كثُر في زماننا هذا، الكلام عن الحب، وغشى الحديث عليه مجالس الناس، وملأ الصحف والنوادي والمجلات، وتنوعت حوله الروايات والأفلام والمسلسلات، وأنشدت فيه القصائد والأشعار... فلا يكاد الغلام يبلغ سن التمييز حتى يصير شغله الشاغل البحث عن المحبوبة، ولا تكاد البنت تبلغ الحلم حتى يصير همها الأكبر البحث عن "فارس الأحلام" (هكذا !)... فيقضي الشباب والشابات الليالي الطوال في التفكر في هذا المرغوب والبحث عن هذا المفقود... ولا تكاد تدخل حسابا لولد أو فتاة (في الشبكات الاجتماعية -كما يسمونها-) دون أن تجد العبارات الحزينة، والقلوب المنكسرة المتصدعة، والدموع المنهمرة... فهذا يشتكي الوحدة، وهذه الخيانة، وهذا فساد بنات الزمان، وهذه فساد أخلاق الرجال... وكان نتيجة هذا: تهتك الحياء، وفشو الزنى، وانتشار الجرائم، وكثرة الطلاق... والله المستعان... وإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال العلامة تقي الدين الهلالي في مقاله "تعليم الإناث وتربيتهن": «... وقولهم: "إن الزواج السعيد أساسه الحب" فيه نظر، فإن الحب على أنواع:
– منه: حب الشهوة، كحب الطعم، والشراب، وركوب الخيل، وما أشبه ذلك، فهذا الحب هو في الحقيقة ألمٌ يحز في النفس، ويعظم بفقد المُسَكِّنِ، وهو قضاء الغرض من المطلوب، فإذا ظفر صاحبه بمطلوبه سكن ألمه وضعفت رغبته في ذلك المطلوب، وصار ينظر إليه بعين غير العين التي كان ينظر إليه بها عند فقده، وتستمر هذه الرغبة في الضَّعْفِ حتى تنعدم. والدليل على ذلك أن كثيرا من الناس كانوا يعشقون نساءً، وبذلوا في سبيل التزوج بهن كل ما يستطيعون بذله، فلما وصلوا إلى غرضهم لم يلبثوا أن ملوا أولئك النساء، ولم تبقَ لهن قيمة عندهم، لأنهم كانوا يحبونهن حب الشهوة، فلما قُضِيَتِ قضى معها الحب نحبه. وهذا عالم في البشر: الشرقيين منهم والغربيين. وقد سُئِلَ بعض الأوروبيين: "من تحب من النساء؟" فقال: "أحب جميع النساء ما عدا زوجتي!" فإن لم يَزَلْ ذلك الحب بالمرة، فإنه يضعف كثيرا جدا، فإذا اتفق أنَّ المحبوب كان غليظ الطبع، جافيا، سيء الخُلُقِ، كان ذلك أدعى إلى موت ذلك الحب بسرعة، وربما انقلب بغضا وعداوة.
– ومنه: حب ميل زوجي، وهذا أطول عُمُرًا من الذي قبله، فإن صادف أن المحبوب كان متصفا بأخلاق ملائمة لطبع المُحَبِّ، ازداد الحب قوة على مرِّ الأيام وثبتَ.
وليس مقصودُنا أن ننفي أن حُسْنَ الصورة من دواعي الحب الصحيح، ولا نقول بغض النظر عن كل حُسْنٍ جسمي والاكتفاءِ بالجمال النفسي، فإن هذا خطأ.
– فإن الحب الصحيح لا يتم إلا إذا كان المحبوب جميلا في نفسه، وهذا الحب يُبْنَى على الزواج الشرعي الذي يكون كلا من الزوجين قد رأى صاحبه قبل الزواج، ورضي به زوجا بدون إكراه ولا إغراء، فإن صادفه الاتفاق في الأخلاق ومتانة الدين كان ذلك أقوى له وأرسخ لقواعده، وهذا هو الذي أمر به الإسلام.» ا.هـ
جزاك الله خيرا أخي فريد، ورحم الله العلامة المحقق تقي الدين الهلالي، لقد كان صاحب دين متين وتفكير قويم، ما أحوج الأمة إلى مثله، فكم من صاحب علم -سيما في هذا الزمان- فقد أحد هذين فصار ضرره أكبر من نفعه!