الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
فلا شك ولا ريب أن من أهم ما ينبغي أن يحرص عليه طالب العلم ويعتني به حسن السمت والأدب، ومما يدل على أهمية هذا الأمر كثرة المصنفات فيه حتى إن العلماء –رحمهم الله- لم يغفلوا جانبا من الجوانب فذكروا ما يتعلق بالطالب مع ربه ومع نفسه ومع زمالته ومع معلمه وفي مجلسه وغير ذلك، مما يدل على حرصهم وعنايتهم بهذا الأمر فضلا عن كونه داخلا في مكارم الأخلاق ومحاسنها وقد جاء في فضلها ما جاء، وليس المقصود الكلام عن هذا، وإنما قصدت الإشارة إلى بعض الآداب التي قد قصَّر فيها البعض أو فرَّط وهي مما لا يجمل ولا يحسن ولا يلزم من ذلك أن تكون محرمة، وإنما هي إشارة لطيفة ولفتة خفيفة.
وقد ذكرت ما ينبغي أن يكون عليه الطالب مشيرا إلى ما حصل فيه من خلل، ولم أقصد الاستقصاء ولا الاستيفاء وإنما نبهت على بعضه مما يدل على غيره، وقصرت الكلام على ما يتعلق بمجلس العلم وإن كنت اذكر بعض اللوازم التي تدخل فيه.
وقبل الشُّروع في المقصود أحببت أن ألفت النظر إلى أمر مهم قد يغفل عنه الطالب وهو ما أشار إليه الزُّرنوجي –رحمه الله- في رسالته المختصرة «تعليم المتعلم طريق التعلم»(ص25) بقوله:
«اعلم أن طالب العلم لا ينال العلم ولا ينتفع به إلا بتعظيم العلم وأهله، وتعظيم الأستاذ وتوقيره.
قيل: ما وصل من وصل إلا بالحرمة، وما سقط من سقط إلا بترك الحرمة» اهـ.
فأحسب والله تعالى أعلم أنَّ الطالب لو عقل هذا المقصد ووعاه فلن يصدر بإذن الله تعالى منه سوء خلق أو أدب في مجلس العلم أو مع المشايخ وطلبة العلم، فمن عرف شرف ما يطلبه وفضله وقدره ورفعة أهله أولاهم الاحترام ونزلهم منازلهم وتأدب بما ينبغي معهم، ولم يقصر في ذلك، وقد جاء عن السلف في هذا الباب ما جاء فكانوا يوصفون في مجالسهم كأن على رؤوسهم الطير مما يدل على الوقار وإعطاء المجلس والشيخ هيبته وما يستحقه.
وآثرت استفتاح المقال بما يتعلق بالشيخ بصفة مباشرة لحقه على الطالب وهو من أول مفاتيح العلم كذلك.
1- حسن الاستماع والإنصات:
ذكر الذهبي –رحمه الله- في «السِّير»(8/175) عن محمد بن النضر رحمه الله أنه قال: (أول العلم الاستماع والإنصات، ثم حفظه، ثم العمل به، ثم بثه)، وبعضهم يقدم على الاستماع النية كما عن ابن المبارك –رحمه الله-: (أول العلم النية، ثم الاستماع ثم الفهم ثم العمل ثم الحفظ ثم النشر)«ترتيب المدارك»(3/41).
والمقصود أنَّ الاستماع والإنصات من أول وسائل التحصيل بل هو أصلها إذ الأصل في العلم أن يكون مشافهة، فيؤخذ من في الشَّيخ والعلم موقوف عليه كما قال ابن القيم -رحمه الله- في «مفتاح دار السعادة»(1/64): «فلما كان القلب وعاء والأذن مدخل ذلك الوعاء وبابه كان حصول العلم موقوفا على حسن الاستماع».
ومن الأمور المساعدة على حسن الاستماع والإنصات أن يكون الطالب قريبا من الشيخ، وأن يفرغ قلبه من الشواغل والعلائق التي قد تفوت عليه التركيز. وعلى هذا فمما لا يليق بطالب العلم الذي بذل وسعا في حضور المجلس أن يفوت الخير في هذا المجلس، فينشغل عن الاستماع والإنصات بما لا ينبغي أو يشغل حتى إخوانه، ومن ذلك ما نسمعه من (رنين جوال الهاتف) والشيخ ماض في كلامه، فإن لم يشوش على الشيخ وإخوانه فقد ضيع على نفسه فرصة سماع كلمة قد يكون فيها نفع عظيم له ولغيره، فعلى طالب العلم أن يحرص على إغلاق هاتفه في المجلس أو يجعله على الصامت، حتى ينشغل بمجلس العلم.
ومما لا يليق بالطالب وهذا قد يكون أشد من سابقه وهو مما يخرم حسن الاستماع والإنصات أن يقاطع الطالب الشيخ أثناء حديثه بمداخلات دون إذن الشيخ، بل إن بعضهم قد يتكلم بالخطأ والشيخ على صواب، فمن أدب الطالب مع الشيخ أن لا يتكلم إلا بإذنه، فإن أذن الشيخ في الكلام فحي هلا، وإلا فالإمساك الإمساك.
فكما أن حسن الاستماع والإنصات من وسائل العلم، فسوء الإنصات وترك الاستماع من أسباب حرمان العلم كما ذكر العلامة ابن القيم –رحمه الله- في «مفتاح دار السعادة»(1/172) فليحرص الطالب على أول مفاتيح العلم.
2- حسن الجلسة:
إن من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم في المجلس أن يعرف جِلسة طالب العلم، وقد استفاد العلماء –رحمهم الله- صفة هذه الجلسة من صفة جلوس جبريل عليه السلام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- في «شرح رياض الصالحين»(1/347): «قوله: «حتى جلس إلي النبي صلي الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلي ركبتيه» أي أسند كبتي جبريل إلي ركبتي النبي صلي الله عليه: «ووضع كفيه علي فخذيه» قال العلماء: وضع كفيه على فخذي نفسه، لا علي فخذي النبي صلي الله عليه وسلم، وذلك من كمال الأدب في جلسة المتعلم أمام المعلم، بأن يجلس بأدب واستعداد لما يسمع، واستماع لما يقال من الحديث».
ويقول ابن جماعة –رحمه الله- مبينا صفة جلوس الطالب بين يدي الشيخ: «أن يجلس بين يدي الشيخ جلسة الأدب كما يجلس الصبي بين يدي المقرئ أو متربعا بتواضع وخضوع وسكون وخشوع...»[«تذكرة السامع والمتكلم»(ص199)].
ثم ذكر ابن جماعة –رحمه الله- بعض ما لا يخدم هذا الأمر وسأقيس عليه ما سيق الكلام من أجله فقال –رحمه الله-: «ولا يستند بحضرة الشيخ إلى حائط أو مخدة أو درابزين أو يجعل يده عليها...»(ص200).
فعلى هذا فمما لا يحسن بالطالب أن يمد رجليه تجاه الشيخ إذ أن هذا لو قارناه بالاستناد لغمره مع كونهما يشتركان في الدلالة ولو من بعيد عن الكسل وعدم الجد والاجتهاد، ولا شك أن من أبرز صفات طالب العلم أن يكون مجدا مجتهدا حريصا على العلم مقبلا عليه بكليته نابذا في ذلك كل ما يدل على خلاف ذلك فقد ذكر العلماء –رحمهم الله- أن من حكم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن افتراش السَّبع أنها صفة الكاسل والمتراخي المتهاون بحاله كما أشار إلى ذلك القاضي عياض –رحمه الله- في «إكمال المعلم»(2/407) مما يدل على أن الابتعاد عن ما يشابه مظاهر الكسل والفتور مطلوب حتى وإن لم يكن كذلك، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كان حال سجوده يباعد يديه عن عضديه لتنال اليدان حظهما من الاعتدال ابتعادا عن مظاهر الكسل، يقول الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- في «تنبيه الأفهام شرح عمدة الأحكام»(ص207): «...كان يباعد عضديه عن جنبيه، لتنال اليدان حظهما من الاعتماد والاعتدال في السجود، ويبتعد الساجد عن مظاهر الكسل والفتور» اهـ.
ومما يلتحق بما يدل على هذا الأمر وهو الكسل (شرب القهوة) في مجالس العلم -وإن لم يكن مما يتعلق بالجلسة- فهو أدل من سابقه على هذا الأمر إذ قد جرى العرف أن شاربها إنما يستمتع بها، ولا تقبل في المجالس التي يكون فيها نوع رسمية ولهذا يعد شربها في بعض المؤسسات ونحوها من سوء الأدب فكيف يفعل في مجلس علمي تحفه الملائكة ملئه الجدُّ والاجتهاد.
3- حسن السؤال:
جاء في كتاب «التاريخ الكبير»(2/150) لابن أبي خيثمة –رحمه الله- عن سليمان بن يسار رحمه الله أنه قال: «حسن السؤال نصف العلم».
ولكن ليس الأمر على إطلاقه، فليس كل سؤال يكون سببا للعلم ولهذا ذكرت صفة سؤال المتعلم؛ يقول ابن حزم –رحمه الله- كما في رسالته «الأخلاق والسير»(ص193-194): «هو أن تسأل عما لا تدري، لا عما تدري، فإن السؤال عما تدريه سخف وقلة عقل، وشغل بكلامك، وقطع لزمانك، بما لا فائدة فيه، ولا لك ولا لغيرك، وربما أدى إلى اكتساب العداوات، وهو –بعد- عين الفضول، فيجب عليك ألا تكون فضوليا، فإنها صفة سوء»اهـ.
وليس المقصود التوسع في الكلام على السؤال واستقصاء مباحثه، وإنما المراد أن الأثر يدل على المسير، وحسن الكلام يدل على حسن الخلق والعكس بالعكس، فكذلك السؤال فإما أن يدل على عقل صاحبه أو على خفته، وهل بذل جهدا في صياغته أم أخرج من رأسه ما لا يدري، وهل اطلع على المسألة أم لم يطلع؟
ولا شك أن الذي ينبغي على طالب العلم أن يكون سؤاله بعد بحث وتنقيب وبذل جهد في محاولة الوصول إلى الحق ثم بعد ذلك يكون السؤال حتى يقع الجواب موقعه اللهم إلا إن كان الأمر مستعجلا فهذا له شأن آخر، ومما يدل على أن السؤال يدل على عقل صاحبه أو خفته ما ذكره الشيخ محمد عطية سالم –رحمه الله- عن شيخه محمد الأمين الشنقيطي –رحمه الله- فقال في «شرحه على الأربعين النووية»:
«وكم وجدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه، إذا سأل طالب سؤالاً علمياً في محله يقول: جزاك الله خيراً إنك طالب علم، وإذا سأل إنسان سؤالاً لا يدري يميناً أو يساراً، يقول: أنت في حاجة أن تذهب إلى الطبيب يعطيك إبرة، لأن تفكيرك يحتاج إلى علاج، وذلك من باب المزح مع الطالب، ومن باب التفريق بين سؤال وسؤال».
وذكر بعض طلبة الشيخ عبد الله بن غديان –رحمه الله- أنه سأله سؤالا فأوصاه الشيخ –رحمه الله- «أن لا تسأل من شحمة رأسك، فإنك إذا فعلت ذلك انتقص الناس قدرك» وقد نقلته بمعناه.
فعلى طالب العلم أن يحرص على انتقاء الأسئلة المهمة التي تنفعه وتنفع إخوانه، ولا يسأل عن كل ما بدا له، فقد يفوت حظ إخوانه في السؤال ويضيع عليهم الفرصة بما قد لا يعود لا عليه ولا عليهم بالنفع.
وختاما: فلو وقف الطَّالب مع نفسه وتأمل: «أن هذا الشيخ الذي يدرسه قد تعب في التحضير والاختصار وانتقاء الأصلح والأنفع ثم تقريبه بأبسط عبارة وأعذبها على السّمع، وبعد ذلك اقتطع لك جزء نفيسا من وقته المليء بالمشاغل وتكبد الحضور إلى هذا المجلس» فإذا شرع في مجلسه وجد الطالب مادًّا رجليه معه قهوته مقاطعا لكلامه سائلا عما لا حاجة إليه، فتأملها تعرف وزنها!
فأسأل الله تعالى أن يجزي مشايخنا خير الجزاء، وأن يوفقهم لكل خير ورشاد، وأن يرزقنا حسن الخلق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
التعديل الأخير تم بواسطة فتحي إدريس ; 25 May 2014 الساعة 12:20 PM
جزاكم الله خيرا تذكيرا لاخوانك بما ينبغي لهم الاستمساك به من ادب الطلب وبالاخص مما يتعلق بادب الطالب مع شيخة والبلوى بالنقيض عامة حتى نكاد نرى بعضا من اخواننا يؤذي من حضر للشيخ طلبا للاجر والاستفادة بسؤالاته وتعقباته ما يضطر بعض الافاضل منه ادبا وتواضعا ان يشوش عليه مقصوده فيخرج عن نطاق الدرس بل لما يتم اليخ درسه وياذن بالاسئلة واذ بالبعض وكانه كان على الجمر متململا مسرعا محدثا ضجيجا فضلا عن عدم الاعتدال في جلوسه وسؤاله