10 Feb 2016, 02:57 AM
|
عضو
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2014
الدولة: وادي العلايق - البليدة
المشاركات: 340
|
|
مقال للشيخ عمر الحاج مسعود حفظه الله تعالى بعنوان الزلزال حكم وفوائد
إنَّ كلَّ التَّغيُّرات الَّتي تحدث في الكون كالزِّﻻزل واﻷعاصير والعواصف والفيضانات لهي من آيات الله العظيمة الدَّالةِ على عظمته وقوَّته وجبروته وكبريائه، فينبغي للعاقل أن يقف عندها، ويتدبَّرَها ببصيرته، ويحذرَ القسوةَ والغفلةَ المانعتين من التَّدبُّر واﻻظ.
وسأذَكِّر إخواني القرَّاء في هذه المقالة بأهمِّ حكم الزِّلزال وفوائده، علَّها تكون موعظةً للمؤمنين وتنبيهًا للغافلين وتحذيرًا للمجرمين، والله الهادي إلى الحقِّ المبين.
فمن ذلك:
1ـ بيانُ عظمةِ الله ـ عز وجل ـ وقدرته وأنَّه على كلِّ شيء قدير وفعَّال لما يريد، ولواسع علمه وكمال قدرته ﻻ يمتنع عليه أمرٌ وﻻ يعجزه شيءٌ، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون﴾[يس:82]، ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَﻻَ فِي اﻷَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾[فاطر:44]، وروى البخاري (4628) عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ اﻵيَةُ ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ﴾[اﻷنعام:65] قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، قَالَ ﴿أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾[اﻷنعام:65] قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ﴾[اﻷنعام:65] قال رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «هَذَا أَهْوَنُ أَوْ هَذَا أَيْسَرُ».
*وله ـ في خلقه وحكمه وقضائه وبﻼئه الحكمةُ البالغةُ والحجَّةُ الدَّامغةُ، ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ الله وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون﴾[القصص:68]، وكلُّ ذلك دليلٌ «على أنَّه هو وحده الفعَّالُ لِمَا يريد المدَبِّرُ لخلقه كيف يشاء، وأنَّ كلَّ ما في المملكة اﻹلهيَّةِ طوْعُ قدرته وتحت مشيئته، وأنَّه ليس شيءٌ يستَقِّل وحده بالفعل إﻻَّ الله» (1).
2ـ التَّخويف من عذاب الله والتَّحذير من شؤم مخالفة أمره، قال تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِاﻵيَاتِ إِﻻَّ تَخْوِيفًا﴾[اﻹسراء:59]، أخرج الطَّبري في «تفسيره» (14/638) عن قَتادَة : أنَّه قال: «إِنَّ الله يُخَوِّفُ النَّاسَ بِمَا شَاءَ مِنْ آيَاته لَعَلَّهُمْ يُعْتِبون أَوْ يَذْكُرُون أَوْ يَرْجِعُونَ»، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الكُوفَةَ رَجَفَتْ عَلَى عَهْدِ ابْن مَسْعُود فَقَال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُمْ يَسْتَعْتِبُكُمْ فَأعْتِبُوه»، استعتبكم: طلب منكم أن تُعتبوه، أي أن تُرضوه وتُزيلوا عتْبَه وغضبَه عليكم، ويكون ذلك* بالتَّوبة واﻻستغفار.
ويخوِّف الله سبحانه وتعالى عباده بكسوف الشَّمس وخسوف القمر، كما يخوِّفهم بالنَّار وعذابها وبالعقوبات الَّتي أنزلها بالكفَّار والمجرمين، «والتخويف يتضمَّن اﻷمرَ بطاعته، والنّهيَ عن معصيته»(2)، ولهذا أرشد صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم إلى الذِّكر والصَّﻼة والصَّدقة واﻻستغفار درءًا للعقاب الذي قد ينزل.
فعن أبي مُوسى قال: خَسَفَت الشَّمْسُ في زمنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ فَزِعًا يَخْشَى أَنْ تَكونَ السَّاعَةُ حَتَّى أَتَى المسْجِدَ فَقَامَ يُصَلِّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ مَا رَأَيْتُهُ يَفْعَلُهُ في صَﻼَةٍ قَطُّ ثُمَّ قَال: «إِنَّ هَذِهِ اﻵيَاتِ الَّتِى يُرْسِلُ اللهُ ﻻَ تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَﻻَ لِحَياتهِ وَلَكِنَّ اللهَ يُرْسِلُهَا يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَافْزَعُوا إلى ذِكْرِهِ وَدُعَائِه واسْتغفارِه» رواه البخاري (1059) ومسلم (912).
قال شيخ اﻹسﻼم رحمه الله: في «مجموع الفتاوى) (35/169): «فذكر أنَّ من حكمة ذلك تخويفَ العباد كما يكون تخويفهم في سائر اﻵيات كالرِّياح الشَّديدة والزَّﻻزل والجدب واﻷمطار المتواترة، ونحو ذلك من اﻷسباب الَّتي قد تكون عذابًا؛ كما عذَّب الله أُمَمًا بالرِّيح والصَّيحة والطُّوفان، وقال تعالى: ﴿فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ اﻷَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا﴾[العنكبوت:40]، وقد قال: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِاﻵيَاتِ إِﻻَّ تَخْوِيفًا﴾[اﻹسراء:59]، وإخباره بأنَّه يُخَوِّف عباده بذلك يبيِّن أنَّه قد يكون سببًا لعذاب ينزل كالرِّياح العاصفة الشَّديدة».
وهذا يكون إذا عصوْه وخالفوا أمره، قال ابن بطَّال رحمه الله: في شرح البخاري (3/26): «والتَّخويف والوعيد بهذه اﻵيات إنَّما يكون عند المجاهرة بالمعاصى واﻹعﻼن بها».
وقال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي اﻷَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾[محمد:10]، وقال عن أهل النار: ﴿لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُون﴾[الزُّمَر:16]، قال ابن تيمية في «منهاج السنة» (5/299): «فخوَّف العبادَ مُطْلقًا، وأمرهم بتقواه لئﻼَّ ينزل المَخُوف، وأرسل الرُّسل مبشِّرين ومنذرين، واﻹنذار هو اﻹعﻼم بما يُخاف منه، وقد وُجدت المَخُوفات في الدُّنيا، وعاقب الله على الذُّنوب أممًا كثيرة كما قَصَّه في كتابه، وكما شُوهِدَ مِن اﻵيات».
وروى البخاري (3206) ومسلم (899) عن عائشة رضي الله عنها قالت: وإذا تخَيَّلَتِ السَّماءُ تَغَيَّرَ لونُه ـ أي النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ـ وخرج ودخل وأقبلَ وأَدْبَرَ، فإذا مطرتْ سُرِّيَ عنه، فعرفْتُ ذلك في وجههِ، قالت عائشةُ: فسألتُهُ فقال: «لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ كما قال قَوْمُ عَادٍ: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾[اﻷحقاف:24]»، وفي رواية لمسلم: «إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابًا سُلِّطَ عَلَى أُمَّتِي».
فكان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم ـ مع كونه أعلمَ الخلق بالله وأتقاهم له ـ إذا رأى* هذه اﻵيات الَّتي فيها التَّخويف واﻹنذار، خاف العذاب على أمَّته، وفزِع إلى ذكر ربِّه ودعائه واستغفاره، وقد كان من دعائه: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ» رواه مسلم (2739).
أمَّا الكُفَّار الَّذين يعلمون ظاهرًا من الحياة الدُّنيا وهم عن اﻵخرة هم غافلون؛ فإنَّهم يظنُّون أنَّ ذلك من فعل الطَّبيعة، ويجعلونه مناسبةً للفرجة والتَّسلِّي والتَّصوير وتناقل اﻷخبار، وصدق الله إذ قال: ﴿وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِﻻَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾[اﻹسراء:60].
وإن تعجَبْ فعَجبٌ تقليدُ بعضِ المسلمين الكفَّارَ في ذلك، حيث جرَّدوا الزِّلزالَ وسائرَ اﻵيات اﻷخرى من المعاني اﻹيمانيَّة والحِكَم الشَّرعيَّة، وأعطَوها صِبغةً ماديَّةً بَحْتةً، فﻼ نسمع في وسائل اﻹعﻼم المختلفة وﻻ نقرأ إﻻَّ أنَّ الزِّلزال كارثةٌ طبيعيَّة، قوَّتُه كذا وكذا، مع إحصاء عدد القتلى والجرحى والخسائر الماديَّة، وﻻ نجد ذكرًا لعظمة الله وقدرته وأنَّ ذلك بمشيئته، كما أنَّنا ﻻ نسمع شيئًا عن التَّرغيبِ في التَّوبة إلى الله واﻻعتصام بحبله والفزع إلى دعائه واستغفاره، والتَّرهيب من اﻹصرار على معصيته والصَّدِّ عن سبيله ومخالفة رسوله.
وتأمَّلْ في موقف الخليفة الرَّاشد والمحدَّث الملْهَم عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه لمَّا زُلزلت المدينة في عهده، كيف أخبر أنَّ سببَ ذلك هو اﻹحداث والمخالفة، فحذَّر النَّاسَ وهدَّدهم ـ إن عادت ـ بهجرهم وترك مساكنتهم فيها، فعن صَفِيَّةَ بنتِ أبي عُبَيد قالت: زُلْزِلَتِ المدِينَةُ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ مَا هَذَا؟ مَا أَسْرَعَ مَا أَحْدَثْتُمْ، لَئِنْ عَادَتْ ﻻ أُسَاكِنُكُمْ فِيهَا» رواه ابن أبي شيبة (8335) وابن أبي الدُّنيا في «العقوبات» (20)، وسنده صحيح.
وما سبق ﻻ ينفي أن يكون للزِّلزال وقتٌ معيَّن، ـ كالكسوف والخسوف ـ، فيقع اتِّفاقٌ بين الوقت الَّذي تتنفَّس فيه اﻷرض وتُزَلزل بإذن ربِّها وبين إرادة الله تخويفَ عباده وعقوبةَ بعضهم، والله عليم حكيم، قال ابن القيِّم في «مفتاح دار السعادة» (2/630): «ولما كانت الرِّياح تجول فيها ـ يعني في اﻷرض ـ وتدخل في تجاويفها، وتُحدِث فيها اﻷبخِرة، فتختنق الرِّياح، ويتعذَّر عليها المنْفَذ أذِن الله سبحانه لها في اﻷحيان بالتَّنفِّس، فتُحدِث فيها الزَّﻻزلَ العظامَ، فيَحدثُ من ذلك لعباده الخوفُ والخشيةُ واﻹنابةُ واﻹقﻼعُ عن معاصيه والتَّضرُّعُ إليه والنَّدمُ».
وقال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (35/175 ـ 176): «وما أخبر به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ﻻ يُنافي لكوْن الكسوف له وقت محدَّد يكون فيه، حيث ﻻ يكون كسوف الشَّمس إﻻَّ في آخر الشَّهر ليلة السِّرار، وﻻ يكون خسوف القمر إﻻَّ في وسط الشَّهر وليالي اﻹبدار، ومن ادَّعى خﻼف ذلك من المتفقِّهة أو العامَّة فلِعدم علمه بالحساب... فإذا كان الكسوف له أجلٌ مسمًّى لم يُنافِ ذلك أن يكون عند أجله يجعله الله سببًا لما يقتضيه من عذاب وغيره لمن يُعذِّب الله في ذلك الوقت، أو لغيره ممَّن ينزل الله به ذلك، كما أنَّ تعذيب الله لمن عذَّبه بالرِّيح الشَّديدة الباردة ـ كقوم عاد ـ كانت في الوقت المناسب، وهو آخر الشِّتاء كما ذكر ذلك أهلُ التَّفسير وقصص اﻷنبياء».
***
3ـ اﻻبتﻼء واﻻمتحان، فالله تعالى يبلو عباده بالسَّرَّاء والضَّرَّاء والخير والشَّرِّ ليعلم المؤمنَ من الكافر والصّادقَ من الكاذب، قال سبحانه وتعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون﴾[اﻷنبياء:35]، وقال: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ ﻻَ يُفْتَنُون * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين﴾[العنكبوت:2-3]، وقال: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِين﴾[العنكبوت:11].
والزِّلزال يكون تطهيرًا للمؤمنين، وتكفيرًا لسيِّئاتهم ورفعًا لدرجاتهم، قال الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ اﻷَمَوَالِ وَاﻷنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون﴾[البقرة:155-157]، وروى أحمد (19678) وأبو داود (4278) وصحَّحه اﻷلباني في «الصحيحة» (959) أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أُمَّتِي أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا في اﻵخِرَةِ عَذَابٌ، إِنَّمَا عَذَابُهَا في الدُّنْيَا القَتْلُ والبَﻼَبِلُ وَالزَّﻻَزِلُ»، كما يكون انتقامًا من الكافرين المعاندين، فقد أغرق اللهُ قومَ نوح عليه السﻼم، وأرسل الرِّيحَ العقيمَ على قوم عاد وأخذت قومَ ثمود الرَّجفةُ ـ وهي الزِّلزال الشَّديد الَّذي ترجف منه اﻷرض وتضطرب اضطرابًا شديدًا ـ، وقَلَبَ قرى قومِ لوطٍ ؛ فجعل عالِيَهَا سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجِّيل، وأغرق فرعون وقومه في البحر، وخَسَف بقارون وداره اﻷرض، وأهلك القرونَ من بعد نوح بأنواع من العقوبات جزاءً وفاقًا ﴿فَكُﻼًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ اﻷَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون﴾[العنكبوت:40].
***
4ـ اتِّخاذ الشُّهداء، فمن مات من أهل التَّوحيد تحت الهدْم، ولم يكن في معصية الله(3) نال منزلتهم، وكانت خاتمتُه حسنةً وعاقبتُه حميدةً، روى البخاري (653) ومسلم (1914) أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ المطْعُونُ وَالمبْطُونُ وَالغَرِيقُ وَصَاحِبُ الهَدْمِ وَالشَّهِيدُ في سَبِيلِ الله»، فهؤﻻء ـ ومنهم الَّذي يموت في الزِّلزال وينهدم عليه بيتُه ـ، لهم منزلة الشَّهيد الَّذي يقتل في جهاد الكُفَّار، ويعطَون مثلَ أجره، لكن ﻻ تجري عليهم أحكامُه الدُّنيويَّة، بل يُغسَّلون ويُكفَّنون ويُصلَّى عليهم(4).
***
5ـ اﻻعتبارُ بما أصاب النَّاس من عقوبات واﻻتِّعاظُ بما حلَّ بهم من مَثُﻼت، فيحذرُ المعتبِرُ أن يَفجَأَه الزِّلزالُ وهو في غَمْرته ساهٍ وفي سكرته عَمِهٌ، ويخافُ من ذنبه، وﻻ يطمئنُّ إلى نفسه وﻻ يأمن مكرَ ربِّه، وبخاصَّة مع ترك الواجبات واقتراف السَّيِّئات وفشوِّ الموبقات، قال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَﻼَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِﻻَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون﴾[اﻷعراف:99]، وقال: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ اﻷَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ ﻻَ يَشْعُرُون * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِين * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيم﴾[النحل:47]، وروى البخاريّ (3346) ومسلم (2880) أنَّ زينبَ بنتَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالتْ: خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوْمًا فَزِعًا مُحْمَرًّا وَجْهُهُ يَقُول: «ﻻَ إِلَهَ إِﻻَّ الله وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِه»، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ اﻹِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَت: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله! أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟! قَال: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ».
إنَّ فئامًا من النَّاس تصيبُهم زﻻزلُ شديدةٌ وﻻ يعتبرون، وتَحُّل بهم قوارعُ أليمةٌ وﻻ يتوبون، بل يصرُّون على تركِ الصَّﻼة وتناولِ المسكرات والمخدِّرات والتَّبرُّج والعُرْي والمجاهرةِ بالمُوبقات، قال تعالى: ﴿أَوَﻻَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ ﻻَ يَتُوبُونَ وَﻻَ هُمْ يَذَّكَّرُون﴾[التوبة:126].
ومن اﻻعتبار أن ﻻ يغترَّ اﻹنسانُ بقوَّته وماله وداره، وهو يرى الموتى والجَرحى والبيوتَ المهدَّمةَ والقصورَ الخاويةَ على عروشها والمدنَ المدكوكةَ عن آخرها، ﴿كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِاﻷَمْسِ﴾[يونس:24]، وقد كانت عامرةً زاهرةً، فصارت عبرةً للمعتبرين، ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيد * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي اﻷَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا ﻻَ تَعْمَى اﻷَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور﴾[الحج:45-46].
في سنة (1425هـ) الموافق لسنة (2004م) وقع زلزالٌ عظيم في أندونسيا تحت البحر، قوته (9 درجات بمقياس ريختر)، فَنَتَج عنه أمواجٌ كالجبال وتحوَّلت في دقائق معدودة إلى طوفان بحري ـ أسموه بـ «تسونامي»(5) ـ على طول سواحل اليابسة المطِلَّة على المحيط الهندي، ووصل طولُ موجته إلى (35 متراً)، دمَّرَ بإذن الله سواحلَ ومُدنا بأكملها وخلَّف أكثر من (230000 قتيل) ومئات اﻵﻻف من المفقودين والمشرَّدين، وأغرق المناطق السَّاحليَّة، وترك مشاهدَ مُرعبةً ومناظرَ مُوحِشةً.
وفي سنة (1432 هـ) الموافق لسنة (2011 م) أرسل الله سبحانه وتعالى زلزاﻻً عنيفًا مدمِّرًا في المحيط الهادي بقوَّة (8,9 درجات)، ضرب سواحل اليابان وأحدث أمواجًا عاتية ـ تسونامي ـ دمَّرت بإذن ربِّها العبادَ والبﻼد، وكانت نتيجة ذلك أكثر من (15 ألف قتيل) وما يقارب (3000 جريح) وأكثر من (16000 مفقود)، وأغلقت مصانع ومطارات ومحطَّات للطَّاقة النَّوويَّة.
إنَّ الَّذي فعل هذا هو الله الفعَّال لما يريد، وﻻ يستطيع أهلُ اﻷرض ـ بما لديهم من علم وقوَّة وتطوُّر ـ أن يردُّوا أمرَه أو يَفِرُّوا من قَدَره، بل يتبَيَّنُ لهم أنَّه هو القويُّ العزيزُ، وأنَّهم هم الفقراءُ الضُّعفاء، قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد﴾[فاطر:15].
*فليعتبر العاقل بهذا الخطبِ الجسيم، وليحذر أخذ الرَّبِّ العليِّ العظيم، قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي اﻷَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي اﻷَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون﴾[غافر:82]،* وروى البخاري (3380) ومسلم (2980) عن عَبْد الله ابن عمرَ أنَّه قال: مَرَرْنَا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الحِجْرِ(6) فَقَال لَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ﻻَ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ـ وفي رواية: ﻻ تدْخُلوا على هؤﻻء المعذَّبين ـ إِﻻَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ حَذَرًا أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُم ثُمَّ زَجَرَ فَأَسْرَعَ حَتَّى خَلَّفَهَا»، زجر أي ناقتَه وساقها سَوْقًا شديدًا، حتَّى خلَّفها أي جاوز الدِّيار.
فنهى صلى الله عليه وسلم عن الدُّخول إلى ديار الكفَّار الَّتي دمَّرها الله سبحانه وتعالى وأهلك أهلَها ـ إﻻَّ إذا كان الدَّاخل باكيًا خائفًا ـ حذرًا من أن يُصيبَ الدَّاخلَ مثلُ ما أصابهم من العقاب والنَّكال.
قال ابن رجب في «فتح الباري» (2/433 ـ 434): «هذا الحديث* نصٌّ في المنع من الدُّخول على مواضع العذاب* إﻻَّ على أكمل حاﻻت الخشوع واﻻعتبار، وهو البكاءُ من خشية الله وخوف عقابه الَّذي نزل بمن كان في تلك البقعة، وأنَّ الدُّخول على غير هذا الوجه يخشى منه إصابة العذاب الَّذي أصابهم، وفي هذا تحذير من الغفلة عن تدبُّر اﻵيات، فمن رأى ما حلَّ بالعصاة ولم يتَنَبَّه بذلك من غفلته، ولم يتفكَّرْ في حالهم ويعتبرْ بهم، فليحذر من حلول العقوبة به، فإنَّها إنَّما حلَّت بالعصاة لغفلتهم عن التَّدبُّر وإهمالهم اليقظةَ والتذكُّر».
وفي الحديث معرفة «خطأ هؤﻻء الجهَّال الَّذين يذهبون إلى ديار ثمود للتَّفرُّج والتَّنزُّه ويبقَون فيها أيَّامًا ينظرون آثارَهم القديمةَ، فإنَّ ذلك معصيةٌ للرَّسول صلى الله عليه وسلم ومخالفةٌ لهديه وسنَّته، فإنَّه صلى الله عليه وسلم لمَّا مرَّ بهذه الدِّيَّار أسرع وقنَّع رأسَه صلى الله عليه وسلم حتَّى جاوز الواديَ»(7).
***
6ـ تذكُّرُ زلزالِ يومِ القيامة وقوَّتِه وهولِه، فيُحدث ذلك للعبد ذكرًا وخوفًا وإنابةً وحذَرًا واستعدادًا، قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ الله شَدِيد﴾[الحج:1-2]، فزَلزلةُ السَّاعة أمرٌ كبيرٌ شأنُه، جليلٌ خطبُه، وهذا هو علَّة اﻷمر بتقوى الرَّبِّ سبحانه وتعالى، وقال: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ اﻷَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ اﻷَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ اﻹِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾[الزلزلة:1-5]، تحدّث بما عمل النَّاس على ظهرها من خير أو شرٍّ، وتنطق عليهم بالحقِّ، وﻻ يغيب عنها شيءٌ بإذن ربِّها.
فالواجب على العبد أن يجعل ذلك اليومَ نُصبَ عينيه، ويُعِدَّ له عُدَّتَه، ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُم * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾[الزلزلة:6-8]، كما يجب عليه أن يسارعَ إلى التَّوبة ويبادرَ باﻷعمال الصَّالحة، قبل أن يحالَ بينَه وبينَها بفتنة أو عذاب أو مرض أو موت* ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ ﻻَ تُنصَرُون * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ ﻻَ تَشْعُرُون﴾[الزُّمَر:45-55].
وفَّقنا الله لفعل الخيرات وأعاننا على ترك المنكرات، إنَّه سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدَّعوات.
*
(1) «مفتاح دار السعادة» ﻻبن القيِّم (2/1280).
(2) «النبوات» ﻻبن تيمية (2/793).
(3) انظر «مجموع الفتاوى» ﻻبن تيمية (24/293).
(4) انظر «شرح مسلم» للنووي (2/164)، «المغني» ﻻبن قدامة (2/399).
(5) تسونامي كلمة يبانية، «تسو»: الكبير، «نامي»: الموج، يعني مجموعة من اﻷمواج الكبيرة العاتية.
(6) الحجر: ديار ثمود الكائنة بين المدينه والشَّام.
(7) «شرح رياض الصَّالحين» ﻻبن عثيمين (4/578).
*
كتبه في ربيع الأول 1436
ديسمبر 2014
|