينَه، ويمينُه شهادتَه «() متفق عليه.
ولهذا الأصل نظائر وأدلة من الكتاب والسنة، منها قول الله تعالى: {ومَن يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}، والشاهد هنا في ضمّ مجانبة سبيل المؤمنين إلى مشاقَّة الرسول لاسْتحقاق هذا الوعيد الشديد، مع أن مشاقَّة الرسول e وحده كفيلةٌ بذلك كما قال الله تعالى: {إنَّ الَّذينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وسَيُحبِطُ أَعْمالَهُمْ}().
ومنها ما رواه عبد الله بن لحي عن معاوية بن أبي سفيان أنه قام فينا فقال: ألاَ إن رسول الله e قام فينا فقال: 87 \f "Courier New Euro" ألاَ إن مَن قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة « رواه أبو داود وغيره وهو صحيح.
والشاهد هنا في وصف الفرقة الناجية بالجماعة، والعدول عن إضافتها إلى الكتاب والسنة، مع أنها لا يمكن أن تخرج عنهما قط؛ والسر في ذلك يكمن في التنبيه على الجماعة التي فهمت نصوص الوحيين وعملت بهما على مراد الله ورسوله، ولم يكن يومئذ جماعة إلا أصحاب رسول الله e، ولذلك صحَّح أهل العلم ـ في الشواهد ـ اللفظ الآخر الوارد في هذا الحديث من رواية
الحاكم وغيره وهو قوله e في وصف الفرقة الناجية: (( ما أنا عليه اليوم وأصحابي )).
ومنها ما رواه أبو داود وغيره بسند صحيح لغيره عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله e موعظة بليغة، ذرَفت منها العيون ووجِلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة موَدِّع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: » أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإنْ عبداً حبشيًّا؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسَّكوا بها وعَضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة «w Euro".
والشاهد هنا في الجمع بين اتباع السنة النبوية وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، ثم تأمل كيف جعل النبي e كلمته هذه وصيّته لأمته من بعده لتعلم صدق القول بأصالة هذا المنهج، ثم تأمل كيف قابل الاختلاف بالتزام هذا المنهج لتعلم أن ضابط ( فَهْم السلف الصالح ) سبب النجاة من التفرُّق، قال الشاطبيّ ـ رحمه الله ـ: " فقرن u ـ كما ترى ـ سنّة الخلفاء الراشدين بسنّته، وأن مِن اتّباع سنّته اتّباع سنّتهم، وأن المحدثات خلاف ذلك، ليست منها في شيء؛ لأنهم y فيما سَنُّوا: إمّا متَّبِعون لسنّة نبيّهم عليه السلام نفسها، وإمّا متّبِعون لما فهموا من سنّته e في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثلُه، لا زائدة على ذلك "().
وقد جعلتُ هذه النصوص من النظائر والأدلة على تأصيل ما أنا بصدده؛ لأنني وجدت ابن أبي العز نزع بها عند شرحه قول الطحاوي: " ونتَّبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفُرقة "().
تطبيق:
لبيان ضرورة تقييد فهم الكتاب بالسنة، وتقييد فهم الكتاب والسنة بما كان عليه السلف الصالح، أُورد هنا قصة جرَت أيام محنة الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ؛ لأبيِّن بها المقصودَين في آنٍ واحد، قال الآجرّي ـ رحمه الله ـ():
" بلغني عن المهتدي ـ رحمه الله تعالى ـ أنه قال: ما قطع أَبي ـ يعني الواثق ـ إلا شيخ جيء به من المصيصة، فمكث في السجن مدة، ثم إن أبي ذكره يوما فقال: علي بالشيخ، فأُتي به مقيَّدا، فلما أُوقف بين يديه سلَّم عليه، فلم يرُدَّ عليه السلام، فقال له الشيخ: يا أمير المؤمنين! ما استعملتَ معي أدب الله تعالى ولا أدب رسوله e؛ قال الله تعالى: {وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أو رُدُّوها}، وأمر النبي e بردّ السلام؟! فقال له: وعليك السلام. ثم قال لابن أبي دُؤاد: سَلْهُ، فقال: يا أمير المؤمنين! أنا محبوس مقيَّد، أُصلّي في الحبس بتيمم، مُنِعتُ الماء، فمُر بقيودي تُحَلّ، ومر لي بماء أتطهر وأصلي، ثم سَلْني، قال: فأمر فحُلَّ قيده، وأمر له بماء، فتوضأ وصلى، ثم قال لابن أبي دؤاد: سلْهُ، فقال الشيخ: المسألة لي، تأْمُره أن يجيبني، فقال: سل، فأقبل الشيخ على ابن أبي دؤاد يسأله فقال: أخبرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه، أشيء دعا إليه رسول الله e؟ قال: لا! قال: فشيء دعا إليه أبو بكر الصديق t بعده؟ قال: لا! قال: فشيء دعا إليه عمر بن الخطاب t بعدهما؟ قال: لا! قال الشيخ: فشيء دعا إليه عثمان بن عفان بعدهم؟ قال: لا! قال: فشيء دعا إليه علي بن أبي طالب t بعدهم؟ قال: لا! قال الشيخ: فشيء لم يدعُ رسول الله e ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله تعالى عنهم تدعو أنت الناس إليه ؟! ليس يخلو أن تقول: علِموه أو جهِلوه؛ فإن قلتَ: علِموه وسكتوا عنه، وسِعَنا وإياك ما وَسِع القوم من السكوت، فإن قلتَ: جهِلوه وعلِمتُه أنا، فيا لُكَعُ بن لكع! يجهل النبي e والخلفاء الراشدون رضي الله تعالى عنهم شيئا وتعْلمه أنت وأصحابك؟! قال المهتدي: فرأيتُ أبي وثب قائماً ودخل الحيرى()، وجعل ثوبه في فيه يضحك، ثم جعل يقول: صدق، ليس يخلو من أن نقول: جهلوه أو علموه، فإن قلنا: علِموه وسكتوا عنه، وسِعَنا من السكوت ما وسِع القوم، وإن قلنا: جهلوه وعلمته أنت، فيا لكع بن لكع! يجهل النبي e وأصحابه رضي الله تعالى عنهم شيئا تعلمه أنت وأصحابك؟! ثم قال: يا أحمد! قلت: لبيك، قال: لستُ أعنيك، إنما أعني ابن أبي دُؤاد، فوثب إليه فقال: أعط هذا الشيخ نفقةً وأخرجه عن بلدنا ".
وفي رواية أوردها الذهبي في » السير «: " .. وسقط من عينه ابن أبي دُؤاد، ولم يَمتحن بعدها أحداً "، وفي رواية: " قال المهتدي: فرجعتُ عن هذه المقالة، وأظن أن أبي رجع عنها منذ ذلك الوقت"().
قلت: تأمل! فإن ردَّ الشيخ هذا الأمرَ العظيمَ إلى سيرة السلف الصالح رفع الخلاف مباشرة وكان سبب هداية الواثق والمهتدي إلى ما جاء ذكره في القصة، فهذا يدلّك على أنه تأصيل دقيق، فاحفظه!
تنبيه
إذا اختلف سلفنا الصالح في مسألة ما كان تحكيم الدليل من الكتاب والسنة هو المسلك الوحيد، لقول الله تعالى: {فإن تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، وكلمة {شَيْءٍ} هنا نكرةٌ في سياق الشَّرط، فتَعُمّ كل اختلاف التضاد في الأصول والفروع، كما أشار إليه العلاّمة محمد الأمين الشنقيطي().
وقال ابن القيم: " ولو لم يكن في كتاب الله وسنة رسوله بيانُ حُكْمِ ما تنازَعوا فيه ولم يكن كافياً، لم يَأمر بالرَّدِّ إليه؛ إذ مِن الممتنِع أن يَأمر تعالى بالرَّدّ عند النزاع إلى مَن لا يوجَدُ عنده فَصْلُ النزاع "().
الأصل الثالث: نيل السؤدد بالعلم
هذا الفصل من أنفس ما في هذه الأصول الستة؛ لأن الغرض منه هو تبيان أصل العمل الذي ينبغي أن تُكرَّس له الجهود، فإن قوما رأوا النشاط الرهيب الذي تجتهد فيه قُوى الكفر والضلال، فظنوا أن سيادتهم ترجع إليهم بمجرد مقابلة نشاطهم بنشاط أقوى منه، فوَجَّهوا كل ما يملكون من وسائل لمجاراتهم، وأهملوا العلم الشرعي إهمالاً فاحشاً! والحقيقة أنهم مهما أحكموا التنظيم وأحسنوا التدبير وكثَّفوا النشاط وحفظوا من مكائد العدوّ، فلن يُكتَب لهم سؤدد ولا رِفعة حتى يُؤَسِّسوا عملهم على العلم ويعرفوا له ولأهله قدره؛ قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُم والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ} وقال: {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشَاءُ}، قال مالك ـ رحمه الله ـ: " بالعلم "().
وهذه الرِفعة تكون في الدنيا قبل الآخرة؛ كما قال الله تعالى عن اصطفائه طالوت لسيادة الملأ من بني إسرائيل: {وقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المالِ قَال إنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطةً في العِلْمِ وِالجِسْمِ واللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
وفي صحيح مسلم عن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعُسْفان، وكان عمر يستعمله على مكة()، فقال: مَن استعملتَ على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومَن ابن أبزى؟ قال: مَوْلى() مِن موالينا، قال: فاستخلفتَ عليهم مولى؟! قال: إنه قاريء لكتاب الله U وإنه عالم بالفرائض()، قال عمر: أمَا إن نبيّكم e قال: »Euro" إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين «.
ولذلك أخبر الله U أنه رفع الربانيين من بني إسرائيل حتى جعلهم حكّاماً عليهم ينفِّذون فيهم أمر الله فقال: {إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيها هُدًى ونُورٌ يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبارُ بِما اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء}.
وهؤلاء الربانيون الممَكَّن لهم جاء وصفهم بالعلم والتعليم، قال الله تعالى: {مَا كانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤتِيَهُ اللهُ الكِتابَ والحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّـينَ بِما كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُون}.
وفي كتاب الله U آيتان تشابهتا في اللفظ، يقول الله في الأولى عن إبراهيم e: {وتِلْكَ حُجَّتُنا ءَاتَيْنَاها إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَن نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}، وفي الثانية يقول عن يوسف e: {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}، وفي هذا سرٌّ بديعٌ من أسرار الكتاب العزيز، ذكره ابن تيمية في كلام نفيسٍ جدًّا، حيث يقول:
" ذَكَر اللهُ أنه يرفع درجات من يشاء في قصة مناظرة إبراهيم وفي قصة احتيال يوسف، ولهذا قال السلف: بالعلم؛ فإن سياق الآيات يدلّ عليه، فقصة إبراهيم في العلم بالحجة والمناظرة لدفع ضرر الخصم عن الدين، وقصة يوسف في العلم بالسياسة والتدبير لتحصل منفعة المطلوب، فالأول: علم بما يدفع المضار في الدين، والثاني: علم بما يجلب المنافع.
أو يقال: الأول: هو العلم بما يدفع المضرة عن الدين ويجلب منفعته، والثاني: علم بما يدفع المضرة عن الدنيا ويجلب منفعتها.
أو يقال: قصة إبراهيم في علم الأقوال النافعة عند الحاجة إليها، وقصة يوسف في علم الأفعال عند الحاجة إليها، فالحاجة جلب المنفعة ودفع المضرة قد تكون إلى القول، وقد تكون ...()
ولهذا كان المقصِّرون عن علم الحجج والدلالات وعلم السياسة والأمارات مقهورين مع هذين الصنفين، تارة بالاِحتياج إليهم إذا هجم عدوّ يفسد الدين بالجدل أو الدنيا بالظلم، وتارة بالاحتياج إليهم إذا هجم على أنفسهم من أنفسهم ذلك، وتارة بالاحتياج إليهم لتخليص بعضهم من شرّ بعض في الدين والدنيا، وتارة يعيشون في ظلهم في مكان ليس فيه مبتدع يستطيل عليهم ولا والٍ يظلمهم، وما ذاك إلا لوجود علماء الحجج الدامغة لأهل البدع، والسياسة الدافعة للظلم ..."().
فدار أمر الرئاسة الدينية والدنيوية على العلم؛ لأنه أصل لهما، ولذلك قال ابن تيمية ـ أيضا ـ: " وذلك أن الله يقول في كتابه: {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنَا بِالبَيِّناتِ وأَنزَلْنَا مَعَهمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ومَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيْبِ}، فأخبر أنه أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنه أنزل الحديد كما ذكره.
فقوام الدين بالكتاب الهادي والسيف الناصر {وكَفَى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً}، والكتابُ هو الأصلُ، ولهذا أول ما بعَث اللهُ رسولَه أنزل عليه الكتاب، ومكث بمكة لم يأمره بالسيف حتى هاجر وصار له أعوانٌ على الجهاد "().
إذن فالذين يتصوّرون قيام دولة الإسلام بمجرد عاطفةٍ إسلامية، وفكرٍ مجـرّد عن حـجّـة الشـرع يسمّونـه فكـراً إسلاميًّا! ونتفٍ من العلم يسمونها ( ثقافةً إسلاميةً!)، وأن التعليم مرحلة قادمة بعدها، فهؤلاء طالبو سراب؛ لأنهم يتخيَّلونها بلا قوة ولا أسباب، وأُولى القوّتين قوةُ الدين الذي عليه وعد الله المؤمنين بالنصر فقال: {وكان حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِين}؛ ولهذا قال ابن القيم: " ولما كان جهادُ أعداء الله في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسَه في ذات الله، كما قال النبي e: » المجاهِدُ من جاهَدَ نفسَه في طاعة الله، والمهاجِرُ من هجَرَ ما نهى اللهُ عنه «()، كان جهادُ النَّفْس مُقَدَّماً على جهاد العدوّ في الخارج وأصلاً له؛ فإنه مَن لم يجاهد نفسَه أولاً لتفعل ما أُمِرَت به وتترك ما نُهيَت عنه ويحارِبْها في الله، لم يمْكِنْهُ جهادُ عدوِّه في الخارج، فكيف يمكنه جهاد عدوِّه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له، متسلِّطٌ عليه، لم يجاهده ولم يحاربه في الله؟! بل لا يمكنه الخروج إلى عدوِّه حتى يجاهد نفسه على الخروج.
فهذان عدوّان قد امتُحِن العبدُ بجهادهما، وبينهما عدوٌّ ثالثٌ، لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده، وهو واقفٌ بينهما يُثبِّطُ العبدَ عن جهادهما ويُخذِّلُه ويُرجِف به، ولا يزال يخيِّل له ما في جهادهما من المشاقِّ وترك الحظوظ وفَوْت اللذات والمشتهيات، ولا يمكنه أن يجاهد ذَيْنك العدوَّيْن إلا بجهاده، فكان جهاده هو الأصل لجهادهما، وهو الشيطان، قال تعالى: {إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}، والأمر باتخاذه عدوًّا تنبيهٌ على استفراغ الوُسْع في محاربته ومجاهدته، كأنه عدوٌّ لا يفْتُر ولا يقصر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس "().
هذا الكلام في غاية الجودة والوضوح، وهو تصحيح لمنهج الذين يرمون غيرهم بالحجارة وبيوتهم من زجاج! وفي الوقت نفسه يُعَظّمون الأسباب المادية حتى يروا أن عدوّهم تمكَّن لقوّته، والحق أنه لا يدخل عليهم العدوُّ بيوتَهم إلا إذا وَهَى بنيانُها؛ أي لا ينهزم المسلمون لقوّة عدوّهم ولكن لضعف إيمانهم، حتى ولو عَرِيَت أيديهم من الأسباب ـ بعد بذل الوسع ـ كفاهم الله ما نابهم، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " ومن سنة الله أن من لم يُمْكن المؤمنون أن يعيذوه() من الذين يؤذون الله ورسوله؛ فإن الله سبحانه ينتقم منه لرسوله ويكفيه إياه، كما قدّمنا بعض ذلك في قصة الكاتب المفتري، وكما قال سبحانه: {فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِين. إنَّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِين} "().
وقال ابن القيم: " تالله! ما عَدَا عليك العدوُّ إلا بعد أن تَوَلَّى عنك الوَلِيُّ، فلا تظنّ أن الشيطان غَلَبَ ولكن الحافظ أَعْرَض "().
وقد عرفتَ أنك تُحْرَم ولاءَ ربك إذا تركتَ المأمور وركبتَ المحظور، كما أنك منصور بحفظك اللهَ في أمره ونهيه، فعاد الأصل إلى العلم؛ لأنه لا يُعرَف الأمر والنهي إلا به.
لطيفة
روى البخاري ومسلم عن الزبير بن عدي قال: دخلنا على أنس بن مالك قال: فشكونا إليه ما نَلقى من الحَجَّاج، فقال: » ما مِن عامٍ إلاَّ والَّذي بعده شرٌّ منه حتى تَلْقَوْا ربَّكم «، سمعتُ هذا من نبيّكم.
قال ابن حجر: " وقد استُشكل هذا الإطلاق مع أن بعض الأزمنة تكون في الشرّ دون التي قبلها، ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبد العزيز، وهو بعد زمن الحجاج بيسير، وقد اشتهر الخير الذي كان في زمن عمر بن عبد العزيز ... وأجاب بعضهم أن المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر، فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء، وفي عصر عمر بن عبد العزيز انقرضوا، والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده لقوله e: » خير القرون قرني ... « وهو في الصحيحين "().
ثم قال: " ثم وجدت عن عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد وهو أولى بالاتباع، فأخرج يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة عن زيد بن وهب قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: " لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شرّ من اليوم الذي قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه، ولا مالاً يفيده، ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقلّ علماً من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس، فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون "، ومن طريق الشعبي عن مسروق عنه قال: " لا يأتي عليكم زمان إلا وهو شرّ مما كان قبله، أمَا إني لا أعني أميراً خيراً من أمير، ولا عاماً خيراً من عام، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفاء، ويجيء قوم يُفتون برأيهم "().
قلت: رفعُ الإشكال بالأثر هو قرة عيون أهل الأثر، خاصة وهو جارٍ على الأصول؛ لأن غالب الخلق لِرَحم المال والسلطان وَصول، ألم تسمع الله تعالى يخبر عن أهل الشمال حسرتهم قائلين: {ما أَغْنَى عَنِّي مالِيَه. هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَه}.
ولو تأمَّلتَ فتنةَ الحركات الإسلامية - فضلاً عن غيرها - لوجدتَها مجموعة في هاتين النعرتين: تصوُّرُ أن خيريَّة أمة على أخرى تابعة لخيريَّة حكّامها، أو وفرة اقتصادها؛ ألا ترى أن أكثرهم لا يرُدّون من عرش الملك يَدَ لامِس، ولو كانت طَماعة من ديمقراطية الوساوس! وآخرين يرون أن عودة عزّ المسلمين مرهونة بالتفوق الحضاري، ولذلك لا يبْرَحون عليه عاكفين!
وهذا يبيِّن لك سرّ عناية ابن مسعود بمعالجتهما دون غيرهما، وتالله إنه لفقه النفس الذي فتح الله به عليه، فلْتعرف ـ أخا الإسلام ـ للسلف فضلهم، واستمسك بغرزهم تسترح من شبهات بُنَيّات الطريق.
وأخيراً: إلى العلم! يا من ينشد عز الإسلام، فعن تميم الداري قال: تطاول الناس في البناء في زمن عمر، فقال عمر: " يا معشر العريب! الأرضَ الأرضَ! إنه لا إسلام إلا بجماعة، ولاجماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة، فمن سوَّده قومه على الفقه كان حياة له ولهم، ومن سوَّده قومه على غير فقه كان هلاكاً له ولهم "().
وعن الحسن قال: " كانوا يقولون: موت العالم ثُلْمة في الإسلام لا يَسُدُّها شيء ما اختلف الليل والنهار "().
وعن هلال بن خباب قال: سألت سعيد بن جبير قلت: يا أبا عبد الله! ما علامة هلاك الناس؟ قال: " إذا هلك علماؤهم "().
الأصل الرابع: صِمَام الأمان من الكفر والهزيمة
باتِّباع الكتاب والسنة

يتبع
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 15 Jul 2010, 10:14 PM
أحمد سالم أحمد سالم غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: الجزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 608
افتراضي

--------------------------------------------------------------------------------

لست أعني بهذا الفصل ظاهره المتبادر إلى الذهن فحسب؛ لأنه شيء معلوم للمسلمين عِلما نظريًّا على الأقل، ولكنه كلمة إلى أولئك الذين لم يقنعوا بدعوة الكتاب والسنة، حين رأوا تألُّب قُوَى الكفر والنفاق على ديار المسلمين، من يوم الأندلس وفلسطين الفقيدتين، إلى يوم البوسنة والهرسك الجريحتين، وازداد المسلمون وهنًا على وهن حين قلَّت عنايتهم بمصدر قوّتهم: الكتاب والسنة، وهانوا على الله حين ساء ظنهم بهما، إذ تصوَّروا ضعف أثرهما في النفوس، وأن دعوة المسجد قاصرة عن بعث الأمة إلا ببطء لا يكافيء النشاط الرهيب والمتنوّع الوسائل الذي يقوم به الشيوعيون واليهود والنصارى ...
وهذه الدعوى ـ إن كان فيها حق ـ فيكفي أصحابها إثما أن صرفوا وجوه النشء عن العكوف على الوحيين حفظا وتعلُّما وتعليما، ولئن حبسوا أنفسهم لتعليم الناس دينهم، فقلَّما ينزعون بآية أو حديث إلا تبرُّكا، وإلا فحسن ظنهم بكلامهم زهَّدهم في كلام الله وكلام رسوله e، ووالله ثم والله ثم والله إن أحدهم ليجد في أُنشودة من الخشوع، ما يفقده مع كلام ربّ الأرباب، ولو كانت الطير لكانت محشورة كل له أوّاب.
أين هم الذين يعلّمون القرآن بتفسيره الأثري؟
أين هم الذين أحيوا طريقة السلف في تسميع الحديث النبوي والتقليل من الكلام البشري؟
ألا تعلمون أن الكفار لا يقدرون عليكم ما دمتم تتلُون الوحيين؟ قال الله تعالى: {يأَيُّها الَّذِينَ ءامَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتلَى علَيْكُمْ ءَاياتُ اللهِ وفِيكُمْ رَسُولُهُ ومَن يَعْتَصِم ِباللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وفي هذا السياق الكريم فائدتان هما:
الأولى: عصمة أتباع الوحيين من الكفر، قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ:
" يعني أن الكفر بعيدٌ منكم وحاشاكم منه؛ فإن ءايات الله تنزل على رسوله ليلاً ونهاراً، وهو يَتْلوها عليكم ويُبلِّغها إليكم "().
والثانية: أن الله تعالى اقتصر على ذكر أعظم كيد يدبِّره الكفار للمسلمين وهو إرادة تكفيرهم، كما قال سبحانه في الآية الأخرى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ}، فكأن الله يقول: مهما كان مكرهم الكبار الذي تزول منه الجبال قال تعالى: {وإن كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ}، فإن إيمانكم لا يزول ما أقمتم على تلاوة الوحي كتابا وسنة.
وليس هذا غريبا على من أيقن بقلبه أن الله جعل معين الحياة في الوحي فقال: {يَأَيُّها الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}.
وأعظم الحياتَيْن حياةُ القلب، وأحيا الناس أَتْبَعُهم للوحي، وهو آمَنُهم من الضلال، وبهذا يَدِقّ فهمك لقول الرسول e: » تركتُ فيكم شيئين لن تَضلّوا بعدهما: كتابَ الله وسنتي، ولن يتفرَّقا حتى يَرِدا علي الحوض « رواه الحاكم ومالك وهو حسن.
وقال أبو بكر الصديق t: " لستُ تاركا شيئا كان رسول الله e يعمل به إلا عملتُ به، فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ " رواه البخاري ومسلم.
فهذا صدِّيق الأمة يخشى على نفسه الانحراف عن الصراط المستقيم إن هو فرَّط في شيء من هدي النبي e ـ مع أنه كان شديد التمسك بما دَقَّ وجَلَّ من سنة نبيِّه e ـ فكيف قرَّت أعْيُن المبتدعة وهدأت جفونهم، وقد روى الشيخان عن أبي هريرة أنه قال: لما توفِي رسول الله e واستُخلِف أبو بكر بعده، كفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله e: » أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله «، فقال:
" والله! لأقاتلنّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَناقاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله e لقاتلتهم على منعه "، فقال عمر: " فوالله! ما هو إلا أن رأيتُ الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفتُ أنه الحق".
فتأمل هذا الحرص الشديد على أداء الواجب بكل تفاصيله التي كانت على عهد رسول الله e، ولو كانت في تقديم أحقر شيء.
ولما كان الرسل عليهم الصلاة والسلام أتبع الخلق للوحي اقترن بهم مِن تأييد الله أكمله، كما قال الله تعالى: {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} وقال: {ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا المُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ. وإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} وقال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ ءَاَمُنوا في الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}().
ومن كان لهم متَّبِعاً كان له مِثْلُ ما لهم من التأييد والنصرة، قال الله تعالى لموسى وهارون صلى الله عليهما وسلم ولأتباعهما: {أَنتُمَا ومَن اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُون}، وقال لعيسى e ولأتباعه: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ}.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " فلما كان للنصارى نَصيبٌ ما مِن اتِّباعه كانوا فوق اليهود إلى يوم القيامة، ولما كان المسلمون أَتْبَع له من النصارى كانوا فوق النصارى إلى يوم القيامة "().
وقال ابن تيمية: " ولهذا كل من كان متّبعا للرسول كان الله معه بحسَب هذا الاتباع، قال الله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَك مِنَ المُؤْمِنِينَ}، أي حسْبك وحسْبُ مَن اتَّبعك، فكلُّ مَن اتَّبَع الرسولَ مِن جميع المؤمنين فالله حسْبه، وهذا معنى كون الله معه، والكفاية المطلقة مع الاتِّباع المطلق، والناقصة مع الناقص، وإذا كان بعض المؤمنين به المتبعين له قد حصَل له مَن يعاديه على ذلك فالله حسْبُه، وهو معه وله نصيب من قوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}، فإن هذا قَلْبُه موافِقٌ للرسول وإن لم يكن صحِبَه ببدنه، والأصل في هذا القلب، كما في الصحيحين عن النبي e أنه قال:
(( إنّ بالمدينة رجالاً ما سِرْتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلاَّ كانوا معكم ))، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: (( وهم بالمدينة، حبَسهم العذرُ ))()، فهؤلاء بقلوبهم كانوا مع النبي e وأصحابه الغزاة، فلهم معنى صُحبته في الغزاة، فالله معهم بحسَب تلك الصحبة المعنوية "().
وقد صدق ـ رحمه الله ـ؛ فإن في القرآن ما يدل على أنهم صحبوهم بباطنهم، وذلك أنهم حين أَتَوا ليحملهم النبي e معه إلى الجهاد ردَّهم؛ لأنه لا يملك ما يحملهم عليه، رجعوا وقلوبهم متحرِّقة وعيونهم دامعة على ذلك حتى وصفهم الله بقوله: {ولاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ}.
ثم قال ـ رحمه الله ـ: " ولو انفرد الرجل في بعض الأمصار والأعصار بحق جاء به الرسول، ولم تنصُرْه الناس عليه، فإن الله معه، وله نصيب من قوله: {إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الغَاِر إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}، فإن نصر الرسول هو نصر دينه الذي جاء به حيث كان ومتى كان، ومن وافقه فهو صاحبه عليه في المعنى، فإذا قام به ذلك الصاحب كما أمر الله فإن الله مع ما جاء به الرسول ومع ذلك القائم به، وهذا المتبع له: حسْبُه الله، وهو حسْبُ الرسول كما قال تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} "().
وعن ابن مسعود قال: صلى رسول الله e العشاء ثم انصرف فأخذ بيد عبد الله بن مسعود حتى خرج به إلى بطحاءِ مكةَ فأجلسه ثم خَطَّ عليه خطا ثم قال:» لا تَبْرَحَنَّ خطك فإنه سينتهي إليك رجالٌ، فلا تكلمهم فإنهم لا يكلمونك «، قال: ثم مضى رسول الله e حيث أراد، فبينا أنا جالس في خطي إذ أتاني رجال كأنهم الزُّطُّ():أشعارهم وأجسامهم، لا أرى عورة ولا أرى قشرا، وينتهون إليّ لا يجاوزون الخط، ثم يَصدرون إلى رسول الله e، حتى إذا كان من آخر الليل، لكن رسول الله e قد جاءني وأنا جالس، فقال:» لقد أراني() منذ الليلة «، ثم دخل علي في خطي فتوسَّد فخذي فرقد، وكان رسول الله e إذا رقد نفخ، فبيْنا أنا قاعد ورسول الله e متوَسد فخذي، إذا أنا برجال عليهم ثياب بيض، الله أعلم ما بهم من الجمال، فانتهوا إلي، فجلس طائفة منهم عند رأس رسول الله e وطائفة منهم عند رجليه، ثم قالوا بينهم: ما رأيْنا عبدا قط أوتي مثل ما أوتي هذا النبيّ: إنّ عينيه تنامان وقلبه يقظان، اضربوا له مثلا مَثَلَ سيِّد بنى قصرا، ثم جعل مأدبة فدعا الناس إلى طعامه وشرابه، فمن أجابه أكل من طعامه وشرب من شرابه، ومن لم يجبْه عاقبه أو قال عذّبه، ثم ارتفعوا، واستيقظ رسول الله e عند ذلك فقال:
(( سمعتَ ما قال هؤلاء؟ وهل تدري من هؤلاء؟ )) قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: (( هم الملائكة، فتدري ما المثل الذي ضربوا؟ )) قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: (( المثل الذي ضربوا: الرحمن تبارك وتعالى بنى الجنة ودعا إليها عباده، فمن أجابه دخل الجنة، ومن لم يجبه عاقبه أو عذّبه ))().
فأنت ترى في هذه القصة العظيمة أن استجابة ابن مسعود لرسول الله e حين أمره بلزوم مكانه دفعت عنه شر قوم جاؤوه في أبشع صورة، مع أنه لم يكن بينه وبينهم سوى خطّ لو جاءت عليه الريح لعفى أثره، لكنه ليس كبقية الخطوط، إنه خط السنة: من لزمه كفاه الله ما نابه.
وإذ قد بيَّنتُ أدلة تثبيت الله لأمة المتابعة ونصره إياها، فلا بأس أن أسوق هنا قصة تشهد للأمرين جميعا، وفيها منقبة عظيمة لأبي بكر الذي حفظ الله به الدين ونصره بعد رسول الله e، حتى قال أبو هريرة t:
" والله الذي لا إله إلا هو لولا أبو بكر استُخلف ما عُبد الله "، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، فقيل له: مه يا أباهريرة! فقال: " إن رسول الله e وَجَّه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب قُبض رسول الله e وارتدت العرب حول المدينة، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله e فقالوا: يا أبا بكر! رُدَّ هؤلاء، تُوجِّه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدَّت العرب حول المدينة؟! فقال: " والذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله e ما رددتُ جيشا وجَّهه رسول الله e، ولا حلَلْتُ لواء عَقَده رسولُ الله "، فوجَّه أسامة، فجعل لا يمرّ بقبيلٍ يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أنَّ لهؤلاء قوة ما خرج مِثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندَعهم حتى يَلقوا
الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين، فثبتوا على
الإسلام "().
هذا هو تمسك أبي بكر بالسنة على الرغم من فاجعة موت رسول الله e وفاقرة ارتداد العرب، أضف إليهما تثبيط الناس له انطلاقا من العقل الذي يقضي بما قضوا به، ولكن الشرع الذي تعلَّمه أبو بكر من النبي e هو الذي هداه إلى ما شحَّت به قرائحُهم؛ ألا وهو خوفُه t من تأخير ما قدَّمه رسول الله e، فكانت عاقبة التمسك بالسنة الانتصار على العدو والثبات على الإسلام.
تنبيه:
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله ـ: " وقد حقق العلماءُ أن غلبة الأنبياء على قسمين: غلبة بالحجة والبيان، وهي ثابتة لجميعهم، وغلبة بالسيف والسنان، وهي ثابتة لخصوص الذين أُمروا منهم بالقتال في سبيل
الله ..."().
ولهذا قرر العلماء أن المؤمنين المستضعفين اليوم في مجتمعاتهم؛ الذين لا يؤمرون بالقتال، هم منتصرون بالحجة العلمية التي تدمغ كل
باطل وجدال، وأما الذين لهم القوة والسلطان فيؤمرون به لتتأيَّد
الحجة بالسنان، وعلى هذا فالحجة العلمية غالبة في كل زمان، والحمد لله
على هذا.
ولما كان أهل الحديث أقوى الناس حجة؛ لأنهم أعلمهم بالقرآن كما قال عمر بن الخطاب: " إن ناسا يجادلونكم بشُبَه القرآن، فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله U "()، ولما كانوا أعلمهم بهدي النبي e، كانوا أتبعهم للكتاب والسنة، فلا يستغرِبنّ خلفيّ أن تجتمع كلمة أهل العلم على تفسير الطائفة المنصورة بأهل الحديث في قوله e: » من يُرِد الله به خيرا يفقِّهه في الدين ... ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ... ))()،
مع أنه لا يخفى على الحصيف ارتباط الجملة الأولى ـ التي هي الفقه في
الدين ـ بالأخرى ـ التي هي انتصار هذه الطائفة ـ وهو من جوامع كلمه e().
تهديد مخالف الرسول بالزيغ أو الكفر
ما دام قد كتب الله لأتباع نبيّه e الثبات على الدين، فقد جعل مخالفيه على خطر من دينهم فقال: {وإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً. فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}، قال ابن القيم: " توَعَّدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم وأموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به الرسول وتحكيم غيره والتحاكم إليه كما قال تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} اعتذَروا بأنهم إنما قصدوا الإحسان والتوفيق ..."().
وثالثة الأثافي أن هذه المصيبة قد تصيب من دين المرء مقتلا حتى يكفر، قال ابن تيمية عند قول الله U: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : " أمر مَن خالف أَمْرَه أن يحْذَر الفتنة، والفتنة: الرِّدة والكفر، قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} ... قال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد: " نظرتُ في المصحف فوجدتُ طاعة الرسول e في ثلاثة وثلاثين موضعا "، ثم جعل يتلو: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وجعل يكررها ويقول: " وما الفتنة؟ الشرك، لعله إذا رَدَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبُه
فيهلكه "، وجعل يتلو هذه الآية: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}.
وقال أبو طالب المشكاني: وقيل له : إن قوما يدَعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان، فقال: " أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته، يدَعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره، قال الله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}! وتدري ما الفتنة؟ الكفر، قال الله تعالى: {والفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ}، فيدَعون الحديثَ عن رسول الله e وتغلبهم أهواؤُهم إلى الرأي، فإذا كان المخالف عن أمره قد حُذِّر من الكفر والشرك أو من العذاب الأليم، دلّ على أنه قد يكون مفضياً إلى الكفر أو العذاب
الأليم ... "().
ومن الكلمات السائرة عند السلف قولهم: " أسرع الناس رِدَّة أصحابُ الأهواء "().
ولما كان أصل كفر أهل الكتاب من جهة مخالفة الرسل قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَم}، وفي هذا السياق الكريم فائدتان:
الأولى: أن سبب كفرهم هو تعظيمهم علماءهم حتى غضّوا من حق الله ورسوله في التحاكم إليهما، فعن عدي بن حاتم قال: أتيتُ النبي e وفي عنقي صليب من ذهب، فقال:» يا عديّ! اطرح عنك هذا الوثن «، وسمعته يقرأ من سورة براءة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللهِ}، قال: (( أمَا إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أَحلُّوا لهم شيئا استحلّوه، وإذا حرَّموا عليهم شيئا حرَّموه ))().
والثانية: أن في الاقتصار على التنديد بصنيع اليهود والنصارى تنبيها على قسمي المخالفة للرسل لا ثالث لهما، وهما:
ـ التفريط: الذي هو النصيب الأوفر لليهود مؤذي الأنبياء وقتَلَتِهم.
ـ الإفراط: الذي هو النصيب الأوفر للنصارى ذوي الغلوّ.
وهذا من إعجاز القرآن العظيم. وقد جاء التحذير منهما مقترنين في حديث واحد، هو قول الرسول e:» دعوني ما تركتكم؛ فإنما هلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتُكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأْتوا منه ما استطعتم « متفق عليه.
فقوله: " بكثرة سؤالهم « في الإفراط والغلو.
وقوله: » واختلافهم على أنبيائهم « في التفريط والتقصير.
ولذلك أورده البخاري في " كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة "()، وهو من جوامع كلمه e.
ولما كانت المتابعة بهذه الدقة لم يمدح الله تعالى المؤمنين بمجردها، بل بإحسانها فقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينِ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}، أي هي متابعة ظاهرة وباطنة، ومن كان كذلك فأخذ منه الشيطان نصيبا من الطاعة، أسرع الأَوْبة ونفعته التوبة؛ كما وصف الله المهاجرين والأنصار بذلك؛ لأن مخالفتهم لم تكن متأصِّلة في قلوبهم، وسرّ هذه العناية الربانية بهم ما عُرِفوا به من المتابعة التامة، فتأمَّل إخبار الله عن حفظ قلوبهم من الزيغ بسبب صدقهم في المتابعة في وقت العسرة قال الله U: {لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيَّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في سَاعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ}، فلْيحذر الذين هم على ظاهر السنة دون باطنها، وكذا العكس.
تعجيل الهزيمة لمخالفي الرسل

يتبع
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 16 Jul 2010, 11:07 PM
أحمد سالم أحمد سالم غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: الجزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 608
افتراضي

--------------------------------------------------------------------------------

تعالى: {إنّ الَّذينَ يُحَادُّونَ اللهََ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ في الأَذَلِّين}، وقال رسول الله e:
(( ... وجُعل الذّل والصغار علىمن خالف أمري )) رواه أحمد وهو حسن.
وتفسيره ماقاله ابن تيمية: " والبدعةُ مقرونةٌ بالفُرْقة،كما أنّ السنّةَ مقرونةٌ بالجماعة فيقال: أهل السنة والجماعة: كما يقال: أهل البدعة والفُرقة "().
وقد أجمع العقلاء على أنّ أعظم أسباب الهزيمة هو التنازع، وأشده ـ ولا شك ـ التنازع في الدين، ولما كان التنازع ناشئاً عن التقصير في طاعة الله ورسوله قرن الله بينهما في آية واحدة، فقال: {وأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} ولما كان الالتزام بالسنة هو سفينة النجاة في بحر الاختلاف، أمر النبي e بلزومها عند وقوعه فقال: (( ... وإنّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاكثيرا، فعليكم بسنّتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور )) رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه وغيرهم وهوصحيح، وقال الله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَات}، أي جاءهم من الوحي مايجمعهم، فلما تركوه اختلفوا. وهذا مبيَّن في سيرة اليهود والنصارى مع رسلهم، فالنصارى اتَّبعوا رهبانية ابتدعوها وتركوا بعض ما أُمروا به فأَغْرَى الله بينهم العداوة والبغضاء،كما قال تعالى: {ومِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظاًّ مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ}، قال ابن تيمية: " فهذا نصٌّ في أنهم تركوا بعض ما أُمِروا به فكان تركه سبباً لوقوع العداوة والبغضاء المحرَّمَيْن "().
وكذلك اليهود تركوا بعض ما أُمروا به كما قال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ ونَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}، لكن تركهم له كان ناشئاً عن تقصيرهم المعروف بسبب كراهيتهم لما أنزل الله، كما قال تعالى: {ولَيَزيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُم مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ}().
وقال ابن تيمية: " والخلاف الواقع في غير أهل الملل أكثر منه في أهل الملل، فكل من كان إلى متابعة الأنبياء أقرب كان الخلاف بينهم أقل؛ فالخلاف المنقول عن فلاسفة اليونان والهند وأمثالهم أمر لا يُحصيه إلا الله، وبعده الخلاف عن أعظم الملل ابتداعا كالرافضة فينا، وبعد ذلك الخلاف الذي بين المعتزلة ونحوهم، وبعد ذلك خلاف الفرق المنتسبة إلى الجماعة، كالكلاّبية والكرّامية والأشعرية ونحوهم، وبعد ذلك اختلاف أهل الحديث، وهم أقل الطوائف اختلافا في أصولهم، لأن ميراثهم من النبوة أعظم من ميراث غيرهم، فعصمهم حبل الله الذي اعتصموا به، فقال: {واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً} "().
ومن الدرر الغوالي لأبي المظفر السمعاني قوله: " ومما يدلُّ على أن أهل الحديث هم على الحقّ أنك لو طالعتَ جميع كتبهم المصنَّفة من أوّلهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار، وجدتَهم في بيان الاعتقاد على وتيرةٍ واحدةٍ ونمطٍ واحدٍ، يجْرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون فيها، قولُهم في ذلك واحدٌ ونقلُهم واحدٌ، لا ترى بينهم اختلافاً ولا تفرّقاً في شيء ما وإن قلّ، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء من قلب واحد وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبيَن من هذا؟ قال الله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا}.
وأما إذا نظرتَ إلى أهل الأهواء والبدع رأيتَهم متفرِّقين مختلفين أو شِيَعاً وأحزاباً؛ لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقةٍ واحدةٍ في الاعتقاد، يبَدِّع بعضهم بعضاً، بل يَرْتَقُون إلى التكفير؛ يكفِّر الابنُ أباه، والرجلُ أخاه، والجارُ جارَه، تراهم أبداً في تنازعٍ وتباغضٍ واختلافٍ، تنقضي أعمارُهم ولم تَتَّفق كلماتُهم {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ} "().
والغرض من هذا كله بيان لحوق الهزيمة بمن خالف الرسول e وتعجيلها لهم، بسبب الاختلاف المضروب عليهم، وقد روى ابن سعد والبيهقي وأحمد وغيرهم بأسانيد عن جمع من الصحابة دخل حديث بعضهم في حديث بعض، قالوا: وبعث رسول الله e عبد الله بن حذافة السهمي، وهو أحد الستة، إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام وكتب معه كتابا، قال عبد الله: فدفعتُ إليه كتاب رسول الله e، ثم أخذه فمزَّقه، فلما بلغ ذلك رسول الله e قال: (( اللهم مزِّق ملكه ))()، وكتب كسرى إلى باذان عامله على اليمن أن ابعث من عندك رجلين جلْدين إلى هذا الرجل الذي بالحجاز فلْيَأتياني بخبره، فبعث باذان قهرمان ورجلا آخر، وكتب معهما كتابا، فقدِما المدينة، فدفعا كتاب باذان إلى النبي e، فتبسم رسول الله e ودعاهما إلى الإسلام وفرائصهما ترعد، وفي رواية: فلما رأى شَواربهما مفتولة وخدودهما محلوقة، أشاح عنهما وقال: (( وَيْحَكُما مَن أمركما بهذا )) قالا: أمَرنا ربنا ـ يعنيان كسرى ـ فقال النبي e: (( ولكني أمرني ربي U أن أُعفِيَ لحيتي وأن أُحفي شاربي ))، وقال:
(( ارجعا عني يومكما هذا حتى تأتياني الغد فأخبركما بما أريد ))، فجاءاه
من الغد فقال لهما: (( أَبْلغا صاحبكما أن ربي قد قتل ربه كسرى في هذه الليلة ))، فوجدوه كما قال().
وفي هذه القصة أن النبي e علِم هلاك كسرى لَمّا تجرَّأ على رسالته، ولم يُراع له حرمته؛ لأن الله قضى بقطع دابر شانيء رسوله وتعجيل بتره فقال: {إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}. ومن حسن الموافقة أن قاتل كسرى ابنُه، كما ذكر ذلك الحافظ في » الفتح «New Roman Euro"()، وهو من تمام الإعجاز في إلقاء العداوة بين أفراد الأمة الواحدة، كيف وهي عداوة أهل بيت واحد؟! تحقيقاً لقول الله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ}.
وقارن قصة كسرى هذه بقصة قيصر التي رواها البخاري وغيره، وفيها قول قيصر لأبي سفيان في رسول الله e: "... فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدميّ هاتين، وقد كنتُ أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخْلُص إليه لتَجَشَّمْتُ لقاءه، ولو كنتُ عنده لغسلتُ عن قَدمه ...".
قال ابن تيمية: " وقد كتب النبي e إلى كسرى وقيصر، وكلاهما لم يُسْلم، لكن قيصر أكرمَ كتاب النبي e وأكرم رسوله، فثبَت ملكُه، فيقال: إن الملك باقٍ في ذريته إلى اليوم، وكسرى مزَّق كتاب رسول الله e واستهزأ برسول الله e، فقتله الله بعد قليل ومزَّق ملكه كل ممزق ولم يبق للأكاسرة ملك، وهذا ـ والله أعلم ـ تحقيق لقوله تعالى: {إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر}، فكلُّ مَن شنَأه وأبغضه وعاداه فإن الله يقطع دابره ويمحق عينه وأثره، وقد قيل: إنها نزلت في العاص بن وائل أو في عقبة بن أبي معيط أو في كعب بن الأشرف، وقد رأيتَ صنيع الله بهم، ومن الكلام السائر:
( لحوم العلماء مسمومة )، فكيف بلحوم الأنبياء عليهم السلام؟!"().
قلت: تأمل قوله: " إن المُلْك باقٍ في ذرِّيَّته إلى اليوم "، مع قول هرقل بعد قراءته كتاب رسول الله e في الرواية السابقة: " يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد وأنْ يثبت مُلْكُكُم فتُبايِعوا هذا النبي؟..".
وقال ابن تيمية: " ونظير هذا ما حدّثَناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جرَّبوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصَر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس، إذ تعرَّض أهله لسبّ رسول الله e والوقيعة في عرضه فعجلنا فتحه وتيسر، ولم يكد يتأخر إلا يوما أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا حتى إن كنّا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظا عليهم بما قالوه فيه،كما حدّثني بعض الأصحاب الثقاة أنّ المسلمين من أهل الغرب حالهم مع النصارى كذلك، ومن سنّة الله أن يعذّب أعداءه تارة بعذاب من عنده، وتارة بأيدي عباده المؤمنين "().
وقال ابن تيمية: " سورة الكوثر: ما أجلّها من سورة! وأغزر فوائدها على اختصارها! وحقيقة معناها تُعْلم من آخرها، فإنه سبحانه وتعالى بَتَر شانيء رسوله من كل خير، فيَبتر ذكره وأهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها، ولا يتزوّد فيها صالحا لمعاده، ويبتر قلبه فلا يعي الخير، ولا يؤهِّله لمعرفته ومحبته والإيمان برسله، ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرا ولا عونا، ويبتره من جميع القرب والأعمال الصالحة فلا يذوق لها طعما ولا يجد لها حلاوة، وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها، وهذا جزاء من شنَأ بعض ما جاء به الرسول e وردَّه لأجل هواه أومتبوعه أو شيخه أو أميره أو كبيره، كمن شنأ آيات الصفات وأحاديث الصفات، وتأوَّلها على غير مراد الله ورسوله منها، أو حملها على ما يوافق مذهبه ومذهب طائفته، أو تمنَّى ألا تكون آيات الصفات أنزلت، ولا أحاديث الصفات قالها رسول الله e ... ومن أقوى علامات شناءته لها وكراهته لها أنه إذا سمعها حين يَستدل بها أهلُ السنة على ما دلت عليه من الحق اشمأز من ذلك، وحاد ونفر من ذلك، لِما في قلبه من البغض لها والنفرة عنها، فأي شانيء للرسول أعظم من هذا ... وكذا مَن آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة، فلولا أنه شانيء لِما جاء به الرسول ما فعل ذلك، حتى إن بعضهم لينسى القرآن بعد أن حفظه، ويشتغل بقول فلان وفلان ...
فالحذرَ الحذرَ! أيها الرجل من أن تكره شيئا مما جاء به الرسول e أو تردّه لأجل هواك، أو انتصارا لمذهبك أو لشيخك، أو لأجل اشتغالك بالشهوات أو بالدنيا؛ فإن الله لم يوجب على أحد طاعة أحد إلا طاعة رسوله والأخذ بما جاء به، بحيث لو خالف العبد جميع الخلق واتبع الرسول ما سأله الله عن مخالفة أحد، فإن من يطيع أو يطاع إنما يطاع تبعا للرسول، وإلا لو أمر بخلاف ما أمر به الرسول ما أطيع. فاعلم ذلك واسمع وأطع، واتبع ولا تبتدع، تكن أبتر مردودا عليك عملُك، بل لا خير في عمل أبتر من الاِتّباع، ولا خير في عامله، والله أعلم "().
الأصل الخامس : الردّ على المخالف
من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر
احتجْتُ إلى أن أؤصّل لبحثي بهذا الفصل؛ لأنّني تعرّضت فيه لانتقاد بعض من بان لي خطؤه في الدعوة إلى الله عموما، وفي موضوع الكتاب خصوصا. ولمّا كان جلّ الأحزاب الإسلامية يعمل على وَأْد ما يسمّى ( بالنّقد الذّاتيّ )، وإجهاض الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وإخلاء أعظم ثغور المسلمين من مرابط، بحجّة السّتر على المسلمين تارة، وجمع الكيد للكافرين تارة أخرى، وغيرها من الحجج العاطفيّة التي تجعل العقول تُتخطّف من أصحابها في زمن الوهن العلميّ، كان لابدّ من ردّ الحق إلى نصابه {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ}.
" والذين يَلْوُون ألسنتهم باستنكار نقد الباطل وإن كان في بعضهم صلاح وخير، ولكنّه الوهن وضعف العزائم حينا، وضعف إدراك مدارك الحق والصّواب أحيانا، بل في حقيقته من التّولي يوم الزحف عن مواقع الحراسة لدين الله والذّب عنه، وحينئذ يكون الساكت عن كلمة الحق كالنّاطق بالباطل في الإثم، قال أبو علي الدّقاق : " الساكت عن الحق شيطان أخرس، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق ". والنبيّ e يخبر بافتراق هذه الأمّة إلى ثلاث وسبعين فرقة، والنّجاة منها لفرقة واحدة على منهاج النّبوّة، أيريد هؤلاء اختصار الأمّة إلى فرقة وجماعة واحدة مع قيام التّمايز العقديّ المضطرب؟!. أم أنها دعوة إلى وحدة تصدِّع كلمة التّوحيد، فاحذروا.
وما حجّتهم إلا المقولات الباطلة :
لاتصدِّعوا الصفّ من الدّاخل!
لا تثيروا الغبار من الخارج!
لا تحرّكوا الخلاف بين المسلمين!
" نلتقي فيما اتّفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه !" وهكذا.
وأضعف الإيمان أن يقال لهؤلاء : هل سكت المبطلون لنسكت، أم أنهم يهاجمون الاعتقاد على مرأى ومسمع، ويُطلب السّكوت؟ اللهمّ لا...
ونُعيذ بالله كل مسلم من تسرّب حجّة اليهود، فهم مختلفون على الكتاب، مخالفون للكتاب، ومع هذا يظهرون الوحدة والاجتماع، وقد كذّبهم الله تعالى فقال سبحانه : {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وقُلُوبُهُمْ شَتَّى}، وكان من أسباب لعنتهم ما ذكره الله بقوله :{كانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُنكَرٍ فَعَلُوهُ}"().
" ولهذا فإذا رأيت من ردّ على مخالف في شذوذ فقهيّ أو قول بدعيّ، فاشكر له دفاعه بقدر ما وَسِعه، ولا تخذِّله بتلك المقولة المهينة ( لماذا لا يردّ على العلمانيّين؟! )، فالناس قدرات ومواهب، وردّ الباطل واجب مهما كانت رتبته، وكل مسلم على ثغر من ثغور ملّته "().
وأصل هذا الباب النّصوص الواردة في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر كقوله تعالى: {ولْتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} قال ابن تيمية: " والأمر بالسنّة والنّهي عن البدعة هو أمرٌ بمعروف ونهيٌ عن منكر، وهو من أفضل الأعمال الصالحة ... "()، ولا ينبغي للجماعات الإسلامية اليوم أن تضيق صدورها بالنّقد؛ لأنّه من القيام بالقسط والشّهادة لله الّلذين أمرنا بهما ولو مع أنفسنا وأهل ملّتنا كما قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِين إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} واللَّيّ هو الكذب، والإعراض هو الكتمان كما قال ابن تيمية()، فكيف يطيب لمؤمن دعوةٌ مع كتمان الأخطاء تستّراً بالمجاملات السياسية بعد هذا؟!
ولا شكّ أنّ الغيرة التي أودعها الله في قلب كلِّ مؤمن على محارمه هي التي تحرّكه إلى القيام بهذا الواجب، كما قال النبي e: (( إنّ الله تعالى يغار، وإنّ المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرّم الله عليه )) متفق عليه. وإذا كان كلما أراد المؤمن أن يقوِّم المسار قيل له: ليس ذا الوقت والكفار متربّصون! فمتى يعرف أخطاءه؟ ومتى يحجم عنها؟ ومتى يصحّ المريض ويُقوَّى الضعيف؟ وقد روى أبو هريرة عن رسول الله e قال: (( المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يَكُفُّ عليه ضَيْعتَه، ويَحُوطُه من ورائه ))(). وليس من المولاة للمؤمنين في شيء أن تنصُر أخاك في باطله محتجّا بمواجهته الشيوعيّين، فعن أنس أن رسول الله e قال: (( انصر أخاك ظالما أو
مظلوما ))، قيل: يا رسول الله! هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال: (( تمنعه من الظلم ))، رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم من طريق جابر بلفظ: (( إن كان ظالما فلينهه؛ فإنه له نصر )).
قال ابن تيمية في هذا المعنى: " ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم أو ذبّ عنهم أو أثنى عليهم أو عظّم كتبهم أو عُرِف بمساعدتهم ومعاونتهم أو كره الكلام فيهم أو أخذ يعتذر لهم، بأنّ هذا الكلام لا يُدرَى ما هو؟ أو من قال إنّه صنّف هذا الكتاب؟ وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عَرَف حالهم ولم يعاون على القيام عليهم، فإنّ القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فسادا ويصدُّون عن سبيل الله "().
وفي الردّ على المخالف دفاع عن الإسلام من جبهتين:
" الأولى: الخطر الخارجيّ وهو الكافر المتمحِّض، الذي لم يعرِف نور الإسلام، بما يكيده للإسلام والمسلمين من غزو يحطِم في مُقَوِّماتهم العقديّة والسّلوكيّة والسياسية والحكميّة ...
الثانية: مواجهة التّصدُّع الدّاخليّ في الأمة بفشُوِّ فِرق ونحل طاف طائفها في أفئدة شباب الأمّة ... إذ التّصدُّع الدّاخليّ تحت لباس الدين يمثِّل انكسارا في رأس المال : المسلمين، وقد كان للسّالكين في ضوء الكتاب والسنّة
ـ الطّائفة المنصورة ـ الحظّ الوافر والمقام العظيم في جبر كسر المسلمين بردّهم إلى الكتاب والسنّة، وذلك بتحطيم ما قامت عليه تلك الفرق المفرّقة من مآخذ باطلة في ميزان الشرع "().
ومن ضنائن العلم ما قرأته لابن تيمية في التّمييز بين معاملة الخوارج ومعاملة الكفار، وهو يرفع اللّبس المتبادر إلى الأذهان الكليلة من بعض الأحاديث التي يظهر منها أنّ الخوارج شرّ من الكفار مطلقا، مع أنّ الصّحابة لم يكفّروهم، قال ـ رحمه الله ـ: " وما زالت سيرة المسلمين على هذا، ما جعلوهم مرتدّين كالذين قاتلهم الصدّيق t، هذا مع أمر رسول الله e بقتالهم في الأحاديث الصحيحة، وما رُوِيَ من أنهم » شرّ قتلى تحت أديم السماء، خير قتيل من قتلوه « في الحديث الذي رواه أبو أمامة، رواه التّرمذيّ وغيره()؛ أي أنهم شرٌّ على المسلمين من غيرهم؛ فإنّهم لم يكن أحد شرّا على المسلمين منهم: لا اليهود ولا النّصارى؛ فإنّهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم() مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم، مكفِّرين لهم، وكانوا متديّنين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلّة ..."() أي أنّ الخوارج أقلّ جريمة من الكفار في الميزان العامّ الأخير، يكفي أنهم " من الكفر فرّوا "، لكن بالنسبة لما يعاني منهم المسلمون وما يوقعون بهم من المحن والبلايا فهم أعظم شرّا من الكفار، بل لا يخلص الكفار إلى المسلمين كما يخلص إليهم هؤلاء، ولذلك قد تُقَدَّم عقوبتهم في الدنيا قبل غيرهم، وتأمّل فقه ابن تيمية حين قال بعد كلامه السّابق بصفحتين: " والعقوبة في الدنيا تكون لدفع ضرره عن المسلمين، وإن كان في الآخرة خيرا ممّن لم يُعاقَب، كما يُعَاقَب المسلم المُتَعَدِّي للحدود ولا يُعَاقَب أهل الذِّمّة من اليهود والنّصارى، والمسلم في الآخرة خير منهم ".
فاحفظ هذا، وعضَّ عليه بالنّواجذ تتهاوى بين يديك عساكر الباطل المعطّلة لمجاهدة البدع وأهلها، كأولئك القائلين: " إن لم تكونوا معنا فأنتم معهم!! "، أو كأولئك القائلين: " تُوَجِّهون سهامكم إلى إخوانكم، والعلمانيون والشيوعيون أنشط ما يكونون في نشر الخلافات بينكم؟! ".
قال ابن تيمية إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب؛ فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعا، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء، وقد قال النبي : (( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم،وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )) ... ".

يتبع
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 18 Jul 2010, 12:47 AM
أحمد سالم أحمد سالم غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: الجزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 608
افتراضي

--------------------------------------------------------------------------------

لماذا عُنِيَت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالرد على الفرق المنحرفة ـ كالطرق الصوفية ـ أكثر من عنايتها بالرد على الإلحاد، مع وجود الاستعمار الفرنسي؟
هذه شبهة تَرِد كثيرا على لسان من لم يتضلَّع بمنهج السلف يجيب عنها الشيخ محمد البشير الإبرهيمي ـ رحمه الله ـ بقوله: " وإنك لا تُبْعِد إذا قلت: إن لفشوِّ الخرافات وأضاليل الطرق بين الأمة أثرا كبيرا في فشوّ الإلحاد بين أبنائها المتعلمين تعلُّما أوروباويا الجاهلين بحقائق دينهم، لأنهم يحملون من الصغر فكرة أن هذه الأضاليل الطرقية هي الدين، وأن أهلها هم حملة الدين، فإذا تقدم بهم العلم والعقل لم يستسغها منهم علم ولا عقل، فأنكروها حقا وعدلاً، وأنكروا معها الدين ظلما وجهلاً، وهذه إحدى جنايات الطرقية على الدين. أرأيت أن القضاء على الطرقية قضاء على الإلحاد في بعض معانيه وحسم لبعض أسبابه. وقد قرأت في هذه الأيام لكاتب تونسي مقالاً ينعى فيه على جمعية العلماء إهمالها لهذه الجهة من جهات الفساد وهي الإلحاد، واعتذر عن علماء جامع الزيتونة بأنهم ـ وإن قعدوا في نواحي الإصلاح التي تخبّ فيها جمعية العلماء وتضع ـ قاموا في حرب الإلحاد بما شكرهم عليه، ولكنه حصر عملهم في هذا السبيل في خطب جمعية ينددون فيها بالإلحاد ويحذرونه، وفات هذا الكاتب الفاضل أن جمعية العلماء لم تسكت عن الإلحاد، بل هاجمته في أمنع معاقله، ونازلته في أضيق ميادينه، كما فاته أن صرعى الإلحاد لايغشون المساجد، فما تأثير الخطب الجمعية التي تلقى على المصلين؟ وهل يداوَى المريض بتحذير الأصحاء من المرض أو أسباب المرض؟ إلا أن العالم المرشد كالطبيب لا ينجح في إنقاذ المريض من الموت إلا بغشيان مواقع الموت ومباشرة جراثيم الموت "().
فالله أكبر ما أقوى المنهج السلفي! وما أبخس الأحزاب لقدره!
إذن فمواجهة هؤلاء حماية لديار المسلمين من أن تُغتال من تحتها، بجهاد المنافقين الذين يتسللون الصفوف لِواذا، قال الله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ} قال ابن القيم: " وكذلك جهاد المنافقين إنما هو بتبليغ الحجة .. " إلى أن قال: " فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواصّ الأمة وورثة الرسل. والقائمون به أفراد في العالم، والمشاركون فيه والمعاونون عليه ـ وإن كانوا هم الأقلِّين عدداً ـ فهم الأعظمون عند الله قَدْراً .. "().
ولما كان هؤلاء منضوين تحت صفوف المسلمين، فإن أمرهم قد يخفى على كثير من الناس، فكان بيان حالهم ـ لمن ولاؤنا لهم فرض علينا ـ آكد، ولذلك قال ابن تيمية: " وإذا كان أقوام ليسوا منافقين ولكنهم سمّاعون للمنافقين، قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقا، وهو مخالف للكتاب، وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين، كما قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، فلا بد من بيان حال هؤلاء، بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم، فإن فيهم إيمانا يوجب موالاتهم، وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين، فلا بد من التحذير من تلك البدع، وإن اقتضى ذلك ذِكْرُهم وتعيينُهم، بل ولو لم يكن قد تَلَقَّوْا تلك البدعة عن منافق، لكن قالوها ظانِّين أنها هدى وأنها خير وأنها دين، ولو لم تكن كذلك لوجب بيان حالهم "().
وأما مواجهتهم من الخارج؛ فلأن العدو لا يدخل عليك بيتك إلا إذا كانت منافذه مفتوحة أو ضعيفة، والفرق الإسلامية المنحرفة عن الناجية هم منافذ الكفار، وهل يجهل المسلمون أثر المتصوفة في استعمار البلاد الإسلامية وإعانتهم الكفار على ذلك؟ وقد قال ابن تيمية في الشيعة الروافض: " وهم يستعينون بالكفار على المسلمين، وقد رأينا ورأى المسلمون أنه إذا ابتُلي المسلمون بعدوّ كافر كانوا معه على المسلمين، كما جرى لجنكزخان ملك التتر الكفار، فإن الرافضة أعانته على المسلمين، وأما إعانتهم لهولاكو ابن ابنِه لما جاء إلى خراسان والعراق والشام فهذا أظهر وأشهر من أن يخفى على أحد، فكانوا بالعراق وخراسان من أعظم أنصاره ظاهرا و باطنا، وكان وزير الخليفة ببغداد الذي يقال له ابن العلقمي منهم، فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين، ويسعى بقطع أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم، وينهى عن قتالهم ويكيد أنواعا من الكيد، حتى دخلوا فقتلوا من المسلمين ما يقال: إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان أو أكثر أو أقل ... ولما انكسر المسلمون سنة غازان أخذوا الخيل والسلاح والأسرى وباعوهم للكفار النصارى بقبرص، وأخذوا من مرَّ بهم من الجند، وكانوا أضر على المسلمين من جميع الأعداء ..."().
قلت: ولذلك كان أئمتنا أفقه من أن يداهنوا المنحرفين عن منهج السلف، بل رأوا جهادهم أكبر الجهادين، كما قال يحيى بن يحيى شيخ البخاري ومسلم: " الذبّ عن السنة أفضل من الجهاد "()، رواه الهرويُّ بسنده إلى نصر بن زكريا قال سمعتُ محمد بن يحيى الذهلي يقول سمعتُ يحيى بن يحيى يقول: " الذّبُّ عن السُّنّة أفضلُ من الجهاد في سبيل الله، قال محمد: قلتُ ليحيى: الرجلُ ينفِقُ مالَه ويُتْعِبُ نفسَه ويجاهد، فهذا أفضلُ منه؟! قال: نعم بكثير! "().
وقال الحميدي شيخ البخاري : " والله! لأن أغزو هؤلاء الذين يَرُدُّون حديث رسول الله أحبُّ إلي من أن أغزو عِدَّتهم من الأتراك "()، يعني بالأتراك: الكفار. وقد وجدتُ مثل هذا عند من هو أعلى طبقةً من الحميدي؛ قال عاصم بن شُمَيْخ: فرأيتُ أبا سعيد ـ يعني الخدري ـ بعد ما كبِر ويداه ترتعش يقول: " قتالهم ـ أي الخوارج ـ أجلّ عندي من قتال عِدَّتهم من
الترك "().
قلت: ولذلك قال ابن هبيرة في حديث أبي سعيد في قتال الخوارج: " وفي الحديث أن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين؛ والحكمة فيه أن قتالهم حفظ رأس مال الإسلام، وفي قتال أهل الشرك طلب الربح؛ وحفظ رأس المال أولى "().
وقال أبو عبيد القاسم بن سلاّم: " المتبع للسنة كالقابض على الجمر، وهو اليوم عندي أفضل من الضرب بالسيوف في سبيل الله "().
وقال ابن القيم: " والجهاد بالحجة واللسان مقدَّم على الجهاد بالسيف والسنان "().
استعمال الشدة في الإنكار على المبتدعة لا يعني الولاء للكفار
من وجد في بحثي هذا شيئا من القسوة على المخالف فلم يستسغه، بل ربما قال: "يتكلم في إخوانه ويسكت عن أعدائه"! فليعلم أن الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللين والرفق كما قال الله تعالى: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقال لموسى وهارون صلى الله عليهما وسلم: {اذْهَبَا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، وقال النبي : » ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نُزع الرفق من شيء إلا شانه « رواه مسلم.
لكن إذا كان المنكر لا يغيَّر إلا بنوع من الخشونة فلا بأس باستعماله، ولو كان مع المسلمين، ألا ترى أن الله أباح القتال لذلك، وليس فوق القتال خشونة، فقال سبحانه: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ}. وقد يشتد المؤمن في إنكاره على أخيه أكثر منه مع عدوّه، ألم تر كيف لاَنَ موسى e مع فرعون، واشتد على أخيه هارون e، حتى كان منه ما قصه الله تعالى بقوله: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ}، فهل لأحد أن يحتج عليه بالولاء والبراء، متهِما له بأنه يبسط لسانه ويده على أخيه ويلطف بالطواغيت؟!
بل ربما كان النبي يُعنِّف العلماء من أصحابه إذا أخطأوا أكثر من غيرهم، وخذ على سبيل المثال قوله لمعاذ حين أطال الصلاة بالناس: » " أفتّان أنت يا معاذ؟! « متفق عليه، ويقابله تلطفه بالأعرابي الذي بال في المسجد كما في صحيح البخاري وغيره. وقال لأسامة بن زيد حين قَتل في المعركة مشركا بعد أن نطق بكلمة التوحيد :»" يا أسامة! أقتلته بعدما قال:لا إله إلا الله؟! « قال أسامة: " فما زال يكررها حتى تمنيتُ أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم ".
وقد استفاد أسامة من هذا التعنيف في النصح أيام الفتنة التي كانت بعد مقتل عثمان t، فأورثه توَرُّعا عن دماء المسلمين، قال الذهبي ـ رحمه الله ـ:
" انتفع أسامة من يوم النبي إذ يقول له : » كيف بلا إله إلا الله يا أسامة؟! « فكفَّ يده، ولزم بيته، فأحسن "().
قلت: الله أكبر! ما أعظم التربية النبوية! وما أحقر التربية الحزبية! التي مِن يوم أن حرَّمت أصل ( الرد على المخالف ) وأبناؤها لا يتورَّعون عن دماء المسلمين، اتَّخذوها هدرا باسم الجهاد، ولا تكاد تقوم فتنة إلا وهم وَقودها أو موقدوها، هذه نتيجة مداهنة بعضهم بعضا لوهْم الاشتغال بالكفار!! ولذلك قال ابن تيمية: " المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما نَحمد معه ذلك التخشين "(). إذن فهذا اللين الذي تستعمله كثير من الجماعات الإسلامية مع أفراد أو جماعات من حمقى المتهوِّرين ـ الذين كثيرا ما يتسببون في استعداء الأعداء على المسلمين ـ ليس من الولاء في شيء؛ لأنه يزيدهم إغراقا في ضلالهم لعدم شعورهم بعظم الجناية.ثم إن الشدة المسلوكة مع المسلمين أحيانا، باعثها الغيرة عليهم من أن يُرَوا ملطخين بشيء من القاذورات، والسعي في تمتين الصف وسدّ خروقه حتى لا يُؤتى من قبله، فليُعلم. ولهذا قال العلامة عبد العزيز بن باز تحت عنوان: »الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتّاب «: " ولا شك أن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت بالتحذير من الغلوّ في الدين، وأمرت بالدعوة إلى سبيل الحق بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ولكنها لم تهمل جانب الغلظة والشدّة في محلّها حيث لا ينفع اللين والجدال بالتي هي أحسن؛ كما قال سبحانه: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} وقال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ} وقال تعالى: {وَلاَ تُجادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} الآية، أما إذا لم ينفع واستمرّ صاحب الظلم أو الكفر أو الفسق في عمله ولم يبال بالواعظ والناصح، فإن الواجب الأخذ على يديه ومعاملته بالشدة وإجراء ما يستحقه من إقامة حدّ أو تعزير أو تهديد أو توبيخ حتى يقف عند حدّه وينزجر عن باطله "().
مع أن الذي يظهر من مجاملات الأحزاب الإسلامية لأهل البدع والسكوت عن أخطائهم هو أنهم لما حصروا طريق عودة عزّ المسلمين في صندوق الانتخابات تذمّروا من النقد، لأنه ربما أتلف لهم الأصوات، وهكذا السيئة تتبعها أخوات.
هذا ومن أجل أن الله فرض علينا قَدَراً وجود المخالف ـ الذي يُحسب على الإسلام ـ سلكنا طريق التصفية؛ لأن الله فرض علينا شَرْعاً الرد عليه
ـ كما بيَّنته في هذا الأصل ـ، ومن أجل أن الله كتب الرفعة لأهل العلم والتعليم ـ كما بيَّنته في الأصلين اللذين قبل هذا ـ سلكنا طريق التربية، وشرحه يأتي في الورقات الآتية.

يتبع
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 18 Jul 2010, 12:49 AM
أحمد سالم أحمد سالم غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: الجزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 608
افتراضي

الأصل السادس : التصفية والتربية
إذا تبيَّنا أن رفعة الأمة مرهونة بالعلم والعمل، وأن الأمة قد اختلفت فيهما اختلافاً كثيراً، وأنه قد علق بالإسلام ما ليس منه، وأنه لا سبيل إلى التخلص من الذل المضروب علينا من قرون إلا بالرجوع إلى الدين الصحيح، كما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: » إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلا لاينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم 1 "()،وجب المسارعة إلى تحقيق ما يرفع عنا الذل، وهو الرجوع إلى صفاء الوحيين: الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح: أهل القرون الثلاثة الأولى.
وإذ قد امتدت يد التحريف إلى صفاء الإسلام حتى لوَّثته، وإلى جماله حتى شوَّهته، كانت تصفيته من كل دخيل من أوجب الواجبات، ما دام الحق الذي بعث الله به نبيه عليه الصلاة والسلام مضمون البقاء إلى يوم تبدل الأرض والسماوات، بضمان الله القائل: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
وإذا دبّ التحريف إلى قوم، وشحَّت مناهجهم عن التصفية، أصابتهم حيرة لا يفرّقون معها بين حلال وحرام، كما روى مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: » ألا إن ربي أمرني أن أُعلِّمكم ما جهلتم مما علَّمني يومي هذا: كل مالٍ نَحَلْتُه عبدا حلالٌ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجْتالتهم عن دينهم، وحرَّمَت عليهم ما أحللْتُ لهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم: عربَهم وعجمَهم، إلا بقايا من أهل الكتاب «.
ولما كانت الجاهلية على هذا الوصف الذي في الحديث، بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم مخلِّصا لها دينها من الشوائب، ومربيا لها على الإسلام الذي ارتضاه لها ربها، وعلى قاعدة (التصفية والتربية) وإن شئت قل (التخلية والتحلية) كانت دعوة الإسلام، ففي التوحيد لا يتربى المرء عليه سليما حتى يتخلص من رواسب الشرك، ولذلك قال الله تعالى:{فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ويُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لها}، وفي التشريع لا يتربَّى المرء عليه سليماً حتى يتخلَّص من البدع، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في كل خطبة جمعة يأمر بلزوم الدين الصحيح المتمثل في الكتاب والسنة ويحذّر مما يَغشُّه ويُكَدِّر صفاءه وهو البدع؛ فقد روى مسلم عن جابر قال: كان رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش، يقول:
» صبّحكم ومسّاكم «، ويقول: »" بعثت أنا والساعة كهاتين « ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: » أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ، وتكراره لهذه الجملة دليل تأصيلها وشدّ العناية إليها. وخلاصة هذه القاعدة أنها تعني تصفية الإسلام من كل دخيل، وتربية الناس على هذا الإسلام الأصيل؛ أي تصفية التوحيد من الشرك، والسنة من البدعة، والفقه من الآراء الحادثة المرجوحة، والأخلاق من سلوك الأمم الهالكة المقبوحة، والأحاديث النبوية الصحيحة من الأحاديث المكذوبة المفضوحة ... وهكذا
تطبيق:
اجتمع الشيخ محمد ناصر الدين الألباني بعلي بن حاج القائد الروحي
ـ كما يقولون ـ للحزب الجزائري: الجبهة الإسلامية للإنقاذ وكان الشيخ على دراية دقيقة بحوادثهم، وبلغه أن مؤيِّديهم يُعَدُّون بالملايين، فكان مما سأله عنه ما أُثبتُه هنا اختصارا أن قال له الشيخ: " أَكُلُّ الذين معك يعرفون أن الله مستوٍ على عرشه؟ " وبعد أخذ وردّ، وتهرّب وصدّ، قال المسئول: نرجو ذلك! قال له الشيخ: " دَعْك من الجواب السياسي! "، فأجابه بالنفي، فقال الشيخ: " يكفيني منك هذا! ؛.
هذا السؤال تفرضه قاعدة التصفية والتربية التي هي أدق ميزان تعرف به الدعوات الجهادية اليوم؛ لأن من عجز عن تصفية عقائد مؤيِّديه ومحبيه وتربيتهم على العقيدة السليمة، يكون أعجز عن تصفية ثمراتها من أخلاق وأحكام أمة فيها مبغضوه ومحاربوه، فكيف بتربيتهم بعد ذلك؟! والله يقول: {إنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنفُسِهِمْ}، ثم الجهاد نفسه لا يكون إلا بأمة مؤتلفة القلوب؛ لأن الائتلاف رافد النصر كما قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، والقلوب إن لم تجتمع على العقيدة السلفية كان أصحابها في شقاق لايجبره اجتماعهم في صناديق الاقتراع، قال الله U مخاطباً أصحاب النبي e: {فَإِنْ ءَامَنُوا بمِثْلِ ما ءَامَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ في شِقَاقٍ}. ومهما تكن عليه الغثائية السياسية من تجميع، فإن بداية أمر عقيدتها إلى تمييع، ونهاية تجميعها إلى تفرّق وتبديع؛ لأن اجتماع الأبدان لن يكون إلا مؤقَّتاً، إذا كان عقد القلوب مشتَّتاً، ولم أجد لهؤلاء أصدق وصف من قول الله تعالى في اليهود: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جمِيعاً وَقُلُوبُهم شتَّى}.
وجماع الأمر أن الله وعد بالاستخلاف الحسن من عبده وحده بلا إشراك فقال: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِلنَّهُم مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}، ولا يجوز أن يُدفع في صدر هذا النص بضرب الأمثال التاريخية على نقضه؛ لأن المسلم وقّاف عند النص، وقد قال الله تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثالَ إنَّ اللهَ يَعْلَمُ وأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
وأما تحديد الشيخ سؤاله في مسألة الاستواء؛ فلأنها مفترق الطرق بين أهل السنة وأصحاب الأهواء، ولأنها العقيدةُ السهلة التي كان يعرفها مجتمع النبي e الذي فتح الدنيا وقاد الأمم، حتى الجواري من رعاة الغنم. وامتحان الشيخ بها جبهة الإنقاذ، مسلك سلفي وإن رغم أنف كل خلْفي، فقد روى مسلم وغيره عن معاوية بن الحكم السلمي قال: كانت لي غنم بين أُحد والجوانية فيها جارية لي، فاطلعتها ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب منها بشاة، وأنا رجل من بني آدم، فأسفت، فصككتها، فأتيت النبي e فذكرت ذلك له، فعظَّم ذلك عليَّ، فقلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: (( ادعها ))، فدعوتها فقال لها: (( أين الله؟ )) قالت: " في السماء "، قال: (( من أنا؟ )) قالت: " أنت رسول الله "، قال: (( أعتِقْها؛ فإنها مؤمنة )).
فتأمل ـ يرحمك الله ـ هذا المجتمع الذي كان يجاهد به النبي عليه الصلاة والسلام اكتمل في عقيدته حتى عند رعاة الغنم الذين تقلُّ صحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلمـ كهذه الجارية!ـ وتأمل حقيقة المجتمعات الإسلامية اليوم التي يُطمَع تسلُّق عرش الحكم بها، لتدرك البون الشاسع بين جهاد أولئك وجهاد هؤلاء، فهل استطاعت الدعوات الجهادية أن تجمع الأتباع، فضلاً عن الرعاع على »" أين الله؟ « أم هو سؤال أضحى أُضحوكةً تتندَّر بها الأحزاب في زمن تأثير الحضارات، ومحل سخرية عند منَظِّري الجماعات؟ أم أنهم فهموا ضرورة الحكم بما أنزل الله ولو أنهم ضيَّعوا الله؟! فمتى يأذن الله بعتق رقابهم ممن استذلوهم، كما عتقت الجارية بعد أن عرفت الله؟ {واللهُ غالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون}.
لكن حقيقة هذا السؤال هي استخراج حقيقة الدعوات، وتبيّن مدى خلوص النيات؛ لأن في الاهتمام بالحكم بالشريعة، وفي الاهتمام بمسألة الاستواء اهتماما بحق الله تعالى، لكن بين الأولى والثانية فرق، وهو أن للعبد في الأولى حظًّا لنفسه، وهو ما يتكرر على الألسن من استرجاع المظالم واستيفاء الحقوق، والعيش الرغد الموعود به حقًّا في قول الله تعالى: {ولو أنَّ أَهْلَ القُرَى ءَامَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّمَآءِ والأَرْضِ} أي أن حظّ العبد خالط حقَّ الرب، وأما الاهتمام بصفة الاستواء لله فهو اهتمام بحق الله الخالص، ليس للداعي إليها أدنى نصيب من حظّ نفسه، فتأمل هذا الفرق تدرك عزّة الإخلاص؛ لأن الدندنة حول قضية الحكم بما أنزل الله، مع إهمال قضايا صفات الرب الخالصة أو تأخيرها أو تهميشها ـ وهي أشرف ما أنزله الله؛ إذ شرف العلم بشرف المعلوم ـ لأكبر دليل على أن في الأمر شائبة، تؤكد ضرورة الرجوع إلى دعوة الأنبياء الذين قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه}، فقدَّموا الاهتمام بشرك القبور على الاهتمام بشرك القصور ـ إن صح هذا التعبير ـ، لهذا لم تكن الإمامة من أصول الإيمان.
تنبيه:
أرسل علي بن حاج رسالة سرية بتاريخ: (20صفر 1415هـ ) إلى الجماعات المسلحة يقول في ق (2) منها: " ولذلك رأينا في تاريخ علماء المسلمين أنه يكون بينهم خلاف حتى في بعض المسائل العقائدية فضلا عن الفرعية، ولكن يَخرجون في الجهاد صفاً واحداً أمام العدو الكافر، فكان الجيش يَضمّ في جنباته من شتى المذاهب الفرعية ومجاهدين من الفِرق الإسلامية! ... ".
بل قعّد بعدها قاعدة غريبة ادّعى فيها الاتفاق، وهي قوله: " إن المسائل المختلفة لا إنكار فيها!!
قلت: أولا: لا ريب أن المسلمين ـ بعد الرعيل الأول ـ قد اختلفوا في أعظم ما في هذا الدين، ألا وهو اختلافهم في ربهم: في أسمائه وصفاته، فيكون حينئذ إنكار السلف على المخالفين في ذلك جهداً ضائعاً عند هذا؛ لأنه خلاف الاتفاق المدَّعَى!
ثانيا: ليس غريباً أن يخالف ابنُ حاج العلامةَ الألباني في عدم اشتراط المعتقد الصحيح للنهوض بالأمة؛ للفوارق العلمية والمنهجية التي بينهما، ولكن الغريب ألا يصدع ابن حاج برأيه عند الشيخ! وأن يكتم عنه ( كلمة الحق هذه! ) ويُظهر الوفاق له تمويهاً على السلفيين! ثم يَكتبها في الظلام!! {واللهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُحِيطٌ}.

يتبع
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 18 Jul 2010, 12:50 AM
أحمد سالم أحمد سالم غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: الجزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 608
افتراضي

--------------------------------------------------------------------------------

مختصر تاريخ الدعوة الحديث في الجزائر
لما كان حديثي عن أوضاع الجزائر في هذا الزمن، لزمني أن أقَدّم للقارئ إلماحة عنها ليفهم ما يأتي بيانه، وقد أوجزتُ في ذلك جداً حرصاً على تصغير حجم الكتاب، ولذلك فقد تلحظ أنني خنقتُ الكلمات خنقاً! إلا أنني حرصتُ على الأهم فيما أظن. ثم لعلّك تارك بعض ما كتب ههنا في انتقاد بعضهم بأسمائهم وضائقٌ به صدرُك أن يقال: إنما هي غيبة وأكل لحمِ جيفة؟! فاطمئنَّ؛ فإن نيَّتي في ذلك الدفاع عن الدين، وما كان كذلك فذكاته شرعية شريفة. وقد اكتفيت في ذلك بالإحالة على الأحياء، والذمة تبرَأ بالإسناد، وما نَدَّ عنه قلمي أو شرَد عنه ذهني فعذر الاختصار فيه باد، فأقول وعلى الله الاعتماد:
عَرَفَت الدعوةُ السلفية نشاطها الكبير في الجزائر أيام الاستعمار الفرنسي على يد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كان يرأسها الشيخ عبد الحميد ابن باديس ـ رحمه الله ـ وكان من علمائها المبرِّزين الشيخ الطيب العقبي، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والشيخ مبارك الميلي، والشيخ العربي التبسي، وغيرهم ... وتوفي جلُّهم ـ رحمهم الله ـ أيام الاستعمار، ومن بقي منهم فقد انحسر نشاطه السلفي جدا من يوم أن حُلَّت الجمعية بعد الاستقلال، وأضحت الدعوة لدى الإخوان المسلمين موضع استغلال، على حين جهل الأمة، وقلة المعارض من أهل البدعة وأهل السنة. مع العلم أنه لتصلب الجزائريين في دينهم لم ينجح فيهم التهويد ولا التنصير، ولا كان للقاديانية وجود ولا لجماعة الهجرة والتكفير، ولا سُمع فيها بدعوة رافضية، بل كل ما هنالك دير تصوف وصوامع إباضية.
بدأت الدعوة ساذجة على نشاط ملحوظ من أتباع فكر مالك بن نبي
ـ رحمه الله ـ يَرون أن العمل الأكبر يكمن في مسابقة الحضارة، ثم لأسباب الإمارة انقسم الإخوان المسلمون إلى إخوان عالميين وآخرين إقليميين اشتهروا باسم ( الجَزْأَرة )()، بينهم بأس شديد وتبديع، ثم عن العالميين انشقت جماعة النهضة وهي أبعدها عن التمييع، وأقربها عناية بالتربية، لكن بلا تصحيح ولا تصفية، وظهرت دعوة جماعة التبليغ، على ضعف حيث برَّز العلم، وقوة حيث ضعف، إلا أن انتشارها ليس بذاك. ولما كان جميع الإخوان بعقد السياسة يتناكحون، وبماء التصويت يتناسلون، وفي علم الكتاب والسنة يتزاهدون، وُلِد لهم مولود عاقّ، سمَّوه بالهجرة والتكفير كيلا يكون بينه وبين نسبهم إلحاق، وادَّعوا أنه خرِّيج السلفية وأهل الأثر، ولكن الحق أن » الولد للفراش وللعاهِر الحَجَر «ier New Euro"، وقد شهد العدول يوم كان يُلقَم بأيديهم ثدي التكفير من صحف سيد قطب، كما قيل:
فإن لم تكُنْهُ أو يكُنْهافإنّه أخوها غَذَتْهُ أمُه بلبانها
وهم جميعا وإن كانوا لا يَرضَون بحسن البنّا بديلاً، فلا يقبلون في سيد قطب جرحاً ولا تعديلاً. أما تفرقهم فنتيجة حتمية لمن غاب عنده أصل
( التصفية والتربية ).
عاش هؤلاء آنذاك في صراع ضائع مع الشيوعية، أمضى سلاحهم: المسرحيات والأناشيد ورياضة ركضٍ كركض الوحشي في البرية.
ولغياب أصل الرد على المخالف، مع ظهور قرن الشيطان في إيران وتتابع التأييد المجازف، تلَقَّى هؤلاء ـ عن بكرة أبيهم ـ دعوة الخميني بكل ترحاب وتحنان، ولغياب أصل السلفية عندهم لم يشعروا بأدنى إثم وهم يجتمعون بمن يكيل لأصحاب رسول الله e أفظع السباب وأقذع الشنآن، فما أوسع صدورهم لكل خلاف عقدي ما لم يكن سلفيا! وما أضيقها على كل خلاف حزبي خاصة إذا كان النقد سلفيا! وتراهم من كل حدب ينسلون، وإلى محاضرات الرافضي رشيد بن عيسى يتنادون، في عقر دارهم وبدعوة منهم، لا يفتر عن التفكه بأعراض السلف الصالح وهم يضحكون! {وسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُون}().
ثم لم يلبثوا مليًّا حتى نجم التشيّع بعد أفول، وأخذ بعض أفذاذهم للرفض يتشيَّعون، عن اعتقاد جازم وحماس قوي، فتدارك الأمرَ الإقليميُّ محمد سعيد الونّاس، لكن بصوت خفيّ وعلم غير حفيّ؛ لأنهم لا يزالون يلَقَّنون ويلقِّنون: لا تُظهروا الخلاف بينكم؛ فإن العدوّ متربِّص بكم!! وكانوا من قبل هذا يَرمون السلفيين ـ إذا حذَّروهم من الشيعة الروافض ـ بتفريق الصف!! وأيم الله! إنه لبسبب تأييد هؤلاء لهم سياسياً صار للروافض في الجزائر وجود، وإلا فمن الذي فتح لهم الباب غيرُ ذلك الحزبي، وكل حزبيّ للمبتدعة وَدود! فهل يَرجعون بنا إلى تشيُّع بني عبيد؟ وليس فيهم من يقطع دابرهم كالقيروانيّ ابن أبي زيد؟ أم لم يعرفوا فقيههم هذا إلا بالمالكي صاحب الرسالة؟ فلِمَ يكتمون حربه للتشيّع وأشاعرة الضلالة؟!
ولما كان العمل السياسي طاغياً على هذه الأحزاب، لم تجد العقيدة بها في دعوتهم محلاًّ من الإعراب، ومن كان يعلِّمها يومذاك ـ كعلي بن حاج ـ كان يعلِّمها على الطريقة الأشعرية، وعلى رِسْلكم قبل أن تجيء قلوبكم ناكرة؛ فإن كراريس تلاميذه الأولين شاهدة سافرة.
وقبيل سنة (1400هـ)، تعلَّم شيئا من السلفية، ودعا إليها على تقصير ملحوظ في جنب العقيدة، وكان بينه وبين عباسي مدني ردود عنيدة، أوشكت على تحبيب السنة للشباب لولا أن أذهبَ بركتها تدخّلاته السياسية، منها: دخوله في الصراع المستمر في الجامعات بين الطلبة الإسلاميين والشيوعيين.
وفي السنة التي بعدها نشب اقتتال بين هؤلاء، حمل على إثره مصطفى أبو يعلي وجماعته الإسلامية السلاح، وورَّطوا معهم علي بن حاج مع أنه كان يتظاهر بنهيهم عن مثل هذا الكفاح. وقامت هذه الجماعات كلها ـ ولم تبرز الفُرقة بينها بعدُ ـ بمظاهرة في الجامعة المركزية بالجزائر العاصمة، يطالِبون فيها بتحكيم الشريعة، وكان ـ يومها ـ علي بن حاج يقول: " أعطوني دليلاً واحداً من الكتاب أو السنة على مشروعية المظاهرات وأنا معكم "!! لكن مشكلته أنه إذا خطب أظهر الوفاق للمتظاهرين، والله أعلم بما هو في قلبه دفين.
من أجل ذلك ضيَّق عليه النظام، حتى خطب في الناس قائلا: " لقد خُيِّرْتُ بين ترك الخطابة أو السجن، وأنا أختار ما اختار يوسف عليه الصلاة والسلام حين قال :{رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِليَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}"!! وكانت هذه الدروشة مضرب المثل في الشجاعة لدى الرعاع، إلا أن أحد الفطناء اعترض عليه بعد ذلك قائلا: " لقد تلوْتَ في خطبتك آية في غير محلها؛ وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام قال ذلك حين خُيِّر بين الفاحشة والسجن، أما أنت فخُيِّرتَ بين ترك وسيلة من وسائل الدعوة وبين السجن، وقد علَّمتَنا مرارا أن الحكومة لو منعتك من كلمة المسجد، فلن تَحُول بينك وبين الدعوة، فلك الكلمة في المقهى والوليمة والمأتم وغيرها، فلا أظنك بهذا الخطأ تدخل السجن إلا عقوبة من الله .. ".
وأُدخل السجن هو وكثير من الدعاة، وأُرْغم بعضهم على الإقامة الجبرية، وضُيِّق على الدعوة بعدما كانت في غنىً عن ذلك.
ولا بدّ من التذكير ههنا أن عباسي مدني من غلاة حزب ( الجَزْأَرة )! وهو كذلك إلى الآن! وإنما الذي جمعه بعلي بن حاج هو أمران:
الأوّل: أنّ المنَظِّرين الحقيقيّين للجزأرة منعوه من القيادة بعد نازلة الجامعة المركزية آنفة الذكر؛ يوم أن أجمعوا في السجن على أنه ـ بحمقه وتسرّعه ـ أَوردهم شرّ الموارد!! فنكايةً منه بهم انضمّ إلى ابن حاج.
الثّاني: النزعة السياسية الغالبة عليهما لم تُبقِ للولاء العقديّ محلاًّ!

المرحلة الذهَبيَّة للدَعْوَة
أقول بصراحة: إن أزهى أيام الدعوة التي عرفتُها عندنا هي السنوات الخمس التي تلت هذه النازلة، وقد كانت قبلها الجماعاتُ آنفة الذكر تجمع غثاءً بلا علم ولا تربية، ثم تفرِّقه؛ إما أن تفرِّقه هي بتحزباتها، وإما أن تزُجَّ به في مغامرات خطيرة لتقدِّمه في الأخير للأنظمة قرابين سياسية، ولا يَرْعَوُون! وكأن دعوتهم لا تزيد على تجميع هذا الغثاء السياسي، وبطن السياسة بأضعاف أمثاله وَلود، وبعد كل عملية إجهاض يعلِّق بعضهم لبعض وِسام المجاهد ويُنادَى عليه بالخلود!!
لكن بعد أن ولَّت الدعوات السياسية إلى انحسار، تعلَّمنا على أيدي طلبة العلم علماً جمًّا، وكثرت المساجد وازدحمت بأهلها، وكادت العقيدة السلفية تتبوَّأ من الديار الجزائرية مبوَّأ صدق، وأُخفيت مظاهر الشرك في كثير من المدن، وعَضَّت الطرقية الأنامل من الغيظ، حتى رأينا منهم مَن لا يلبَس عباءته إلا متخفيًّا في زاويته، فإذا خرج منها خلعها! وطُمِس على كثير من البدع، بل ربما دخلتَ مسجدا فلم تصادف فيه بدعة، لا في بنائه، ولا في تزويقه، ولا في صلاة إمامه، وتعلَّم الناس كثيرا من الآداب الإسلامية التي شحَّت بها التخطيطات السياسية! وعظُمت ثقة الناس بدعاتهم، الذين كان الواحد منهم ينتقل من قرية إلى قرية في أنصاف الليالي لا يخاف إلا الذئب على نفسه، بل كان ينتقل بين الثكنات العسكرية يُعلّم الهدى حتى انتشر الوعي في أوساطها.
والسر في ذلك هو أن هذه المرحلة كانت أكثر الأزمنة نشراً للعلم الشرعي منذ الاستقلال، ومن عجيب الموافقات أن هذا العمل قد اجتمع عليه ثلاث فئات هي:
1 ـ السلفية: لأن العلم أصل دعوتها، ونشر كتب السنة أكبر نَشْوَتها، خاصة من قِبل بعض خرِّيجي الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، الذين لم تَغْتَل عقولَهم الدعواتُ الحزبية، كما كان لرسائل الدعوة التي يرجع بها المعتمرون أثر بالغ في نشر العلم الصحيح؛ لأن جلّها في أبواب العقيدة وأنْعِم بها عقيدة! وأعظَم منه قيام الملحق الثقافي السعودي بتوزيع » مجموع فتاوى ابن تيمية « في الأوساط العلمية عن طريق بعض الفضلاء بوزارة الشئون الدينية، واستفاد الأئمة منه استفادة عظيمة لولا أن منَعَتْه بعدها يد طُرُقِيَّة مذهبية شقيَّة.
وأعظَم من هذا كله أن الديار الجزائرية حظيَت بعناية أكبر محدِّثي هذا العصر، ألا وهو الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ حفظه الله ـ؛ فقد أخبر الثقة أنه حضر عنده في بيته، فجاءته خمسون مكالمة هاتفية من الجزائر في مجلس واحد! فكان ـ حفظه الله ـ غرسه بالأردن، وثمار دعوته ممتدة إلى الجزائر، فسبحان الله الهادي! أقول هذا لأن الكثير ظنّ أن سلفية الجزائر هي مولود ( الجبهة الإسلامية للإنقاذ )، كلا! فإنه لا وجود لهذه الجبهة يومئذ، بل كان علي بن حاج في السجن الأول نسياً منسيًّا.
2 ـ جلّ الجماعات الأخرى التي سبق الحديث عنها: وهي وإن كانت لاتؤَصِّل دعوتها إلا على السياسة، فقد أرغمتها سياسة الحديد والنار ـ بعد نازلة الجامعة ـ على احتراف العلم وترك السياسة إلا في الظلام. وقد كنتُ انبهرتُ يوم دخلت مساجد بعض الجامعات، فرأيتُ فيها لأول مرة لوحة منصوبة على الجدار، كتِب عليها في يوم: أحكام التجويد، وفي آخر: فقه، وفي ثالث: علوم القرآن ... الخ، مع أنني لم أكن أسمع فيها من قبلُ إلا قال المودودي، وقال سيد قطب، وقال سعيد حوَّى ... وأقرب علم إلى الشرع عرفتُه عنهم هو السيرة النبوية، لكن دراستهم لها كانت لأغراض سياسية، حتى لكأنهم لا يعرفون منها إلا الغزوات! ولذلك فإن أشد ما يكرهون عند تدريسها هو أن يشوَّش عليهم بدراسة أسانيد الروايات، خاصة إذا كانت تُفَوِّت عليهم استنباطات حركية!! أو توقفهم عند أحكام فقهية قد تقيِّد حريَّتهم الحركية أو تأخذ من وقتهم، والقطار السياسي لا ( يبرمج ) لتَوقُّفه مثل هذه المحطات، إنه لا يرضى إلا بمحطة البرلمان! المهم أنه مَهْما تكن نيَّتهم في تحوُّلهم العلمي، فقد كانت مرحلة أفضل من سابقتها
3ـ وافق هذا إقامةُ الدولة معارضَ كبيرة للكتاب، مع إقبال على المؤلفات الإسلامية يفوق الوصف، وربما بيع ألف ألف كتاب في أسبوعين فقط.
وظهرت ثمرة الدعوة العلمية في سرعة فائقة، وكانت الصدارة فيها للدعوة السلفية التي لقيت في العاصمة حفاوة رائقة، وبدأت تبسط أجنحتها خارجها على الرغم من قلة دعاتها وكثرة عِداتها، وقلة مراجعها العلمية، وكثرة محاربيها بالمؤتمرات الرسمية، لكن مساجدها هي المطروقة، ونشراتها هي الموثوقة، فقد كان الطلبة يحضرون دروسها بانتظام ومواظبة، وربما بلغ عددهم الألفين في المجلس الواحد، ليس في الجمعة، بل في درس الليل، أما الجمعة فيسافَر لها من مئات الأميال، وظهرمن الشباب السلفي مَن عُلِّقت عليه آمال وآمال: في شغفه العلمي، والتزامه العملي، واشتهر بحفظ القرآن، حتى كان مَوْئل الباحثين عن أئمة رمضان، مع التنبيه على أنه الوقت الذي أفلست فيه الجماعات الأخرى، وكل من أضحى سلفياً من رموزهم ففي هذه المدة القصيرة، وفيها برز انقسام الإخوان بجلاء إلى الكتل الثلاثة التي ذكرتها في أول هذا الفصل.
وإذا رأيتني هنا أنحى باللوم الشديد على بعض الدعاة وأغضّ الطرف عن حسناتهم؛ فلأنني لا أرى من تسبَّب في وَأْد هذا الخير العظيم إلا جانيا على الإسلام والمسلمين أعظم جناية، ولو رأيتَ ما رأيتُ لقلتَ: ليس الخبر كالمعاينة.
ومن بركة العلم أن كثيرا من القوانين الوضعية أخذ في انحسار سريع، على الرغم من ندرة التعرض لنقضها، فقد أدرك الناس ـ بتعلم السنة ـ مناهضتها للشرع، حتى الإداريّ الذي يحفظها أضحى لا يعرفها إلا حِبرا على ورق؛ لأنه يسمع في مسجده أو في مكتبه ما يُضْعف قناعته بها. وأعرف من هدم ستين قبّة في منطقة واحدة من الغرب الجزائري، ووجد من المسئولين من يدعمه على الرغم من إرجاف الصوفية القبوريين، وأضحت المحافظة على الصلوات في العمل لا تقبل الجدل، بل فَرض القانونُ بناءَ مسجد في كل مؤسسة، وكاد يُقضى على مشكلة الصيام بالحساب، بل قُضي عليها لولا تقصير بعض الثقات الموكَّلين بترقّب الهلال، كما قلَّت بيوت الفساد والخمارات وعوقب المفطر في رمضان بلا عذر عقوبة رسمية، بل لقد نوقش في البرلمان لأول مرة بشكل مفتوح: منع الخمور، ورياضة المرأة، وغيرها من القضايا وفق الأحكام الشرعية.
أما المظاهر الإسلامية كالجلباب للمرأة والزي الإسلامي للرجل، فلم تعُد محل نقاش، حتى اللحية التي يمنعها القانون العسكري على الجنود، قد رُئِيَ منهم أنفسهم من يوَفّرها، وحظِيَ ذوو المظاهر الإسلامية بتوقير كبير لدى الناس.
وأما من الناحية الأمنية فقد كانت الجزائر من آمَن بلاد الله؛ وقد كان الواحد منا يمكث سنوات متتابعات لا يَحمِل معه أوراقه الثبوتية! وكانت الشُّرَط نادراً ما يحملون معهم السلاح، بل ذُكِر لي أن بعضهم كان يضع في حزامه خشبةً تُشبِه المسدَّس بَدَله!
أكتب هذا تذكيراً بأصل ( نيل السؤدد بالعلم )، ليَقْصُر الدعاة من زهدهم في نشر العلم الصحيح؛ لأنهم إن لم يَحْرِموا الناس من بركته، وظهر في الأمة الإخلاص لله في العمل به، غيَّر الله ما بهم من بأس. وإنما عربون الفتنة في انصراف العلماء عن تعليم أمتهم الكتاب والسنة أي العلم الذي يعني الجميع، إلى الجهد الضائع في السياسات العصرية التي لا تعني إلا فئة محصورة على أكبر تقدير، وهذا خلاف سيرة النبي فعن جابر قال: مكث رسول الله بمكة عشر سنين، يتبع الناس بعكاظ ومجنة، وفي المواسم بمنى يقول: (( من يُؤويني؟ من ينصرني حتى أبَلِّغ رسالة ربي وله الجنة؟ ))، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر ـ كذا قال ـ فيأتيه قومه فيقولون: " احذر غلام قريش لا يفتنك "، ويمشي بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب، فآويْناه وصدَّقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن، ويُقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيُسلِمون بإسلامه، حتى لم يَبق دار من دور الأنصار إلا وفيها من المسلمين يُظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعا، فقلنا:
" حتى متى نترك رسول الله يُطرَد في جبال مكة ويخاف؟ "، فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدِموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين حتى تَوافينا، فقلنا: يا رسول الله! نبايعك؟ قال:
» تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله، لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني، فتمنعوني إذا قدِمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة ... «
من مظاهر رفع الله لأمة العلم أن الشيوعيين ـ الذين كانوا يحاولون التسلّل في الدولة التي كانت لهم بالمرصاد آنذاك ـ قلُّوا بصفة مدهشة! واعتزلهم الناس، إلا أنهم لم ييْأسوا، فحاولوا بكل وسيلة ضرب الإسلام، فلم يجدوا أنفع لهم من استفزاز شخصية إسلامية ثورية، يستطيعون التحكم فيها بالتهييج السياسي، ويبدو أنهم لم يجدوا أحسن من علي بن حاج في شبابه وقوة نشاطه، وسحر بيانه وشدة نقمة سجين على نظامه، فأُخرج من السجن قبل انتهاء مدته، ثم هُيِّئَت له ثورة شعبية! عُرفت بثورة (5 أكتوبر 1988م)، وزُعِم أنها شعبية شعبية!! وزُعِم أن أمن الدولة مُنِع من التدخل!! وقُرْقِر في أذن علي بن حاج أن ( الشعب ) ينتظر كلمة المسجد!! فجعل يقذف بلسانه ذات اليمين وذات الشمال، وكان جلّ حديثه بل قُلْ كل حديثه عن السجن والحكومة، فنصح له الدعاة السلفيون بل وغيرهم لكن بلا جدوى. ثم نُصِب له الفخّ السياسي: التعددية الحزبية، وقيل للناس هل أنتم متحزِّبون؟! لعلنا نتَّبع الكثرة إن كانوا هم الغالبين؟! فاستجاب لهم أصحاب الوعي السياسي عن بكرة أبيهم!! مِن الجماعات الإسلامية التي هي على مستوى تحديات العصر!!! لأنهم يكثرون عند الطمع، ويقلُّون عند الفزع، و(اليد الشعبية!) تتصيَّدهم حزباً حزباً، وخَطَبَ العدوُّ دعاةَ الحماسة، وتَمَّ النكاح حتى تخلَّقَت الحزبية في ظلمات ثلاث: ظلمة الجهل بالشريعة، وظلمة إغلاق العقل عند شباب حديد بالطبيعة، وظلمة الاستفزاز الخارجي الذي لا يألوهم خبالاً ولا مكرًا ولا خديعة! وكَوَّن علي بن حاج حزبه في ليل من السياسة غاسق، وسمّوه: ( جبهة الإنقاذ الإسلامية )، ومن يومها والجزائر تستغيث: هل من منقذ؟!
حقيقةً! إنّ فتنة هؤلاء الخطباء في قومهم أعظم فتنة؛ لأنهم ملَقِّحوها! ويا عجباً! كيف لا يُقلَّدون عارها وقد أضرموا نارها؟! وهم أدوات في أيدي عدوّهم يحرِّكها كيف يشاء، قال خبير الفتن حذيفة بن اليمان t: " إنّ الفتنة وُكِلت بثلاث: بالحادّ النحرير الذي لا يرتفع له شيء إلا قمعه بالسيف، وبالخطيب الذي يدعو إليها، وبالسيِّد؛ فأما هذان فتبطحهما لوجوههما، وأما السيّد فتبحثه حتى تبلو ما عنده "().
وطبيعة التحزب تغنيك عما يتبعها من عنف، كانت تُستدرَج إليه الجبهة في سرعة جعلت ( الأحزاب الإسلامية ) الأخرى مقبوضة اليد، توجِس من التحزب خيفة، ولكن ما دام لا بد ـ عندهم ـ من البديل ولو لم يكن مشروعاً، فقد أنشأوا لهم: ( رابطة الدعوة الإسلامية )، لتكون لها الوصاية الدعوية على غيرهم، وأوغلوا فيها عباسي مدني وعلي بن حاج ليكونوا تحت عينهم، وتَوَّجوا الإقليمي الشيخ أحمد سحنون كرئيس شرفي، والرئاسة الحقيقية ترجع إلى حِرَفِيِّي الاحتيال في حلبة النطاح الحزبي: إما إقليمي، أو إخواني، أو نهضوي، أو رافضي ...! وما سُمِّيَت رابطة إلا لأنهم يربطون عقدها، وكلٌّ فيها بسحر السياسة نافث، فنعوذ بالله من شر النفاثات في العقد.
لكن رُقيتها لم تفلح طويلا في علي بن حاج رغم اجتماع النافخين فيه، فكان كلما أراد أن يخالفهم فعل ولم يبالِ بمخالفيه، من أجل ذلك استشارني بعض الإقليميين في أن يتَخلَّلوا صفوف جبهة الإنقاذ، فقلت: ولِمَ؟ قال:
" لنُخَفِّف من جنون الرجلين: مدني وابن حاج! "، فقلت: " إذن سيُوَرِّطانكم فيما تكرَهون "، فلم يقبلوا النصيحة، وانخرط كبيرهم محمد سعيد الونّاس، وزعموا: " أنه لا يزيد على وظيفة الحماية المدنية {كُلَّمَا أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ} بأيدينا!"، واتَّخذ الجميعُ من السياسة جارحةَ صَيدٍ يَجْمعون بها الرغوة، واتَّخذها أعداؤهم آلةَ كَيدٍ يَجهضون بها الدعوة، ولذلك لم يمض إلا زمن يسير، وإذا بالجميع بحمأة الفتن يُكوَى، والله يهديهم.
أما الإخوان العالميون فقد أظهروا بقوة رفضهم للتحزب، وتظاهروا بسلوك طريق التربية، وأعلن ذلك أميرهم محفوظ نحناح في الجرائد بلا خفاء، وهم يترقَّبون يوم مذبحة الجبهة ليقال لهم: يا لكم مِن حكماء!، ولكن ذلك لم يحصل، بل هالهم أن نجحت الجبهة في الانتخابات البلدية وامتدّ سلطانها، وظنوا المُلْك غنيمة باردة، فلم يلبثوا إلا قليلا حتى قصروا عمر الحكمة وخلعوا برقع التربية، وقالوا: " السياسة من الدين ولا بد من الحزبية! "، لكن قطار الجبهة حشد الحشود ولم يُبقِ لهم من الأصوات ظَهراً مركوبا إلى الحكم إلا بحّة شيوعية ووطنية، فكانوا كالشاة العائرة بين غنمين، وأخيرا تحالفوا مع الأحزاب الشيوعية والوطنية! نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
وفي آخر سنة (1411هـ) غيَّر النظام الحاكم قانون الانتخابات، ورأت جبهة الإنقاذ أنها مكيدة مدبَّرة، فدعت إلى إضراب عام عن العمل، واعتصموا ببعض الساحات العامة، وبدأ الجدّ يظهر بعد هذه ( المسرحية )، فمِن الجبهة عنف اللسان، ومِن مخالفيهم عنف السِّنان. وبينما أنا في بيتي في حيّ يقال له: جسر قسنطينة، إذ سمعت صارخا من مكبِّر صوت المسجد ينَدِّد بفعل بعض عسكر الدولة، لكنه أرشد إلى الصبر، فحمدت الله. ولم ألبث إلا قليلا فإذا بصارخ آخر من مسجد ثان يكرِّر التنديد، لكنه مصحوب بالنداء إلى الجهاد!! فقلتُ في نفسي: " هذا ( حزب إسلامي ) يريد إقامة دولة الإسلام وقد عجز عن توحيد كلمة مسجدين في هذا الظرف العصيب؟ يا لها من مغامرة يُساق إليها بلد مسلم! قد فعلْتَها بهذه الأمة يا ابن حاج!" ففزعت إلى الصلاة، ولم أشعر حتى فاضت عيناي بالدمع، وجال في مُخَيَّلتي قصة حماة بسورية، {ولَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
وفي سنة (1412هـ) دخلت الأحزاب الترشيحات البرلمانية، وفازت جبهة الإنقاذ في الدور الأول منها، ثم تغيَّرت الأوضاع فجأة، واستقال رئيس الجمهورية ابن جديد، واستبدلت الحكومة بأخرى ...
فلجأ خطباء الجبهة إلى منابر المساجد مستنفرين الأمة إلى الجهاد؛ يتلثَّم الخطيب كيما يُعرَف، فيشتم ثم يصلي بالناس الجمعة ثم يفرّ! وربما فرَّ قبل الصلاة!! وإذا حضرت الشرطة لم تجد إلا الأبرياء، فتأخذهم بجريرة أولئك الأبطال! أبطال هذه اللعبة الصبيانية ـ وإن رأوها مناورة حركية ـ!! ودخلوا في ( مضاربة بلا رمح، وليل بلا صبح ).

يتبع
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 18 Jul 2010, 10:59 PM
أحمد سالم أحمد سالم غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: الجزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 608
افتراضي

--------------------------------------------------------------------------------

علي بن حاج والعلماء
لم يتعلم هذا الشابّ على أيدي أهل العلم، فتكوينه العلمي حصيلة دراسته على الكتب، ومن زعم أنه تتلمذ على يدي الشيخ عبداللطيف سلطاني أو الشيخ العرباوي ـ رحمهما الله ـ فقد غلط، بل ماتا وهما ساخطان عليه، وهذا شيء يعرفه كل من يسكن عاصمة الجزائر، ثم كل ما هنالك أن الرجل حضر بصفة متقطعة جداً بعض الدروس التي كان يُلقيها الشيخ العرباوي في مسجد
» جنان المبروك « في شرح كتاب » بداية المجتهد « لابن رشد.
وقد بدا لي من خلال معرفتي به الطويلة أن السجن الأول ـ قبل فتنة الأحزاب هذه ـ أثَّر فيه أثراً بالغا، وذلك من ناحيتين:
الأولى: أنه أخبرني هو أنه عكف على كتب الإخوان المسلمين وفَلاَها فَلْياً، بغرض انتقادها ـ كما زعم ـ وسمى لي منها كتب محمد الغزالي والقرضاوي وسيد قطب، لكنه لم يلبث أن تأثر بها؛ يدلُّ عليه انقباضه من العلماء بعد خروجه من السجن الأول، ومن العلماء السلفيين خاصة!
ولئن قلتَ كيف يستقيم هذا ونحن نسمع أنه سلفيّ؟
قلت: إن الذي لم يقنع بما عليه السلفيون منذ عهدهم الأول حتى يبتدع سلفية حركية، لن يجيء ـ مهما طوَّر الأسلوب وحوَّر في العبارات ـ إلا ببنت الإخوانية! ولو قرأتَ لهذا الرجل ما كتب لما استغربت،كيف وجلّ نقولاته عن الإخوان، من سيد قطب وأخيه محمد وعبدالقادر عودة وصلاح الخالدي وحسن البنا وحتى من محمد عبدالقادر أبي فارس وغيرهم ممن تقرأ أسماءهم في كتبه مثل كتاب » فصل الكلام في مواجهة ظلم الحكام «، ولئن أخذ ومضة من كتب ابن تيمية فمن باب قوله تعالى: {وإنْ يَكُن لَهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِين}، مع ذلك فيُفصِّل كلامه على قدّه ببتر نصوصه، واقرأ إن شئت ما كتبه في حكم الإضراب، ينكشف لك ما قلته بلا ارتياب.
وهذه عاقبة من لم يسعْه ما وسع السلف، وشبَّهتُ حاله في تأثّره بالإخوان ـ وهو يريد انتقادهم فيما زعم ـ بحال الغزالي الذي قال فيه أبو بكر بن العربي: " شيخُنا أبو حامد: بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيَّأهم فما استطاع! ".
ولا يخفى على من جرَّب الجماعات المعاصرة ما في منهج ( الإخوان ) من الازدراء بأهل العلم، وإلا فخبِّروني من أول من نبزهم بعلماء الحيض والنفاس؟! وبعلماء القشور؟! وبعلماء البلاط؟! وبالذين يعيشون القرون الوسطى؟! وبعلماء الكتب الصفراء؟! وبعلماء البدو؟! ..).
الثانية: ما لقيه في السجن ورَّثه الانتقام للنفس، وكرَّه إليه أهل العلم الذين لا يشاركونه الرأي في مصادمة الحكومات، وعلى هذا أمارات ظاهرة، أذكر منها:
1 ـ عند خروجه من السجن نهاية سنة (1407هـ)، ألقى دروسا في موضوع الكبائر من الكتاب المنسوب للذهبي ـ رحمه الله ـ في ذلك، فقال في أول درس له: " درج العلماء على البدء بكبيرة الشرك، وأنا أرى البدء بكبيرة ( كتمان العلم )؛ لأنَّه لولا كتمان العلماء الحقَ ما ظهر
الشرك .. "!! وهذا مسجَّل في أول شريطٍ له في » الكبائر «، ومع أنه قد قيل إنه تراجع عن مسألة الأولية، فهل تراجع عن نفرته من أهل العلم؟
2 ـ في رمضان سنة (1408هـ) كان يتجهَّز لأداء صلاة عيد الفطر قبل الدولة من أجل رؤية الهلال، فدُعيتُ إلى مجلس هو فيه، واقترحتُ على الحضور خطة لحفظ الدعوة من الاختلال فيما أظن، ودار الحوار الآتي:
قلتُ لهم: أتعلمون أن فيكم عالما؟ فأجابوا جميعا بالنفي، بما فيهم هو.
قلت: بما أن الخطأ في هذه القضايا الكبيرة وارد جدا على غير العلماء، وأنه قد يكلف الأمة دماءها وأعراضها، فأنا أقترح عليكم أمرين هما:
أ ـ تركُ الخوض في المسائل التي هي أكبر من حجمنا، وإسنادُها إلى أهلها مهما ابتُلينا بإرشاد الناس، ومن فضل الله علينا أننا لا نختلف في المرجع المؤهَّل لها، فالسلفيون لا يعرفون اليوم على وجه الأرض أعلم من الشيخ الألباني والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين وإخوانهم من أهل العلم بالأثر، ومن فضل الله علينا تيسُّر الاتصال بهم، وتواضعهم لكل سائل، وتوحيد مصدر التلقي من أعظم نعم الله علينا.
ب ـ التشاور فيما بيننا في فهم أجوبتهم، طمعا في جمع الكلمة ما استطعنا إليه سبيلا، فوافق الجميع إلا ابن حاج، قال قولة غريبة حين قال:
" كيف لا أُفتي حتى أسأل العلماء؟! هذا إرهاب فكري!!! .. وقد جرَّبناهم فوجدناهم لا يكترثون لقضايا المسلمين ...! "، ثم عرَّض ببعض علماء السعودية قائلا: " بدليل أنني كتبت إلى أحدهم بعشرة أسئلة أو أكثر، فلم يُجب إلا على اثنين منها!! ".
ثم بعد أن طالت مناشدة الحضور له من بعد صلاة الليل إلى أن كاد يفوتنا الفلاح قال: " نزولاً عند رأي الإخوان، فأنا أوافق و( أُمَشّيكم ) في هذا العيد، لكن إياكم أن تؤخِّروا عنا أجوبتهم إلى عيد الأضحى!!! ".
ثم لم يلبث أن مضى عيد الفطر والأضحى في أمن وسلامة، حتى كان شهر صفر سنة (1409هـ)، نزلت بالناس نازلة (5 أكتوبر 1988م ) آنفة الذكر، وشارك فيها علي بن حاج مشاركة من فقد عقله، وأفتى فيها بالتحزبات والمظاهرات والإضرابات بل والإضرابات عن الطعام، من غير أن يذكر ما عاهد عليه إخوانه ليالي عيد الفطر!
3 ـ طلب منه كثير من أتباعه الذين لهم ميل سلفي أن يتصل بأهل العلم
ـ أيام نازلة أكتوبر هذه ـ ليستفيد منهم فيما أهمَّ الأمة، فلم يستجب لهم، بل لما وجده ذوو العقل منهم لا يسند فتاواه الغريبة عن المنهج السلفي إلى أحد من العلماء السلفيين، ويستدلّ لها بأقوال مَن لا علاقة له بالعلم كالإخوان الذين سبق تسمية بعضهم، نبذوه مرة واحدة، خاصة وأنه قد صاحَبَ ذلك ظهورُه في الصحف وتجويزه التصوير بعد أن كان يحرِّمه! فعرفوا أنها فتاوى ضغط الواقع، ولذلك لا يُعرَف له أي استفتاء لأهل العلم لا مقروء ولا مسموع، فـ {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صادِقِينَ}.
4 ـ زار الجزائر الشيخ الفاضل أبو بكر جابر الجزائري قبل أيام الإضراب، واستدعى عليَّ بن حاج مرتين فلم يجبه! وفي المرة الثالثة حضر درسَ الشيخ في الجامع الكبير بالجزائر العاصمة، وفيه نهى الشيخ الدعاة عن أسلوب التهوُّر، وعن استعمال الألفاظ التي تُبعد الشقة بينهم وبين حكّامهم ولا يَجْنُون منها إلا التعوُّر، ومثَّل بلفظ ( الطواغيت )، فكان هذا كالذبح لعلي بن حاج؛ لأنه يَجترّ هذه الكلمة في دروسه اجترارَ الغنم للهشيم عند استراحتها، بل لعلّ دعوته لا تعيش إلا بها، وجماهيره لا تنتعش إلا عند سماعها! وهو ساكت على مضض، ولما كان الشيخ يجيب على الأسئلة
ـ وكانت كلها سياسية بطبيعة الوضع ـ وكانت الأجوبة مخالفة لما يهوَى، نفد صبره وطلب الكلمة من المقدِّم، فاستحيى هذا أن يتقدَّم بين يدي الشيخ، فقام عليٌّ بنفسه وأخذ مكبِّر الصوت عنوة، وقال كلمتين تنبئان عما في نفسه تجاه العلماء:
أما الأولى فهي قوله: " أيها الإخوة يجب عليكم أن تفهموا كلام الشيخ كما هو ولا تحرِّفوه!".
وأما الثانية فهي قوله: " نحيط الشيخ علماً بأن لنا جماعة للنهي عن الشرك!!".
قلت: أما الأولى فقد أراد بها إيهام الحضور أنه والشيخ في طريق واحد! وهو في هذا متفنِّن لبق. وأما الثانية فهي مجاملة واضحة لدعاة التوحيد
ـ والشيخ وهابي!! ـ، مع ما فيها مما يُغني عن التعليق. وأوقف الشيخ درسه مباشرة لأن أهل المسجد كادوا يصيرون فريقين يختصمان.
5 ـ زار الجزائر في تلك الأيام الأخ عدنان عرعور، فلم يلقَه علي بن حاج إلا يوم المغادرة ليُسلِّم عليه في المطار! مؤنِّبا الإخوة لأنهم لم يخبروه بقدومه! مع أنه كان يلقي دروسه في آلاف من الحضور، قريبا من مسجد علي بن حاج بأمتار فقط!! على الرغم من ذلك فقد قال له عدنان في المطار: " إذا رغبتَ في اللقاء فأنا مستعدّ لإلغاء الرحلة؟ " فلم يجبه!
ولو اعتذر ابنُ حاج بأن الأخ الزائر ليس عالما تُشَدّ إليه الرحال لوجدنا له مخرجا؛ ولكنه أوجس منه خيفة لما علِم أنه أتى من السعودية فتَوَهَّمه على شاكلة ( الوهّابيين ) المُخدِّرين للنشاط الحركي في اعتقاده! أو أنه حامل فكر الشيخ الألباني ليَشُلَّ دعوته السياسية في ظنّه!
6 ـ زار علي بن حاج السعودية أيام أزمة الخليج بدعوة منها مكرَّما معزَّزا، وكنا نأمل أن يلتقي بمشايخ السلفية الكبار ليستفيد ونستفيد؛ إذ يسعه تواضعهم إن شاء الله، فلم يحصل ذلك منه، بل جلس مع بعض المشايخ لا ينبس ببنت شفة، في تكتُّم مجرَّب عنه مع السلفيين. وفي هذه الزيارة عرَّج على الأردن في جولة سياسية ـ كما يقولون ـ ولم يزر الشيخ الألباني! وأنا أعرف عن الجزائريين عيبَهم الشديد على السلفي الذي يُحرَم من زيارة هؤلاء العلماء، نظرا لندرة أمثالهم عندنا، ولذلك لاموه كثيرا؛ لأنه دليل على أنه غير سلفي أو في نفسه منهم شيء خفيّ!
7 ـ عند سفره الثاني إلى الأردن في مسيره إلى القتال مع العراق، اضطره بعض السلفيين إلى زيارة الشيخ الألباني، ووقع منه ما يُدهش.
8 ـ وهو ما أخبرنا به الشيخ نفسه ومن كان حاضرا كالشيخ علي بن حسن بن عبد الحميد والشيخ محمد شقرة، أنه زارهم في بيت الشيخ ليعتذر إليهم عن ضيق وقته، وأنه يرجو تقصير مدة المجلس!
9ـ كما أخبرونا جميعا أنه أبى تسجيل المناقشة في جدل عقيم طال بلا عائدة إلا عائدة خوف الرجل من انتشار الحق).
10 ـ كما أخبرونا أنه حين أقنعه الشيخ بضرورة التسجيل، قَبِلَ على شرط غريب، وهو عدم نشر الشريط حتى يأذن هو به للشيخ!!! وهذا أقبح تصرّف يصدر من طالب مع شيخ، ورحم الله زمانا كان فيه السلف يطمعون في السماع من شيوخهم ولو بتحمّل الضرب، قال الذهبي: " قال يعقوب بن إسحاق الهروي عن صالح بن محمد الحافظ سمعت هشام بن عمار يقول: دخلت على مالك فقلت له: حدِّثني، فقال: اقرأ، فقلت: لا، بل حدِّثني، فقال: اقرأ، فلما أكثرت عليه، قال: يا غلام تعال! اذهب بهذا فاضربه خمسة عشر، فذهب بي فضربني خمس عشرة دِرَّة، ثم جاء بي إليه، فقال: قد ضربته، فقلت له: لِمَ ظلمتني؟ ضربتني خمس عشرة درة بغير جرم، لا أجعلك في حِلّ، فقال مالك: فما كفارته؟ قلت: كفارته أن تحَدثني بخمسة عشر حديثا، قال: فحدثني بخمسة عشر حديثا، فقلت له: زدْ من الضرب وزدْ في الحديث، فضحك مالك وقال: اذهب ).
11 ـ بهذه النفرة التي كان يجدها علي بن حاج من العلماء تفهم سرّ تكراره في غير ما شريط مسجّل أنه ألَّف كتابا أسماه: (( بين علماء السجون وعلماء الصحون! «، مع كثرة إيراده لأحاديث القُصّاص في مواجهة الحكام على طريقة الخوارج، ولو كان أبطاله من شرار المبتدعة، كعمرو بن عُبيد المعتزلي، فينشأ في نفوس الناشئة أنه لا عالم إلا من دخل السجن؟!
وبهذا التنفير من العلماء فسد سلوك الشباب تجاههم، وظهر لأول مرة في الجزائر فُرقة بين السلفيين؛ إذ أصبحتَ تسمع بسلفية علمية وسلفية حركية! ووُصف بالإرجاء كل من دعا إلى الحكمة والصبروالأخذ بسيرة الرسول في جهاده، وهذه هي بركة التحزب!
وأخيراً لا بدّ من كلمة مختصرة جداً عن هذا الرجل، أرى أنها تُعَرِّف به جيِّداً، وهي أن علي بن حاج يعيش بنفسية متوترة؛ يثور على المألوف، ويستثير الغريب المخوف، وتراه لا يثبت على مذهب؛ بل يُكثر التنقل من غريب إلى أغرب؛ يتتبّع الجديد الذي يثير الانتباه، ويَملّ العتيق ولو لم يكن به اشتباه؛ فحين كان تهريج عبد الحميد كشك مطلب الشباب كان
( كشكياً! )، ويوم أن تمكّن الخميني من الحكم مدحه مدحاً كبيراً! وحين برّزت الدعوة السلفية ـ في مجتمع قد أنهكته المذهبية ـ ولَّى إليها وجهه، لكنه حصر عنايته بها في الحرب على المذهبية، وصحب ذلك حماسة لطلب العلم، فشنَّع على الدعوات السياسية وتسجَّى بالحِلم، ثم اشرأبّت الأعناق إلى إيران، فثار عليهم ثورة الثيران! وحين جاء التحزّب يركض، ركبه ولم يُعَقِّب! فما زال سياسياً يُحاور، حتى إذا سالت من دماء التكفير عيون انقلب إلى العنيفِ المعايرِ، وهنا وضع رحله، وربط فرسه، وشُلّ منه التفكير، ورضي في سبيل ذلك بالمعاطب، واستأنسَ بوحوش التكفير، واستقرّت به المراكب، والله وحده أعلم بالذي يتلوه.
ويَعرف هذا مَن تذكَّر تنقُّله السريع في موضوعات دروسه؛ فهو لا يكاد يفتتح كتاباً إلا تركه وقفز إلى غيره؛ فمن (( شرح السنة )) للبغوي إلى
(( الكبائر )) للذهبي، فتفسير القرآن، فتبسيطه، فتزكية النفوس، فالسياسة الشرعية ... كل هذه الدروس وقف فيها عند بدايتها بالتداول، وفي كل مرة يسمع الحضور وعدًا قصير العمر يقول: اليوم نبدأ درس كذا من كتاب فلان! وهكذا ...
وقد بيّن الماورديُّ هذه النفسيةَ الغريبة التي عرفها من أهلها، وكأنه يعيش بين أظهرنا فقال: " مع أن لكل جديد لذّة، ولكلّ مستحدَث صَبْوَة؛ وقال النبيّ : (( إنّ أخوف ما أخاف على أمتي منافقٌ عليمُ اللسان ))، فتصير البدعُ فاشية، ومذاهب الحقّ واهية، ثم يُفضي الأمرُ إلى التحزّب والعصبة؛ فإذا رأوا كثرةَ جمعهم وقوّةَ شوكتهم داخلهم عِزُّ القوّة ونخوةُ الكثرة، فتضافرَ جهالُ نسّاكهم وفسقةُ علمائهم بالميل على مخالفيهم! فإذا استتبّ لهم ذلك زاحموا السلطانَ في رئاسته، وقبَّحوا عند العامة جميلَ سيرته، فربما انفتق ما لا يرتق؛ فإنّ كبار الأمور تبدو صغاراً ).
وسرّ هذه التناقضات المتعاقبة عليه والتنقّلات المتناوبة عليه ثوريّتُه المتأصِّلة في نفسه، وبعض مَن لم يَخْبُر الرجل يقول: إنه ذو شخصيّتين! والحقيقة أن له شخصيّة ثابتة؛ ألا وهي الثورية التي تحدّثتُ عنها آنفا وطول نفَسه في الخصومات، وأخرى متغيِّرة؛ لأنها تعبير عن هذه الثورية على حسب ما يَجِدّ في الدعوات، وشبيه بحاله من قال فيه عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ: " مَن جعل دينه غَرَضاً للخصومات أكثر التنقّل "، قال الدارمي بعد هذا الأثر:
" أي ينتقل من رأي إلى رأي!".
وعن خالد بن سعد مولى أبي مسعود قال: دخل أبو مسعود على حذيفة وهو مريض، فأسنده إليه، فقال أبومسعود: أوصنا، فقال حذيفة: " إن الضلالة حقّ الضلالة أن تعرف ما كنتَ تنكِر وتنكِر ما كنتَ تعرِف،
وإيّاك والتلوُّن في الدين!! "، وفي رواية: " فإن رأَى حلالاً كان يراه
حراماً ... "، وقال إبراهيم: " كانوا يَرَون التلوّن في الدين مِن شكِّ
القلوب ". ومن أوضح علامات هذا الشكّ اتباعُ المرءِ الحقَّ مجَرِّباً لا له متجرِّداً، وأن يُؤْثِر دليل الواقع على نصّ الوحي، كما قال حذيفة : " إنّ أخوف ما أخاف على هذه الأمة أنْ يُؤْثِروا ما يَرَون على ما يَعْلمون، وأنْ يَضِلُّوا وهم لا يشعرون "، وقد اشتهر عند كثير من الناس أن ابن حاج سلفي بسبب أنه جرَّب السلفية زمناً، فلما لم يجد فيها نهمته الثورية ورأى أنها لا تُصَفِّي ما بينه وبين حكامه من حسابات نفسية تركها باطناً ولم يُصرِّح بذلك ظاهراً، والله وحده الهادي؛ لأنَّه هو القائل: {وإنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وأَخْفَى}.
ومِن طرقه التي كان يسلكها للتأثير على الجماهير التظاهر بالورع البارد إذا قيل له بأن فلاناً يردّ عليك! فيقول: " أقول كما يقول أبو ضمضم إذا أصبح: تصدَّقتُ بعرضي على مَن ظلمني، رواه مسلم!! " كذا يقول ويردِّد.
وهذا مع أنه لم يَرْوِه مسلم بل هو ضعيف لا يصحّ رفعه، فهو من السماحة المصطنعة؛ لأن قائله يظهر الصوم عن أعراض المسلمين في الوقت الذي يفطر فيه على دمائهم!! فكم من آلاف من المسلمين قُتِلوا بفتواه كما ستراه في هذا الكتاب؟!.
وأما عن علمه فسبق ذكر شيء من إرجافات فقهه السياسي؛ حين استدلّ ابن حاج بقصة وقوف النبيّ على جبل أبي قبيس على مشروعية المظاهرات!! وأغرب منه استدلاله بوصال النبيّ في صومه على مشروعية الإضراب عن الطعام؛ فقد قال في قصيدة له بعد أن تأكّدنا من بعض أهله أنها له:
وأضربنا عن الطعام تعفُّفاً اقتداءًا بسيّد الواصِلينا!!!
قلت: وهذا ـ والله ـ من الدواهي!! ومنها إفتاؤه بالتفجير الجماعي في المحلات العامة، فلما سئل عن المسلمين الذين يُقْتلون في ذلك قال: يُبعَثون على نِيّاتهم!!! ويعزو ذلك لابن تيمية! نعوذ بالله من قلّة الحياء!
جناية السياسة على العلم
قيل لعلي بن حاج يوما: لقد مللْنا الدروس السياسية، فهلاّ علَّمتنا ديننا، وددنا لو بدأت بأبواب الطهارة والمياه، ولم تتكلم في السياسة ولو مرة واحدة، فقال: " أستطيع ذلك، ولكنني إذا ذكرت أن الحكومة تقطع الماء عن الناس في وقت ما لم أسكت عنها!! ".
أذكر هذا لتعْلم مصير كل سياسي في تقديره للعلم الشرعي، فلا أدري هل شعر أن الحكومة حين تقطع الماء الذي به حياة الأبدان، فهو ـ بسببها ـ يقطع عن الناس تعلّم الدين الذي به حياة الجَنان، فأي الفريقين أعظم جناية؟!
وليست جناية السياسة قاصرة على الأحكام العملية فحسب، بل تتعداها إلى العقيدة الإسلامية، فقد لقيه بعضهم بعد الإفراج عنه من السجن، فكلمه عن الأشاعرة الذين استولوا على دور التعليم، راجيا منه أن يكون عوناً له في الرد على أعداء التوحيد، ففاجأه بكلمة زهَّدته فيه، تدل على انحرافه الخطير عن المنهج السوِيّ، قال يومها: " أنا لو اشتغلت بالرد على الأشاعرة، فإن الحكومة تضحك من عينيها !! ".
فتأمل هذا ـ رحمك الله ـ ولا تكن في التعصب للرجال من الهالكين، فالرجل دخل في صراع مع السياسيين، حتى ظنّ نفسه أنه خُلق لإبكاء الحكومات!! فمن يبكي على أمة حُرِمت عقيدتها وسلامة قلبها {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}؟
إنني أريد بهذه العناوين الأخيرة إشعار القاريء بخطورة مخالفة تلك الأصول الستة التي اختصرتها في افتتاحية هذا الكتاب، بالتمثيل لها من خلال الدعوة في الجزائر.
لقد عُمِّرَت جبهة الإنقاذ الإسلامية ثلاث سنوات فقط، تهدَّم بها بنيان أوشك على التمام، وتصدَّع بها صفّ بعد الْتحام، واتُّهِمت فيها السلفية بعد أن وُضع لها القبول، ورُفع العلم وسيطر الطيش على العقول، وعشَّش التكفير في مساجد الجبهة وباض، واتحد الحزبيون مع المبتدعة حتى الطرقية وبني إباض، واتُّهم العلم، وحُرِّم الحلم، وتسمَّن فكر الخوارج، حتى عيِيَ الناصح والمعالج.
هذا والشيوعيون الأخباث في الداخل والخارج يرقبون مسرورين عملية الانتحار، يُحَرِّكون أحياناً بالتهييج السياسي استعجالاً لقطف الثمار، فرحين بعدوٍّ سهل الاستدراج؛ لأن عنف الجبهة أوجد لهم المسوِّغ القانوني لضرب المسلمين بلا احتجاج! وهي خطة ترقَّبوها من سنوات عجاف لم يغاثوا فيها إلا بتسخير علي بن حاج، بل عجزوا عنها حتى في أيام الاستعمار الفرنسي، وقد قلنا للعلامة ابن باز ـ حفظه الله ـ: " إن الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر منعت صلاة الجمعة في بعض المدن! "، فقال متعجباً: " كيف يعطِّلون الجمعة، وقد عجز عن ذلك فرنسا وبريطانيا واليهود؟!!".
وكم قَتلوا اليوم من طلبة العلم جريمتُهم أنهم رفضوا مشاركتهم فيما هم فيه! وهذه هي بركة التحزب!.
نعم! لتذكروا كلمة ابن تيمية المبيَّنة في الأصل الخامس من أن نكاية المبتدعة في المسلمين أشد وطءاً من نكاية الكفار فيهم، ولا أدري ما سرّ تلقيب النبي الخوارج بـ »كلاب النار «؟ ألأنهم يجتهدون في المسلمين تكفيرا وتقتيلا حتى يُكفِّر بعضُهم بعضاً، كما تجتهد الكلاب فيمن تنكره نباحاً وعضًّا حتى ترجع إلى أذنابها فتعضّها؟ ويكون مصداقه ما جاء في
» الصحيحين « من أن النبي قال فيهم:» يَقتلون أهل الإسلام، ويَدَعون أهل الأوثان «؟ أم لأنهم يُستَدرَجون بأبسط الحيَل حتى يَهيجوا كما أن الكلاب تنبح لأدنى استفزاز، حتى ربما دلَّت عدوَّها على مَخْبَأ صاحبها؟ ذكَّرني هذا بالمثل القائل: " وعلى نفسها تَجْنِي بَراقِش ".
لذلك كله، ما يُخاف على المسلمين من الشيوعيين كما يُخاف عليهم من أنفسهم؛ فإن أولئك مهما أوتوا من تنظيم وقوة وإدارات وبسط نفوذ، فلن يضروهم إلا أذى، وأما جناية المسلمين على أنفسهم، فقد قال الله تعالى في قوم كانوا مواجهين الكفار الخلَّص: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُو مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ}، وكان النبي يؤصِّل هذا المنهج بتأكيده في كل خطبة قائلاً: » .. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا.. «، فاللهم آمين. وقد بيَّنتُ هنا من واقع الجزائر ما يشهد لما نحن بصدده.
وأخيراً: رجائي من ذوي العلم والمنهج السلفي، أن يكتبوا عن تجربة بقية البلاد الإسلامية، فقد رُفِعت للمنهج السلفي أعلام في اليمن وأفغانستان والسودان وإيران وسورية والأردن ومصر وتونس وغيرها، تدلُّ عليه وتؤكِّده، لتُشفِقوا على المسلمين مما يصيبهم بأيديهم، ولتبيِّنوا للشباب التائه اليوم واللاعب بالنار وجوب الرجوع إلى الطريق النبوي، فقد بان لذوي الحِجَى أكبر برهان في واقع بلاد المسلمين على أنه لا يصلح لهم غيره، ولكن أقلاما وأفواها غير سلفية سبقت لتموِّه وتحرِّف الحق والواقع، فاستعينوا بالله واصبروا وإن وُصِفتم بالمثبِّطين أو المرجفين، فإن غايتكم رضى الله وحده.
حال الدعوات السياسية اليوم
يحاصَر المسلمون اليوم حصارا شديدا، لم يعرفوه حتى وقت المستعمرات الكافرة، والعالم كله تألب عليهم ورماهم عن قوس واحدة، لا يألوهم خبالا ولا يرقب فيهم إلاًّ ولا ذمة، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، الأمر الذي سبب لهم ردود فعل خطيرة، وصاروا لا يعيشون إلا على أنقاض الأحداث السياسية، نشاطهم يقوى بقوتها ويضعف بضعفها، وكأنهم هم
ـ أيضا ـ كُتب عليهم شقاء السياسيين، وانقسم المنقذون المخطئون مجموعتين:
مجموعة دخلت العمل السياسي بلا تورع، فتَميَّع منهجها، وتنازلت عن غير قليل من دينها، لأنها تعيش تحت ضغط الهزات السياسية العنيفة، فحَقَّ فيها ما حذر الله U منه نبيه حين قال: {وإن كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإذًا لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً. وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِم شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً}.
ومجموعة تَنْزَغُها الأحداث السياسية، وتؤزُّها أَزًّا لأنها وجدتها أُذُنا، وهي تُستدرَج بالاستفزازات السياسية الماكرة، وهؤلاء حق فيهم ما حذر الله U منه نبيه حين قال: {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وإذاً لاَ يَلْبَثُون خِلاَفَكَ إلاَّ قَلِيلاً}.
وحديثي هنا لا يتعرض مباشرة للأولى لأنه قد كُتب عنها ما فيه غناء، ولكن الثانية هي التي أقصد؛ لأن فكرتها لم تعد حَكْراً على فئة معروفة من الناس بل ظهرت في هذا العصر الأخير مع الإخوان المسلمين، ثم لم يلبث هؤلاء أن تخلوا عنها متأثرين بفكرة المجموعة الأولى، ثم لبسها ورثة الخوارج: جماعة الهجرة والتكفير،وتداولوها مع شيوخهم القطبيين، ثم بمكر من هؤلاء أريد للسلفية أن تلبسها. وكم كنت أتردد عند كتابة هذه الكلمات رجاء أن تكون نصيب قلم أقدر عليها مني، وهم كثيرون، ولكن ذلك لم يحصل بالصورة الدقيقة والصريحة والمفصلة التي ينبغي أن تكون، إذ الشبهات فيها كثيرة جدا وجذورها عريقة في حقيقة الأمر، فلا تكفي فيها بُلْغة الغريب، ثم استخرت الله في ذلك واستعنت به وحده فوفّق لما يأتي:
المتأمل في أحوال المسلمين اليوم يجزم بأنهم قد استيقظوا بعد سُبات عميق، وأحسوا بضرورة العودة إلى أصلهم التليد العريق، وتذكروا شخصيتهم الضائعة الممتهنة من قِبَل من جعلتهم قُدوتَها برهة من الزمن فلم ينصحوا لها، أقصد أن عاطفة إسلامية ما ـ كما يقولون اليوم ـ لا تزال في قلوب المسلمين، مما يبعث في النفوس السرور لأنها أول المبشرات، إلا أنه لا يجوز أن ندخل لَغَطا إعلاميا لا يمت إلى الإسلام بصلة فنبرز هذه الصورة فوق حجمها، مستعملين المجهر السياسي الكذاب، مجارين أعداء الله في مكرهم ودهائهم وتزويرهم الحقائق، بل الحق والحق نقول، إن الله لا ينصر إلا المؤمنين فهو القائل: {وكانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} والمؤمنون مؤمنون ما لم يكذبوا ليتولاهم مولاهم القائل: {ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذينَ ءَامَنُوا وَأَنَّ الكافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُم}.
لذا فإن محاولة إفزاع العدو بإبراز هذه اليقظة الإسلامية الأولى في صورة المستيقظ النشيط، الذي لم يبق على عينيه غبش، وأنه قادر على أن يُبصر الأمور ويُبَصِّر بها على حقيقتها، وأن يقدِّر لها أقواتها تقدير العالم البصير لن يعود على الدعوة الإسلامية إلا بالبوار؛ لأن ذلك يستعدي الأعداء الأقوياء على المسلمين الضعفاء الذين لا يتولاهم الله ما داموا مقيمين على هذا الكذب والهراء، ثم هو غش للمسلمين؛ لأنه ينفخ فيهم غرورا قد رأينا عاقبته في بلاد الإسلام.
بل نقول: الحمد لله الذي أيقظنا، إلا أننا في أول الفطنة ما أحوجه إلى إرشاد، على عوج في المتابعة ما أحوجه إلى سداد، فنحن كصبي عطشان قد فرح به أبواه لنباهته فتركاه يروي عطشه بيده، لم يُؤمَن عليه أن يتناول السم الزعاف، أو سقياه ماءً زُلالا دون رَوِية في رعاية إذن لأوشك أن يَشْرَق.
والذي نعتقده بصراحة تامة أن أكثر المرشدين اليوم على غير الجادة السلفية إذ أشعروا أمتهم هذه ـ التي لا تزال عليها غيبوبة المستيقظ من نومه ـ أن مشكلتها سياسية وهي لم ترفع بعدُ قدميها عن سرير النوم، فإذا بها تُدْعى للعَدْو إلى سرير الملك، في بهرج لا يترك لها عقلا تفكر به، ويا لها من جريمة! لأنها تحريف لها عن معرفة الداء، فكيف الاهتداء إلى الدواء؟! ويا لها من مصيبة!! لأنها صد عن سبيل الله المتمثلة في تعلم الكتاب والسنة وتعظيمهما والاحتفاء بمجالس أهلهما، إلى تعلم السياسات العصرية والعكوف على مصادرها من إعلام مرئي ومسموع، وجرائد ومجلات: الصدق فيها ممنوع، حتى إنه ليمضي على من دثارُه الكتاب والسنة، وشعاره الفيديو ومجلة البيان والسنة، يومُه بل أسبوعُه بل ربما شهره لا يجد وقتا ولا شوقا إلى آية من الكتاب، واسأله ـ إن شئت ـ منذ كم لم يرفع الغبار عن الصحيحين على حين عدم غفلته عن جريدة اليوم بل وخبر الحين!! والأمر لله.
ولا تسارع إلى إنكار هذا لأنني ما جئتك بعلم حتى تناقشه وإنما هو خبر الواقع!
روى أبو نعيم في الحلية بإسناده عن رجل من أشجع قال: " سمع الناس بالمدائن أن سلمان ( أي الفارسي ) في المسجد فأتوه فجعلوا يَثُوبون إليه حتى اجتمع إليه نحو من ألف، قال: فقام فجعل يقول: اجلسوا، اجلسوا، فلما جلس فتح سورة يوسف يقرؤها، فجعلوا يتصدعون ويذهبون حتى بقي في نحو من مائة، فغضب وقال: " الزخرف من القول أردتم؟ ثم قرأت كتاب الله عليكم ذهبتم؟! ".
قلتُ: لعل اختيار سلمان لسورة يوسف e دون غيرها لما فيها من معاني القناعة بقصص كتاب الله دون ما تصبو إليه النفوس من حكايات وأحَاجي، وهو قول الله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ}، واقتداءًا بالنبيّ حين سئل قصصاً غير قصص القرآن فتلى عليهم ما أنزل الله عليه من هذه السورة()، وكذلك فعل عمر حين رأى مَن أقبل على كتاب فيه عجائب الأوَّلين، فرضي الله عنهم جميعاً؛ ما أشدّ حرصهم على الهدي النبوي!
معنى السياسة
السياسة لغةً : " هي القيام على الشيء بما يُصلحه ".
قلت: ومنه قول أسماء بنت أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنهما: " تزوَّجَني الزبير ومالَه في الأرض مالٌ ... فكنتُ أعلف فرسه، وأكفيه مؤنته، وأسوسه، وأدقُّ النوى لِناضحه ... حتى أَرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك خادما فكفَتْني سياسةَ الفرس، فكأنما أعتقني "، ولذلك كتب ابن الجزار القيرواني في إصلاح شئون الصبيان والمحافظة على طبيعة أجسامهم وطِبِّها مؤلَّفا أسماه
(( سياسة الصبيان وتدبيرهم )) ؛ لأن لفظة ( السياسة ) مشتقة من " السُوس بالضم: الطبيعة والأصل والخلق والسجية ".
ومن هذا المعنى العام أُخذ المعنى الخاص الآتي وهو: " من السوس، وهي الرياسة، وفي الحديث:»" كان بنو إسرائيل يَسوسهم أنبياؤهم « أي يتولى أمرهم كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية ".
وأما المعنى الشرعي: " فالسياسة الشرعية هي تدبير الشئون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار مما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية، وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين ".
قلت: فهي تُعْنَى بأحكام الإمارة والقضاء وأحوال الوزارات وتدوين الدواوين وإنفاذ الجيوش وغيرها مما تراه مفصلا في مثل (( غياث الأمم )) للجويني، و(( الأحكام السلطانية )) للماوردي وكذا لأبي يعلى الفراء،
و(( التراتيب الإدارية )) لعبد الحي الكتاني وغيرهم .. ولا شك في وجوبها شرعا وعقلا، لأن أمور الناس لا تنضبط إلا بإمام عادلا كان أو جائرا، قال ابن حبان البستي ـ رحمه الله ـ: " وأنشدني ابن زنجي البغدادي للأفوه الأودي:
لا يُصلح الناسَ فوضى لا سَراة لهم ولا سَـراة إذا جـهّـالهـم ســادوا
والبــيـت لا يـُبتـنـى إلا بـأعـمــدة ولا عـمـاد إذا لم تُــرسَ أوتـــادُ
فإن تـَجـمَّع أوتادٌ وأعمدةٌ وساكنٌ أدركــوا الأمـــر الـذي كــادوا
تُهدَى الأمور بأهل الرأي ما صلــ ـحت فإن تَوَلَّت فبالأشرار تنقادُ
وذكر قبلها الحكمة المشهورة: سلطان غشوم خير من فتنة تدوم ". قال ابن تيمية: " يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين والدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس ... إلى أن قال: لأنَّ الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بالقوة والإمارة، ولهذا روي: (( أن السلطان ظل الله في الأرض )) ويقال:
( ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان ) والتجربة تبيِّن ذلك، ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان ... فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله؛ فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرئاسة أو المال بها ".
ولا تستوحش من قول خلاّف السابق: " .. وإن لم يتفق وأقوالَ الأئمة المجتهدين "؛ فإن المقصود به أن السياسة الشرعية ليست حكراً على الأئمة المتقدمين، بل لا بأس من أن يجتهد العالم المتبحّر من أولي الأمر فيما يَجدّ للأمة من نوازل بالقيود السابقة، ولذلك قال: " فالسياسة الشرعية على هذا هي العمل بالمصالح المرسلة؛ لأن المصلحة المرسلة هي التي لم يقم من الشارع دليل على اعتبارها أو إلغائها ".
وهو الأمر الذي نقله ابن القيم عن ابن عقيل نقل المقرّ وهو قوله: " فإن أردتَ بقولك: ( لا سياسة إلا ما وافق الشرع ) أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردتَ ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة؛ فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل ما لا يجحده عالم بالسير، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة ... ).
ولذلك قال ابن نجيم: " وظاهر كلامهم أن السياسة فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرِد بهذا الفعل دليل جزئي ".
لكن مع تقادم الزمن نزل بالناس حوادث لم يَعرفوها من قبل، فاستفتى الولاةُ فقهاءَ التقليد، فأغلقوا عليهم باب الاجتهاد، وحرَّموا على أنفسهم النظر فيما لم تذكره المذاهب، فاضطر الولاة إلى الاجتهاد فيما يَعِنُّ لهم من جديد بحق وبباطل، وزهِدوا في علماء الشريعة؛ ظنًّا منهم قصور الشريعة عن فتح مغاليق فتن العصر، ثم تمادى بهم الأمر حتى أعرضوا عما أنزل الله من آيات بيِّنات، وتحاكموا إلى الرأي إما جهلاً وإما ظلماً، وتجرَّأ أراذل الناس على الشرع حتى حُرِّف كثيرٌ منه.
وأدهى وأمَرّ منه أن قوماً من جهال المتديِّنين في هذا الزمان أرادوا أن يُعالجوا هذا الانحراف فضاق عليهم منهج النبيين وسبيل المؤمنين حتى اعتمدوا النظم الغربية الكافرة للوصول إلى الحكم بما أنزل الله زعموا! كالولوع باللعبة الديمقراطية ودخول البرلمانات، والاتِّكاء على الغثاء للضغط على الحكومات؛ فتارة يدَّعون أن الأمر في ذلك مصلحة مرسلة والشريعة مرِنة! وتارة يَدَّعون أنهم مضطرون إليها وقلوبهم لها كارهة!! فما زالت بهم هذه السياسة حتى استَحْسنوا الكذب والسباب، واستمْرَأوا الخيانة والمكر بالأحزاب، وجرى على لسان العوام أن لا سياسي إلا ذو كذب مرتاب. وهذه المسالك أشد من مخالفات الحكام؛ لأن هؤلاء لا يُقتَدى بهم في غالب ديار الإسلام، أما الإسلاميون السياسيون فمحطّ نظر الخواص والعوام! فما أشدّ محنتهم للناس!!
وقد نبَّه ابن القيم على هذا الخلط في معاني السياسة فقال: " هذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضَنْك ومعتَرَك صعب، فرَّط فيه طائفة فعطَّلوا الحدود وضيَّعوا الحقوق، وجرَّؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تَقوم بمصالح العباد، وسَدّوا على أنفسهم طرقاً صحيحةً من الطرق التي يُعرَف بها المحِق من المبطل، فعطَّلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق، ظناً منهم منافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوعُ تقصير في معرفة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهم هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم، فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أَحدثوه من أوضاع سياستهم شرٌّ طويل وفساد عريض، وتفاقم الأمر حتى تعذَّر استدراكُه، وأفرط فيه طائفة أخرى فسَوَّغَت منه ما يُناقض حكم الله ورسوله ... ولا نقول إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة، بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها، وتسميتها
( سياسة ) أمر اصطلاحي، وإلا فإذا كانت عَدْلاً فهي من الشرع "
قلت: هذه المرونة المشروعة في سياسة الخلق يمكن التمثيل لها بما رواه الشعبي قال: قال زياد: " ما غلبني أميرُ المؤمنين ( أي معاوية ) بشيء من السياسة إلا ببابٍ واحدٍ: استعملتُ رجلاً فكثُر خراجه، فخشي أن أعاقبه، ففرّ إلى معاوية، فكتبت إليه: إنّ هذا أدب سوء لمن قبلي، فكتب إليّ: إنه ليس ينبغي لي ولا لك أن نسُوس الناس بسياسة واحدة؛ أن نلين جميعاً فتمرح الناسُ في المعصية، أو نشتدّ جميعاً فنحمل الناسَ على المهالك، ولكن تكون للشدّة والفظاظة، وأكون للِّين والرَّأفة ".
قلتُ: هذه السياسة التي فاق بها معاوية زياداً هي التي مكَّنَته مِن أن يحكم أهل الشام أربعين سنة في وُدّ تامّ كما ذكر أهل التاريخ.

يتبع
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 18 Jul 2010, 11:00 PM
أحمد سالم أحمد سالم غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: الجزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 608
افتراضي

الإصلاح السياسي
المشكلة في هذا الصراع المحتدم ثنائية:
الأولى: هل الإصلاح يتم عن طريق إصلاح الحاكم أو عن طريق إصلاح الأمة؟
الثانية: إذا كان لا بدَّ من الممارسة السياسية فمن هم أهلُها؟
أما الجواب عن الأولى ففي نص آية وحديث ـ ولا اجتهاد مع النص ـ قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}.
فما أوضحه من بيان! لكن مع وضوحه فأكثر من تسمَّوا بأسماء حركات إسلامية قد اجتهدوا وجاء لسان حالهم يقول: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بحكوماتهم!! ولا حول ولا قوة إلا بالله، غاضِّين الطرف عن السيرة النبوية المفسرة لهذا البيان، غافلين عن أنه لا عزّ لهم حتى يتحكم الدين في نفوسهم، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: » إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم « رواه أبو داود وهو حسن.
هذا حكم الله ورسوله {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}؟!
فاحذروا ـ أي إخواننا! ـ من رد الحق تحاكماً إلى واقعكم أو اغتراراً بتجربتكم أو إرضاءً لنخالة أذهانكم! أوَ ليس قد حكم الله أن لا تمكين في الأرض ولا استخلاف ولا أمن ولا نصر إلا بأمة، وأي أمة؟! إنها أمة العبادة مع توحيد خالص فاقرأ كلاماً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد الذي قال: {وَعَدَ اللهُ الَّذِين ءامَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخلِفَنَّهُمْ في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}.
وعلى كل حال لا أطيل في هذا، وإنما أحيلكم على كتاب لم تقع عيني على مثله في هذا الزمان، وهو بعنوان » منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل « للدكتور ربيع بن هادي المدخلي، ولا تغترُّوا بمن حاول أن ينسج على عنوانه الماتع ما يضاهيه؛ فإنه لم يأت إلا بالباطل و بما يشبه خيوط العنكبوت.
وفي الجواب عن المشكلة الثانية أقول:
أوّلاً: لست بحاجة إلى تقرير أن السياسة من الدين؛ لأنني لا أظن أن مستواكم الخلقي قد هبط بكم إلى رمي أخيكم ـ كاتب هذه السطور ـ بأنه يفرق بين الدين والدولة بعد أن قال الله تعالى: {إنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ}.
وأخبر أن تعطيل الشريعة اتباع للهوى فقال: {وأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ ومُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ ولاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ}.
وليس تعطيل الشريعة إلا جاهلية مقيتة قال الله تعالى: {أَفَحُكمَ الجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُون}.
وثانياً : اعلم أن سبب فشل الحركات الإسلامية اليوم في إصلاح هذا الفساد العام هو خطؤها طريق الإصلاح حين دخلت المعترك السياسي وجعلته أصل عملها التغييري، مهما زعم كل منها سلامة المنهج وشمولية الدعوة وإحكام التنظيم، لذا فإن حديثي هنا منصب فقط على من اضطر إلى أن يفتي في السياسة اضطرارا لا مناص منه.
أما ممارسة السياسة اليوم فهو عمل لا يدخله إلا من استدرجه الشيطان ليُهلكه في أسوإ الخواتيم، فأَقْنَعَه بأنه لا يجوز ترك هذه الوظائف للفساق والعلمانيين، وأنه لا يجوز للمسلم أن يتقوقع حول نفسه، وأن قانون فلان الشيوعي كاد يطبق في بلاد ما لولا وجود الوزير الفلاني إلى غير ذلك من زخرف القول الذي لم يؤسس على النظر الشرعي بقدر ما أسس على النظر الواقعي مع إغماض؛ إذ الصادق في تأمله يرى قوماً دخلوا ليغيِّروا فتغيَّروا، وحق فيهم قول النبي : » من أتى باب السلطان افتتن « رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد والبيهقي في (( الشعب )) وهو صحيح.
ودليل المنع من مخالطتهم عند ممارستهم لسياساتهم الجائرة هو قول الله تعالى: {وقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُم في الكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا ويُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُم حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُم}.
وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال : كان سعد بن أبي وقاص في إبله، فجاءه ابنه عمر، فلما رآه سعد قال : أعوذ بالله من شر هذا الراكب! فنزل فقال له: أنَزَلْتَ في إبلك وغَنَمك وتركْتَ الناس يتنازعون المُلْك بينهم؟ فضرب سعد في صدره! فقال: اسكت! سمعت رسول الله يقول: »" إن الله يحبُّ العبد التقيَّ الغنيَّ الخفيَّ « رواه مسلم.
فإذا تعارضت مصلحتك الدينية مع مصلحة غيرك فقدم مصلحتك ما دام في الجمع بينهما خيفة على النفس، قال الله تعالى: {يَأَيُّها الَّذين ءَامَنُوا عَلَيْكم أَنفُسَكمْ لاَ يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ}.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: بينما نحن حول رسول الله إذ ذكروا الفتنة، أو ذكرت عنده قال:» إذا رأيتَ الناس قد مرجت عهودُهم وخفَّت أماناتُهم وكانوا هكذا " وشبّك بين أصابعه، قال: فقمت إليه فقلت له: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: » الْزَمْ بيتك، وأملك لسانك، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة رواه أبو داود والحاكم وأحمد وهو صحيح.
فإن قيل : ولكن المجتمع بحاجة إلى هذه المناصب ؟ قلنا: نعم! ولكن بشرط أن لا يَمتهن المرءُ فيها دينَه؛ لأنه إن رضي لنفسه أن يكون حطب جهنم في سبيل إنقاذ غيره، فإن له أسوة بمن قال فيه رسول الله " لا بد للناس من عريف، والعريف في النار « رواه أبو الشيخ في » طبقات الأصبهانيين « وغيره.
ومعناه: أن مَن لم يمكنه أن يحظى في عمله إلا بمفسدة محضة أو راجحة ورأى دينه إلى نقصان؛ كأن يُضطرّ إلى ترك الواجبات، فليسارع إلى إنقاذ نفسه حتى لا يكون جسراً يُقطع به إلى الجنة وعند الباب تقع الفرقة! ويكفيه في قضاء حوائجه هؤلاء العرفاء الذين لا يَخلو منهم مجتمع.
فإن قيل: ومن يقضي لكم حوائجكم إذا شحَّ العرفاء؟ قلنا: قال الله تعالى: {ومَن يَتَوَكَّلْ علَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُه}. هذا الحكم تابعٌ لبيئة قد تمحَّض فيها الشرّ أو رجح.
ولست أعني هنا عدم النصيحة لولاة الأمور بالطريق المشروع وممن ينفع الله به وإعانتهم في الخير؛ فقد فعله يوسف e من قبل حين قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}، كما أن سيرة السلف في الإخلاص في النصيحة لولاة الأمور وعدم غشِّهم فيها معروفة، ولا سيما إذا كانت البلادُ بلادَ توحيد ومحافظة على الصلوات وحبّ للخير.
ولكنني محَذِّر من سياسة مَدّ الجسور التي عند الإخوان المسلمين! أوَ ما رأيتم ما أصابهم مِن رقَّة دين وفتنة فيه؟!
هذا وهم من أغشّ عباد الله لحكامهم في الوقت الذي يُظهِرون لهم التجاوب التامّ مع الأوامر؛ بدليل أنهم ما يَجدون فرصةً للانقضاض على سلطانهم إلا فعلوا، إما ببيعات! أو بتحزّبات! أو بانتهاز أوقات الثورات ...!
وأخيراً فالجواب عن المشكلة الثانية التي طرحتها عند مطلع هذا الفصل هو الآتي في الفصل الذي يليه.



السياسة الشرعية قاصرة على المجتهد
هذه مجرد تنبيهات سريعة، وإلا فحديثي هنا منصبٌّ على شروط مَن يتصدَّى للفتيا في النوازل السياسية، وأخصُّ من هذه الشروط شرطاً واحداً؛ لأنَّه الأهم، ولأن جل العاملين في هذا الميدان لا يراعونه، قال ابن القيم
ـ رحمه الله ـ: " العالم بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة فهو المجتهد في النوازل، فهذا النوع الذي يَسوغ لهم الإفتاء ويَسوغ استفتاؤهم ويتأدى بهم فرضُ الاجتهاد، وهم الذين قال فيهم رسول الله : » إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها
دينها « ".
قلت: أي بلوغ درجة الاجتهاد كما قال الماوردي: " العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام" ، وقال الشاطبي: " بل إذا عرضت النوازل روجع بها أصولها فوُجدَت فيها، ولا يجدها مَن ليس بمجتهد، وإنما يجدها المجتهدون الموصوفون في علم أصول الفقه ).
فتدبر هذا العلم! وتدبر هذه الدقة التي لو حرص الإسلاميون على تحقيقها لصانوا هذا الدين من عبث حدثاء الأسنان.
ويشبهه قول محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله ـ في شروط الإمام: " أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضياً من قضاة المسلمين، مجتهداً يمكنه الاستغناء عن استفتاء غيره في الحوادث ".
وقد مثَّل ابن رجب لهذا بالإمام أحمد ـ رحمهما الله ـ؛ فقد بيَّن وجه استحقاقه لمنصب الفتوى في الحوادث ـ أي النوازل ـ بأن وَصَفه ببلوغ النهاية في معرفته بالقرآن والسنة والآثار، فمِنَ القرآن: ناسخه ومنسوخه، ومُقدَّمه ومُؤَخَّره، وجَمْعه في تفسيره مِن أقوال الصحابة والتابِعين الشيءَ الكبير. ومِنَ السنة: حِفْظُه لها، ومعرفته بصحيحها من سقيمها، ومعرفته بالثقات من المجروحين، وبطُرق الحديث وعلله، ليس في المرفوع منه فحسب، بل وفي الموقوف منه! وبفقهه. وبعلوم الأئمة: ذَكر أنه عُرِض عليه عامّة أقوالهم ... إلى أن قال: " ومعلوم أنَّ مَن فَهِمَ عِلْم هذه العلوم كلّها وبرع فيها، فأسهلُ شيء عنده معرفةُ الحوادث والجواب عنها، على قياس تلك الأصول المضبوطة والمآخذ المعروفة، ومِنْ هنا قال عنه أبو ثور: كان أحمد إذا سئل عن مسألةٍ كأنَّ عِلْمَ الدنيا لَوْحٌ بين عينيه، أو كما قال ".
قلت: فأيُّ هؤلاء الذين ابتدعوا اليوم ( فقه الواقع ) ـ لِيُسقِطوا به العلماء ـ تَرَوْنه قد بلغ في العلوم هذه الغاية، حتى جعلتموه في نوازل السياسة لكم آية؟!
لقد كان أحمد ـ رحمه الله ـ يُفتي في الحوادث وينهى تلامذته عن ذلك؛ قال ابن رجب: " وأمّا عِلْمُ الإسلام ـ يعني الحلال والحرام كما فسَّره هو في كتابه المذكور ص (46) ـ فكان يُجيب فيه عن الحوادث الواقعة ممّا لم يَسبق فيها كلامٌ؛ للحاجة إلى ذلك، مع نَهْيه لأصحابه أن يتكلَّموا في مسائل ليس لهم فيها إمام ).
ومِن كلام ابن القيّم السابق تَعلم أن رجوع الشباب اليوم في النوازل السياسية إلى الحركيين والمتكوِّنين على موائد المجلات ووسائل الإعلام والمتخرِّجين من خلايا المخيَّمات ـ مهما زعموا أنهم متحرِّرون من قيود غابر المذاهب أو متضلِّعون بأسرار ما يعاصرون من المذاهب ـ مصادمٌ لهذه النصوص التي أوردتُها عن هؤلاء الأعلام، وأن المعمَّمين من مقلِّدة المذاهب غير داخلين في قول ابن القيّم: ( الذين يسوغ استفتاؤهم ويتأدَّى بهم فرض الاجتهاد ...) مهما ( تَدَكْتَرُوا )؛ لأنَّ المقلِّد غير المجتهد، بل المقلّد هو الجاهل! كما هو معلوم من كتب أصول الفقه؛ قال الخطيب البغدادي: " ... حتى يجد طريقاً إلى العلم بأحكام النوازل وتمييز الحقّ من الباطل، فهذا ما لا مندوحة للمفتي عنه، ولا يجوز له الإخلال بشيء منه ).
ولهذا كان مِنَ الأهمية بمكان أن يُمَيِّز طالبُ العلم أهلَ الفتوى في هذا الميدان مِن غيرهم ممّن تسوّروا المحراب، أو دخلوه من غير هذا الباب؛ فقد كان سلفُنا الصالح على دراية تامَّة بذلك؛ قال أبو حاتم الرازي ـ رحمه الله ـ:
" مذهبنا واختيارنا اتِّباعُ رسول الله وأصحابه والتَّابعين ومَن بعدهم بإحسانٍ ... ولزوم الكتاب والسنة والذَّبّ عن الأئمّة المتَّبِعة لآثار السلف، واختيار ما اختاره أهلُ السنة من الأئمة في الأمصار، مثل مالك بن أنس في المدينة، والأوزاعي بالشّام، والليث بن سعد بمصر، وسفيان الثوري وحمّاد بن زيد بالعراق، مِنَ الحوادث ممَّا لا يوجد فيه رواية عن النبيّ والصحابة والتَّابعين، وتَرْك رأي المُلَبِّسين المُمَوِّهين المزخرفين الممخرِقين الكذَّابين!" .
إذاً فقد بان لذي بصيرة الطّالب للحقّ مَن يسوغ استفتاؤه في هذا.
فمالكم ـ يا شباب الإسلام! ـ تتهافتون على السياسة، وتهوي إليها أفئدتكم، وتأتون مجالسها من كل فجٍّ عميق، كأنها لكم! ولعل رجالها لم يخلقوا بعد في أوساطكم؟! فأولى لكم: تعلُّم ما في الكتاب والسنة مما تقدرون عليه ويجب عليكم أو يُستحب؛ لأنه أثبت لاستقامتكم وأضمن لوصولكم إلى ما قفزتم إليه الآن، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}.
ولما أضحى العملُ السياسي ـ الذي يؤمّه الشبابُ اليوم ـ مطيّةً للولوغ به إلى العنف المسمَّى زوراً جهاداً، ولما كان هؤلاء ـ أنصافُ المتعلِّمين ـ يهجمون بلا تردّد ولا تحفُّظ على البحث في دقائق مسائل الجهاد، أجدني حينئذ حريصاً على نقل كلمة عظيمة لابن تيمية ـ رحمه الله ـ قالها في معرض كلامه عن الجهاد، فقال: " وفي الجملة فالبحثُ في هذه الدَّقائق من وظيفة خَواصّ أهل العلم ".
وعن أبي هريرة : قال: قال رسول الله : » سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويُخَوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرُّوَيْبِضة «، قيل: وما الرويبضة؟ قال:
» الرجل التافه يتكلم في أمر العامة « رواه ابن ماجه وهو صحيح.
قال أبو شامة: " وأكثر ما أُتي الناس في البدع بهذا السبب؛ يُظَنُّ في شخص أنه من أهل العلم والتقوى، وليس هو في نفس الأمر كذلك، فيَرْمقون أقواله وأفعاله، فيَتَّبِعونه في ذلك، فتفسد أمورهم؛ ففي الحديث عن ثوبان أن النبي قال: (( إنّ مما أتخوَّف على أمتي الأئمةَ المُضلِّين )) أخرجه ابن ماجه والترمذي وقال: هذا حديث صحيح، وفي (( الصحيح )) أن النبي قال: (( إنّ
الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يَقبض
العلم بقبض العلماء، وحتى إذا لم يَبق عالمٌ اتَّخذ الناسُ رؤوساً
جهالا، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأَضلُّوا ))، قال الإمام الطرطوشي
ـ رحمه الله ـ: فتدبَّروا هذا الحديث؛ فإنه يدلّ على أنه لا يُؤتَى الناسُ قط من قِبَل علمائهم، وإنما يُؤتَوْن من قِبل أنه إذا مات علماؤهم أفتَى مَن ليس بعالم، فيُؤتَى الناسُ من قِبَله، قال: وقد صرَّف عمر هذا المعنى تصريفاً فقال: ( ما خان أمين قط، ولكن ائتُمن غير أمين فخان )، قال: ونحن نقول: ما ابتدع عالِم قطّ، ولكن استُفتي مِن ليس بعالم فضلّ وأضلّ، وكذلك فعل ربيعة؛ قال مالك: بكى ربيعةُ يوماً بكاءً شديداً، فقيل له: أمصيبة نزلت بك؟ فقال: ( لا! ولكن استُفتي مَن لا عِلم عنده وظهر في الإسلام أمر
عظيم ).
قلت: وعلى هذا كان هدي السلف؛ قال هشام بن عروة: " ما سمعتُ أبي يقول في شيء قطّ برأيه، قال: وربما سئل عن الشيء فيقول: هذا مِن خالص السلطان ".
وقال ابن هرمز: " أدركتُ أهل المدينة، وما فيها إلا الكتاب والسنة، والأمر ينزِل فينظر فيه السلطان ".
فمَن هو الرجل الصالح لذلك إذن؟ قال الله تعالى: {إنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وزَادَهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْمِ} فهو ليس عالماً فقط، بل مبسوطٌ له في العلم! قال ابن مسعود : " لايزال الناس صالحين متماسكين ما أتاهم العلم من أصحاب محمد ومن أكابرهم، فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا ".
وقال الشعبي ـ رحمه الله ـ: " ما جاءك من أصحاب محمدٍ فخذه، ودع عنك ما يقول هؤلاء الصعافقة "، قيل الصعافقة: الذين يدخلون السوق بلا رأس مال، أراد الذين لا علم لهم ".
وعلى هذا كان أصحاب رسول الله ألا ترى كيف لم يختلفوا في تولية أبي بكر إلا في جلسة واحدة تحت سقيفة، الأمر الذي لا تعرفه الديمقراطيات علىالرغم من أنها مدعومة بالحديد، واختاروا أبا بكر لأنه كان كما جاء وصفه في حديث أبي سعيد قال: " وكان أبو بكر أعلمنا " متفق عليه.
وقد كان رسول الله لا يشاور في القضايا السياسية إلا أبا بكر وعمر ومن هم على مستواهما، وما قصة أسرى بدر عنكم ببعيد.
ومما يدل على أن أهل العلم المبرزين كان لهم مجلس خاص بهم لا يشاركهم فيه غيرهم ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمر يُدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم:لِمَ يدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: " إنه ممن قد علمتم ".
وإنما امتاز ابن عباس بالدخول على المجتهدين دون غيره من الشباب لتميُّزه عنهم بدعاء الرسول : » اللهم فقِّهه في الدين وعَلِّمه التأويل « رواه أحمد وهو صحيح. قال ابن القيم: " ودعا النبي لعبدالله بن عباس أن يُفقِّهه في الدين ويُعَلِّمه التأويل، والفرق بين الفقه والتأويل: أن الفقه هو فهْم المعنى المراد، والتأويل إدراك الحقيقة التي يَؤول إليها المعنى التي هي أخيّته وأصله، وليس كل مَن فَقه في الدين عَرَف التأويل، فمعرفة التأويل يَختص به الراسخون في العلم ".
قلت: تأمل هذا تفهم سبب عدم الاكتفاء في أمر السياسة بالعلم، بل لا بدّ من الرسوخ فيه، ومَن عرَف مِن الشباب تأويل ابن عباس لسورة النصر ـ كما في تمام قصة عمر السابقة ـ عرَف هل يَصلح لهذا الأمر أو لا؟
وروى البخاري عن ابن عباس قال: كنتُ أُقْريء رجالا من المهاجرين منهم عبدالرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها، إذ رجع إلي عبدالرحمن فقال: لو رأيتَ رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا، فوالله ماكانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت، فغضب عمر ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذِّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم، قال عبدالرحمن: فقلت: " يا أمير المؤمنين! لا تفعل، فإن الموسم يجمع رَعاع الناس وغوغاءهم؛ فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيِّرها عنك كل مطير، وأن لا يَعُوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها "، فقال عمر: " أما والله ـ إن شاء الله ـ لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة ... ".
فما أعظم هذه المشورة! وما أقواه من مجتمع عرف مقادير الأشياء! وأين هذه التربية والنظر الحصيف من قوم يذيعون كل خبر عند العوام والخواص، خاصة منها الأخبار السياسية التي فتنت الناس اليوم، يتحدثون عنها في حماسة كبيرة كأنهم يستغيثون بالخلق من ظلم الخلق، لا تراه عليهم وهم يقررون التوحيد ويدفعون الشرك. وهل كان عمر يجمع الناس ويقول لهم: اجمعوا لي قصاصات الجرائد، وأنا أحللها لكم علانية، في شجاعة تامة، لا أخاف حاكما ولا طاغوتاً؟!
كلا! لا يتصور هذا في عمر الذي زجره النبي زجرا شديدا عن تتبع صحائف أهل الكتاب، فعن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه النبي فغضب قال:
» أمُتَهَوِّكون فيها يا ابن الخطاب؟!، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذِّبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتَّبعني « رواه أحمد وغيره وهو صحيح.
يتبع
__________________
رد مع اقتباس
  #11  
قديم 18 Jul 2010, 11:01 PM
أحمد سالم أحمد سالم غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: الجزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 608
افتراضي

ثم ألا تذكرون قصة الشورى في اختيار الخليفة من بعد عمر؟ ألم يكن الصحابة أكثر من عشرة آلاف؟ فلم يزد الأمر على أن تشاور ستة من أعيانهم فقط. وشبابنا اليوم يريدون من كبار المشايخ أن يخرجوا من الكتب الصفراء ليشاركوا أمتهم أحزانها زعموا، يريدون منهم أن يكونوا تحت ضغط الاستفزازات السياسية، ألا فهاكم كلمة حكيمة للشيخ ابن عثيمين ـ حفظه الله ـ لما سأله بعض المستعجلين في جرأة سخيفة: لماذا لا تردون على الحكام وتُبَيِّنوا ذلك للناس؟
قال الشيخ في وقاره وحلمه: " .. ولكن النصح مبذول ... والله! أنا أعلمتُك يا أخ ( فلان! ) وأعلمتُ الإخوان أن بيان ما نفعله مع الولاة فيه مفسدتان:
المفسدة الأولى: أن الإنسان يَخشى على نفسه من الرياء، فيبطل عمله.
المفسدة الثانية: أن الولاة لو لم يُطيعوا صار حجة على الولاة عند العامة فثاروا، وحصَل مفسدة أكبر ".
فتأمّلوا هذا الجواب الحكيم فإنه مستوحى من جواب بعض السلف حيث طلب منه بعض الثائرين أن ينكر على الخليفة عثمان بن عفان ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قيل له: ألا تدخل على عثمان لتكلمه؟ فقال: " أترون أني لا أكلمه إلا أُسمِعكم؟ والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه ". وفي رواية: " إني أكلمه في السر ".
ومثله ما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " دخلتُ على حفصة ونسْواتها تنطف، قلت: قد كان من أمر الناس ما تَرَيْن، فلم يُجعل لي من الأمر شيء، قالت: اِلْحق فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فلم تدَعْهُ حتى ذهب، فلما تفرَّق الناسُ خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليُطْلع لنا قرنه، فلنحن أحقُّ به منه ومن أبيه، قال حبيب بن مسلمة: فهلاَّ أجبته؟ قال عبد الله: فحللتُ حَبْوتي وهممت أن أقول: أحقّ بهذا الأمر منك مَن قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيتُ أن أقول كلمة تفرِّق بين الجمع وتَسفِك الدم ويُحمَل عني غير ذلك، فذكرتُ ما أعدَّ الله في الجنان، قال حبيب: حُفظتَ وعُصمتَ ".
قلت: يظهر من هذه الرواية رجاحة عقل ابن عمر رضي الله عنهما وسياسته الرشيدة؛ حيث منَعته مصلحة اجتماع الأمة على رجل واحد مِن ذكر مصلحته الخاصة، على الرغم من أن معاوية كان يقصده بكلمته تلك؛ كما في رواية عبد الرزاق بسند البخاري نفسه، قال الراوي: " يُعَرِّض بعبد الله بن عمر "، ثم لا بدّ من التنبيه على أنه جاء في » أمالي ابن الأنباري « زيادة بالسند الآتي، قال الراوي: حدَّثنا محمد ثنا أبو بكر ثنا موسى بن محمد الخياط ثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن هزيل بن شرحبيل قال: " خطب الناسَ معاويةُ فقال: لو بايع الناسُ عبدا مجدَّعا لتبعتُهم، ولو لم يبايعوني برضاهم ما أكرهتُهم، فنزل، فقال له عمرو بن العاص: قد قلتَ قولا ينبغي أن تأمَّله، فرجع إلى المنبر فقال ... " بنحوه.
قلت: فيُفهَم من هذه الرواية أن معاوية قال كلمةَ تواضعٍ في وقت اشتداد الفتن ـ أيام صفين كما نبَّه عليه الحافظ ـ الأمر الذي يتنافى مع سياسة الأمة بالحزم سدًّا لأبواب الشر، ولذلك لما نبَّهه عمرو بن العاص غيَّر اللهجة، وهذا ـ بغضّ النظر عن قضية صفين ـ هو الذي تقتضيه السياسة؛ فقد نصّ بعض الفقهاء على أن سلوك السياسة هو الأخذ بالحزم، وعند بعضهم أن السياسة شَرْعٌ مغلّظ، والله أعلم.
أذكركم بهذا لتعلموا أن شيوخ السلفية لا يتخطون خطى السلف، فليعرف لهم قدرهم من للحق انتصف.
فيا شباب الإسلام! توعية الأمة ليست بحاجة إلى داعية متحمس ولكن إلى مجتهد متفرس. فهل آن لكم أن تفرقوا بينهما؟
وأن تعرفوا أن فقه الواقع راجع إلى الذين شابت رؤوسهم مع نصوص الشارع، إنكم بجرأتكم هذه على أهل العلم واستصغاركم لهم واستخفافكم العملي بالوحيين وحملتهما، وتعظيمكم المدهش لحملة قصاصات الجرائد لنذير شر مستطير قال الله تعالى : {وقالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْءَانَ مَهْجُوراً}.
وتأملوا ما رواه البخاري عن ابن عباس " أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس ( في وفاة رسول الله )، فقال : اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فقال اجلس، فأبى أن يجلس، فتشهد أبو بكر فمال إليه الناسُ وتركوا عمر ". تركوا عمر ـ وما أدراك ما عمر! ـ لأنهم وجدوا أفضل وأعلم من عمر، وبرباطة جأش أبي بكر، وبحسن استماع الرعية، وبعدهم عن الحماسة التي لا تدعمها النصوص عُرف مصدر التلقي، فخمدت الفتنة في مهدها.
فلماذا زهدتم في المشايخ الكبار الذين أفنوا أعمارهم مع العلم تعلُّماً وتعليماً مع جَلَدٍ في الدعوة إلى الله أمثال الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين والشيخ الفوزان وغيرهم، ومِلْتم إلى ( طلبة العلم !! ) أول خطئهم التشبّع بما لم يعطوا حين عُنُوا بالتوجيه السياسي، وقد كفاهموه هؤلاء، لولا أنه قد قيل ويا بئس ما قيل: ( علماؤنا .. عندهم تقصير في معرفة الواقع .. نحن نستكملهم ) !!
وحتى الشيخ الألباني الذي ظل رَدْحا من الزمن متَّهَما بما اتُهِم به إخوانُه من المذكورين، رَقَّوْه اليوم وأوصلوه بصف فقهاء الواقع، لكن على حذر شديد جدا؛ لأنه لا يزال عندهم محدِّثا فقط، ولذا لم يبلغ رتبة فقيه الواقع
ـ عندهم ـ بفقهه، ولكن بفتواه في قضية الخليج التي وقعت في الوقت المناسب على قلوب تهواها، لا لدليلها، ولكن لتهييجها السياسي. ومثل هذا حب بعض الإخوان المسلمين لابن تيمية والإشادة بفضله، لا باعتبار عقيدته وفقهه وجهاده العلمي؛ لأن هذا لا يهتمون به إن لم يقفوا في وجهه، لكن فقط لأنه وقف في صف الجهاد ضد التتار فتأمل هذا الولاء السياسي المحض، وقل لا حول ولا قوة إلا بالله.
ولو حضرت حلقات الشيخ ابن باز ـ حفظه الله ـ لبكيت لنفرة الشباب
( الواعي!! ) منها، وهو من هو علما وسمتا ووقارا، ثم هم يزدحمون على الدروس العاطفية والسياسية التي تنفخ ولا تربي وإن ربت ففي حدود البنود الحزبية؛ ذلك لأنهم يجهلون أن الشيخ وأمثاله يقدمون دروسهم على ذلك النمط لأنه منهج عرفوه من سيرة الرسول أقصد ما قاله بعض السلف: " الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره " ـ كما يأتي بيانه قريبا فيما رواه البخاري ـ، وهؤلاء يقولون: ( يقدّم علما جافا ) ويقصدون جفافه من تزويقات قُصّاص هذا الزمان والكلمات المنمقة المؤنَّثة التي يبهرجون بها سترا لعورتهم العلمية، وتغريرا بالسذج إلى بدعتهم الحزبية، والحقيقة أنه هو العلم لو وجدوا له صبرا.
لقد عقد البخاري ـ رحمه الله ـ في »"صحيحه في" باب العلم قبل القول والعمل"مقارنة بين ابن عباس وأبي ذر رضي الله عنهما يبين بها معنى
( الرباني ) في قوله تعالى: {ما كانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الكِتابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتابَ وَبِما كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} بين فيه أن أبا ذر كان يذيع كل خبر يَعْلَمه من رسول الله خوف كتمان العلم، وقد لا يراعى في ذلك مستوى الناس أو قدرتهم على التحمل. وأما ابن عباس فخلاف ذلك.
قال ـ رحمه الله ـ: " وقال أبو ذر: لو وضعتم الصَمْصامة على هذه
ـ وأشار إلى قفاه ـ ثم ظننت أني أُنْفِذ كلمة سمعتها من النبي قبل أن تُجِيزوا علي لأَنْفَذتها.
وقال ابن عباس: ( كونوا ربانيين ) حكماء فقهاء، ويقال الرباني: الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ". اهـ من » صحيح البخاري «.
قال ابن حجر: " وهذا التعليق رُوِّيناه موصولا في مسند الدارمي وغيره من طريق الأوزاعي: حدثني أبو كثير ـ يعني مالك بن مرثد ـ عن أبيه قال: أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى وقد اجتمع الناس يستفتونه، فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال: ألم تُنْه؟ فرفع رأسه إليه، فقال: أرقيب أنت علي؟ لو وضعتم ... فذكره مثله. ورويناه في الحلية من هذا الوجه، وبيَّن أن الذي خاطبه رجل من قريش، وأن الذي نهاه عن الفتيا عثمان ".
وفي ( باب ما كان النبي يتخوَّلهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا ) قال ابن حجر: " ومناسبته لما قبله ظاهرة من جهة ما حكاه أخيرا من تفسير الرباني، كمناسبة الذي قبله من تشديد أبي ذر في أمر التبليغ لما قبله من الأمر بالتبليغ، وغالب أبواب هذا الكتاب لمن أمعن النظر فيها لا يخلو من ذلك ".
وقال ابن القيّم ـ رحمه الله ـ: " وفيه أيضا تنبيه لأهل العلم على تربية الأمة كما يُربي الوالدُ ولدَه؛ فيُرَبّونهم بالتدريج والترقي من صغار العلم إلى كباره، وتحميلهم منه ما يطيقون كما يفعل الأب بولده الطفل في إيصال الغذاء إليه ... .
وقد ذكر ابنُ حجر أيضا في موضع آخر فقال بعد ذكر الخلاف بين أبي ذر وجمهور الصحابة في كنز المال عن شداد بن أوس أنه قال: " كان أبو ذر يسمع من رسول الله الحديث فيه الشدة ثم يخرج إلى قومه، ثم يرخص فيه النبي فلا يسمع الرخصة، ويتعلق بالأمر الأول ".
وقال مالك: " اعلم أنه ليس يسلم الرجل حدّث بكل ما سمع، ولا يكون إماما أبدا وهو يحدث بكل ما سمع " رواه مسلم في مقدمة » صحيحه «.
قلت: ولعله السر في قول النبي لأبي ذر: (( يا أبا ذر، إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنين، ولا تَوَلَّيَنَّ مال يتيم )) رواه مسلم.
قال الذهبي: " وقد قال النبي لأبي ذر ـ مع قوة أبي ذر في بدنه وشجاعته ـ: » يا أبا ذر! إني أراك ضعيفا «.
فهذا محمول على ضعف الرأي؛ فإنه لو ولي مال يتيم، لأنفقه كله في سبيل الخير، ولترك اليتيم فقيرا. فقد ذكرنا أنه كان لا يستجيز ادّخار النقدين. والذي يتأمّر على الناس، يريد أن يكون فيه حلم ومداراة، وأبو ذر كانت فيه حدّة ـ كما ذكرناه ـ فنصحه النبي ".
الخلاصة
إن من يعلّم الناس عامةً القضايا السياسية ليس ربانيا، وإن زعم أنه يريد توعية الغافلين وتحريك الجامدين، أو يريد تحقيق شمولية العمل الإسلامي، ألا ترى ما بوب له البخاري حين قال: " باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا " وروى فيه عن علي قوله: " حدِّثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يُكَذَّب الله ورسوله؟! "، وفي » صحيح مسلم « أن ابن مسعود t قال:
" ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ".
وفي » الصحيحين «أن أبا هريرة كره التحديث بحديث الجِرابَيْن ـ الذي فيه تنقّص بعض الحكام ـ لظهور بوادر الخروج عليهم في وقته مع تفشي الجهل، وكان يقول : " لو شئتُ لسَمَّيتُهم "، ومثله عن حذيفة قال الحافظ: " ولهذا كره أحمد التحديث ببعض دون بعض الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ... "، فتأمل تصرف هؤلاء الحكماء من الفقهاء، وقارن بينه وبين تصرف متناقضي زماننا، الذين إن سَلَّموا بأن الردود على الحكام بالطريقة المعروفة اليوم لا يُجنَى منها خير، فإنهم يزعمون أنه لا بد من بيان تخطيطهم الماكر للمسلمين وفضح أسرارهم ليعرفوهم ... الخ، كأنه لم يبق من بنيان دين المسلمين إلا هذا، مع أن أكثر ديار المسلمين لا تزال مقيمة على شرك القبور. ولتعلم قيمة العلماء الربانيين اقتن الأشرطة المسجلة التي ناقش فيها الشيخ الألباني الدكتور ناصر العمر فإن فيها علما جمّا، وأذكر بهذه المناسبة أن هذا الأخير حين ذكر أن أصل كتابه » فقه الواقع « محاضرة عامة اعترض عليه الشيخ قائلا: " هذا خطأ؛ لأن فقه الواقع لا يكون إلا بين العلماء أو الأقوياء من طلبة العلم ... ".
ومن خالف هذا المنهج الرصين وقع وأوقع في فتنة عظيمة؛ لأنَّ التحليلات السياسية من أصعب الأمور، ثم الاختلاف في يسيرها أسرع شيء إحراجا للصدور، وأكثر فتنة للناس لضيق عَطَنهم، خاصة في عصر أضحى فيه الولاء والبراء بين الإسلاميين الواعين!! سياسيا بالدرجة الأولى لا عقديا.
الجامعون لفنون الشريعة هم السياسيون الشرعيون
لما كان لا يُفتي في السياسة إلا العالم المجتهد، كان لا يمارس السياسة إلا هو، قال الشاطبي ـ رحمه الله ـ: " فإذا بلغ الإنسان مبلغا فَهِمَ عن الشارع فيه قَصْدَه في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصفٌ هو السبب في تنزّله منزلة الخليفة للنبي في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله ".
وقال الشافعي ـ رحمه الله ـ: " ولا يشاوِر إذا نزل المشكل إلا أمينا عالما بالكتاب والسنة والآثار وأقاويل الناس والقياس ولسان العرب " » مختصر المزني «.
قال ابن الصباغ في الشامل: " اعتبر الشافعي أن يكون الإمام من أهل الاجتهاد؛ لأنه إذا لم يكن من أهل الاجتهاد فلا قول له في الحادثة ).
وقال الشاطبيّ: " إنّ العلماء نقلوا الاتّفاق على أنّ الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع ".
قلت: وهذا الاتّفاق لا يضره وجود المخالف؛ لأنّ من خالف فقد شرط الاجتهاد فيمن يستفتيه الإمام كما قال الشهرستاني: " ولكن يجب أن يكون معه من يكون من أهل الاجتهاد فيراجعه في الأحكام ". فعاد الأمر إلى اشتراط الاجتهاد سواء في الإمام نفسه أو فيمن يرجع إليه الإمامُ من الفقهاء.
وقال ابن حمدان الحرّاني: " المجتهد المطلق وهو الذي ذكرناه آنفا إذا استقلّ إدراكه للأحكام الشرعيّة من الأدلّة العامة والخاصة، وأحكام الحوادث
منها ...).
نكت في آيات الكتاب
من تدبّر آيات الكتاب الكريم في كل حديث عن الخلفاء الشرعيّين ـ ونحن نحب أن تكون الخلافة لفقهاء الشريعة ولاريب ـ يجد أنّ الله ما ذكر أحدا منهم إلا وصفه بالعالم المحيط بفنون الشريعة؛ فآدم أوّل من ساس البشر، ميّزه الله عن الملائكة بالعلم حتى كانت الخلافة له دونهم، ومهما اختلف المفسّرون في كلمة {خَلِيفَة} التي في أوّل سورة البقرة، فإنّه لا ينتفي عنها معنى السلطان، وهذا الذي أشار إليه ابن تيمية حين قال: " في الخلافة والسلطان وكيفية كونه ظلّ الله في الأرض، قال الله تعالى: {وإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً}، وقال الله: {يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ}، وقوله: {إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً} يعمّ آدم وبنيه، لكن الاسم متناول لآدم عيناً، كقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ... "، ولهذا قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: " هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يُسمَع له ويطاع ...".
وأقول: إنّ الله اختار آدم لخلافة الأرض دون الملائكة لا لكونه عالما ببعض دون بعض، ولكن لكونه محيطا بما عبّر الله عنه بلفظ الكلية حين قال: {وعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ} ولم يسكت ولكن زاد {كُلَّهَا}.
ـ ومثله قوله تعالى: {ولَقَدْ آتَيْنا دَاوُودَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقَالاَ الحَمْدُ لِلَهِ اَّلِذي فَضّلَنا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ. وَوَرِثَ سُلَيْمانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ}، قال ابن باديس ـ رحمه الله ـ: " {عِلْماً} نوعاً عظيماً ممتازاً من العلم، جَمَعا به بين المُلْك والنّبوّة وقامَا بأمر الحُكم والهداية ".
وقال: " تنويه وتأصيل: قد ابتدأ الحديث عن هذا المُلْك العظيم بذكر العلم، وقدّمت النّعمة به على سائر النّعم تنويها بشأن العلم وتنبيها على أنّه هو الأصل الذي تنبني عليه سعادة الدنيا والأخرى، وأنّه هو الأساس لكل أمر من أمور الدين والدنيا، وأنّ الممالك إنما تُبنى عليه وتُشاد، وأنّ الملك إنما يُنظَّم به ويُساس. إنّ كل مالم يُبْن عليه فهو على شفا جرف هار وأنّه هو سياج المملكة ودرعها وهو سلاحها الحقيقيّ، وبه دفاعها وأنّ كل مملكة لم تُحْم به فهي عُرضة للانقراض والانقضاض ".
ـ ومثله قوله تعالى: {ويَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِنْهُ ذِكْراً، إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ في الأَرْضِ وَءَاتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً}، قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسُّدي وغيرهم: " يعني عِلْماً "؛ أي من كل شيء علماً، إذن فهي الإحاطة بكل فنون العلم.
فتأمّل العلم المبسوط على هؤلاء السياسيين الصّالحين، وقد روى أبو حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدّث عن النبي قال: (( كانت بنو إسرائيل تسوسُهم الأنبياءُ، كلما هَلَك نبيٌّ خَلَفَه نبيٌّ، إلا أنّه لا نبيَّ
بعدي )) متفق عليه، ومصداقه في كتاب الله قوله سبحانه: {إنّا أنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيها هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ ...} الآية.
إذن فالسياسة كانت للأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لأنهم كانوا أحقّ بها وأهلها، فإذا مات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانت نصيب ورثتهم قال رسول الله :" إنّ العلماء ورثة الأنبياء « رواه التّرمذيّ وهو حسن.

يتبع
رد مع اقتباس
  #12  
قديم 19 Jul 2010, 10:01 PM
أحمد سالم أحمد سالم غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: الجزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 608
افتراضي

فما لطلبة العلم يحومون حول التّركة طامعين، وليس لهم فيها نصيب لا تعصيبا ولا مفترضين؟! ولهذا كان من دقّة التّعبير القرآنيّ أن وصف اللهُ الرّجال المستحقين للإمامة بـ ( اليقين ) في علمهم فقال سبحانه: {وجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا ُيوقِنُونَ}، فجعل اليقين بدل العلم للفرق الواضح بين مجرّد العلم وبين علم اليقين، والمقام مقام إمامة واقتداء، وقد قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " فأخبر أن إمامة الدين إنما تُنال بالصبر
واليقين "، فما أعظم أسرار الكتاب!
ومن هنا قال ابن تيمية: " كان الرسولُ وخلفاؤه يَسوسون الناس في دينهم ودنياهم، ثم تفرقت الأمور: فصار أمراء الحرب يسوسون الناس في أمر الدنيا والدين الظاهر، وشيوخ العلم والدين يسوسون الناس فيما يُرجَع إليهم فيه من العلم والدين ".
تنبيهان
1 ـ لايزول العَجَب من قوم ـ أحسن ما يقال فيهم أنهم طلبة علم
ـ يَقيسون أنفسهم على ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فمارسوا السياسة بدعوى أنّ ابن تيمية كان يمارس السياسة! والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أنّ هذا النّوع من الاستدلال بأحوال الرّجال على حكم شرعي خبط منهجي لا تعرفه السلفية وخطأ يقدح في توحيد المتابعة، وذلك لأنّ ابن تيمية ـ كغيره من أهل العلم ـ يُستدَلُّ له ولا يُستدَلّ به، كما ذكر ذلك هو نفسه ـ رحمه الله ـ في (( رفع الملام )) وغيره من مصنفاته، فهل من متذكر؟!
الثاني: أنّ ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لم يمارس السياسة وإنما أفتى في السياسة كما أفتى في غيرها من فنون الشّريعة، وقد كان يقول: " أنا رجل ملّة، لا رجل دَوْلة "
الثّالث: أين أنتم من ابن تيمية؟! ذلك المجتهد المطلق، يقاس عليه طلبة العلم اليوم؟! ما أشبهه بقياس الحدّادين على الملائكة! قال رسول الله :
» المتشبِّعُ بما لم يُعْطَ كلابِس ثوبَيْ زور « متفق عليه.
2 ـ وأغرق في الخطأ: مَن يحتجّ بممارسة يوسف السياسة حين قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} مع أنّه e ما دخلها إلا وله شهادة من الله مكتوب عليها {إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}. وأهل البلاغة يفرّقون جيّداً بين
( الحافظ ) و( الحفيظ )، وبين ( العالم ) و( العليم )، فتدبّر هذا فإنّه من أسرار الكتاب الحكيم! كما أنّه يُتعجَّب من آخرين سوّغوا لأنفسهم استلام الوظائف السياسية اليوم بما في ذلك البرلمانات الكافرة أوالفاجرة، محتجّين بفعل يوسف عليه الصلاة والسلام، غافلين عن أنّه e لم يَسألها ولكن عَرَضها عليه الملِك نفسه، ولم يَقبلها إلا بعد أن ضمن له الأمن والتّمكين، فلا مضايقات ولا استفزاز، ولا تنزّلات ولا استدراج، ولا مساومات ولا احتجاج، ولذلك تأمل ترتيبه في قوله تعالى: {وقالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ. قالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}، وأما هؤلاء فقد أُعجِبوا بإيمانهم وحَسّنوا ظنّهم بأنفسهم حتى صوّر لهم الشيطان خيال التّصلب في الحق، وهم ذائبون في رضا أنظمة الخلق، والله المستعان. أما يوسف فلم يميِّع دينَه، ولم يَأْلُ من السياسة الشرعيّة جهدَه، ولا نفّذ قانون الملك الكافر باسم مصلحة الدعوة قال الله تعالى: {ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ في دِينِ المَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}().
ولو تنزّلنا جدلاً إلى مدّعاهم لقلنا كما قال علماء أصول الفقه: " شَرْعُ مَن قبلنا ليس شرعاً لنا فيما خالف فيه شرعنا " وقد خالفه؛ لأننا نهينا عن سؤال الإمارة كما في حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله e: » يا عبد الرحمن! لاتسأل الإمارة؛ فإنّك إن أُعطِيتَها عن مسألة وُكِلْتَ إليها وإن أُعطيتها من غير مسألة أُعِنتَ عليها « متفق عليه. ولقلنا إنّ يوسف عليه الصلاة والسلام قد زكّاه الله ولايَعمَل إلا بأمر الله، أي كل البشر تجري عليهم قاعدة » إن أُعطِيتَها عن مسألة وُكِلْتَ إليها ... « إلا من زكّاه الوحي الذي لا يعتريه الخطأ، أما هؤلاء ( المتكيّسون ) اليوم فهم خاضعون للأوضاع القانونيّة اليوم أو غداً، بل قبل أن يمارِسوا السياسة لا بد أن يحلفوا على احترام الدستور! وقد حصل، بل لا نعرف أن غيره قد حصل. فعَجَباً لمن يُنَحّي الكفر بالكفر!
فتحصّل من هذه العجالة أجوبة خمسة هي:
ـ أن يوسف لم يسأل الإمارة وإنما عُرضت عليه، كما يدل عليه السياق، وكل ما في قوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} بيان لتَخَصُّصه واختياره .
ـ أنه أمِن من مضايقات النظام، ومُكِّن للعمل بشريعة الإسلام، وهذان الأمران خيال في واقع أنظمة الأرض اليوم.
ـ أنه مزكَّى بما أنه رسول، فيُؤمَن عليه ما يُخاف على غيره؛ فعن محمد بن سيرين: أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين، فقدِم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدوّ الله وعدوّ كتابه؟! فقال أبو هريرة: فقلت: لست بعدوّ الله وعدوّ كتابه! ولكني عدوّ من عاداهما، قال: فمن أين هي لك؟ قلت: خيل نُتجت، وغلّة رقيق لي، وأعطية تتابعت، فنظروا، فوجدوه كما قال، فلما كان بعد ذلك، دعاه عمر ليُولِّيه، فأبى! فقال: تكره العمل وقد طلب العمل من كان خيرا منك: يوسف ! فقال: يوسف نبي ابن نبي ابن نبي وأنا أبو هريرة بن أميمة، وأخشى ثلاثا واثنتين، قال: فهلا قلتَ: خمسا؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينزع مالي، ويشتم عرضي ".
ـ أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا فيما خالف فيه شرعنا، وقد خالفه.
ـ أن يوسف تصرّف فيما تصرف فيه بمنصب الرسالة، فلو جاز لأحد أن يقتدي به فيه فوارثه الشرعي وهو المجتهد؛ قال ابن عبد البر: " فإذا كان ذلك، فجائز للعالِم حينئذ الثناء على نفسه، والتنبيه على موضعه، فيكون حينئذ تحدَّث بنعمة ربِّه عنده على وجه الشكر لها ". والله أعلم.
تأصيل
قال الله تعالى: {وإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيِكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83].
هذه الآية في بيانها الواضح أصل في هذا الباب، قال الشيخ عبد الرحمن السّعدي: " هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنّه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمّة والمصالح العامة ما يتعلّق بالأمن وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة، عليهم أن يتثبّتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردّونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم أهل الرّأي والعلم والنّصح والعقل والرّزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدّها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا ما فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرّته تزيد على مصلحته لم يذيعوه، ولهذا قال:{لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السّديدة وعلومهم الرّشيدة. وفي هذا دليل لقاعدة أدبيّة وهي إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يُوَلَّى من هو أهل لذلك ويُجعل من أهله، ولا يُتقدّم بين أيديهم فإنّه أقرب إلى الصّواب وأحرى للسّلامة من الخطأ وفيه النّهي عن العجلة والتّسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتّأمّل قبل الكلام، والنظر فيه هل هو مصلحة فيقدم عليه الإنسان أم لا فيحجم عنه".
سبب النزول:
قال عبد الله بن عباس: " مكثتُ سَنَةً وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطّاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبةً له حتى خرج حاجًّا فخرجت معه، فلمّا رجع فكنّا ببعض الطريق عَدَل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت له حتى فرغ، ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين! مَنِ اللّتان تظاهرتا على رسول الله من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة، قال: قلت له: والله! إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك، قال: فلا تفعل، ما ظننتَ أنّ عندي من علم فسلْني عنه، فإن كنت أعلمه أخبرتك، قال: وقال عمر: والله إن كنّا في الجاهليّة ما نعدّ للنّساء أمرا، حتى أنزل الله فيهنّ ما أنزل، وقسم لهنّ ما قسم؛ كنّا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في بني أميّة ابن زيد بالعوالي). قال: فبينما أنا في أمر أَئْتَمِرُه، إذ قالت لي امرأتي: لو صنعتَ كذا وكذا، فقلت لها: ومَا لكِ أنت ولما ههنا؟ وما تكلفُكِ في أمر أريده؟ فقالت: عجبا لك يا ابن الخطّاب! ما تريد أن تراجَعَ أنت وإنّ ابنتك لتُراجِعُ رسول الله حتى يظلّ يومه غضبان. قال عمر: فآخذُ ردائي ثم أخرج مكاني، حتى أدخل على حفصة فقلت لها: يا بنيّة! إنّك لتُراجعين رسول الله حتى يظلّ يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله إنّا لنُراجعُه. فقلت: تعلمين أنّي أحذِّرُك عقوبةَ الله وغضبَ رسوله، قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسِر. أفَتَأْمَن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله.فإذا هي قد هلكت. لا تراجعي رسول الله ولا تسأليه شيئا، وسليني ما بدا لك، يا بنيّة! لا يَغرنَّك هذه التي قد أعجبها حسنها وحبّ رسول الله إيّاها. ثم خرجتُ حتى أدخلَ على أمّ سلمة لقرابتي منها، فكلمتها فقالت لي أمّ سلمة: عجبا لك يا ابن الخطّاب! قد دخلتَ في كل شيء حتى تبتغي أن تدخلَ بين رسول الله وأزواجه! قال: فأخذَتْني أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها. قال: وكان لي جار من الأنصار، فكنّا نتناوب النّزول إلى رسول الله ، فينزل يوما وأنزل يوما، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك، ونحن حينئذ نتخوّف ملِكا من ملوك غسّان، ذُكر لنا أنّه يريد أن يسير إلينا فقد امتلأت صدورنا منه، فأتى صاحبي الأنصاري عشاء يدقّ الباب، وقال: افتح، افتح، فقلت: جاء الغسّانيّ؟ فقال: أشَدّ من ذلك؛ اعتزل رسول الله أزواجه، فقلت: رَغِمَ أنفُ حفصة وعائشة، قد كنت أظنّ هذا كائنا، حتى إذا صلّيت الصّبح شددت علي ثيابي، وفي رواية: دخلت المسجد، فإذا الناس يَنْكُتون بالحصى ويقولون طلّق رسول الله نساءَه
ـ وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب ـ قال عمر: فقلت: لأَعلمنَّ ذلك اليوم، وأتيت الحُجَر فإذا في كل بيت بُكَاء. قال: فدخلت على عائشة فقلت: يا بنت أبي بكر! أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله ؟ فقالت: مالي ومالك يا ابن الخطّاب؟ عليك بعَيْبَتك قال: فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله ؟ والله لقد علِمتِ أنّ رسول الله لا يحبّكِ، ولولا أنا لطلّقكِ رسول الله ، فبكت أشدّ البكاء، فقلتُ لها: أين رسول الله ؟ قالت: هو في خزانته في المَشْرُبة، فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله قاعدا على أَسْكُفَّةِ المشربة مُدَلّ رجليه على نقير من خشب ـ وهو جذع يرقى عليه رسول الله وينحدر ـ فناديت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله ، فنظر رباحٌ إلى الغرفة، ثم نظر إليّ فلم يقل شيئا، ثم قلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله ، فنظر رباحٌ إلى الغرفة ثم نظر إليّ فلم يقل شيئا، ثم رفعت صوتي فقلتُ: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله ، فإنّي أظنّ أنّ رسول الله ظنّ أنّي جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله بضرب عنقها لأضربنَّ عُنُقَها، ورفعت صوتي، فأومأ إليّ أن ارقَه، فدخلت فسلّمت على رسول الله ، فإذا هو متّكئ على رَملِ حصير قد أثّر في جنبه، قال: ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله! ما يشقّ عليك من شأن النساء؟ فإن كنت طلّقتهنّ فإنّ الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلّما تكلمتُ ـ وأحمد الله ـ بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدّق قولي الذي أقول، ونزلت هذه الآية؛ آية التّخيير {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنكُنَّ}، {وَإِن تَظَاهَرَا َعَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}، وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء النبيّ ، فقلت: أطلّقت ـ يا رسول الله! ـ نساءَك؟ فرفع رأسه إليّ وقال:» لا «، فقلتُ: الله أكبر! لو رأيتنا يا رسول الله! وكنّا معشر قريش، قوماً نغلِب النساء، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلِبُهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، فتغضّبتُ على امرأتي يوماً، فإذا هي تراجعني، فأنكرتُ أن تراجعني، فقالت: ما تنكرُ أن أراجعك؟ فوالله! إنّ أزواج النبي ليراجعنَه وتهجره إحداهنّ اليوم إلى اللّيلة، فقلتُ: قد خاب من فعل ذلك منهنّ وخسر، أفتأمن إحداهنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟ فتبسّم رسول الله ، فقلتُ: يا رسول الله، قد دخلتُ على حفصة فقلتُ: لا يغرنّكِ أن كانت جارتكِ هي أوسم منكِ وأحبّ إلى رسول الله منكِ، فتبسّم أخرى، فقلتُ: أستأنس يا رسول الله؟ قال:» نعم «، فجلستُ، فرفعتُ رأسي في البيت فوالله! ما رأيتُ فيه شيئا يردّ البصر إلا أُهُبا ثلاثة، فنظرتُ ببصري في خزانة رسول الله فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصّاع ومثلها قَرَظًا في ناحية الغرفة، وإذا أُفِيقٌ معلّقٌ، قال: فابتدرت عيناي قال:» ما يبكيك يا ابن الخطّاب؟ «، قلتُ: يا نبيّ الله، ومالي لا أبكي؟ وهذا الحصير قد أثّر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى وذاك قيصر وكسرى في الثّمار والأنهار، وأنت رسول الله وصفوته وهذه خزانتك، فقلت: ادعُ الله يا رسول الله! أن يوسّع على أمّتك فقد وسّع على فارس والرّوم، وهم لا يعبدون الله! فاستوى جالسا ثم قال:"" أفي شكٍّ أنت يا ابن الخطّاب؟ أولئك قوم عجِّلت لهم طيّباتهم في الحياة الدنيا، يا ابن الخطّاب، ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ « قلت: بلى، فقلت: استغفر لي، يا رسول الله! قلتُ: يا رسول الله، إنّي دخلتُ المسجد والمسلمون ينكُتون بالحصى، يقولون: طلّق رسول الله نساءَه، أفأنزلُ فأخبرهم أنك لم تطلّقهنّ؟ قال: (( نعم، إن شِئت )) فلم أزل أُحدِّثه حتى تَحَسَّر الغضب() عن وجهه، وحتى كشَر فضحك ـ وكان من أحسن النّاس ثغرا ـ ثم نزل نبيّ الله ونزلتُ، فنزلت أتشبّث بالجذع ونزل رسول الله كأنّما يمشي على الأرض ما يمسّه بيده، فقلتُ: يا رسول الله! إنما كنتَ في الغرفة تسعة وعشرين، قال:» إنّ الشهر يكون تسعا وعشرين « فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي:لم يطلّق رسول الله نساءَه، ونزلت هذه الآية: {وإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنبِطونَهُ مِنْهُم} فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله آية التّخيير. رواه البخاري ومسلم.


يتبع

التعديل الأخير تم بواسطة أحمد سالم ; 23 Jul 2010 الساعة 04:48 AM
رد مع اقتباس
  #13  
قديم 19 Jul 2010, 10:02 PM
أحمد سالم أحمد سالم غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: الجزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 608
افتراضي

بعض فوائدها
ـ أوَّلها أن عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة yكان قد بلغهم أن مَلِك غسّان يدبِّر لهم شرا، فلم يثنهم هذا عن طلب العلم بزعم تتبّع الأخبار! ومع الأسف الشديد إنك لتدخل المكتبات العامة التي يرتادها طلبة العلم الشرعي فتجد أكثرهم في جانب المجلات و( الدوريات ) يستطلعون الواقع! مع أن المكتبات زاخرة بكتب التوحيد والتفسير والسنة، ولا تكاد جموعهم تكثر ههنا إلا لبحث مدفوع إليه دفعاً لنيل شهادة أو لدراهم معدودة! اللهم إلا القليل الذين حُبِّبَ إليهم الدين حقيقة. ويالله العجب! فكم هم الذين ليست لهم أوراد يومية من الأذكار النبوية، مع أن وِرْدهم مع الإذاعات والجرائد آنية!! والله المستعان.
ـ و منها التحذير من إشاعة الأخبار التي وصفها بالخوف والأمن، والسياسة ـ من هذا الباب ـ إمّا خبر سار آمن، وإمّا خبر مخوف محزن، وتجد اليوم عمدة السياسيين الجلَّى على تتبّع الأخبار، وتراهم يُفنون أعمارهم في دراسة طرق إذاعتها بدقّة، حتى يتمكّنوا من تخويف المؤمنين وتأمين أعداء الدين، ومن تأمّل أحوال الإسلاميّين ـ الذين يتوسّلون إلى توعية أتباعهم من الخواص والعوام بتحليل الأخبار السياسية والتّظاهر بسعة الاطّلاع فيها ـ من أشدّ الناس تأثّرا بإرجافها، ممّا يبعث في نفوسهم فزعا شديدا من أعدائهم، حتى إنهم ليحسبون كل صيحة عليهم، وأنّ كل هزيمة فمن مكرهم بهم، مع هذا فهم يَظهرون للسّذج شجعانا إذ ظنّوهم يصدعون بالحق، ومن أمارات هذا التّأثّر أنك لو قلت لهم دعوا العوام لا تشغلوهم بالقضايا السياسية، ولا تخدموا أعداءكم بإذاعة أخبارهم، لأنّها توهن المسلمين في استضعافهم، وليسعكم قول الله تعالى حينئذ {وإِن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} قالوا في جرأة لا تحترم النّصوص: " وهل نبقى مكتوفي الأيدي مع أعداء ماكرين؟ "، ولم يتدبّروا أنّ الله المطّلع على كيد الأعداء أمر بالصبر بعد أن بيّن مكرهم الكبار كما قال في هذه الآية: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}، هذا مع أنّ كفّ الأيدي في زمن ما ممّا أمر الله به حين قال: {أَلَمْ تَرَ إِلى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً..}، وهو شريعة محكمة ما وُجد زمنها، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعَف أو في وقت هو فيه مستضعَف، فليعمل بآية الصبر والصّفح والعفو عمّن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوّة فإنما يعملون بآية قتال أئمّة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطُوا الجزية عن يد وهم صاغرون ".
بهذا يتبيّن لنا سرّ منع الله تعالى المؤمنين أن يشغلوا أنفسهم بالعدّة الماديّة في الوقت الذي هم في حاجة إلى العدّة الإيمانيّة، والجمع بينهما ـ كما يتخيّله المحاولون الاعتدال والتّوسّط ـ في وقت افتقارهما وافتقار السلطان خطأ واضح وخلاف السّيرة النبوية؛ لأنّه لا بدّ أن تطغى إحداهما على الأخرى، ولمّا كان الإنسان أكثر إيمانا بعالم الشّهادة من عالم الغيب، فإنّه لا بدّ أن يميل إلى الاستعداد المادّي الذي يمثّل عالم الشّهادة حتى يفقد أعظم روافد النصر وهو التوكل على الله، إغراقا في التوكل على الأسباب، مع أنّ الله يقول: {إن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُم وَإِن يَخْذ لْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِن بَعْدِهِ وعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ}.
وتأمّل كيف جعل الرّسلُ عليهم الصلاة والسلام الصبرَ على الأذى، من التوكل قال الله تعالى حكاية عنهم {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا ءَاذَيْتُمُونَا وَعلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُون}.
إذن فالبدء بالاستعداد الإيماني ثم إتباعه ـ بعده وليس معه ـ بالاستعداد المادّي كما قال الله تعالى للمؤمنين في المدينة الذين حقّقوا أصل الإيمان في مكّة: {وأَعِدُّوا لَهُم ما اسْتَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وعَدُوَّكُمْ وءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ}.
خلاصة هذه الفائدة: التحذير من إشاعة الأخبار؛ لأنّها تحمل معها أمنها أو خوفها، والنّفوس ضعيفة، هذا مع ما فيها من شهوة التّطلّع إلى الواقع، خاصة واقع الكراسي؛ فإنّ الأفئدة تهوي إليها معرضة عن الوحي، وإليك هذه العبرة:
عن سَعد في قول الله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ} الآية، قال: أنزل الله القرآن على رسوله فتلاه عليهم زمانا، فقالوا: يا رسول الله لو قَصَصْتَ علينا؟ فأنزل الله تعالى: {الـــر . تِلْكَ ءايَاتُ الكِتَابِ المُبِين} إلى قوله {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ} الآية، فتلاها رسول الله زمانا، فقالوا: يا رسول الله! لو حَدَّثْتَنا؟ فأنزل الله تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشابِهاً} الآية، قال: كل ذلك يُؤثَرون بالقرآن ( وفي موارد الظّمآن: كل ذلك يؤمرون بالقرآن ) قال خلاّد: وزاد فيه آخر، قال: قالوا: يا رسول الله! لو ذَكَّرْتنَا؟ فأنزل الله تعالى {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ} الآية.
فتأمّل هذه التربية الربانية والرّعاية النبوية للصّحابة وقد عرفت ثمارها فيهم، وتأمّل تربية من يستجيب لرغبة العوام فيفسدهم بالأخبار السياسية ويهيّج الشباب بلا فائدة، ثم هو يتململ قائلا: لماذا يتخلّفون عن دروس العلم الصحيح التي فيها تلاوة الوحيين، بل وتعلّم العقيدة الصحيحة التي هي مفتاح الجنة، ويزدحمون على الدّروس السياسية التي تروّعهم، بل تتخبّطهم تخبّط الجِنّة.
وإن تعجب فعجب قول ناصر العمر في شريط ( السعادة بين الوهم والحقيقة ): " هذه قصة عجيبة تابعتُ فصولها على مدى خمسة عشر عاما ... وقد تابعت شخصيا هذه القصة منذ أكثر من خمسة عشر عاما، وهي قصة
( كرستينا أوناسيس )! "، فسئل: " ما هو قولك في تتبع قصص الكافرين في هذا الزمان الذي حلت عليه المحن والفتن؟ ".
فأجاب: " إذا كان فيها عبرة فلا بأس! فهذا القرآن مليء بقصص الكافرين ... فإذا كان تتبعها من أجل العبرة ومن أجل العظة فهي من الأمثال التي تضرَب في ذلك، فإنه على خير! لا من أجل الاقتداء وأجل العظمة، لا ولكن من أجل أن نتجنب سبيلهم {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلَ المُجْرِمِينَ}، من أجل استبانة سبيل المجرمين فإنهم .. يحسن هذا الأمر، أما إذا خشي على نفسه فلا! ".
قلت: هل تعني أن النبي كان يفعل ذلك؟ مع أنك لو تأملت القصص النبوي لألفيته مما لا تطوله يد الواقع؛ لأنَّ جلّه عن بني إسرائيل والأمم السابقة مما لا يعرف إلا بالوحي، ولذلك كثيرا ما كان يقول عليه الصلاة والسلام:
" لقد كان فيمن كان قبلكم كذا وكذا ".
ثم هل استبانة سبيل المجرمين تكون بتضييع أعمار المسلمين؟! وهل يَفِي بهذا عمر نوح عليه السلام؟ وهل استنتاج أن السعادة ليست في جمع المال يستلزم منك توريط الشباب في متابعة القصص الغرامية؟! إن الذي يتتبع قصة هذه اليونانية ويقرأ لها أياما متتابعة لا بد أن يعشقها فكيف وهي ربع عمر الإنسان؟! لقد كان يكفيك قول الله {ما أَغْنَى عَنِّي مَالِيَه} للحذر من فتنة المال!
أما تذكر نهي النبي لعمر عن تتبع ما في صحيفة التوراة؟ مع أن هذا أولى وأهم مما ذكرتَ، بل إنَّ الله نهى نبيَّه عن متابعة خبر أهل الكهف إلا ظاهرا دون الغوص في تفاصيلها مع أنهم فتية مؤمنون فقال: {فَلاَ تمُارِ فيهِمْ إِلاَّ مِرَاءاً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فيهِم مِنْهُمْ أَحَداً}.
إن زعم ( استبانة سبيل المجرمين ) ـ على فهمكم ـ هو الذي أمْلى على جبهة الإنقاذ عندنا اقتناء الهوائيات المقَعَّرة ( الدُّش )، بل لم يُعرَف زمن انتشرت فيه هذه الأجهزة انتشاراً واسعاً إلا أيامها، لحماية دولتهم الوهمية زعموا! وقد كانوا يطوفون على البيوت لمَدِّها بأسلاكها، فلما ذهبت ريحهم ذهبوا وتركوا الأمة تتقاسم هذا الميراث الخبيث، قال الله تعالى:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ ِمن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيداً ويُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ}.
ـ ومنها أنّ في قوله تعالى: {وإذَا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ} دليلاً على أنّ العامي قد يدرك من الواقع ما يخفى على العالم، ولا يعدّ عيباً في العالم؛ لأنّ إحصاء واقع الناس ليس إلا إلى ربّ الناس، لكن العيب فيما إذا أفتى المجتهد في نازلة ولمّا يسأل أهل الاختصاص عن ملابساتها وهو يقدر على ذلك. فقد كان يخفى على النبي القليل أو الكثير من واقع الناس، فيأتيه العاميّ بالخبر اليقين فيفتي عليه السلام على غرار ما سمع، وخذ مثالا على ذلك قصّة الثلاثة الذين عزفوا عن الدنيا ... وهل نسيت أنّ الهدهد قال لسليمان عليه السلام: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}، فهذا طائر عَلِم من الواقع مالم يعلمه رسول أوتي من الملك ما لم يؤته أحد من قبله ولا من بعده، بل كان يعلم من واقع الطير والنمل ومنطقها ما هو معلوم، فما لعصافير الأحزاب الإسلامية تتطاول على العلماء، أن رأوا أنفسهم تُحَلِّق في أجواء مكذوبة حسبوها يقين الأنباء؟!! قال العلامة عبد العزيز بن باز: ".. ومما يَكثر فيه الكلام من مظاهر الجهل بالواقع اتّهام بعض أهل العلم والفضل بالجهل بأحوال المنافقين والعلمانيين، وهذا غير قادح؛ إذ يوجد في الأمة منافق أو زنديق لا يَعلمه العلماء ولا يَعرفون حاله، ولا يُعَدُّ هذا الخفاء عيباً في حقهم، قال الإمام الذهبي في ترجمة الحلاج: كان جماعة في أيام النبي منتسبون إلى صحبته وإلى ملّته وهم في الباطن مردة المنافقين، قد لا يَعرفهم نبي الله e ولا يَعلَم بهم قال الله تعالى:{ومِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَرَّتَيْنِ}، فإذا جاز على سيِّد البشر أن لا يَعلَم ببعض المنافقين ـ وهم معه في المدينة سنوات ـ فبالأولى أن يَخفَى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين الإسلام بعده على أمته ... ".
من أجل هذا لم أذكر هنا هذا العلم أعني المسمّى ( فقه الواقع ) في صفات المجتهد. ومن مظاهر الغلوّ فيه أنّني سمعت مرارا من يتناقل قصّة عن الشيخ محمد ابن عثيمين ـ حفظه الله ـ يريدون إدانته بجهله بالواقع زعموا، فيقولون:
" لقد نُبِّه الشيخ على وجود مجلاّت خليعة بالأسواق، وفي كل مرّة ينكر ذلك؛ لأنّه لم يرها، فبينما هو في درسه إذ دخل عليه من رمى بالمجلّة في حجره، فقام الشيخ بعدها فكتب في التحذير منها ومن الأفلام! ".
أقول: إن صحّ هذا فإنّه لا يقدح في الشيخ ولا في علمه، كما لم يقدح في النبي e عدم علمه بمثل ما ذكرته آنفا، ولا في عمر ولا في ابن عباس عدم علمهما بواقع قصّة الطلاق، بل هذا يزيد الشيخ ابن عثيمين منقبة على منقبة؛ لأنّه يدلّ على انكبابه على العلم تعلّما وتعليما وشغل وقته به، حتى لم يجد فراغا للتّطلّع على ما في الأسواق، وأنّ قراءة المجلاّت ليست عنده ذات أشواق، وكأنّ لسان حاله ينشد:
مُنـايَ من الـدنيـا علـومٌ أبثُّـهـا وأنشرُهـا في كـل بـادٍ وحـاضـرِ
دعـاءٌ إلى القـرآن والسّنـة الـتي تناسَى رجالٌ ذِكْرَها في المحـاضـرِ
وقـد أبـدلـوها بــالجرائـد تـارة وتلفـازهـم رأس الشرور المنـاكـرِ
ومِذْيـاعهم أيضا فلا تَنْسَ شـرّه فكم ضاع من وقت بها بالخسائرِ
ولا أدري لماذا يوردون هذه القصة في كل مرّة إلا أن يكون في الأمر ما يأتي:
ـ ومنها أنّ العيب الأعظم أن يتصدّر العامي أو طالب العلم مجالس فقه الواقع بحجّة تقصير العلماء فيه؛ وهذا خطأ لأنّ الله حين نعى عليهم إذاعة الأخبار، لم يأمرهم بتحليلها ولكن بردّها إلى أهلها كما قال سبحانه: {ولَوْ رَدُّوهُ إِلى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
وفي مخالفة هذه الآية خيانة للأمانة التي أمر الله بأدائها إلى أهلها {ِإنّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِه}، وفي مخالفتها خراب الدنيا، فعن أبي هريرة قال: بينما النبي في مجلس يحدّث القوم جاءه أعرابيّ فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله يحدّث، فقال بعض القوم: سمع ما قال، فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: » أين ـ أُراه ـ السائل عن الساعة؟ «، قال: ها أنا يا رسول الله! قال: » فإذا ضُيِّعَت الأمانة فانتظر الساعة «، قال: كيف إضاعتها؟ قال: » إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة « رواه البخاري..
فعجباً لقوم وسّدوا هذه الأمور إلى طلبة العلم! بانين على أوهام الشباب علاليَ وقصورا، فتارة يريدون مجلساً للشّورى بالسعودية للتسلل فيه، وتارة يريدون لجنة لحقوق الإنسان الشرعيّة، ونهايتها التّملّص بل التّخلّص من جمود هيئة كبار العلماء زعموا! وكان عاقبة ذلك خسرا.
وهاك ضياء من هدي السّلف :
ـ عن يحيى بن يَعْمَر قال: " كان أوّل من قال بالقدر بالبصرة مَعْبَد الجُهني، فانطلقتُ أنا وحُميد بن عبد الرّحمن الحِمْيَري حاجّين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله e فسألناه عمّا يقول هؤلاء في القدر، فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطّاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أنّ صاحبي سيكِل الكلام إليّ فقلتُ: أبا عبد الرّحمن! إنّه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقَفَّرون العلم، وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأنّ الأمر أُنُف.قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أنّي بريء منهم، وأنهم برآء منّي.والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أنّ لأحدهم مثل أُحد ذهبا فأنفقه، ما قُبِل منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدّثني أبي عمر بن الخطّاب قال: بينما نحن عند رسول الله ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثّياب، شديد سواد الشّعر، لا يُرَى عليه أثر السّفر ولا يعرفه منّا أحد، حتى جلس إلى النبي ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفّيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام. فقال
رسول الله : » الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلا «، قال: صدقتَ، فعجبنا له يسأله ويصدّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: »" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه «، قال: صدقتَ، قال: فأخبرني عن الإحسان قال: » أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك «"، قال: فأخبرني عن الساعة قال:» ما المسئول عنها بأعلم من السائل « قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: » أن تلد الأَمَةُ رَبَّتَها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رِعاء الشاء يتطاولون في البنيان «، قال: ثم انطلق، فلبث مليّا ثم قال لي:» يا عمر أتدري من السائل؟ « قلت: الله ورسوله أعلم، قال:»" فإنّه جبريل أتاكم يعلّمكم دينكم « رواه مسلم.
والشاهد منه أنهم حين واجههم واقع لا يعرفونه من قبل وهو ظهور القدر، عرفوا أنّ أصحاب رسول الله e هم مرجعهم في علاجه لأنهم أعلم الخلق يومئذ، بل جاء في رواية أنهم لَقوا بعض الصحابة فلم يسألوهم وإنما قصدوا أعلمهم يومئذ؛ فقد قال الراوي: " فلما أتينا المدينة لقينا
أناساً من الأنصار فلم نسألهم؛ قلنا: حتى نلقَى ابن عمر أو أبا سعيد الخدري ... "، ولذلك وجدتُ العلامة محمد ابن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ بوَّب لهذا الحديث في » كتاب التوحيد « بقوله: " باب ما جاء في القدَر " وذكر فيه مسائل منها قوله: " الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء ".
قلت: ومِن قَبله بوّب النسائي له في (( السنن الكبرى )) (3/446) بقوله:
" توقير العلماء " لما فيه من توقير جبريل للنبي ، فاجعل من السلف قدوتَك تكن سلفيّا وإلا ...

يتبع

التعديل الأخير تم بواسطة أحمد سالم ; 23 Jul 2010 الساعة 04:49 AM
رد مع اقتباس
  #14  
قديم 20 Jul 2010, 10:49 PM
أحمد سالم أحمد سالم غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: الجزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 608
افتراضي

وروى الدارميّ قال: أخبرنا الحكم بن المبارك، أنا عمرو بن يحي قال: سمعت أبي يحدّث عن أبيه قال: " كنّا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخَرَج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلمّا خرج قمنا إليه جميعا، فقال أبو موسى الأشعريّ: يا أبا عبد الرحمن! إنّي رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرا، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة، وفي كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبّروا مائة، فيكبّرون مائة، فيقول: هلّلوا مائة، فيهلّلون مائة، ويقول: سبِّحوا مائة، فيسبّحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاَ انتظار رأيك ـ أو انتظار أمرك ـ قال: أفلا أمرتهم أن يَعُدّوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم. ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نَعُدُّ به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدّوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء؛ وَيْحَكم يا أمّة محمد! ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيّكم متوافرون، وهذه ثيابه لم تَبْلَ، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنّكم لعلى ملّة هي أهدى من ملّة محمد؟ أو مفتتحو باب ضلالة؟ قالوا: والله، يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه. إنّ رسول الله e حدثنا أن قوما يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايْمُ الله، ما أدري لعلّ أكثرهم منكم؛ ثم تولّى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحِلَق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج ".
فخذوا العبرة أي إخواني! من صنيع أبي موسى t، فهو لا يقضي بشيء فيما هو نازلة في زمانه حتى يعرضه على الفقيه، مع أنّه من الفقه بمكان مكين! أليس هذا المنهج عاصمة العواصم، وفاضحة كل متعالم؟!
يا ليت شعري ما ضرّ شبابنا ودعاتنا لو أخذوا بهذا الأدب فيما يَجِدُّ من قضايا العصر وقد كثرت، وبه يقلّ نصيب الشيطان من صف المسلمين {إنّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِيناً}. وتأمّل أيضاً فراسة مجتهدهم ابن مسعود t حين بان له غيب مُرٌّ من رؤوس تلك الحِلق، فقال:
" وأيم الله! ما أدري لعلّ أكثرهم منكم "؛ أي: عرف أنهم للخوارج أنساب، وقد كان الأمر كما أخبر، {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِين}، ولذلك قلتُ:
ـ ومن فوائد قصة الطلاق فراسة عمر t، حيث استنبط من هذه النازلة التي يجهلها ما نزل القرآن بتصديقه، ولذلك قال: " فكنتُ أنا استنبطت ذلك الأمر، وأنزل الله آية التخيير"،وهذا يذكّرني بفراسة أحد كبار محدّثي وفقهاء هذا العصر، وهو الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ حفظه الله ومتّع المسلمين بعلمه ـ حين سئل عن جماعة ظهرت في هذا العصر، وهي جماعة الدعوة والتبليغ، فكان من جوابه أن قال: " ... هذه صوفية عصرية! "، قالها يوم قالها متفرِّساً، على حسب ما رأى وبلغه عن الجماعة، ثم أعادها بعد سنوات، وبالضبط في هذه المدّة القريبة مع شرح لهذه الكلمة، وأنّه يعني بيعة هذه الجماعة لأربع طرق من فرق الصوفية ـ لعلها أضلها، وهي: النقشبندية، والجشتية، والقادرية، والسهروردية. والشيخ في المرّة الأولى لم يكن على علم بهذه البيعة، لكن كيف وقعت فتواه مطابقة لواقع القوم؟ الجواب: قال الله تعالى: {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}.
هذا قاله الشيخ من زمان بعيد ثم يشاء الله أن يجتبي عبداً من عباده قد خَبَر القوم مدّة طويلة، فأعلنها صريحة.
ـ ومنها أنّ في قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وإِلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} دليلاً على أنّ أخبار الواقع ترجع إلى أهل العلم والسلطان؛ فهم أولو الأمر، ثم من هؤلاء جماعة تتولى استنباط الأحكام الشرعية لهذا الواقع، وليسوا كلهم؛ لأنّ الله قال: {مِنْهُمْ}، قال الطبري ـ رحمه الله ـ: " يعني جلّ ثناؤه {ولَوْ رَدُّوهُ} الأمر الذي نالهم من عدوّهم والمسلمين، إلى رسول الله وإلى أولي الأمر، يعني: وإلى أمرائهم، وسكتوا فلم يذيعوا ما جاءهم من الخبر، حتى يكون رسول الله أو ذوو أمرهم هم الذين يتولّون الخبر عن ذلك بعد أن تثبت عندهم صحّته أوبطلانه، فيصححوه إن كان صحيحاً أو يبطلوه إن كان باطلاً ...".
قلتُ: ولذا فرمي بعض أهل العلم بالانزواء والانطواء على أنفسهم ظلم؛ لأنّ الله تعالى لم يفرض هذا العلم إلا على الكفاية بصريح هذه الآية. ولو كانوا مصيبين في انتقادهم لكانوا مخطئين؛ لأنهم لما تفقّهوا في الواقع ـ وقد رأوا أنفسهم أهلاً لذلك! ـ فقد كَفَوْا غيرهم هذه المؤنة، فعلامَ العتاب علامَ؟!
قال العلاّمة ربيع بن هادي المدخلي ـ حفظه الله ـ: " فإذا كان بعض الأحزاب يدّعي أنّه يعرف فقه الواقع وما يدبَّر للمسلمين، فلماذا تلوم السّلفيين وتصفهم بالغفلة عن واقع الأمّة، وقد سقط عنهم هذا الواجب بقيام غيرهم به؟! ".
قلت: فافهم هذا ـ رحمك الله ـ وأنصف! وقال: " ولا يجوز أن يُنال من العلماء والدّعاة الذين تشغلهم واجباتُهم العلمية والدّعوية عن متابعة الصّحف والمجلاّت وتقارير المخابرات الأمريكية والإسرائيلية وغيرها؛ مكتفين بمتابعة غيرهم لهذه الأمور، وهذا ما يقتضيه العقل والشرع لا العواطف العمياء، فقد فرغ العلماء من بيان واجبات الأعيان وواجبات الكفاية "().
وهذا يذكِّرني أيضاً بذلك الحوار العلمي الماتع بين الشيخ الألباني والشّابّ ناصر العمر، حيث كان هذا الأخير يقرأ فصولاً من كتابه » فقه الواقع «، فكان كلما أدخل طلبة العلم في هذا الفقه، يقول له الشيخ: اشطُب على كلمة ( طلبة العلم ) وضع بدلَها ( بعض أهل العلم )، فتأمّل هذا وعضّ عليه بالنواجذ!
ـ ومنها أن مخالفة هذا المنهج يفتح شرّاً مستطيراً على الأمّة لقول الله تعالى في ختام آية الباب: {ولَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُم ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلاً}، وباتّباع الشيطان تَحصل الفرقة؛ كما قال الله تعالى: {وقُل لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنّ الشيْطانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إنّ الشيْطَانَ كانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً}. وسبحان من هذا وحيه! فمنذ أن دخل طلبة العلم العمل السياسي مخالفين هدي الأنبياء وقعت فُرقة عظيمة؛ إذ لم أعرف بالجزائر زمناً تفرقنا فيه شذر مذر، وتمزّقنا فيه كل ممزّق إلا يوم نُصب لنا الحَبُّ على الفخُّ السياسي، فمدَّ إليه بعض طلبة العلم ـ إن حسنّا بهم الظّنّ ـ أيديهم! لقد كان الواحد يستأنس بأخيه إذا عرفه بزيّه الإسلامي، ويسلّم عليه مهما بعُدَ عنه، وأما اليوم فودّ لو أنّه لم يره؛ لأنّه لا يدري أيردّ عليه السلام أم لا؟! ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
ومن سنوات وأنا أتردد على البلاد السّعودية ـ والحمد لله ـ، فكنت أرى من طلبة العلم من يفتي في السياسة ويدرِّسها درساً عاما من غير تمييز، هل هو من أهلها؟ وهل الحضور مطالبون بها؟ فعرفت أنّه نذير شرّ، خاصة في تلك البلاد التي أغناها الله بعلماء كبار، هم أحوج ما يكونون إلى من يعينهم في الدعوة، لا أن تُسرق منهم الفتوى السّياسية بزعم أنهم يعينونهم فيها أو يكمِّلونهم، فكم سمعنا لهؤلاء الشباب من فتاوى سياسية مستقلة ومخالفة لما عليه هؤلاء الشيوخ، وما قضية الخليج عنكم ببعيد، فقد كانت البئر بغطائها، فلمّا كانت هذه القضية فاض وفاح ما فيها.
قال العلاّمة ربيع بن هادي المدخلي: " وليس لأحد أن يلقي بثقل هذه الواجبات على طلاّب العلم؛ فإن هذا من إسناد الأمر إلى غير أهله، وهو من أشراط الساعة، وهو ممّا يؤدّي إلى الفساد والإفساد والفتن، وليس ممّا يفيد الأمّة أن يصير الشباب بأجمعهم من أساطين السياسة ولا من شبكات التّجسس! فإن هذا ممّا يؤدي إلى الجهل بالعلوم الشرعية، وإلى تقسيم الأمّة إلى أحزاب سياسية متناحرة، كل حزب يريد أن ينفرد بالحكم، وكل فرد يريد أن يَعْتَليَ عرش الإمامة والرئاسة ".
وقال عن جناية هذا الفقه ـ إن صحّت تسميته بذلك ـ على العلم: " في المتغالين في السياسة تهاويل وتطاول لا يطاق على أهل الحديث والتوحيد، وغمط شديد، وتجهيل وتحقير، ورمي لهم بالعظائم، فمن غلوّهم ومبالغاتهم التي لا عهد لأعلم علماء الإسلام بها تهويلهم بعلم الواقع، وادعاؤهم وادعاء الصبيان منهم أنهم علماء الواقع، وتجنيدهم الشباب لقراءة الصّحف والمجلاّت ومتابعة الإذاعة، وصرفهم بذلك عن حفظ الكتاب والسّنة، والاشتغال بفقههما، وإشغالهم عن العلوم الشرعيّة ".
ثم كل من تتبّع فتنة الحرم المكّيّ المشهورة عند رأس هذا القرن، وما وقع في سوريا ومصر، يرى جماعات تخرب بيوتها بأيديها، وليس معها أهل العلم الذين وصفنا لك. واليوم في الجزائر أيضا، وقد اعترف علي ابن حاج لجماعته بعدم وجود كفاية من أهل العلم في صفوفهم، فقال في رسالته إليهم المؤرخة في ( 15/10/1994م ) في ق (3): " وأنا أعلم أنه لو وُجد معكم عدد كافٍ من الدعاة وأهل العلم لما وقعت بعض هذه الأخطاء الشرعية الفادحة!!! ".
هذه صورة الورقة الأولى من رسالة علي بن حاج إلى الجماعات المسلّحة التي فيها ما سبق ذكره

هذه صورة آخرها مع توقيعه
هذا وكل هؤلاء ـ وخاصة منهم الإخوان المسلمون ـ يرون أنفسهم عالمين بالواقع ويضحكون على العلماء السّلفيين، مع أنّ التّاريخ الحديث برهن بلا خفاء على أنّه لا يُعْرَف في المسلمين أغبى وأجهل بالواقع منهم؛ وإليك بعض الأمثلة التي تبيّن سرعة تغرير أعدائهم بهم:
ـ مَن هم الذين استغلهم الضباط الأحرار بمصر ليصلوا بهم إلى مآربهم ثم يقضوا عليهم؟ آلإخوان أم السلفيون؟
ـ من هم الذين منّاهم بعض الحكام بالعمل بالشريعة، وأظهروا لهم بعض الشعارات الدينية حتى أعطوهم أفئدتهم؟ آلمتبجّحون بفقه الواقع أم السلفيون؟
ـ من هم الذين استهزأت بهم أمريكا في قضية أفغانستان؟
ـ من هم الذين لُعِبَ بهم فيها حتى حكَمهم شرّ المتصوّفة؟
ـ من هم الذين أفتوا بدخول البرلمانات، ووقعوا في شِراك الانتخابات، محسِّنين ظنونهم بالديمقراطيات، مصدِّقيها حين وعدتهم بالحكم إن كانت لهم الأصوات؟ وكانت نهايتها زيارة السّجون، وعدّ المقاعد في الأموات؟!
ـ من هم الذين خدعهم الخميني بدولته الرّافضية يوم سقط الشّاه؟ آلسّلفيون أم الحركيون عن بكرة أبيهم؟!
ـ من هم الذين حرّموا الاستعانة بأمريكا وحلفائها في قضية الخليج، ثم استعانوا وسكتوا عمن استعان بالمليشيات الشيوعية في أفغانستان، وكذا استعانة الأكراد في شمال العراق بالغرب، وكذا استعانة مسلمي البوسنة والهرسك ببعض النصارى، وكذا شدّ حزب جبهة الإنقاذ الجزائرية رحاله إلى الفاتيكان بإيطاليا، وقد استنجدوا به مرّتين، واجتمعوا هناك تحت إشراف النصارى! يريدون حَلَّ مشكلتهم عند من كانوا ولا يَزالون سبب مشكلتهم!! {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشَّيْطانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعيداً} ويا له مِن ذُلّ! ... مما يدلّ على أن هؤلاء المحرِّمين المحلّلين يستغلّون الدين ولا يتبعون الدين!
ـ من هم الذين غرّهم زعيم البعث العراقي أيام حربه مع الرّفض الإيراني حتى شبّهوه بفاتح القادسية؟! اسألوهم عن ذلك، ومنهم عبد الرحمن
عبد الخالق! ولماذا غيَّر رأيه فيه بعد حرب الخليج!!!
ـ مَن مِن الحركيين لم يكن مع العراق بل مع صدام المستولي على الكويت؟ حتى زارنا ـ شانيء السّلفية ـ إسماعيل الشّطّي متذمّراً من إخوانه ( الإخوان ) الخاذلين الكويت وهو كويتي!!
وتالله إنّها لإحدى الكبر! نذيرا لمن أراد أن يتبيّن مبلغ وعي متتبعي سياسات البشر! يا لها من مهزلة! صلّى صدام للتلفزيون ركعتين فإذا بالأمم والشّعوب الإسلامية بدعاتها ـ حاش السلفيين ـ وراءه بالنفس والنفيس!
ومع هذا كله تسمُّون هؤلاء المراهقين السياسيين اليوم: ( شباب
الصحوة! ) وتشتغلون بالسياسة وتتظاهرون بالكياسة، وأنتم أول من يضحك عليه الصياد، وبيننا وبينكم يوم المعاد.
لذلك فلا غضاضة في أن أقول: لو خرج رجل من اليهود في ديار المسلمين، وتظاهر بزيّ المسلمين، بل ولو تظاهر بزيّ الكفار لكنه يحفظ آية واحدة من القرآن، وهي قوله تعالى: {ومَن لَمْ يَحْكُم بِما أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ}، وأحسَنَ ترديدها في المجالس العامة بلهجة عاطفية، وبهرج بأخبار الكفار، واللّعب على العواطف بالتظاهر ببغض أمريكا، ثم نادى: يا فلسطين! لما تخلف عنه أحد من الحركات الإسلامية، ولقادهم جميعاً لا إلى فلسطين، ولكن إلى مجزرة تل أبيب!! وإلى الله المشتكى.
فكيف لو خرج عليهم الدّجّال يحيي الموتى، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تخرج كنوزها فتخرج؟! وقد قال ابن سيرين: " لو خرج الدَّجَّال لرأيت أنه سيَتبَعه أهلُ الأهواء ".
كتبتُ هذا ثم تذكرتُ أن أخصّ أهل الأهواء الذين يَخرج في صفوفهم الدجّال هم الخوارج، لتقارُبِ ما بينه وبينهم من فتنة وفكر أهوج، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: » ينشأُ نَشْءٌ يقرؤون القرآن لا يُجاوِز تراقيهم، كلما خرج قرنٌ قُطِع " قال ابن عمر: سمعتُ رسول الله يقول: » كلما خرج قرنٌ قُطع « أكثر من عشرين مرة: (( حتى يَخرج في عِراضهم الدَّجَّال )).
كتبتُ هذا ثم فوجئتُ بدعوة رجل يقال له محمد المسعري، لم تسَعْه أرض الله حتى اختار لنفسه ديار الكفر ببريطانيا، يكتب عن الإسلام مع أنه لا هو في العير ولا في النفير، تبعته جماهير غفيرة وهي لا تعرف عنه إلا كلامه السياسي في صورة استرجاع المظالم!!
هذه صورة عن بعض ما ينشره محمد المسعري الناطق الرسمي للجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية

قال العلامة عبد العزيز بن باز في صاحب هذا المنشور: " .. مِن الحاقدين الجاهلين الذين باعوا دينهم وباعوا أمانتهم على الشيطان من جنس محمد المسعري ).
قلتُ: ولا بدّ من تذكّر أنه لا يكاد أحد يجهل عفّة لسان الشيخ ابن باز، فإذا سلَّط لسانه على أحد فثَمَّ أمر عظيم! وصورة هذا المنشور تدلّك عليه، بل وتُعَرِّفك بمبلغ علم صاحبه ودينه، ومع ذلك فقد وجد لدعوته رَواجاً في سوق أصحاب ( الصحوة! )، وكيف لا تروج بضاعتُهم وسلمان العودة ـ هدانا الله وإياه ـ دعا في الوجه الثاني من شريط" أخي رجل الأمن « إلى تأييد لجنة هذا الرجل الموتور فكيف بالأتباع؟!!.
ولذلك وجدتُ ابن بطّة العكبري يقول في زمنه: " والناس في زماننا هذا أسرابٌ كالطير يتبع بعضهم بعضاً، لو ظهر لهم من يدّعي النّبوة، مع علمهم بأن رسول الله خاتم الأنبياء، أو من يَدَّعي الربوبية لوَجد على ذلك أتباعاً وأشياعاً ".
ولعلك لاحظت أنه ما من دعوة يراد لها رواج إلا استُغِلّ في ذلك القضايا السياسية، كما هو بادٍ مما أبرزته في هذه الصورة. وكذلك فعلت مجلة
» السنة « ـ التي يستقي منها ( شباب الصحوة! ) أخبار العالم ـ فقد جمعت في عشّها البريطاني رويبضات الزمن وتجرّأت على النيل من علماء السنة؛ فهي بالأمس في عدد رمضان 1413هـ أخذت تقدح في عرض أحد كبار العلماء السلفيين، وهو الشيخ محمد أمان الجامي ـ رحمه الله ـ، ولم تَعرِف له سابقته في العلم والدعوة، ولا وَقَّرته في سنّه، حتى جعلت تستهزيء بلهجته، وتقول: إنه ينطق الحاء هاء؛ ومثَّلت بكلمة ( مُلْهِد! ) بدلاً من ( مُلْحِد! )، نعوذ بالله من قلة الحياء! بله من فَقْد الحياء!!
بل حتى العلامة الألباني لم يَسْلَم من طعنها اللاذع بقلم محمد سرور زين العابدين! وهي اليوم تستغل قضية الصلح مع اليهود لتؤجِّر أحدهم فيطعن في العلامة عبد العزيز بن باز، واستنجد في ذلك بالدكتور يوسف القرضاوي الذي رمى الشيخ بأنه يُفتي فيما ليس له به علم! وذلك قوله: " وهل الشيخ علىعلم حقًا بما يجري حتى يُدْلي بدَلْوه في هذا الوقت بالذات، وفي مثل هذا الموضوع الخطير؟ ...". ثم أخذ كاتب » السنة! « يفصح عما في نفسه قائلا: " هل يَعرف الشيخ ما معنى المستعمرات الاستيطانية؟ لا أظن! كما لا أظن أنه ـ في هذه السن ـ يمكنه أن يَدَع أحدا من تلاميذه أن يشرح ويوضح له هذا المصطلح وما يترتب على استيطان هؤلاء اليهود .. ".
قلتُ: إذن فالشيخ لا يَعرف ولا يحب أن يَعرف؛ لأن كبَر سنّه وَرَّثه كبْرا عن تقبل النصح!!
ومع هذه التهم الهالكة فإن الشيخ ـ في أدبه الذي لا يُشَقّ له فيه غبار ـ لم يَزد على أن قال بعد البيان العلمي: " ما ذكرناه في الصلح مع اليهود أوضحنا أدلته الشرعية ... فأرجو من فضيلة الشيخ يوسف وغيره من إخواني أهل العلم إعادة النظر في هذا الأمر بناء على الأدلة الشرعية لا على العاطفة والاستحسان ".
قلتُ: كان الأولى بالدكتور القرضاوي ألا يفتح هذا الباب بمثل ذاك الطعن المرمَّم بسؤال! بل كان الأولى به أن يبري قلمه لتقويم جماعته ( الإخوان المسلمون )؛ فقد نادوا بلا استحياء أن النصارى إخوانهم، وقالوا في بيانهم المؤرخ في ( 30 من ذي القعدة 1415هـ ): " وموقفنا من إخواننا المسيحيين في مصر والعالم العربي موقف واضح وقديم ومعروف: لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وهم شركاء في الوطن، وإخوة في الكفاح الوطني الطويل، لهم كل حقوق المواطن المادي منها والمعنوي، المدني منها والسياسي... ومن قال غير ذلك فنحن برءاء منه ومما يقول ويفعل!!! ". وجعلوا الشورى الإسلامية أختاً للديمقراطية الكافرة فقالوا: " وإذا كان للشورى معناها الخاص في نظر الإسلام فإنها تلتقي في الجوهر مع النظام الديمقراطي ". وفيه دعوتُهم الحكومةَ أن تلتزم بالقانون الوضعي لا الشريعة فقالوا: " .. بإصرار الإخوان على مطالبة الحكومة بألا تقابل العنف بالعنف، وأن تلتزم بأحكام القانون والقضاء "، بل رضوا لأنفسهم ذلك فقالوا: " ولكنهم ( أي الإخوان ) ظلوا على الدوام ملتزمين بأحكام الدستور والقانون .. ". ولم يقولوا هذا تَقِيّة منهم، ولكن عن قناعة كما شهدوا على أنفسهم قائلين: " والأمر في ذلك كله ليس أمر سياسة أو مناورة، ولكن أمر دين وعقيدة، يلقى ( الإخوان المسلمون ) عليها ربهم {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنوُنَ إلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ".
قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون! آجركم الله في مصابكم يا د/ يوسف! لِمَ لا توجِّه نقدك إلى هؤلاء؛ فإن الأقربين أولى بالمعروف؟ بل أعِدِ البنيان من أساسه، فإن الأمر لايجبره الترميم؛ إذ الخلل عقدي وقديم كما صرحوا بذلك فيما سبق، ولقد صدقوا؛ فقد نقل محمود عبد الحليم ـ وهو من أعمدتهم ـ ماسمعه بنفسه من محاضرة حسن البنا قوله: " فأقرر أن خصومتنا لليهود ليست دينية؛ لأن القرآن حضّ على مصافاتهم ومصادقتهم، والإسلام شريعة إنسانية قبل أن يكون شريعة قومية، وقد أثنى عليهم وجعل بيننا وبينهم اتفاقا {ولا تُجادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتي هِي أَحْسَنُ} وحينما أراد القرآن الكريم أن يتناول مسألة اليهود تناولها من الوجهة الاقتصادية والقانونية ..!!! ".
كان الأولى بالدكتور أن يراجع كلمة قطبه هذه؛ فهي خطأ فادح! وأين خطأ العلامة ابن باز ـ لو كان خطأ ـ من هذه التي صرح بعض أهل العلم فيها بأنه ليس بينها وبين الكفر حجاب؟
أهذا التحامي للباطل غيرةٌ على الدين وحربٌ على اليهود أم هي حرب على المنهج السلفي؟!
شكوتُ إلى القرضاوي ما قاله شيخه البنا، فإذا بي أجدني ضيَّعتُ شكواي، لأن القرضاوي نفسه على دربه يسير؛ حيث قال: " فنحن لا نقاتل اليهود من أجل العقيدة!! إنما نقاتلهم من أجل الأرض!! لا نقاتلهم لأنهم كفار!!! وإنما نقاتلهم لأنهم اغتصبوا أرضنا وأخذوها بغير حق ".
قلتُ: {ربَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا}.
ثم أعود إلى آية الباب قائلا: فهلاّ أخذتم العبرة من سبب نزول آية الباب، وتدبرتم الفرق بين العوام الذين سارعوا إلى إذاعة خبر تطليق النبي نساءه، حتى كادوا يفتنون أهل المدينة كلها، وبين أناة أهل العلم كابن عباس الذي مكث سنة كاملة لا يقول فيه شيئاً حتى يسأل عمر، وعمر لا يَلْوِي على شيء من الإشاعة حتى يسأل أهل الاستنباط، مع أنه منهم، أجمعين. وهو الذي كان يقول: " تفقّهوا قبل أن تُسَوَّدوا ".
وفي » المتواري على تراجم أبواب البخاري «: " وجه مطابقة قول عمر للترجمة ـ أي: باب الاغتباط في العلم والحكمة ـ أنّه جعل السيادة من ثمرات العلم، وأوصى الطالب باغتنام الزيادة قبل بلوغ درجة السيادة، وذلك يحقق استحقاق العلم؛ لأنه يغتبط به صاحبه لأنه سبب سيادته ". وقال ابن حجر: " إن تعجلتم الريّاسة التي من عادتها أن تمنع صاحبها من طلب العلم فاتركوا تلك العادة، وتعلّموا العلم لتحصل لكم الغبطة الحقيقية ".
وقال الخطّابي عند شرحه حديث (( يظهر الجهل ... )): " يريد ـ والله أعلم ـ ظهور المنتحِلين للعلم المترئسين على الناس به قبل أن يتفقَّهوا في الدين ويرسخوا في علمه ".
وفي شريط مسجل من » سلسلة الهدى والنور " (رقم440/1) دار نقاش طويل بين الشيخ الألباني وبين بعض شباب جبهة الإنقاذ الإسلامية الجزائرية، زعم هذا الأخير إغلاق الخَمَّارات وبيوت الفواحش أيام عمل الجبهة في مبالغة مدهشة، فأجاب الشيخ بمنع دخول البرلمانات لا يَلْوي على شيء من نتائج التحزّب وذكر سبب المنع فقال:
الأول: أنه خلاف هدي النّبي ؛ إذ لم يدخل مع الكفار بمثل هذا.
الثاني: أن كل من يدخلها لابد أن ينحرف عن الإسلام شيئا فشيئاً.
فزعم أحدهم أن الجبهة لم ( تتنازل ) عن شيء من الدين.
فسأله الشيخ: هل يتعامل بعضهم بالرّبا بحكم أن بعض المؤسسات الحكومية بأيديهم؟.
فأجاب بالإيجاب، ثم بادر الشّابُ إلى سؤال حطّم به مزاعمه الأولى بعد هذه الهزيمة الأولى، فقال: إذا عرَضت لنا قضية فقهية فيها رأيين، فيها رأي عند الفقهاء راجح ومرجوح، وإذا ما أخذنا بالقول الرّاجح فيها تسببنا في فتنة أو مشكلة أو تفرقة بين المسلمين، فهل يجوز لنا أن نأخذ بالقول المرجوح لمصلحة وحدة المسلمين؟.
فقال الشيخ: " هذه هي السياسة! هذه هي السياسة! ".
فقال محمد إبراهيم شقرة: هذه السياسة ليست شرعية.
فقال الشيخ: أي نعم، ثم قال: " المسألة في الحقيقة مهمة جدّا، أنا سمعت أن الجبهة أو النهضة ما أدري ـ الأسماء ما حفظتها بعد جيدا ـ فيها ملايين، أليس صحيحاً هذا "؟.
فقال الشّاب مستبشرا: نعم.
قال الشيخ: كم ألف عالم فيهم؟.
فقال الشّاب: ما فيه!.
قال: كم مائة عالم؟.
قال: لا، ما هو موجود!.
قال: طيب من يقودهم ـ يا جماعة ـ هؤلاء؟.
قال: الشيوخ قليلين يعني؟.
قال: هل يستطيع هؤلاء الشيوخ أن يقودوا ملايين؟.
قال: طبعا لا.
قال: هل يمكنهم أن يعلّموا ملايين؟.
قال: أبدا.
قال الشيخ: " إذن أنتم تعيشون في الأوهام، ومن ذلك هذا السؤال الذي أنت تطرحه الآن حينما يكون في هؤلاء الملايين من المسلمين علماء يستطيعون أن يديروا دفة المحكومين من أهل العلم، حينما يوجد فيهم المئات ولا أقول الألوف ليس هناك حاجة أن يطرح مثل هذا السؤال: راجح ومرجوح، هل يجوز لنا أن نأخذ بالقول المرجوح ونترك القول الراجح، هذا: الفقيه هو الذي يجيب عن هذا، وأنا أضرب لكم مثلاً من واقع حياتنا مع الأحزاب، أنا قلت مرة لأحد أفراد حزب التحرير: يا جماعة أنتم تريدون أن تقيموا الدولة المسلمة، وأنتم لا تدرسون الشريعة من أصولها وقواعدها، وأنتم تحتجّون في كتبكم ببعض الأحاديث غير الصحيحة؟! ".
قال: أخي! نحن نستعين بأمثالكم.
قال الشيخ: " هذا الجواب هو أول الهزيمة، لأنه حينما يكون هناك حزب يعتمد على غيره، معناها أنه حزب في قوته غير مكتمل، وكان هذا الرجل قال لي: لا زلتم أنتم تضيّعون أوقاتكم في الكتب الصفراء ... " ثم قال الشيخ عن ملايين جبهة الإنقاذ: " لكن هؤلاء أليسوا بحاجة إلى أطباء بدن؟ لا شك أنه عندكم أطباء بدن بالمئات بل بالألوف، طيب أليسوا بحاجة إلى أطباء ـ كما يقولون في العصر الحاضر ـ في الرّوح؟ هذا أولى وأحوج وأحوج، هل هؤلاء موجودون بتلك النسبة؟ الجواب: لا ... ". ثم أخبر عن مخاطبته حزب التحرير قائلا: " افرضوا أنكم ما بين عشية وضحاها أقمتم عَلَم الدولة الإسلامية، يعني بانقلاب من الانقلابات، لكن الشّعب ما عنده استعداد لأن يُحْكَم بما
أنزل الله، يمكن ... أنتم ... جماعتكم قالوا: قرار رقم واحد، اثنين: ممنوع
ـ مثلا ـ دخول السينماءات، ممنوع خروج النساء متبرجات ... الخ، ستجد
ـ يمكن ـ بعض نسائكم أول من يخالف هذه القوانين الإسلامية! لماذا؟ لأنَّ الشعب لم يُربَّ على ذلك، ومن يربِّي الشعب؟ هم العلماء، وهل كل نوع من أنواع العلماء؟ ... ". ثم تكلم عن علماء الكتاب والسنة العاملين بهما، ثم قال: " لذلك أنا أعتقد أن الجهاد الأكبر الآن هو: هذه الملايين المملينة أن تخرج العشرات من العلماء المسلمين هناك، حتى تتولوا توجيه الملايين إلى تعريفهم بدينهم وتربيتهم على هذا الإسلام، أما الوصول إلى الحكم، فكل طائفة تحاول أن تصل إلى الحكم، ثم تستعمل القوّة في تنفيذ قراراتها وقوانينها، سواء كانت حقّا أو باطلا، والإسلام ليس كذلك ".
ولو أن إخواننا هؤلاء أخذوا بهذه النصيحة الذهبية لجنَّبوا الإسلام والمسلمين الفتنة العظيمة التي يعيشها اليوم كل العالم الإسلامي، وفي كل مرة تؤخَّر الدعوة الإسلامية بعجلة شبابها وانحراف موجِّهيها، ومن استعجل الشيء قبل أوانه ابتلي بحرمانه، والله العاصم.
وأختم بهذه الكلمة التي أرجو من إخواني أن يعوها، وهي:
لئن كان في الخروج على الحكّام من الشّر ما برهن عليه تواطؤ النصوص الشرعية مع الأخبار الواقعية، كما ظهر من صنيع حدثاء الأسنان في كل الأزمان، فشر منه الخروج على العلماء بإهدار حقهم، وعدم اعتماد فتاواهم إلا ما وافق أهواء الحركيين، واستصغار شأنهم في السياسة، ورميهم بعلماء بيت الوضوء! وما أشبهها من الألقاب التي يَنْبِز بها المبتدعة صاغرا عن صاغر العلماء السلفيين كابرا بعد كابر؛ وفي هذا إهدار للشريعة بتجريح حملتها وشهودها، والله الموعد.
و لقد كان يقال في الجزائر: " جبهة الإنقاذ لم تركن إلى الذين ظلموا "، فإذا بهم لما دارت عليهم الدائرة، وأسلمهم أتباعهم إلى عدوهم، يكتبون بيانا يطالِبون فيه الدول الكافرة وغيرها بأن تقاطع الجزائر اقتصاديا؛ لأنها غصبت الشّعب حقه في حرية الاختيار! ثم يكتبون آخر يستغيثون فيه بالبرلمانات العالمية، ومعلوم أنه ـ فضلاً عن كونه استعانة بالكفار ـ فهو استغاثة بالبرلمان الإسرائيلي، لأنهم لم يستثنوه ـ كما ستراه هناـ مع علم الجميع أنه أضحى اليوم يتحكم فيها كلها.
وهاكم صورة هذا البيان بعد هذه الصفحة، وهو تنديد جبهة الإنقاذ الإسلامية بالنظام بعد مصادرته قانون الانتخابات، وتوقيفه إثر فوزها في الدور الأول منه. فاقرؤوه لتعلموا ما هو الإسلام الذي تنادي به الجبهة، ولتدركوا مدى صدق ما تنسب إليه من السّلفية.
هذا محتوى بيان الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزائر: 14/رجب/1412هـ الموافق: 19/جانفي/1992م
نوّاب الأمّة الفائزين في الانتخابات التشريعية الدّور الأول
نِدَاء

يتبع

التعديل الأخير تم بواسطة أحمد سالم ; 23 Jul 2010 الساعة 04:51 AM
رد مع اقتباس
  #15  
قديم 20 Jul 2010, 10:50 PM
أحمد سالم أحمد سالم غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: الجزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 608
افتراضي

--------------------------------------------------------------------------------

إلى السّادة البرلمانيين في الدّاخل والخارج
نحن منتخبي الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ممثلي أغلبية الشّعب الجزائريّ المجتمعين بالجزائر العاصمة يوم 14/رجب/1412 هـ الموافق 19/1/1992م.
بناءً على أنّ الشّعب هو مصدر كل سلطة، وصاحب السّيادة، طبقاً لما تنصّ عليه المادّتين ( هكذا ): 6،7 من دستور23 ... 1989م، والذي قد عبّر عن اختياره بكل حريّة في جوّ من الهدوء والنّظام في انتخابات 28/ديسمبر/1991، التي أسفرت في دورها الأول عن فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بـ(188)مقعداً من مجموع (430) مقعداً، وجبهة القوى الاشتراكيّة بـ(25)مقعداً، وجبهة التّحرير الوطنيّة بـ(16)مقعداً، والأحزاب بـ(3) مقاعد.
وقد نشرت هذه النّتائج بالجريدة الرّسميّة للجمهوريّة، ‎(العدد:1)، الصّادر بتاريخ: 28/جمادى الثانية/1412هـ، الموافق: ليوم 4/1/1992م.
في الوقت الذي كان الشّعب يستعدّ لخوض غمار الدّورالثاني، إذا به يفاجأ بوضعية سياسيّة معقّدة؛ تمثّلت فيما يلي:
1ـ استقالة رئيس الجمهوريّة التي تتعارض مع روح الدّستور.
2ـ الإعلان عن حلّ البرلمان وقت تقديم الاستقالة، علماً بأنّ هذا الإجراء يقتضي دستورياً استشارة رئيس المجلس الشّعبي الوطنيّ، ورئيس الحكومة وفقاً للمادة (12) من الدّستور.
3 ـ قبول المجلس الدستوري للاستقالة فوراً، وتخليه عن تولي منصب رئاسة الدولة بالنّيّابة، وفق ما تقتضيه المادة (84 ) من الدستور.
4 ـ تجاوز المجلس الأعلى للأمن لاختصاصاته الدّستورية كهيئة استشارية.
هذه الوضعية السياسية غير الشرعية أدّت إلى اغتصاب ومصادرة إرادة الشّعب واختياره، وهي سابقة خطيرة في حقّ سيادة الشّعوب والشرعيّة الدستوريّة في الدولة.
بناءً على ذلك؛ فإننا نحن منتخبي الجبهة الإسلامية للإنقاذ ممثلي أغلبية الشعب الجزائريّ، نتوجّه إلى البرلمانيين في الدّاخل والخارج، المؤمنين بإرادة الشّعوب وسيادتها وحريّتها في اختيار ممثّليها وتقرير مصيرها، بما يلي:
1 ـ الوقوف في وجه الاستبداد السياسي أينما وجد، والذي تمارسه الهيئات غير الدستوريّة.
2 ـ عدم الاعتراف بالهيئات التي لا تحظى بتزكية الشّعب واختياره.
3 ـ المساندة من أجل استكمال المسار الانتخابي وإجراء الدّور الثاني للانتخابات التشريعية، حتى يتشكل المجلس الذي سيعين رئيسه الذي سيتولى رئاسة الدولة بالنّيّابة وفقاً لأحكام الدستور، وذلك لمدة 45 يوماً، تنظم خلالها انتخابات رئاسية مما يعيد الشرعية لمؤسسات الدولة واحترام إرادة الشّعب.
هذه صورة البيان السابق
هذا محتوى بيان الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر

اللاّئحة السّياسية لنواب المجلس الشّعبي الوطني
للجبهة الإسلامية للإنقاذ
الفائزين في الدّور الأول
» الجزائر، 14 رجب 1412هـ ـ الموافق: 19 /1/1992م «
قال تعالى: {الذينَ قَالَ لهَمُ النَّاس إِنَّ النَّاس قَدْ جمعُوا لَكُم فَاخْشَوهُم فَزَادهُمْ إِيماناً وقَالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوَكِيل}.
إزاء التطوّرات الخطيرة التي تشهدها البلاد، وشعوراً منّا بثقل المسئوليّة الملقاة على عاتقنا، وإبراءً للذمّة، ووفاءً للعهد أمام الله ثم أمام التاريخ والأمّة:
فإنّنا نحن نواب الأمّة المنتخبون يوم:2 جمادى الثانية 1412هـ الموافق: 26/12/1991م المجتمعون يوم14رجب1412هـ الموافق: لـ19/1/1992م بالجزائر العاصمة نذكّر بما يلي:
لم تفتأ الأنظمة المتعاقبة على الحكم في البلاد تسير في الاتجّاه المغاير لإرَادة الأمّة وطموحات الشّعب بدءاً بانتهاك دستور 63 وانتهاءً بالتّجاوزات الخطيرة لدستور 89.
وكان من نتائج هذا المسار الخاطيء أن عمّت الفوضى في كافّة المجالات السياسية والاقتصاديّة والاجتماعيّة، فجمّدت العقول، وعطّلت الطاقات، وبدّدت الثّروات، وأبعدت الأمّة عن مشروعها الحضاريّ الإسلاميّ، ولمّا لاح بريق الأمل، وظنّت الأمّة أنّها تنفّست الصّعداء من وطأة هذا الكابوس المخيف، إذا بالموازين تنقلب فجأة فتصادر إرادة الشّعب، فيوقف المسار الانتخابي، ويداس الدّستور والقوانين وكافّة القيم الإنسانيّة.
وأمام هذا الوضع فإنّنا نحن نواب الأمّة:
1ـ نحذّر من العواقب الوخيمة التي يمكن أن تنجرّ عن مصادرة اختيار الشّعب والذي عبر عنه بكل حريّة بشهادة الصديق والعدوّ من خلال
اقتراع 26/12/1992م اعتبارا من أنّ السّلطة التأسيسيّة هي ملك
للشّعب وأنّه لاجدوى لتمثيل الأمّة إلا في حدود المشروعيّة الدّستوريّة القانونيّة.
2ـ نحذّر من مساس ( هكذا ) بالحريّات السياسية، حيث إنّنا سجّلنا في هذا تجاوزات وانتهاكات خطيرة تمثّلت في الاعتقالات العشوائيّة غير المبرّرة، والمخالفات المرتكبة ضدّ الحقوق والحريّات الفرديّة والجماعيّة، من مساس بسلامة الأشخاص البدنيّة والمعنويّة التي يضمنها الشرع والأعراف الدّولية بما فيها الدّستور الجزائريّ في مواده: (28) إلى (56).
3ـ نحذّر من تكتّلات مشبوهة غايتها إجهاض المشروع الإسلامي، والمساس باختيار الشّعب وثوابت الأمّة.
4ـ إنّنا نعتبر أنّ المجلس الأعلى للأمن قد تجاوز صلاحياته الدّستورية باتّخاذه إجراءات منافية للدّستور، بتعطيله للمسار الانتخابي بإحداث ما يسمى بالمجلس الأعلى للدّولة.
5ـ إنّنا نعتبر المجلس الأعلى للدّولة مجرّد مجلس فرض الوصاية على الشّعب، وبالتّالي فإنّ كافّة ما ينجرّ عنه من مجالس وهيئات وتصرّفات سياسيّة داخليّة أوخارجيّة تعتبر كلها مناقضة لأحكام الدّستور، وإنّنا كممثّلين شرعييّن للشّعب، حاملين برنامج! يجسد طموحاته؛ نعتبرأنّ المجلس الانتخابيّ هو الإطار الشرعيّ والقانونيّ الذي يعبّر فيه الشّعب عن إرادته، ليس إلا.
6ـ نعتبر أنّ السلطة التشريعيّة هيئة مجلس واحد، طبقاً للدّستور، يسمّى المجلس الشّعبيّ الوطنيّ، له كامل السّيادة، ولا يجوز على الإطلاق سنّ أو إحداث هيئة بديلة له مهما كانت المبرّرات المفتعلة التي تهدف إلى الوقوف في وجه المشروع الإسلاميّ.
7ـ نندّد ببعض وسائل الإعلام التي استعملت لتمرير المؤامرة ومحاولة توجيه الرأيّ العام توجيهاً مغايراً لما أفرزته إرادة الشّعب، وعليه فإنّنا نصرّ على ما يلي:
أ ـ تنقية الأجواء السياسيّة، وذلك بإطلاق سراح كافّة المساجين السيّاسييّن وعلى رأسهم قيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وإرجاع العمّال المطرودين إلى مناصب عملهم، وتعويض الضّحايا والمتضرّرين من جرّاء الممارسة الاستبداديّة والتعسّفيّة للنّظام.
ب ـ نصرّ على ضرورة الرّجوع الفوريّ إلى الشرعيّة الدّستوريّة المجسّدة لإرداة الشّعب، ونطالب بإتمام المسار الانتخابي على اعتبار أنّ كافّة الشروط متوفّرة.
ج ـ نصرّ على أن يبقى الجيش الوطنيّ سليل جيش التّحرير الوطنيّ حامياً للأمّة، وبعيداً عن الثّورات السياسية التي تريد أن تجعل منه أداة بيد الطغمة الحاكمة لضرب اختيار الشّعب.
د ـ نصرّ على أن يتحمّل المجلس الدّستوريّ مسئوليّاته كاملة.
وفي الختام: إنّنا نعتقد أنّ كل ما حدث ابتداءً من استقالة الرئيس الشاذلي ابن جديد، إلى فرض مجلس الوصاية على الشّعب إنما هو مؤامرة نسجت خيوطها في إطار النّظام الدّولي الجديد لإقصاء الإسلام عن حياة المسلمين، كنظام مجتمع وإيجاد مبرِّر مفتعل لحلّ الجبهة الإسلامية التي رفعت لواء القضيّة الإسلامية في الجزائر بحقّ، وبالتالي يصفو الجوّ للغرب الكافر وأذنابه في بلادنا لفرض المشروع الغربيّ على الشّعب الجزائريّ المسلم. قال تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون}.
ختم الجبهة ...

هذه صورة البيان السابق

كلمة توضيحية لمحتوى البيانين السابقين
الذي يعرف جماعة ( الجَزْأَرَة ) قد يُخيَّل إليه أن هذين البيانين من صنعتها بعد أن احتوت الجبهة؛ لأن تتويج الكلام السياسي الخالي من الفقه الشرعي بآية عند البداية وأخرى عند النهاية صياغةٌ مألوفة عنهم، ولأن تمييع الأحكام الشرعية بمخاطبة الغير بلسانه ـ ولو كان كفراً ـ انهزامية معروفة عنهم، لكن الحق أن لهذين البيانين أصلاً أصيلاً في فكر علي بن حاج؛ فقد قال في رسالته إلى رئيس الجمهورية المؤرخة في (4جمادى الآخرة 1415 هـ) في ق (2):
" .. فإذا كان التذمر مشروع ( كذا ) في (88 أكتوبر ) فما الذي جعله إرهابا في (1992) بعد مصادرة حق الشعب في الاختيار؟! ".
وافترى على الإسلام الكفرية الديمقراطية؛ فقال في ق (5): " والإسلام لا يَعرف مشروعية السلطة إلا بأمرين:
1ـ التقيد بأحكام الشريعة.
2ـ واختيار الحاكم برضا الشعب، فإذا فقد شرط من الشرطين بالنظام فاقد ( كذا ) للشرعية؛ فلا شرعية ولا مشروعية للنظام إلا بالأمرين
معاً ... وعدم توفر رضا الشعب والأمة على الحاكم هو اغتصاب لحق الأمة في الاختيار ".
قلتُ: لقد نسف أمرُه الثاني أمرَه الأول؛ وإلا فمتى كان رضا الشعب من أحكام الشريعة؟! إن في هذا الكلام هدْماً لخلافة عمر وعثمان وعلي بل وسائر الخلفاء، وتفصيله عند حديثي عن الشورى في آخر الفصل الآتي. وأغرق في الضلال حين أخذ يؤكِّد صحة المذهب الديمقراطي وينسبه إلى الإسلام ويستدل له بأقوال المفكرين والقانونيين الكفار، فقال في رسالته إلى وزير الاتصال المؤرخة في ( 22 جمادى الأولى 1415هـ ) في ق (26):
" ومن الأمور المحسومة عند الغرب أن السلطة لا تُنال إلا عن طريق اختيار الشعب في حرية تامة! .. ومن ذلك قالوا بمشروعية الثورة على المستبد ... ويوم أن استقرّ هذا المبدأ في فكر المجتمع الغربي استقرت الأوضاع السياسية عندهم!! وعمَّ الأمن!!! ". ولم يقف الأمر عند هذا حتى أخذ ينقل من دين الكفار ما يوافق فكره الثوري؛ فينقل في هذه الورقة وما بعدها وما قبلها بقليل عن جون أوف ساليزيري وجان لوك وولز وبرنتون وفرانكفورت ولاسكي وفولتير، وعن القانوني الفرنسي الشهير ديجي ـ كما قال هو ـ قوله: " إن السلطة في أي بلد ينبغي أن تكون مقيَّدة بقانون أعلى، وهذا القانون الأعلى غير مكتوب ( القاعدة القانونية )، وتجاهل هذه الرابطة والعدوان عليها يوجب المقاومة ". وينقل حتى عن القانون الفرنسي (24 يونيو 1793م ) نصه: " إن للناس الحق في مراجعة دستورهم وتعديله وتغييره حيث لا يحق لجيل معين عن طريق دستور يضعه أن يتحكم في الأجيال
المقبلة ... وعندما تعتدي الحكومة على حق الشعب يكون حق الثورة من أقدس الحقوق ومما لا يمكن التخلي عنه ".
ينقل هذه المخازي بلا تعقب ولا نقد، وينسب بعضها إلى الإسلام صراحة؛ فقد قال في ق (26): " نعم! في الغرب قد يَنال المواطن أو رجل الإعلام من رئيس الدولة ولا يملك ذلك الرئيس أن يتخذ ضده أي إجراء، فهل استفادوا من إسلامنا وأضعناه؟! ".
ثم تراه لا يَكتفي بذلك حتى يُشِيد بما عند الغرب؛ فقد قال في ق (27ـ28): " ومن خلال ما تقدم نُدرك جيدا أن الغرب يُقدِّس أمرين: الحرية وخاصة الحرية السياسية ويرفض الاستبداد والطغيان والدوس على حقوق الإنسان، بل يرى وجوب الثورة والمقاومة إذا حدث ذلك! ".
ومن أجل أنه مُنِع من الكلمة الثورية الحرة استنجد بنصوص الكفار أيضا ليؤذن له في ذلك؛ فجعل ينقل عن جون ستيوارت إميل وعن شاتو بريان، كما في ق (23)، بل وفاقرة الفواقر أنه نقل عن بعضهم كلاما هو عين الكفر في حرية العبادة ولم يتعقبه بنصف كلمة، فقال: " وقال روزفلت (13/1/41) في رسالة الكونجرس: ( يجب أن تسود العالم الحريات أربع
( كذا ) هي: حرية التعبيرـ حرية العبادة ـ التحرر من الخوف ـ التحرر من الحاجة ) ".
قلت: الله أكبر! إنها السَّنن! يناضل من أجل الحصول على الحرية السياسية فيخلع دينه، ويأتي إلى هذه الكلمة الكافرة ـ ألا وهي حرية العبادة ـ ليؤيِّدها!! فلماذا شُرع الجهاد إذن؟! وماذا كان يفعل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم وقد اجتمعت كلمتهم على قولهم: {ألاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ اللهَ}؟! بل حتى الشيوعيين لا بد أن يتنعموا بهذه الحرية؛ إذ يقول في (ق24): " وقال فرانكفورت: ( مخالفة حرية القول ولو كانت استيحاء من حالة هسترية فإن تقييدها يُمثِّل تدهورا في حق المواطن، ولا يمكن التذرع بتقييدها ضد الشيوعيين، وإلا خلقنا قطعة من جهنم داخل أرضنا ) ".
والعجب العجيب والنبأ الغريب الذي لم يسبقه إليه الأوائل ولا عرفه العلماء الفطاحل أنه فسَّر تصرُّف علي بن أبي طالب t في مقاتلته الخوارج بقوله عن هؤلاء في ق (24): " وكانوا يُمثِّلون المعارضة السياسية المنحرفة أو المتطرفة بلغة العصر!! ولكن كيف عاملهم ( أي علي )؟ هل نسف بيوتهم؟ هل شرّدهم في البلاد؟ هل .. هل ... "، إلى أن قال في ق (25):
" فقد أقرَّ لهم بحرية الرأي السياسي وهم أعدائه ( كذا ) ومحاربيه ( كذا ) بل ومكفريه ( كذا ) ..!! "، وقال علي ابن حاج: " وفي قوله ( أي قول عليّ ابن أبي طالب للخوارج ): [ لا نبدأكم ( كذا ) بقتال ] تأمينا لهم من الخوف واعترافا لهم بحق النقد مهما كان متطرفاً شرط أن لا يسلك مسلك القتال والقتل "، ثم جاء بقاصمة الظهور فقال: " ألم يسبق الإمام علي ( ض )
( كذا ) بهذا القول قول روزفلت .. للكنجرس: يجب أن تسود العالم الحريات الأربع: .. العبادة ..!!! ".
قلتُ: فهذا صريح في تأييده هذا القول، فكيف يُطمَع في نقده له! نسأل الله العافية. ويزيد إغراقا في الضلال فيقول: " ورغم كل ما حدث للإمام عليّ مع الخوارج قال في أُخريات أيامه: ( لاتقتلوا الخوارج بعدي؛ فليس مَن طلب الحق فأخطأه كمَن طلب الباطل فأدركه ) ".
قلتُ: سبحان الله! ما هذه المحاماة للخوارج؟! أيكون علي حينئذ قد أهدر الدماء البريئة؟! وهل يملك عليّ أن ينهى عن قتلهم والرسول يقول:
» لئن أدرَكْتُهم لأَقتلنَّهم قتْلَ عاد « رواه البخاري ومسلم؟! هل يتصوَّر مسلم أن يجرؤ عليٌّ على ذلك وهو الذي حثّ المسلمين على قتال الخوارج يوم النهروان وجعل يُذكِّرهم بما حفظه عن رسول الله في ذلك، فعن سويد بن غفلة قال: قال عليّ t: إذا حدَّثْتُكم عن رسول الله حديثًا فلأَن أَخِرَّ من السماء أحب إليّ من أن أَكْذب عليه، وإذا حدَّثْتُكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة، وإني سمعتُ رسول الله يقول: » سيَخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانُهم حناجرَهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قَتْلهم أجرًا لِمن قتَلهم يوم القيامة «
( رواه البخاري ومسلم ). كيف وقد صحَّ عنه t أنه أهلَّ وكبَّر لما أيقن أنه لم يقتل إلا الخوارج ( رواه أحمد وأبو يعلى )، وعند أحمد وغيره أنه سجد سجدة شكر، ولذلك قال الآجري: " .. فصار سيفُ عليّ بن أبي طالب في الخوارج سيفَ حق إلى أن تقوم الساعة "
بل قال الشافعي: " فأما الخوارج فلا نعلم أحدا منهم كره قتاله إياهم " رواه البيهقي وأسند بعده نحو هذه الكلمة إلى ابن سيرين
أيسوؤك ـ يا ابن حاج ـ أن يُقتل الخوارج وتوظِّف لذلك رواية لا تأتي لها بزمام ولا خطام؟! فما الرحم التي بينك وبينهم؟! اللهم إلا أن يكون الفكر الثوري الأهوج الذي اتفقوا عليه مع المعتزلة والروافض وأيَّدته أنت بنصوص الكفار السابقة!! إن أخبث ما يأتي به المرء أن يستغل الدين لغير الدين؛ فانظر ـ أيها القاريء ـ إلى هذا كيف هان عليه تحريف الدين بتحريف التاريخ الإسلامي إرضاء لثوريته حتى ارتمى بين أحضان الديمقراطية ليُكوِّن دينا غير الذي أنزل الله! وهذا هو التشريع الذي ندَّد الله بفاعليه فقال:{أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُم مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ}! إن القانونيين ـ اليوم ـ جاؤوا بجريمة نكراء حين نصبوا أنفسهم مشرِّعين، ولكن ليس ذلك بأنكر مما جاء به هؤلاء؛ لأنَّ هؤلاء يُحرِّفون الحق ويَشْرَعون الباطل، ويزيدون نسبته إلى الدين! فافتتان الناس بتشريعهم أعظم، ولذلك جاء قيد {مِنَ الدِّينِ} في الآية في غاية الأهمية.
إن هذه النهاية التي انتهى إليها كل دعاة السياسة اليوم ـ أي أن بدايتهم تكمن في تفسير الدين تفسيراً سياسياً ثم نهايتهم الانسلاخ منه ـ لحَريّة بأن تنفِّر طلاب الحق من هذا المنهج، أمَا رأيتم أن سياسة هؤلاء لم تترك عقيدة ولا عبادة ولا تاريخا إسلاميا إلا حرَّفته وجاءت بما يضاهيه؟! فهل أضحت سياستهم طاغوتا يُعبد، والكرسي الذي يطلبونه صنما يُنحَر من أجله الدين؟! ثم إنني فكرت طويلا في تفسير سبب هذا المصير المحتوم، فلم أجد له جوابا إلا قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِين يُخالِفُونَ عنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، ولما كان هؤلاء طلابَ إمارة عرفتُ أن أول مصيبة أُصيبوا بها هي أنهم وُكِلوا إلى أنفسهم؛ لأنهم خالفوا وصية النبي لعبد الرحمن بن سمرة حين قال له: »" يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أُعطِيتها عن مسألة وُكلْتَ إليها، وإن أُعطِيتها عن غير مسألة أُعِنتَ عليها « رواه البخاري ومسلم وأبوداود، ولفظ رواية أبي داود: »وُكِل فيها إلى نفسه «؛ قلت: وكيف لا يكون موكولا إلى نفسه من يشهد أن الديمقراطية كفر ثم يستغيث بها؟! بل يحاكم إليها ـ كما سبق ـ والله تعالى يقول: {ألم ترَ إلى الَّذِين يَزعُمون أَنَّهُم ءامَنُوا بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ ومَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ وَقدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشّيْطانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}، ومع ذلك فلا أحد يحاسبهم من الأتباع، بل يكفي أن يردِّدوا كلمات ثورية لتضفي عليهم قداسة لا تَضرّ معها معصية، ولو صدر منهم ما صدر من المعاصي وقالوا ما قالوا من الكفر جاءت التأويلاتُ شافعةً مشفَّعة! ومع هذا فغيرهم هم المرجئة!!
قال ابن حجر: " فمَن لم يكن له من الله إعانة تورَّط فيما دخل فيه، وخسر دنياه وعقباه، فمَن كان ذا عقل لم يتعرَّض للطلب أصلاً ". ولو لم يكونوا طلاّب إمارة، وإنما أرادوا التحاكم إلى ما أنزل الله حقيقةً، فلماذا لم يتحاكموا إلى منهج الرسل في الإصلاح؛ وهو مما أنزله الله؟!! ولئن قالوا: إنما خاطب هؤلاء رجالَ القانون بلسانهم! قلنا: وهل فعل ذلك أُسوتنا ؟ وهل لاك لسانُه الطاهر كلماتِ الكفر وحاكم بها وإليها؟ إن هذا الذي تفعلونه هو عين الافتراء على الله الذي حذَّر منه ربُنا نبيَّه من أن يَستدرجه إليه الكفار فقال:{وإِن كَاُدوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً}، ولذلك أمر الله نبيّه أن يكتفي بما أنزله عليه وحذّره بشدة من ترك ذلك متابعةً للكفار بأي مسوِّغ كان فقال:{يَأَيُّها النَّبِيُّ اتَّقِّ اللهَ ولاَ تُطِعِ الكافِرِينَ والمُنَافِقِينَ إنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. واتَّبِعْ ما يُوحَى إلَيْكَ مِن رَبِّكَ إنّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُون خَبِيراً. وتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً}.
ووجه خَتْم هذا السياق الكريم بالتوكل أنه ما رَكن مَن رَكن إلى هذه الوسائل الملتوية إلا من ضعفت ثقته بما عند الله، والله المستعان.

يتبع

التعديل الأخير تم بواسطة أحمد سالم ; 23 Jul 2010 الساعة 04:55 AM
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013