فما لطلبة العلم يحومون حول التّركة طامعين، وليس لهم فيها نصيب لا تعصيبا ولا مفترضين؟! ولهذا كان من دقّة التّعبير القرآنيّ أن وصف اللهُ الرّجال المستحقين للإمامة بـ ( اليقين ) في علمهم فقال سبحانه: {وجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا ُيوقِنُونَ}، فجعل اليقين بدل العلم للفرق الواضح بين مجرّد العلم وبين علم اليقين، والمقام مقام إمامة واقتداء، وقد قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " فأخبر أن إمامة الدين إنما تُنال بالصبر
واليقين "، فما أعظم أسرار الكتاب!
ومن هنا قال ابن تيمية: " كان الرسولُ وخلفاؤه يَسوسون الناس في دينهم ودنياهم، ثم تفرقت الأمور: فصار أمراء الحرب يسوسون الناس في أمر الدنيا والدين الظاهر، وشيوخ العلم والدين يسوسون الناس فيما يُرجَع إليهم فيه من العلم والدين ".
تنبيهان
1 ـ لايزول العَجَب من قوم ـ أحسن ما يقال فيهم أنهم طلبة علم
ـ يَقيسون أنفسهم على ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فمارسوا السياسة بدعوى أنّ ابن تيمية كان يمارس السياسة! والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أنّ هذا النّوع من الاستدلال بأحوال الرّجال على حكم شرعي خبط منهجي لا تعرفه السلفية وخطأ يقدح في توحيد المتابعة، وذلك لأنّ ابن تيمية ـ كغيره من أهل العلم ـ يُستدَلُّ له ولا يُستدَلّ به، كما ذكر ذلك هو نفسه ـ رحمه الله ـ في (( رفع الملام )) وغيره من مصنفاته، فهل من متذكر؟!
الثاني: أنّ ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لم يمارس السياسة وإنما أفتى في السياسة كما أفتى في غيرها من فنون الشّريعة، وقد كان يقول: " أنا رجل ملّة، لا رجل دَوْلة "
الثّالث: أين أنتم من ابن تيمية؟! ذلك المجتهد المطلق، يقاس عليه طلبة العلم اليوم؟! ما أشبهه بقياس الحدّادين على الملائكة! قال رسول الله :
» المتشبِّعُ بما لم يُعْطَ كلابِس ثوبَيْ زور « متفق عليه.
2 ـ وأغرق في الخطأ: مَن يحتجّ بممارسة يوسف السياسة حين قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} مع أنّه e ما دخلها إلا وله شهادة من الله مكتوب عليها {إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}. وأهل البلاغة يفرّقون جيّداً بين
( الحافظ ) و( الحفيظ )، وبين ( العالم ) و( العليم )، فتدبّر هذا فإنّه من أسرار الكتاب الحكيم! كما أنّه يُتعجَّب من آخرين سوّغوا لأنفسهم استلام الوظائف السياسية اليوم بما في ذلك البرلمانات الكافرة أوالفاجرة، محتجّين بفعل يوسف عليه الصلاة والسلام، غافلين عن أنّه e لم يَسألها ولكن عَرَضها عليه الملِك نفسه، ولم يَقبلها إلا بعد أن ضمن له الأمن والتّمكين، فلا مضايقات ولا استفزاز، ولا تنزّلات ولا استدراج، ولا مساومات ولا احتجاج، ولذلك تأمل ترتيبه في قوله تعالى: {وقالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ. قالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}، وأما هؤلاء فقد أُعجِبوا بإيمانهم وحَسّنوا ظنّهم بأنفسهم حتى صوّر لهم الشيطان خيال التّصلب في الحق، وهم ذائبون في رضا أنظمة الخلق، والله المستعان. أما يوسف فلم يميِّع دينَه، ولم يَأْلُ من السياسة الشرعيّة جهدَه، ولا نفّذ قانون الملك الكافر باسم مصلحة الدعوة قال الله تعالى: {ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ في دِينِ المَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}().
ولو تنزّلنا جدلاً إلى مدّعاهم لقلنا كما قال علماء أصول الفقه: " شَرْعُ مَن قبلنا ليس شرعاً لنا فيما خالف فيه شرعنا " وقد خالفه؛ لأننا نهينا عن سؤال الإمارة كما في حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله e: » يا عبد الرحمن! لاتسأل الإمارة؛ فإنّك إن أُعطِيتَها عن مسألة وُكِلْتَ إليها وإن أُعطيتها من غير مسألة أُعِنتَ عليها « متفق عليه. ولقلنا إنّ يوسف عليه الصلاة والسلام قد زكّاه الله ولايَعمَل إلا بأمر الله، أي كل البشر تجري عليهم قاعدة » إن أُعطِيتَها عن مسألة وُكِلْتَ إليها ... « إلا من زكّاه الوحي الذي لا يعتريه الخطأ، أما هؤلاء ( المتكيّسون ) اليوم فهم خاضعون للأوضاع القانونيّة اليوم أو غداً، بل قبل أن يمارِسوا السياسة لا بد أن يحلفوا على احترام الدستور! وقد حصل، بل لا نعرف أن غيره قد حصل. فعَجَباً لمن يُنَحّي الكفر بالكفر!
فتحصّل من هذه العجالة أجوبة خمسة هي:
ـ أن يوسف لم يسأل الإمارة وإنما عُرضت عليه، كما يدل عليه السياق، وكل ما في قوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} بيان لتَخَصُّصه واختياره .
ـ أنه أمِن من مضايقات النظام، ومُكِّن للعمل بشريعة الإسلام، وهذان الأمران خيال في واقع أنظمة الأرض اليوم.
ـ أنه مزكَّى بما أنه رسول، فيُؤمَن عليه ما يُخاف على غيره؛ فعن محمد بن سيرين: أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين، فقدِم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدوّ الله وعدوّ كتابه؟! فقال أبو هريرة: فقلت: لست بعدوّ الله وعدوّ كتابه! ولكني عدوّ من عاداهما، قال: فمن أين هي لك؟ قلت: خيل نُتجت، وغلّة رقيق لي، وأعطية تتابعت، فنظروا، فوجدوه كما قال، فلما كان بعد ذلك، دعاه عمر ليُولِّيه، فأبى! فقال: تكره العمل وقد طلب العمل من كان خيرا منك: يوسف ! فقال: يوسف نبي ابن نبي ابن نبي وأنا أبو هريرة بن أميمة، وأخشى ثلاثا واثنتين، قال: فهلا قلتَ: خمسا؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينزع مالي، ويشتم عرضي ".
ـ أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا فيما خالف فيه شرعنا، وقد خالفه.
ـ أن يوسف تصرّف فيما تصرف فيه بمنصب الرسالة، فلو جاز لأحد أن يقتدي به فيه فوارثه الشرعي وهو المجتهد؛ قال ابن عبد البر: " فإذا كان ذلك، فجائز للعالِم حينئذ الثناء على نفسه، والتنبيه على موضعه، فيكون حينئذ تحدَّث بنعمة ربِّه عنده على وجه الشكر لها ". والله أعلم.
تأصيل
قال الله تعالى: {وإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيِكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83].
هذه الآية في بيانها الواضح أصل في هذا الباب، قال الشيخ عبد الرحمن السّعدي: " هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنّه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمّة والمصالح العامة ما يتعلّق بالأمن وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة، عليهم أن يتثبّتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردّونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم أهل الرّأي والعلم والنّصح والعقل والرّزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدّها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا ما فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرّته تزيد على مصلحته لم يذيعوه، ولهذا قال:{لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السّديدة وعلومهم الرّشيدة. وفي هذا دليل لقاعدة أدبيّة وهي إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يُوَلَّى من هو أهل لذلك ويُجعل من أهله، ولا يُتقدّم بين أيديهم فإنّه أقرب إلى الصّواب وأحرى للسّلامة من الخطأ وفيه النّهي عن العجلة والتّسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتّأمّل قبل الكلام، والنظر فيه هل هو مصلحة فيقدم عليه الإنسان أم لا فيحجم عنه".
سبب النزول:
قال عبد الله بن عباس: " مكثتُ سَنَةً وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطّاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبةً له حتى خرج حاجًّا فخرجت معه، فلمّا رجع فكنّا ببعض الطريق عَدَل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت له حتى فرغ، ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين! مَنِ اللّتان تظاهرتا على رسول الله من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة، قال: قلت له: والله! إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك، قال: فلا تفعل، ما ظننتَ أنّ عندي من علم فسلْني عنه، فإن كنت أعلمه أخبرتك، قال: وقال عمر: والله إن كنّا في الجاهليّة ما نعدّ للنّساء أمرا، حتى أنزل الله فيهنّ ما أنزل، وقسم لهنّ ما قسم؛ كنّا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في بني أميّة ابن زيد بالعوالي). قال: فبينما أنا في أمر أَئْتَمِرُه، إذ قالت لي امرأتي: لو صنعتَ كذا وكذا، فقلت لها: ومَا لكِ أنت ولما ههنا؟ وما تكلفُكِ في أمر أريده؟ فقالت: عجبا لك يا ابن الخطّاب! ما تريد أن تراجَعَ أنت وإنّ ابنتك لتُراجِعُ رسول الله حتى يظلّ يومه غضبان. قال عمر: فآخذُ ردائي ثم أخرج مكاني، حتى أدخل على حفصة فقلت لها: يا بنيّة! إنّك لتُراجعين رسول الله حتى يظلّ يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله إنّا لنُراجعُه. فقلت: تعلمين أنّي أحذِّرُك عقوبةَ الله وغضبَ رسوله، قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسِر. أفَتَأْمَن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله.فإذا هي قد هلكت. لا تراجعي رسول الله ولا تسأليه شيئا، وسليني ما بدا لك، يا بنيّة! لا يَغرنَّك هذه التي قد أعجبها حسنها وحبّ رسول الله إيّاها. ثم خرجتُ حتى أدخلَ على أمّ سلمة لقرابتي منها، فكلمتها فقالت لي أمّ سلمة: عجبا لك يا ابن الخطّاب! قد دخلتَ في كل شيء حتى تبتغي أن تدخلَ بين رسول الله وأزواجه! قال: فأخذَتْني أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها. قال: وكان لي جار من الأنصار، فكنّا نتناوب النّزول إلى رسول الله ، فينزل يوما وأنزل يوما، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك، ونحن حينئذ نتخوّف ملِكا من ملوك غسّان، ذُكر لنا أنّه يريد أن يسير إلينا فقد امتلأت صدورنا منه، فأتى صاحبي الأنصاري عشاء يدقّ الباب، وقال: افتح، افتح، فقلت: جاء الغسّانيّ؟ فقال: أشَدّ من ذلك؛ اعتزل رسول الله أزواجه، فقلت: رَغِمَ أنفُ حفصة وعائشة، قد كنت أظنّ هذا كائنا، حتى إذا صلّيت الصّبح شددت علي ثيابي، وفي رواية: دخلت المسجد، فإذا الناس يَنْكُتون بالحصى ويقولون طلّق رسول الله نساءَه
ـ وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب ـ قال عمر: فقلت: لأَعلمنَّ ذلك اليوم، وأتيت الحُجَر فإذا في كل بيت بُكَاء. قال: فدخلت على عائشة فقلت: يا بنت أبي بكر! أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله ؟ فقالت: مالي ومالك يا ابن الخطّاب؟ عليك بعَيْبَتك قال: فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله ؟ والله لقد علِمتِ أنّ رسول الله لا يحبّكِ، ولولا أنا لطلّقكِ رسول الله ، فبكت أشدّ البكاء، فقلتُ لها: أين رسول الله ؟ قالت: هو في خزانته في المَشْرُبة، فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله قاعدا على أَسْكُفَّةِ المشربة مُدَلّ رجليه على نقير من خشب ـ وهو جذع يرقى عليه رسول الله وينحدر ـ فناديت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله ، فنظر رباحٌ إلى الغرفة، ثم نظر إليّ فلم يقل شيئا، ثم قلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله ، فنظر رباحٌ إلى الغرفة ثم نظر إليّ فلم يقل شيئا، ثم رفعت صوتي فقلتُ: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله ، فإنّي أظنّ أنّ رسول الله ظنّ أنّي جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله بضرب عنقها لأضربنَّ عُنُقَها، ورفعت صوتي، فأومأ إليّ أن ارقَه، فدخلت فسلّمت على رسول الله ، فإذا هو متّكئ على رَملِ حصير قد أثّر في جنبه، قال: ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله! ما يشقّ عليك من شأن النساء؟ فإن كنت طلّقتهنّ فإنّ الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلّما تكلمتُ ـ وأحمد الله ـ بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدّق قولي الذي أقول، ونزلت هذه الآية؛ آية التّخيير {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنكُنَّ}، {وَإِن تَظَاهَرَا َعَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}، وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء النبيّ ، فقلت: أطلّقت ـ يا رسول الله! ـ نساءَك؟ فرفع رأسه إليّ وقال:» لا «، فقلتُ: الله أكبر! لو رأيتنا يا رسول الله! وكنّا معشر قريش، قوماً نغلِب النساء، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلِبُهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم، فتغضّبتُ على امرأتي يوماً، فإذا هي تراجعني، فأنكرتُ أن تراجعني، فقالت: ما تنكرُ أن أراجعك؟ فوالله! إنّ أزواج النبي ليراجعنَه وتهجره إحداهنّ اليوم إلى اللّيلة، فقلتُ: قد خاب من فعل ذلك منهنّ وخسر، أفتأمن إحداهنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟ فتبسّم رسول الله ، فقلتُ: يا رسول الله، قد دخلتُ على حفصة فقلتُ: لا يغرنّكِ أن كانت جارتكِ هي أوسم منكِ وأحبّ إلى رسول الله منكِ، فتبسّم أخرى، فقلتُ: أستأنس يا رسول الله؟ قال:» نعم «، فجلستُ، فرفعتُ رأسي في البيت فوالله! ما رأيتُ فيه شيئا يردّ البصر إلا أُهُبا ثلاثة، فنظرتُ ببصري في خزانة رسول الله فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصّاع ومثلها قَرَظًا في ناحية الغرفة، وإذا أُفِيقٌ معلّقٌ، قال: فابتدرت عيناي قال:» ما يبكيك يا ابن الخطّاب؟ «، قلتُ: يا نبيّ الله، ومالي لا أبكي؟ وهذا الحصير قد أثّر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى وذاك قيصر وكسرى في الثّمار والأنهار، وأنت رسول الله وصفوته وهذه خزانتك، فقلت: ادعُ الله يا رسول الله! أن يوسّع على أمّتك فقد وسّع على فارس والرّوم، وهم لا يعبدون الله! فاستوى جالسا ثم قال:"" أفي شكٍّ أنت يا ابن الخطّاب؟ أولئك قوم عجِّلت لهم طيّباتهم في الحياة الدنيا، يا ابن الخطّاب، ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ « قلت: بلى، فقلت: استغفر لي، يا رسول الله! قلتُ: يا رسول الله، إنّي دخلتُ المسجد والمسلمون ينكُتون بالحصى، يقولون: طلّق رسول الله نساءَه، أفأنزلُ فأخبرهم أنك لم تطلّقهنّ؟ قال: (( نعم، إن شِئت )) فلم أزل أُحدِّثه حتى تَحَسَّر الغضب() عن وجهه، وحتى كشَر فضحك ـ وكان من أحسن النّاس ثغرا ـ ثم نزل نبيّ الله ونزلتُ، فنزلت أتشبّث بالجذع ونزل رسول الله كأنّما يمشي على الأرض ما يمسّه بيده، فقلتُ: يا رسول الله! إنما كنتَ في الغرفة تسعة وعشرين، قال:» إنّ الشهر يكون تسعا وعشرين « فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي:لم يطلّق رسول الله نساءَه، ونزلت هذه الآية: {وإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنبِطونَهُ مِنْهُم} فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله آية التّخيير. رواه البخاري ومسلم.
يتبع
التعديل الأخير تم بواسطة أحمد سالم ; 23 Jul 2010 الساعة 04:48 AM
|