منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم مشاركات اليوم Right Nav

Left Container Right Container
 

العودة   منتديات التصفية و التربية السلفية » القــــــــسم العــــــــام » الــمــــنــــــــتـــــــدى الـــــــــعــــــــام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12 Aug 2013, 05:14 AM
بلال بريغت بلال بريغت غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
الدولة: قسنطينة / الجزائر.
المشاركات: 436
إرسال رسالة عبر Skype إلى بلال بريغت
افتراضي البيان في نصوص الوحي

لحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فهذه فوائد جمعتها من موقع الشيخ فركوس حفظه الله قسم ( في رحاب الأدب) و رتبتها و جعلتها في مقال واحد فأسأل الله أن ينفعني و إياكم بهذه الفوائد و أن يجزي لإدارة الموقع الغراء خير الجزاء على ما تقدمه لنا من فوائد.
======
البيان في نصوص الوحي
من الأمثال النبوية

عن النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهما عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: «لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا»، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا» ([1])
في هذا المثال النبويِّ البديع تصويرٌ دقيقٌ لِما سيحِلُّ بالمجتمع من هلاكٍ ودمارٍ إذا تُرك أصحابُ الشهوات والأهواء يتصرَّفون كما يحلو لهم دون أن يُمنعوا، وأنَّ هذا المنعَ والأخذَ على أيديهم هو الرحمة والشفقة، ولو لم يُدرك ذلك أهلُ الفساد الذين زاغت عقولُهم بسبب تسلُّط شهواتهم فأصبحوا يسعَوْن إلى ما فيه هلاكُهم وهلاك غيرهم.
فالعقوبة علاجٌ حاسمٌ قد لا يُفلح غيرُه لزجر النفس الأمَّارة بالسوء في بعض الأحيان، وهي السبيل الأقوم لحماية الإنسان من شرِّ نفسه التي انحازت إلى صفِّ أعدائه، والطبيبُ الحاذق هو الذي يسارع إلى بتر العضو عندما يستشري فيه الداءُ لئلاَّ يعمَّ إلى غيره من الأعضاء، ولو نظرنا إلى ما خلَّفتْه بعض الاتِّجاهات الحديثة في التربية عندما استبعدت أسلوبَ العقوبة لوجدْناها قد أخرجت جيلاً منحلاًّ متهالكًا وراء شهواته، قد تأصَّلت فيه الجريمة والانحراف([2]).
و عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منه نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقُه في دين الله ونفعه م بعثني الله به، فعلِم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»([3])
هذا الحديث النبوي دليل على منزلة العلم النافع، وقد شبه فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء به من الدين كالغيث الذي يمطر الناس وهم في أشد الحاجة إليه، ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم بعلمه المعلم لغيره، فهو بمنزلة الأرض الطيبة، شربت فانتفعت في نفسها، وأنبتت فنفعت غيرها.
ومنهم الجامع للعلم المستغرق فيه غير أنه لم يتأدب بآدابه ولم يعمل به إل قليلا، فلم يثمر علمه الثمرة المطلوبة في تزكية النفس واستقامة السلوك، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء لينتفع الناس به في السقاية والري، دون أن تستفيد تلك الأرض من مائها المخزون فيها لكي تنبت وتخضر،بل بقيت جرداء قاحلة، أو أنبتت نباتا قليلا تتفاوت نسبته بحسب استفادة الأرض من مائها.
فقد مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي الذي جاء به بالغيث، وقسم الناس في قبولهم له وانتفاعهم به إلى ثلاثة أقسام:
- قسم قبلوه وانتفعوا به في نفوسهم علما وعملا وحفظا وفهما وتعليما فكان في ذلك حياة قلوبهم وانتفاع غيرهم، فهؤلاء كالأرض الطيبة التي تقبل الماء فتنبت الكلأ والعشب.

- وقسم قبلوه وحفظوه وأدوه إلى غيرهم، فهؤلاء لهم قلوب حافظة لكن ليست لهم أفهام ثاقبة لاستنباط المعاني والأحكام وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به فهم يحفظونه حتى يأتي طالب متعطش فينتفع بما عندهم، فهؤلاء كالأرض الأجادب (التي لا تنبت)لكنها تمسك الماء فينتفع بها الناس والحيوان.
- وقسم لم يقبل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يحفظه أو ينتفع، وإنما أعرض عن الكتاب والسنة جهلا أو استكبارا، فهو كالأرض القيعان(الملساء التي لا نبات فيها)فلا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، وهذا الصنف لا يعبأ بهدي ول علم مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لحياة القلوب، وإنما يصر على الإعراض وعدم الاستجابة، ولا يرفع رأسا للإصغاء أو القبول فيحجب نفسه عن الخير، ويحيا قاسي القلب كالصخرة الصماء الصلبة، لا خير يرتجى منه.
وهكذا يوضح الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمثلة الحسية المأخوذة من واقع الحياة ضرورة الاعتصام بالكتاب والسنة والتمسك بهما وخطر الأعراض عنهم واتباع الهوى([4]).
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: « مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ، عَلَيْهِمَ جُبَّتَانِ([5]) مِنْ حَدِيدٍ، مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّ الْمُنْفِقُ فَلاَ يُنْفِقُ إِلاَّ سَبَغَتْ([6]) - أَوْ وَفَرَتْ - عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِىَ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ([7])، وَأَمَّ الْبَخِيلُ فَلاَ يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلاَّ لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا وَلاَ تَتَّسِعُ »([8]).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ضرب رسول الله مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد أو جنتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى ثدييهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة مكانه قال أبو هريرة فأنا رأيت رسول الله يقول بإصبعه هكذا في جبته فرأيته يوسعه ولا تتسع ".
لما كان البخيل محبوسا عن الإحسان ممنوعا عن البر والخير، كان جزاؤه من جنس عمله فهو ضيق الصدر، ممنوع من الانشراح، ضيق العطن، صغير النفس، قليل الفرح، كثير الهم، والغم، والحزن، لا يكاد تقضى له حاجة، ولا يعان على مطلوب، فهو كرجل عليه جبّة من حديد قد جمعت يداه إلى عنقه بحيث لا يتمكن من إخراجها، ولا حركتها، وكلما أراد إخراجها أو توسيع تلك الجبّة لزمت كل حلقة من حلقها موضعها، وهكذا البخيل كلّما أراد أن يتصدّق منعه بخله فبقي قلبه في سجنه كما هو. هو.
والمتصدِّق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه، وانفسح بها صدره، فهو بمنزلة اتساع تلك الجبة عليه فكلما تصدق اتسع وانفسح، وانشرح وقوي فرحه، وعظم سروره، ولو لم يكن في الصدقة إلا هذه الفائدة وحدها لكان العبد حقيق بالاستكثار منها والمبادرة إليها، وقد قال تعالى: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر : 9].
والفرق بين الشح والبخل، أن الشح هو شدة الحرص على الشيء والإحفاء في طلبه والاستقصاء في تحصيله وجشع النفس عليه، والبخل منع إنفاقه بعد حصوله، وحبه وإمساكه، فهو شحيح قبل حصوله بخيل بعد حصوله، فالبخل ثمرة الشح، والشح يدعو إلى البخل والشح كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه، ووقى شره وذلك هو المفلح، ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[الحشر:09]، والسخيّ قريب من الله تعالى ومن خلقه ومن أهله وقريب من الجنّة وبعيد من النار، والبخيل بعيد من خلقه بعيد من الجنة قريب من النار فجود الرجل يحببه إلى أضداده، وبخله يبغضه إلى أولاده.
ويُظهِرُ عيبَ المرء في الناس بُخلُه ويَسْتُره عنهم جميعـًا سَخاؤُهُ
تَغطَّ بأثوَابِ السَّخاءِ فإنَّني أرَى كلَّ عيب فالسخاء غِطَاؤُهُ
وقـَارِنْ إذا قارَنْتَ حرًّا فإنَّما يَزِينُ ويُزرِي بالفَتى قُرَنَاؤُهُ
وأقلِلْ إذا ما استطعْتَ قوْلاَ فإنّه إذا قلَّ قوْلُ المرْءِ قلَّ خَطاؤُهُ
إذا قلَّ مَال المرْءِ قلَّ صَدِيقـُهُ وضاقت عليه أرضُه وسمَاؤُهُ
وأصْبَحَ لا يدري وإنْ كان حَازِمً أَقدَّامُه خيرٌ له أمْ وَرَاؤُهُ
إذا المرءُ لمْ يختَرْ صَدِيقًا لنَفْسِه فناد به في الناس هذ جَزَاؤُهُ
وحدُّ السخاء: بذل ما يحتاج إليه عند الحاجة وأن يوصل ذلك إلى مستحقه بقدر الطاقة، وليس كما قال البعض: من نقص عمله حد الجود بذل الموجود. ولو كان كما قال هذا القائل لارتفع اسم السرف والتبذير، وقد ورد الكتاب بذمهم وجاءت السنة بالنهي عنهما، وإذا كان السخاء محمودا فمن وقف على حدّه سمي كريما، وكان للحمد مستوجبا ومن قصر عنه كان بخيلا وكان للذم مستوجبا، والسخاء نوعان: فأشرفهما سخاؤك عما بيد غيرك، والثاني سخاؤك ببذل ما في يدك فقد يكون الرجل من أسخي الناس وهو لا يعطيهم شيئا لأنه سخا عما في أيديهم وهذا معنى قول بعضهم: السخاء أن تكون بمالك متبرعا وعن مال غيرك متورعا([9].
شرف البيت الحرام في آياتٍ من سورة آل عمران
قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 96-97].
وفي الحجِّ أتى بهذا اللفظ الدالِّ على تأكُّد الوجوب من عشرة أوجهٍ:
أحدها: أنه قدَّم اسمَه تعالى وأدخل عليه لام الاستحقاق والاختصاص ثمَّ ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخلة عليها حرف «على» أبدل منه أهل الاستطاعة، ثمَّ نكَّر السبيلَ في سياق الشرط إيذانًا بأنه يجب الحجُّ على أيِّ سبيلٍ تيسَّرت من قوتٍ أو مالٍ، فعلَّق الوجوبَ بحصول ما يسمَّى سبيلاً، ثمَّ أتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر فقال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ أي: لعدم التزامه هذا الواجبَ وتركه، ثمَّ عظَّم الشأنَ وأكَّد الوعيدَ بإخباره ما يُستغنى به عنه، والله تعالى هو الغنيُّ الحميد ولا حاجة به إلى حجِّ أحدٍ، وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا من الإعلام بمقته له وسخطه عليه وإعراضه بوجهه عنه ما هو أعظم التهديد وأبلغه، ثمَّ أكَّد ذلك بذكر اسم «العالمين» عمومًا، ولم يقل: «فإنَّ الله غنيٌّ عنه»، لأنه إذا كان غنيًّا عن العالمين كلِّهم فله الغنى الكامل التامُّ من كلِّ وجهٍ بكلِّ اعتبارٍ، فكان أدلَّ لعِظَمِ مقته لتارك حقِّه الذي أوجبه عليه، ثمَّ أكَّد هذا المعنى بأداة «إنَّ» الدالَّةِ على التأكيد، فهذه عشرة أوجهٍ تقتضي تأكُّدَ هذا الفرض العظيم.
وتأمَّلْ سرَّ البدل في الآية المقتضي لذكر الإسناد مرَّتين، مرَّةً بإسناده إلى عموم الناس، ومرَّةً بإسناده إلى خصوص المستطيعين، وهذا من فوائد البدل: تقوية المعنى وتأكيده بتكرُّر الإسناد، ولهذا كان في نيَّة تكرار العامل وإعادته.
ثمَّ تأمَّلْ ما في الآية من الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال، وكيف تضمَّن ذلك إيرادَ الكلام في صورتين وخلَّتين: اعتناءٍ به وتأكيدٍ لشأنه، ثمَّ تأمَّل كيف افتتح هذا الإيجابَ بذكر محاسن البيت وعِظَمِ شأنه بما تدعو النفوس إلى قصده وحجِّه وإن لم يطلب ذلك منها، فقال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ﴾ إلخ، فوصفه بخمس صفاتٍ: أحدها: كونه أسبق بيوت العالم وُضع في الأرض، الثاني: أنه مباركٌ، والبركة كثرة الخير ودوامه، وليس في بيوت العالم أبرك منه ولا أكثر خيرًا ولا أدوم ولا أنفع للخلائق، الثالث: أنه هدًى، ووصفه بالمصدر نفسه مبالغةً، حتى كأنه نفس الهدى، الرابع: ما تضمَّن من الآيات البيِّنات التي تزيد على أربعين آية، الخامس: الأمن الحاصل لداخله، وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصده ما يبعث النفوس على حجِّه وإن شطَّت بالزائرين الديار وتناءت بهم الأقطار، ثمَّ أتبع ذلك بصريح الوجوب المؤكَّد بتلك التأكيدات، وهذا يدلُّ على الاعتناء منه سبحانه لهذا البيت العظيم، والتنويه بذكره، والتعظيم لشأنه، والرفعة من قدره، ولو لم يكن له شرفٌ إلاَّ إضافته إيَّاه إلى نفسه بقوله: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ لكفى بهذه الإضافة فضلاً وشرفًا، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه، وسلبت نفوسهم حياله وشوقًا إلى رؤيته، فهذه المثابة للمحبِّين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرًا أبدًا، كلَّما ازدادوا له زيارةً ازدادوا له حبًّا وإليه اشتياقًا، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم، كما قيل:
أَطُوفُ بِهِ وَالنَّفْسُ بَعْدُ مَشُوقَةٌ * إِلَيْهِ وَهَلْ بَعْدَ الطَّوَافِ تَدَانِي
وَأَلْثِمُ مِنْهُ الرُّكْنَ أَطْلُبُ بَرْدَ مَا * بِقَلْبِيَ مِنْ شَوْقٍ وَمِنْ هَيَمَانِ
فَوَاللهِ مَا أزْدَادُ إِلاَّ صَبَابَةً * وَلاَ القَلْبُ إِلاَّ كَثْرَةَ الخَفَقَانِ
فَيَا جَنَّةَ المَأْوَى وَيَا غَايَةَ المُنَى * وَيَا مُنْيَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ أَمَانِ
أَبَتْ غَلَبَاتُ الشَّوْقِ إِلاَّ تَقَرُّبًا * إِلَيْكَ فَمَا لِي بِالبِعَادِ يَدَانِ
وَمَا كَانَ صَدِّي عَنْكَ صَدَّ مَلاَلَةٍ * وَلِي شَاهِدٌ مِنْ مُقْلَتِي وَلِسَانِي
دَعَوْتُ اصْطِبَارِي عَنْكَ بَعْدَكَ وَالبُكَا * فَلَبَّى البُكَا وَالصَّبْرُ عَنْكَ عَصَانِي
وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ المُحِبَّ إِذَا نَأَى * سَيَبْلَى هَوَاهُ بَعْدَ طُولِ زَمَانِ
وَلَوْ كَانَ هَذَا الزَّعْمُ حَقًّا لَكَانَ ذَا * دَوَاءَ الهَوَى فِي النَّاسِ كُلَّ زَمَانِ
بَلَى إِنَّهُ يَبْلَى التَّصَبُّرُ وَالهَوَى * عَلَى حَالِهِ لَمْ يُبْلِهِ المَلَوَانِ
وَهَذَا مُحِبٌّ قَادَهُ الشَّوْقُ وَالهَوَى * بِغَيْرِ زِمَامٍ قَائِدٍ وَعِنَانِ
أَتَاكَ عَلَى بُعْدِ المَزَارِ وَلَوْ وَنَتْ * مَطِيَّتُهُ جَاءَتْ بِهِ القَدَمَانِ([10])
فائدةٌ بديعةٌ في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا﴾
«قوله عزَّ وجلَّ: ﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا﴾ فالشيعة الفرقة التي شايع بعضها بعضًا أي: تابعه، ومنه الأشياع أي: الأتباع، فالفرق بين الشيعة والأشياع أنَّ الأشياع هم التبع والشيعة القوم الذين شايعوا أي: تبع بعضهم بعضًا، وغالب ما يُستعمل في الذمِّ، ولعلَّه لم يَرِدْ في القرآن إلاَّ كذلك كهذه الآية وكقوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا﴾ وقوله: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ﴾، وذلك والله أعلم لِما في لفظ الشيعة من الشياع والإشاعة التي هي ضدُّ الائتلاف والاجتماع، ولهذا لا يُطلق لفظ الشِّيَع إلاَّ على فِرَق الضلال لتفرُّقهم واختلافهم، والمعنى: «لننزعنَّ من كلِّ فرقةٍ أشدَّهم عُتُوًّا على الله وأعظمهم فسادًا فنلقيهم في النار»، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ العذاب يتوجَّه إلى السادات أوَّلاً ثمَّ تكون الأتباع تبعًا لهم فيه كما كانوا تبعًا لهم في الدنيا»([11]).

فائدة في قوله تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [آل عمران: 43]

قال أبو القاسم السُّهَيْلِيُّ: «... وممَّا قُدِّم بالفضل قولُه: ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [آل عمران: 43]، لأنَّ السجود أفضل، «وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ».
فإنْ قيل: فالركوعُ قبله بالطبع والزمان والعادة؛ لأنه انتقالٌ من علوٍّ إلى انخفاضٍ، والعلوُّ بالطبع قبل الانخفاض، فهلاَّ قُدِّم الركوعُ؟
الجوابُ أن يقال: انتبهْ لمعنى الآية من قوله: ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، ولم يقلْ: «اسجدي مع الساجدين»، فإنما عبَّر بالسجود عن الصلاة وأراد صلاتَه في بيتها؛ لأنَّ صلاة المرأة في بيتها أفضلُ من صلاتِها مع قومها، ثمَّ قال لها: «اركعي مع الراكعين»، أي: «صلِّي مع المصلِّين في بيت المقدس»، ولم يُرِدْ أيضًا الركوعَ وحْدَه دون أجزاء الصلاة، ولكنَّه عبَّر بالركوع عن الصلاة كما تقول: «ركعتُ ركعتين وأربعَ ركعاتٍ»، يريد الصلاةَ لا الركوعَ بمجرَّده، فصارت الآيةُ متضمِّنةً لصلاتين: صلاتِها وحْدَها عبَّر عنه بالسجود؛ لأنَّ السجودَ أفضلُ حالات العبد، وكذلك صلاة المرأة في بيته أفضلُ لها، ثمَّ صلاتُها في المسجد عبَّر عنها بالركوع؛ لأنه في الفضل دون السجود، وكذلك صلاتُها مع المصلِّين دون صلاتها وحْدَها في بيته ومحرابها»، وهذا نظمٌ بديعٌ وفقهٌ دقيقٌ ([12])
شفقة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على أمَّته

عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبّهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون"([13])
ووجه الشبه هنا أن الجنادب والفراش تنساق إلى النار فرحة بضوئها، ولكنها تجهل عاقبة فعلها هذا، ولا تتعظ بمن هلك قبلها عندما اقتحمت النار، وكذلك الكفار والعصاة تغرهم الحياة الدنيا وزينتها فينساقون وراء شهواتهم، ويعرضون عن الاعتصام بالكتاب والسنة، وهم يرون نهاية كل حي في هذه الحياة، والرسول صلى الله عليه وسلم يبصّرهم بالعاقبة ويحذّرهم من الوقوع في نار جهنّم ويبذل الجهد في الإمساك بهم لإبعادهم عن خطر محقّق، ويأخذ بحجزهم(وهو معقد الإزار) كناية عن شدة إشفاقه عليهم ولكنهم يتفلّتون منه جهلا وغرور واستكبارا.
ويتبين بهذ المثل النبوي عاقبة من أعرض عن طاعة الله ورسوله، فمصيره إلى الهلاك المحقق، وأما من استجاب لله ورسوله واعتصم بشرع الله فقد حاز السلامة والنجاة([14]).

الحرص والطمع على الدنيا
عن كعب بن مالكٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنمٍ بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» وفي رواية: «ما ذئبان ضاريان جائعان في غنم افترقت أحدهما في أولها والآخر في آخرها بأسرعَ فسادًا من امرئٍ في دينه يحبُّ شرف الدنيا ومالها»([15])
هذا مثلٌ عظيمٌ ضربه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لبيان مدى الفساد الذي يلحق المسلمَ في دينه وإيمانه عندما يحرص على المال والشرف في الدنيا ويجعل من هذا الحرص هدفًا قائمًا بذاته يسعى لتحقيقه دون ضوابط ولا حدودٍ، وعنده سيلحق بدينه الهلاك المحقَّق وسيخسر آخرَته لينال عرضًا دنيويًّا زائلاً.
ولو تأمَّلْن دقَّة هذا المثل النبوي لعرفنا عظم المصيبة، فالذئبان الجائعان إذا أُرسل في قطيعٍ من الغنم وأحاطا به من جانبيه وقد غاب الراعي الحارس لذلك القطيع، فإنهما سيهلكانه ويفترسانه، ولن ينجوَ من الغنم إلاَّ القليل، وكذلك يعدُّ الحرص الفاجع من أصحاب الدنيا لبلوغ الشهوة وجمع الأموال دون رقابةٍ أو وازعٍ إيمانيٍّ أكثر إفسادًا لدين المسلم من إفساد الذئبين الجائعين.
وهكذا يظهر خطر انحراف الشهوات عن طريقها، وتحوُّلها إلى مرضٍ يفتك بالنفس ويحيل الإنسان إلى حيوانٍ كاسرٍ، شغله الشاغل أن يرضيَ أهواءه ولو على حساب إيذاء الآخرين وظلمهم.
ولا شكَّ أن الذي يجعل الآخرة نصب عينيه فإنه يسعى دائمًا لتسخير هذه الشهوات في مرضاة ربِّه عزَّ وجلَّ، وأمَّا من تعلَّقت نفسه بالدنيا وامتلأ قلبه بحبِّه فإنه سيجعل من شهواته هدفًا ومقصدًا حتى يكون عبدًا لها، وعندها سيحرص عليها، ويلهث وراءها بكلِّ ما أوتي من قوَّةٍ، ويبيع دينه بعرضٍ من أعراضه الزائلة([16]).
بلاغة القرآن في آيات من سورة الأنبياء
قال الله تعالى: ﴿ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّ ظَالِمِينَ (15)وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَ لاَعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّ تَصِفُونَ (18)وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ ل يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ (19)﴾ [ الأنبياء: 15- 19]
اشتملت هذه الآيات على فنون عديدة من البلاغة نوجزها فيما يلي:
1- الاستعارة في قولهم: "يا ويلنا" فقد خاطبوا الويل، وهو الهلاك، كأنه شخص حي يدعونه لينقذهم مما هم فيه.
2- التشبيه البليغ في قوله: "جعلناهم حصيدا خامدين" فقد شبههم بعد حلول العذاب بهم بالحصيد أولا ، وهو الزرع المحصود، ووجه الشبه بين المشبه والمشبه به هو الاستئصال من المنابت، ثم شبههم ثانيا بالنار المنطفئة، ولم يبق منها إلا جمر منطفئ، لا نفع فيه، ولا قابلية لشيء من النفع منه، فلا ترى إلا أشلاء متناثرة، وأجزاء متفرقة قد تمدّدت، وقد ران عليها البلى.
3- الاستعارة المكنية في قوله: "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق"، فقد شبّه الحق والباطل، وهما معنويان بشيئين ماديين محسوسين، يقذفان ويدفعان، ثم حذف هذين الشيئين، واستعار ما هو من لوازمهما، وهما: القذف، والدمغ، لتجسيد الإطاحة بالباطل، واعتلاء الحق عليه، وتصوير إبطاله، وإهداره، ومحقه، كأنه جرم صلب كصخرة، أو ما يماثلها في القوة والصلابة، قذف به على جرم رخو أجوف فدمغه، وهي من استعارة المحسوس للمعقول.
4- قوة اللفظ لقوة المعنى، ونعني به: نقل اللفظ من وزن إلى وزن آخر أكثر منه ليتضمن من المعنى الدال عليه أكثر مما تضمنه أولا، لأن الألفاظ أدلة على المعاني، وأمثلة للإبانة عنها، فإذا زيد في الألفاظ أوجبت القسمة زيادة المعنى، وهذا الضرب ل يستعمل إلا في مقام المبالغة، وهو هنا في قوله تعالى: "ولا يستحسرون" فقد عدل عن الثلاثي-وهو حسر- إلى السداسي-وهو استحسر- وقد كان ظاهر الكلام أن يقال: يحسرون، أي: يكِلّوُن ويتعبون، لأن أقل ملل منهم، أو كلال إزاء الملائكة، وإزاء عبادتهم لله تعالى لا يُتصّوَّر منهم، ولكنه عدل عن ذلك لِسِرٍّ يخفى على النظرة السطحية الأولى، وهو: أن ما هم فيه من انهماك بالعبادة وانصراف بالكلية لها يوجب غاية الحسور وأقصاه([17]).
بلاغة النداء في قوله تعالى:﴿يأيها الذيـن آمنوا﴾
هي جملة إنشائية طلبية، نداء يفيد تنبيه المنادَى إلى أمر عظيم يجدر به أن يكون على وعي به، وأخذ بما فيه من معاني الهدى، وقد كثر النداء في القرآن الكريم، وهو نداء من الخالق إلى خلقه، وهذا وحده فيه فيض من التكريم، والتنبيه إلى أنهم في علمه قائمون، وفي رحمته غارقون، وتحت قهره نازلون، ومن أقام هذه المعاني في قلبه لا يكاد يغفُل عن ذكر ربه تعالى.
والسنة البيانة للقرآن الكريم في نداء " أمة الإجابة" أنه ينادى عليهم بقوله" يأيها الذين آمنوا" تذكيرًا لهم بالعهد الذي عاهدوا الله عز وجل عليه، وهو الإيمان بما أمرهم بالإيمان به. به.
وكأنه يحثهم بهذا الوصف على أن يقبلوا على ما يأمرهم به فيأخذوه وعلى م ينهاهم عنه فيجتنبوه.
وقد قال ابن مسعود -رضي الله عنه- إذا ما سمعت الله عز وجل يقول : "يأيها الذين آمنوا" فأرِعْه سمعك فإنَّ ما بعده خيرًا يأمر به، أوْ شـــرًا ينهى عنه"
وفي اختيار "يا" للنداء، وهي عند بعض أهل العلم لنداء البعيد للدلالة على أن المنادى فيه شيء من البعد بالمعصية والذنوب عن المنادِي جلّ جلاله، فعليه أن يصغي لما ينادي عليه به ليزداد بهذه الطاعة قربا.
وجاء تعريف المنادَى باسم الموصول دلالة على أنه المعروف بالصلة التي هي الإيمان وكأنَّ هذا الإيمان هو أجل ما يعرف به ذلك المنادَى، فهو شرفه الذي عليه أن يستمسك به، وأن يفخر بنعته به وأن يسعى إلى زيادته وتثبيته بالإكثار من الطاعات، والفرار من السيئات، فعليه العناية بفقه ما هو آت من بعد ذلك النداء من أمر بمعروف ونهي عن منكر.
ولم يأت في القرآن الكريم نداء "المؤمنين" إلا في آية واحدة في سورة "النور" حيث يقول الله تعالى : ﴿ وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون ﴾
فأنت تلاحظ هنا أمورًا مهمة:
1- تلاحظ أنه أخَّر النداء عن الأمر، فقال أولا: " توبوا" ثم قال: " أيّه المؤمنون" لأن النداء في أصله لتنبيه الغافل أو البعيد، وهؤلاء ليسوا بالغافلين ولا بالمحل البعيد، ذلك أنهم مؤمنون، أيْ صارَ الإيمان نعتا لهم، فهم معروفون بالصفة لا بالصلة أي أن الإيمان في قلوبهم صار ملازما لهم ملازمة النعت لمنعوته، فهو فيهم كالطول في الطويل، والقصر في القصير لا يكاد يتخلى عنه، وقد جاء البيان بكلمة "المؤمنون" في سياقات التشريف والتكريم والثناء منها:
﴿ إِنَّما المؤمِنُون الَّذينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...﴾[الأنفال:2]
﴿ والْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنات بَعْضهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ﴾[التوبة:71]
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون َ﴾ [المؤمنون:1]
﴿ وكانَ حَقًا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ﴾ [الروم:47]
﴿إِنَّمَ الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةً﴾ [الحجرات:10 ]
﴿ وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾[المنافقون: 8]
أمّا "الذين آمنوا" فإن الإيمان ما يزال فعلا من أفعالهم، فيحتمل أن يزول وأن يحول، فكانوا بحاجة إلى الإكثار من أمرهم ومن نهيهم([18]).
الدرر في بيان سورة الكوثر
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ(1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ(2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ(3)﴾ [الكوثر :1-3]
لقد اشتملت هذه السورة على درر من البلاغة والبيان نوجزه فيما يلي:
1- سورة‏، ما أجلها من سورة‏ !‏ وأغزر فوائدها -على اختصارها- وحقيقة معناها تعلم من آخرها، فإنه -سبحانه وتعالى- بتر شانئ رسوله من كل خير، فيبتر ذكره وأهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها، ولا يتزود فيها صالحًا لمعاده، ويبتر قلبه فلا يَعِي الخير، ولا يؤهله لمعرفته ومحبته، والإيمان برسله‏،‏ ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرًا، ولا عونًا‏،‏ ويبتره من جميع القُرب والأعمال الصالحة، فلا يذوق لها طعمًا، ولا يجد لها حلاوة - وإن باشرها بظاهره- فقلبه شارد عنها‏.
2-‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏﴿‏إِنَّ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ‏﴾‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 1‏]‏، تدل هذه الآية على عطية كثيرة صادرة عن معطٍ كبير غني واسع‏.‏ وأنه تعالى وملائكته وجنده معه.
-‏ و صدر الآية «بإنَّ» ‏الدالة على التأكيد، وتحقيق الخبر.
- وجاء الفعل بلفظ الماضي الدال عن التحقيق، وأنه أمر ثابت واقع، ولا يدفعه ما فيه من الإيذان، بأن إعطاء الكوثر سابق في القدر الأول حين قُدِّرت مقادير الخلائق، قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة.
- وحذف موصوف الكوثر ليكون أبلغ في العموم؛ لما فيه من عدم التعيين، وأتي بالصفة، أي‏:‏ أنه سبحانه وتعالى قال‏: ‏‏﴿‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ‏﴾‏، فوصفه بالكوثر، والكوثر المعروف إنما هو نهر في الجنة، كما قد وردت به الأحاديث الصحيحة الصريحة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الكوثر‏:‏إنما هو من الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، وإذا كان أقل أهل الجنة من له فيها مثل الدنيا عشر مرات، فما الظن بما لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما أعده الله له فيها‏؟‏‏!‏ فالكوثر علامة وأمارة على تعدد ما أعده الله له من الخيرات، واتصالها وزيادتها، وسمو المنزلة وارتفاعها‏.‏ وإن ذلك النهر وهو الكوثرـ أعظم أنهار الجنة وأطيبها ماء، وأعذبها وأحلاها وأعلاها‏.‏
- وذلك أنه أتى فيه بلام التعريف الدالة على كمال المسمي وتمامه‏.‏ كقوله‏:‏ زيد العَالِم، زيد الشجاع، أي‏:‏ لا أعلم منه ولا أشجع منه، وكذلك قوله‏:‏ ‏﴿‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ‏﴾‏، دل على أنه أعطاه الخير كله كاملا موفرًا، وإن نال منه بعض أمته شيئًا، كان ذلك الذي ناله ببركة اتباعه، والاقتداء به، مع أن له صلى الله عليه وسلم مثل أجره من غير أن ينقص من أجر المتبع له شيء ففيه الإشارة إلى أن الله تعالى يعطيه في الجنة بقدر أجور أمته‏.‏ كلهم من غير أن ينتقص من أجورهم، فإنه هو السبب في هدايتهم، ونجاتهم، فينبغي -بل يجب- على العبد اتباعه والاقتداء به، وأن يمتثل ما أمره به، ويكثر من العمل الصالح صومًا وصلاة وصدقة وطهارة؛ ليكون له مثل أجره .
3- وفي قوله‏:‏ ‏﴿‏إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ‏﴾، أنواع من التأكيد‏:‏ أحدها‏:‏ تصدير الجملة بإن‏.‏ الثاني‏:‏ الإتيان بضمير الفصل الدال على قوة الإسناد والاختصاص‏.‏ الثالث‏:‏ مجيء الخبر على أفعل التفضيل، دون اسم المفعول‏.‏ الرابع‏:‏ تعريفه باللام الدالة على حصول هذا الموصوف له بتمامه، وأنه أحق به من غيره، ونظير هذا في التأكيد قوله‏:‏ ‏﴿‏لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى‏﴾‏ ‏[‏طه‏:‏ 68‏]‏‏.‏
4- وفي قوله‏:‏ ‏﴿‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏﴾ إشارة إلى أنك لا تتأسف على شيء من الدنيا وغيرهما، وفيها الإشارة إلى ترك الالتفات إلى الناس، وما ينالك منهم، بل صل لربك وانحر‏.‏ وفيها التعريض بحال الأبتر الشانئ، الذي صلاته ونسكه لغير الله‏.‏
ومن فوائدها اللطيفة‏:‏ الالتفات في قوله‏:‏ ‏﴿‏فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏﴾‏ الدالة على أن ربك مستحق لذلك، وأنت جدير بأن تعبده، وتنحر له‏.‏ والله أعلم‏.
5- وقوله‏:‏ ‏﴿‏فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏﴾‏، أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله أتي فيهما بالفاء الدالة على السبب؛ لأن فعل ذلك -وهو الصلاة والنحر- سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله إياه من الكوثر، والخير الكثير، فشكر المنعم عليه وعبادته أعظمها هاتان العبادتان، بل الصلاة نهاية العبادات، وغاية الغايات، كأنه يقول‏:‏ ‏﴿‏إِنَّ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ‏﴾‏، الخير الكثير، وأنعمنا عليك بذلك لأجل قيامك لنا بهاتين العبادتين، شكرًا لإنعامنا عليك، وهما السبب لإنعامنا عليك بذلك‏.‏ فقم لنا بهما، فإن الصلاة والنحر محفوفان بإنعام قبلهما، وإنعام بعدهما، وأجل العبادات المالية النحر، وأجل العبادات البدنية الصلاة، وما يجتمع له في نحره من إيثار الله، وحسن الظن به وقوة اليقين، والوثوق بما في يد الله أمر عجيب، إذا قارن ذلك الإيمان والإخلاص([19]‏).

القلوب أمام الفتن

عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَىُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَ دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّ كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرً إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ " قَالَ أَبُو خَالِدٍ فَقُلْتُ لِسَعْدٍ يَا أَبَا مَالِكٍ مَا أَسْوَدُ مُرْبَادًّا قَالَ شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِى سَوَادٍ. قَالَ قُلْتُ فَمَا الْكُوزُ مُجَخِّيًا قَالَ مَنْكُوسًا.
ما أبدع هذه البلاغة النبوية في وصف تأثير الفتن والشهوات على القلوب حتى تشوِّه صفاءها وتسوِّد نقاءها وتؤدي إلى انتكاسها.سها.سها.
فالفتن والشهوات تنسلُّ إلى القلب متتابعة واحدة بعد الأخرى كما ينسج الحصير عودا عودا، فأما قلب المؤمن العامر بحب الله ورسوله فإنه كالصفا أي: كالحجر الأملس في صلابته وتماسكه ونقاوته وعدم علوق شيء به، فلا تضره قتنة ولا تستهويه معصية ولا يرضى بديلا عما ظفر به من حلاوة الإيمان في قلبه.
وأما غيره ممن لم يتمكن حب الله ورسوله في قلوبهم فإن سهام الفتن وشهوات الدنيا تؤثر تدريجيا في ذلك القلب وتشوه صفاءه حتى يكون " مُربادّا " وهو بياض يسير مع السواد، فإذا انساق العبد أكثر فأكثر وراء أهوائه اختفى أثر البياض الباقي واسودَّ القلب وأظلم.
ولات حين مناصهو الكوز المُجَخِّي أي: المائل المنكوس، وهذا الميل كان في بدايته قليلا بحسب ما تسرب إليه من الفتن، ثم ازداد ميلا حتى انقلب وانتكس، ولا يخفى أن الكوز كلما مال عن استقامته انسكب منه ما كان فيه بمقدار الميل، حتى إذا انتكس انسكب كل ما فيه ولم يعد قابلا لأن يمتلىء بشيء على الإطلاق حتى يعود إلى عدالته، فما فائدة الكأس إذا انسكب منه الماء الزلال ولم يبق فيه إلا الهواء؟
وهنا تتجلى البلاغة النبوية في أبهى صورها، بحيث تترسخ في النفس صورة الكأس المقلوب الذي لا ينتفع منه بشيء، فهو كالعدم وإن كان موجودا، والهواء الذي فيه تمثيل للهوى المستقر في القلب المنكوس الذي لا يعرف معروفا ول ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه!!
وهذا شر القلوب وأخبثها فإنه يعتقد الباطل حقا والحق باطلا([20]).
هول يوم القيامة
قال الله تعالى: ﴿يَ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(2) ﴾ [الحج:1- 2]
اشتملت هاتان الآيتان على أنواع من البلاغة والبيان، نجملها فيما يلي:
1- في قوله تعالى: " وترى الناس سكارى وما هم بسكارى" تشبيه بليغ،فقد شبه الناس في ذلك اليوم العصيب بحالة السكارى الذين فقدوا التمييز، وأضاعوا الرشد، والعلماء يقولون: من أدلة المجاز صدق نقيضه، كقولك: زيد حمار إذا وصفته بالبلادة والغباء، ثم يصدق أن تقول وما هو بحمار فتنفي عنه الحقيقة، فكذلك الآية بعد أن أثبتت السكر المجازي نفت الحقيقة أبلغ نفي مؤكد بالباء، والسر في تأكيد التنبيه على أن السكر الذي هو بهم في تلك الحالة ليس من المعهود في شيء، وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله، والاستدراك بقوله: "ولكن عذاب الله شديد " راجع إلى قوله: " وما هم بسكارى" وكأنه تعليل لإثبات السكر المجازي، كأنه قيل: إذا لم يكونوا سكارى من الخمر، وهو السكر المعهود، فم هذا السكر الغريب؟ وما سببه؟ فقيل: شدة عذاب الله تعالى.
2- وفي عدوله عن مرضع إلى مرضعة سر قل من يتفطن له، وهو: أن المرضعة هي التي باشرت الإرضاع فعلا، فنزعها الثدي من فم طفلها عند حدوث الهول، ووقوع الارتباك أدلُّ على الدهشة، وأكثر تجسيدا لمواطن الذهول، الذي استولى عليها، وهناك فرق آخر، وهو: أن وروده على النسب أي: مرضع لا يلاحظ فيه حدوث الصفة المشتق منها، ولكن مقتضاه أنه موصوف بها، وعلى غير النسب أي: مرضعة يلاحظ فيه حدوث الفعل وخروج الصفة عليه، وهذ من أسرار لغتنا التي تندر في اللغات.
3- قال ابن القيم رحمه الله: المرضع من لها ولد ترضعه، والمرضعة من ألقمت الثدي للرضيع، وعلى ذا فقوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ﴾ أبلغ من مرضع في هذا المقام، فإن المرأة قد تذهل عن الرضيع إذا كان غير مباشر للرضاعة، فإذا التقم الثدي واشتغلت برضاعه لم تذهل عنه إلا لأمر هو أعظم عندها من اشتغالها بالرضاع.
وتأمل رحمك الله تعالى السر البديع في عدوله سبحانه عن كل حامل إلى قوله: ﴿ ذَاتِ حَمْلٍ﴾ فإن الحامل قد تطلق على المهيئة للحمل، وعلى من هي في أول حملها ومباديه، فإذا قيل: ذات حمل، لم يكن إلا لمن قد ظهر حملها وصلح للوضع كاملا أو سقطا، كما يقال: ذات ولد، فأتى في المرضعة بالتاء التي تحقق فعل الرضاعة دون التهيؤ لها، وأتى في الحامل بالسبب الذي يحقق وجود الحمل وقبوله للوضع والله سبحانه وتعالى أعلم ([21]).
4- هذ من أسرار البيان في القرآن الكريم ففرق بين المرضعة التي هي متلبسة في الفعل، وبين من لها طفل ترضعه وهو غير مباشر للرضاعة، قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" (11/174): وألحق الهاء في مرضع لأنه أراد فاعلات ذلك اليوم، فأجراه على الفعل، وأم إذا أخبرت عن المرأة بأن لها طفلا ترضعه فإنما تقول: مرضع مثل حامل"
ومثله يقال في الفرق بين حامل وذات حمل، قال الزمخشري: لم قيل مرضعة دون مرضع؟ قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي، والمرضع: التي شأنها أن ترضع، وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، فقيل مرضعة، ليدل على أن ذلك الهول، إذ فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة([22]).
فضل العلم والعلماء
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من سلك طريقا يطلب فيه علما، سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يوَرِّثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»([23])
وفي هذا الحديث النبوي بيان للتكريم العظيم والمنزلة الكبيرة التي يحظى بها العالم والمتعلم، وإشارة إلى أهمية العلم، لأنه الطريق الموصل إلى الجنة، وهو ميراث الأنبياء، وبه حياة القلوب وسعادة النفوس.
ولا شك أن تشبيه العلماء بالقمر ليلة البدر يعد من البلاغة النبوية، فالقمر يضيء الآفاق ويمتد نوره، أما الكواكب الأخرى فنورها ضئيل، وإذا كان الجهل كالليل في ظلمته، فإن العلماء بمنزلة القمر ليلة البدر الذي يبدد الظلام ويزين السماء.
وهناك لطيفة أخرى في هذا التشبيه النبوي، فالقمر يضعف نوره ثم يزداد، وتراه كاملا ثم يتضاءل وينقص، وكذلك العلماء تتفاوت مراتبهم في العمل الصالح و الدعوة إلى دين الله.
وفي قوله (إن العلماء ورثة الأنبياء) تنبيه للعلماء أن يسلكوا هدي الأنبياء وطريقتهم في الدعوة وتزكية النفوس وتربية الأمة، وبذلك يحصل لهم نصيبهم من هذا الميراث العظيم.
وإذا كان قِوام حياة البدن وأمور المعيشة عن طريق المال، فإن حياة القلب وغذاءه وشفاءه من أسقامه ل يكون إلا بالعلم النافع الذي يورث العمل الصالح، ومن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر([24]).
آداب الضيافة
قال الله تعالى:﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)﴾[الذاريات: 24-27]
قال الأديب السلفي محمود شكري الألوسي معلِّقا على هذه الآية، ومبرز أوجه البلاغة فيها: "ففي هذا من الثناء على إبراهيم عليه السلام وجوه متعددة:
منه: أنه وصف إكرام ضيفه بأنهم مكرمون أي إن إبراهيم أكرمهم.
ومنه: قوله تعالى (إذ دخلوا عليه) فلم يذكر استئذانهم، ففي هذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم قد عُرِفَ بإكرام الضيفان واعتياد قِراهم فبَقِيَ منزل مضيفه مطروقا لمن ورده لا يحتاج إلى استئذان، بل استئذان الدخول دخوله وهذ غاية ما يكون من الكرم.
ومنها: قوله(سلامٌ) بالرفع وهم سلّموا عليه بالنصب، والسلام بالرفع أكمل، فإنه يدل على الجملة الاسمية الدالّة على الثبوت والدوام، والمنصوب يدل على الفعلية الدالّة على الحدوث والتجدّد، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام حيّاهم بتحية أحسن من تحيتهم فإن قولهم سلاما يدل على سلمنا سلاما وقوله سلام أي سلام عليكم.
ومنه:أنه حذف المبتدأ من قوله (قوم منكرون)، فإنه لمّا أنكرهم ولم يعرفهم احتشم من مواجهتهم بلفظ يُنَفِّرُ الضيف لو قال أنتم قوم منكرون، فحذف المبتدأ هنا من ألطف الكلام.
ومنه: أنه راغ إلى أهله ليجيئهم بنُزُلِهم والروغان هو الذهاب في اختفاء بحيث ليكاد يشعر به وهذا من كرم المضيف.
ومنه: أنه ذهب إلى أهله فجاء بالضيافة، فدل على أن ذلك كان مُعَدًًّا عندهم مهيَّأًً للضيفان ولم يحتج أن يذهب إلى غيرهم من جيرانه أو غيرهم فيشتريه أو يستقرضه.
ومنه: قوله(فجاء بعجل سمين) دلّ على خدمته للضيف بنفسه ولم يقل فأمر لهم بل هو الذي ذهب وجاء به بنفسه ولم يبعثه مع خادمه وهذا أبلغ في إكرام الضيف.
ومنه: أنه جاء بعجل كامل ولم يأت ببضعة منه وهذا من تمام كرمه.
ومنه: أنه سمين لا هزيل، ومعلوم أن ذلك من أفخر أموالهم، ومثله يُتَّخَذُ للاقتناء والتربية فآثر به ضيفانه.
ومنه: أنه قرّبه إليهم بنفسه ولم يأمر خادمه بذلك.
ومنه: أنه قرّبه إليهم ولم يقرِّبهم إليه، وهذا أبلغ في الكرامة، أن تُجلِسَ الضيف ثم تقرِّب الطعام إليه وتحمله إلى حضرته ولا تضع الطعام في ناحية ثم تأمر ضيفك بأن يتقرب إليه.
ومنه: أنه قال لهم (ألا تأكلون)، وهذا عرض وتلطّف في القول وهو أحسن من قوله كُلُوا أو مُدُّوا أيديكم ونحوها مما يعلم الناس بعقولهم حسنه ولطفه.
ومنه: أنه إنما عرض عليهم الأكل لأنه رآهم لا يأكلون، ولم يكن ضيوفه يحتاجون معه إلى الإذن في الأكل بل كان إذا قدّم لهم الطعام أكَلوا، وهؤلاء الضيوف لمّ امتنعوا من الأكل قال لهم ألا تأكلون، ولهذا أَوْجَسَ منهم خيفة أي: أحسَّها وأضمرها في نفسه ولم يبدها لهم.
فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب وكفى بها شرف وفخرا([25]).
قطع علائق المشركين
قال الله تعالى:﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظهير ولا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ [سبأ :22-23]
قال ابن القيم رحمه الله مبرزا وجه البيان في هذه الآية الكريمة:"فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يعتقد أنه يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع:
- إما مالك لما يريد عابده منه.
- فإن لم يكن مالكا كان شريكا في الملك.
- فإن لم يكن شريكا له كان له معينا وظهيرا.
- فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده.
فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مُتَرَتِّبًا، منتقلا من الأدنى إلى م دونه، فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه.
فكفى بهذه الآية نورا، وبرهانا ونجاة، وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك وموادِّه لمن عقلها"([26]).
سبعة يظلهم الله في ظله

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله م تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه "([27]).
قال الشيخ عطية محمد سالم: " مِن مبادئ البلاغة والعادة: أنه لا تورد متعددات إلا مع التجانس، لحسن النسق وجمال التنسيق، كلبنات الجوار، وحبات العقد، وكذلك الكلام والبلاغة النبوية: هي الذروة والقمة، وقد أعطِيَ صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وكذلك مجامع الحكم، فكما أن أسلوب الحديث النبوي مبرّأ من تنافر الكلمات، ونشاز العبارات، فكذلك في المعاني، فإيراد هذه الأصناف السبعة في أسلوب واحد، مع تفاوتها في مواضيعها، وبعد ما بين بعضها البعض، لا بد أن فيها م يربط بعضها ببعض من معنى شامل يسوغ نظمها في إيرادها لما تقتضيه البلاغة النبوية العالية، ويستوجبه خلو الحديث النبوي من النشز والتنافر، وقد أعطي في ذلك ما لم يعطه أحد، وهو صلى الله عليه أفصح العرب والعجم، مما يدعونا إلى تأملها بعين تتطلع إلى ما يقال له: فائدة الخبر ولازم الفائدة، وهو أبعد غايات البلاغة "
1- الرغبة والرهبة في الله ومن الله.
2- مراقبة الله والإخفاء عن الناس.
3- ارتباط هذه الأجناس بعضها ببعض، وتأثير بعضها في بعض.
4- اشتراكهم في مخالفة هواهم.
وقال ابن القيم: " إنك إذا تأملت السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم ل ظل إلا ظله، وجدتهم إنما نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى:
- فإن الإمام المسلّط القادر لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه.
- والشاب المؤثر لعبادة الله على داعي شبابه لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك.
- والرجل الذي قلبه معلق بالمساجد إنما حمله على ذلك مخالفة الهوى الداعي له إلى أماكن اللذات.
- والمتصدق المخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه لم يقدر على ذلك.
- والذي دعته المرأة الجميلة الشريفة فخاف الله عز وجل وخالف هواه.
- والذي ذكر الله عز وجل خاليا ففاضت عيناه من خشيته إنما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه، فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيل عليهم يوم القيامة([28]).
[و] بتأمل هذا الترتيب، نجد تلك الأصناف بعضها مع بعض، بمثابة المقدمات والنتائج والأسباب ومسبباتها، والآثار ومؤثراتها، فما يشهد حقا بأن كل متعددات في الحديث النبوي مترابطة المعاني وإن اختلفت المباني.
- فالإمام العادل سيقيم مجتمعا فاضلا ولاسيما وهو في ذاته عدل أي: مستقيم، آمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر مقيم للصلاة ومؤتٍ للزكاة، ومن الأمر بالمعروف: إقامة محاسن التشريع، ومن النهي عن المنكر: إقامة الحدود، سيكون مجتمعه حقا فاضلا تنشأ فيه النشأة، ويشب فيه الشباب على هذا المنهج في عبادة الله.
- ومِن أخص تلك النشأة ارتياد المساجد، حفاظا على الصلوات في الجماعة، ومن كان هذ حاله من أول نشأته، لا شك أنه سيتعلق قلبه بالمساجد، ومن تعلق قلبه بالمساجد داوم على ارتيادها، وكان من لوازم ذلك التعارف على المصلين ومحبتهم والشعور بالإخاء معهم، فينتج قطعا التحابّ في الله، لأنهم جميعا مثله ما جاؤوا إلى المساجد إلا لِم جاء هو إليه، وهو ابتغاء وجه الله، وإلى هنا قوي وجه الارتباط، وظهر مدى هذ التأثير في تكوين أفراد المجتمع.
- وأما من دعته امرأة فتعفف عنها، فإن عفته عنها لم تأت عفوا بل بعد مغالبة الغريزة والفطرة ولا يغلب الغرائز إلا ما كان أقوى منها، ولا يكون إلا الإيمان بالله، والخوف من الله، ولا يورّث هذا إلا تلك الصلوات في تلك المساجد، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ﴾[العنكبوت : 45].
- وكذلك إخراج المال في غير معاوضة، وتخطي غريزة الشح، وجِبلة حبّ الثناء كان من تلك المؤثرات، ومن قدر على مغالبة الغريزة الجنسية فهو على غيرها أقوى، وهل من يستطيع ذلك كله يكون غافلا عن ذكر الله في السر والعلانية؟ لا، وكلا، وهكذا فكل صفة في صنف تؤثر في الصنف الذي يليها([29]).

البراءة من المشركين
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَ تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)﴾
وسيكون الحديث عن هذه الآية وبلاغتها في الأوجه الآتية:
المسألة الأولى: وهي فائدة تكرار الأفعال فقيل فيه وجوه أحدها إن قوله : ﴿ل أعبد ما تعبدون﴾ [ الكافرون: 2 ]، نفي للحال والمستقبل وقوله : ﴿ولا أنتم عابدون ما أعبد﴾[ الكافرون : 3 ]، مقابله أي لا تفعلون ذلك . وقوله: ﴿ولا أنا عابد ما عبدتم﴾[ الكافرون: 4 ]، أي لم يكن مني ذلك قط قبل نزول الوحي. ولهذا أتى في عبادتهم بلفظ الماضي فقال: ما عبدتم فكأنه قال: لم أعبد قط ما عبدتم. وقوله: ﴿ولا أنتم عابدون ما أعبد﴾ [ الكافرون: 5 ]، مقابله أي لم تعبدوا قط في الماضي ما أعبده أنا دائماً . وعلى هذا فلا تكرار أصلاً، وقد استوفت الآيات أقسام النفي ماضياً وحالاً ومستقبلاً عن عبادته وعبادتهم بأوجز لفظ وأخصره وأبينه . وهذا إن شاء الله أحسن ما قيل فيها فلنقتصر عليه، ولا نتعداه إلى غيره، فإن الوجوه التي قيلت في مواضعها فعليك بها.
المسألة الثانية: وهي تكريره الأفعال بلفظ المستقبل حين أخبر عن نفسه وبلفظ الماضي حين أخبر عنهم ففي ذلك سر، وهو الإشارة والإيماء إلى عصمة الله له عن الزيغ والانحراف عن عبادة معبوده، والاستبدال به غيره، وأن معبوده واحد في الحال والمآل على الدوام لا يرضى به بدلاً ولا يبغي عنه حولاً بخلاف الكافرين فإنهم يعبدون أهواءهم، ويتبعون شهواتهم في الدين وأغراضهم . فهم بصدد أن يعبدوا اليوم معبوداً وغداً غيره فقال : ﴿ل أعبد ما تعبدون﴾[ الكافرون: 2 ] يعني الآن ﴿ول أنتم عابدون ما أعبد﴾[ الكافرون: 3 ]، أنا الآن أيضاً ، ثم قال: ﴿ولا أنا عابد ما عبدتم﴾ [ الكافرون: 4 ] يعني ولا أنا فيما يستقبل يصدر مني عبادة لما عبدتم أيها الكافرون، وأشبهت ما هنا رائحة الشرط، فلذلك وقع بعدها الفعل بلفظ الماضي وهو مستقبل في المعنى . كما يجيء ذلك بعد حرف الشرط، كأنه يقول: مهما عبدتم من شيء فل أعبده أنا.
وأما المسألة الثالثة: وهي أنه لم يأت النفي في حقهم إلا باسم الفاعل وفي جهته جاء بالفعل المستقبل تارة، وباسم الفاعل أخرى، فذلك والله أعلم لحكمة بديعة وهي أن المقصود الأعظم براءته من معبوديهم بكل وجه وفي كل وقت، فأتى أولاً بصيغة الفعل الدالة على الحدوث والتجدد، ثم أتى في هذا النفي بعينه بصيغة اسم الفاعل الدالة على الوصف والثبوت، فأفاد في النفي الأول أن هذا لا يقع مني، وأفاد في الثاني أن هذ ليس وصفي ولا شأني فكأنه قال: عبادة غير الله لا تكون فعلاً لي، ولا وصفاً، فأتى بنفيين لمنفيين مقصودين بالنفي، وأما في حقهم ، فإنما أتى بالاسم الدال على الوصف والثبوب دون الفعل، أي إن الوصف الثابت اللازم العائد لله منتف عنكم، فليس هذ الوصف ثابتاً لكم، وإنما ثبت لمن خص الله وحده بالعبادة لم يشرك معه فيها أحداً، وأنتم لما عبدتم غيره فلستم من عابديه وإن عبدوه في بعض الأحيان فإن المشرك يعبد الله ويعبد معه غيره، كما قال أهل الكهف: ﴿وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله﴾ [ الكهف: 16 ] أي اعتزلتم معبودهم إلا الله فإنكم لم تعتزلوه، وكذا قال المشركون عن معبودهم: ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ [ الزمر: 3 ] فهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه غيره ، فلم ينتف عنهم الفعل لوقوعه منهم ونفي الوصف، لأن من عبد غير الله لم يكن ثابتاً على عبادة الله موصوفاً بها، فتأمل هذه النكتة البديعة كيف تجد في طيّها أنه لا يوصف بأنه عابد الله، وعبده المستقيم على عبادته إلا من انقطع إليه بكليته، وتبتل إليه تبتيلاً لم يلتفت إلى غيره ، ولم يشرك به أحداً في عبادته وإنه وإن عبده وأشرك به غيره ، فليس عابداً لله ولا عبداً له . وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة التي هي إحدى سورتي الإخلاص. وهذا لا يفهمه كل أحد، ولا يدركه إلا من منحه الله فهماً من عنده فله الحمد والمنة([30]).
[كما] اشتملت هذه السّورة على فنونٍ عديدةٍ من البلاغة والبيان منها:
1- «وهي أنّ النّفي في هذه السّورة أتى بأداة "لا" دون "لن"، فلِمَا تقدّم تحقيقه عن قرب أنّ النّفي ب "لا" أبلغ منه بـ "لن"، وأنّها أدلّ على دوام النّفي وطوله من "لن"، وأنّها للطّول والمدّ الّذي في لفظها طال النّفي بها وامتدّ، وأنّ هذا ضدّ ما فهمته الجهميّة والمعتزلة وأنّ "لن" إنّما تنفي المستقبل، ولا تنفي الحال المستمرّ النّفي في الاستقبال، وقد تقدّم تقرير ذلك بما لا تكاد تجده في غير هذا التّعليق. فالإتيان ب "لا" متعيّن هنا والله أعلم ...
2- اشتمال هذه السّورة على النّفي المحض، فهذا هو خاصّة هذه السّورة العظيمة، فإنّها سورة براءة من الشّرك كما جاء في وصفها "أنّها براءة من الشّرك"، فمقصوده الأعظم هو البراءة المطلوبة بين الموحّدين والمشركين، ولهذا أتي بالنّفي في الجانبين تحقيقًا للبراءة المطلوبة، مع أنّها متضمّنة للإثبات صريحًا فقوله: ﴿لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ براءة محضة ﴿وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ إثبات أنّ له معبودًا يعبده وأنّهم بريئون من عبادته، فتضمّنت النّفي والإثبات، وطابقت قول إمام الحنفاء: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّ تَعْبُدُونَ. إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف: 26 - 27] ، وطابقت قول الفتية الموحّدين: ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَ يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ﴾ [الكهف: 16]، فانتظمت حقيقةَ "لا إله إلا الله"، ولهذا كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بها وبـ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ في سنّة الفجر وسنّة المغرب، فإنّ هاتين السّورتين سورتا الإخلاص، وقد اشتملتا على نوعي التّوحيد الذي لا نجاة للعبد ولا فلاح إلا بهما، وهما توحيد العلم والاعتقاد المتضمّن تنزيهَ الله عما لا يليق به من الشّرك والكفر والولد والوالد، وأنّه إله أحد صمد، لم يلد فيكون له فرع، ولم يولد فيكون له أصل، ولم يكن له كفوًا أحد فيكون له نظير، ومع هذا فهو الصّمد الذي اجتمعت له صفات الكمال كلها، فتضمّنت السورة إثبات ما يليق بجلاله من صفات الكمال، ونفي ما لا يليق به من الشّريك أصلاً وفرعًا ونظيرًا، فهذا توحيد العلم والاعتقاد.
والثّاني: توحيد القصد والإرادة، وهو أن لا يعبد إلا إيّاه فلا يشرك به في عبادته سواه، بل يكون وحده هو المعبود، وسورة ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ﴾[الكافرون: 1] مشتملة على هذا التّوحيد، فانتظمت السّورتان نَوْعَي التّوحيد، وأُخْلِصَتَا له، فكان صلّى الله عليه وسلّم يفتتح بهما النّهار في سنّة الفجر ويختم بهما في سنّة المغرب، وفي "السّنن" أنه كان يوتر بهما فيكونان خاتمة عمل اللّيل، كما كانا خاتمة عمل النهار.
ومن هنا تخريج جواب المسألة ... وهي: تقديم براءته من معبودهم، ثم أتبعها ببراءتهم من معبوده، فتأمَّلْه فإنّه واضح ...
3- إثباته هنا بلفظ "يا أيّها الكافرون"، دون "يا أيّها الذين كفروا" ، فَسِرُّه -والله أعلم-: إرادة الدّلالة على أنّ من كان الكفر وصفًا ثابتًا له لازمًا ل يفارقه، فهو حقيق أن يتبرّأ الله منه، ويكون هو أيضًا بريئًا من الله. فحقيق بالموحّد البراءة منه، فكان ذكره في معرض البراءة التي هي غاية البعد والمجانبة بحقيقة حاله التي هي غاية الكفر وهو الكفر الثّابت اللاّزم في غاية المناسبة، فكأنه يقول: كما أنّ الكفر لازم لكم ثابت لا تنتقلون عنه فمجانبتكم والبراءة منكم ثابتة دائما أبدًا. ولهذا أتى فيها بالنّفي الدّال على الاستمرار مقابلة الكفر الثّابت المستمرّ، وهذا واضح([31]).
ومن أوجه البلاغة والبيان أيضا:
المسألة السابعة: وهي ما هي الفائدة في قوله: ﴿لكم دينكم ولي دين﴾[ الكافرون: 6 ]، وهل أفاد هذا معنى زائداً على ما تقدم ؟ فيقال في ذلك من الحكمة والله أعلم . إن النفي الأول أفاد البراءة وإنه لا يتصور منه ، ولا ينبغي له أن يعبد معبوديهم وهم أيضاً لا يكونون عابدين لمعبوده، وأفاد آخر السورة إثبات م تضمنه النفي من جهتهم من الشرك ، والكفر الذي هو حظهم ، وقسمهم ونصيبهم فجرى ذلك مجرى من اقتسم هو وغيره أرضاً . فقال له : لا تدخل في حدي، ولا أدخل في حدك ، لك أرضك ولي أرضي . فتضمنت الآية أن هذه البراءة اقتضت إنا اقتسمنا خطتنا بينن فأصابنا التوحيد والإيمان فهو نصيبنا ، وقسمنا الذي نختص به لا تشركونا فيه، وأصابكم الشرك بالله والكفر به ، فهو نصيبكم وقسمكم الذي تختصون به لا نشرككم به فتبارك من أحيا قلوب من شاء من عباده بفهم كلامه . وهذه المعاني ونحوها ، إذا تجلت للقلوب رافلة في حللها فإنها تسبي القلوب وتأخذ بمجامعها ، ومن لم يصادف من قلبه حياة فهي خود تزف إلى ضرير مقعد ، فالحمد لله على مواهبه التي لا منتهى لها ونسأله إتمام نعمته .
المسألةالثامنة: وهي تقديم قسمهم ونصيبهم على قسمه ونصيبه وفي أول السورة قدم ما يختص به على ما يختص بهم . فهذا من أسرار الكلام ، وبديع الخطاب الذي لا يدركه إلا فحول البلاغة وفرسانها . فإن السورة لما اقتضت البراءة واقتسام ديني التوحيد والشرك بينه وبينهم ورضي كل بقسمه وكان المحق هو صاحب القسمة ، وقد برز النصيبين وميزا القسمين ، وعلم أنهم راضون بقسمهم الدون الذي ل أردى منه وإنه هو قد استولى على القسم الأشرف . والحظ الأعظم بمنزلة من اقتسم هو وغيره سماً وشفاء فرضي مقاسمه بالسم . فإنه يقول له : لا تشاركني في قسمي ، ول أشاركك في قسمك . لك قسمك ولي قسمي ، فتقديم ذكر قسمه ههنا أحسن وأبلغ . كأنه يقول : هذا هو قسمك الذي آثرته بالتقديم ، وزعمت أنه أشرف القسمين وأحقهما بالتقديم . فكان في تقديم ذكر قسمه من اللهم به ، والنداء على سوء اختياره ، وقبح ما رضيه لنفسه من الحسن . والبيان ما لا يوجد في ذكر تقديم قسم نفسه ، والحاكم في هذا هو الذوق والفطن يكتفي بأدنى إشارة ، وأما غليظ الفهم فلا ينجع فيه كثرة البيان . ووجه ثان وهو أن مقصود السورة براءته صلى الله عليه وسلم من دينهم ومعبودهم ، هذا هو لبها ومغزاها . وجاء ذكر براءتهم من دينه ومعبوده بالقصد الثاني مكملاً لبراءته ، ومحققاً لها فلما كان المقصود براءته من دينهم ، بدأ به في أول السورة ثم جاء قوله : ﴿لكم دينكم ﴾[ الكافرون: 6 ] مطابقاً لهذ المعنى أي لا أشارككم في دينكم ، ولا أوافقكم عليه ، بل هو دين تختصون أنتم به ل أشرككم فيه أبداً . فطابق آخر السورة أولها فتأمله .
المسألةالتاسعة: وهي أن هذا الإخبار بأن لهم دينهم وله دينه. هل هو إقرار فيكون منسوخاً، أو مخصوصاً، أو لا نسخ في الآية ول تخصيص. فهذه مسألة شريفة ومن أهم المسائل المذكورة ، وقد غلط في السورة خلائق ، وظنوا أنها منسوخة بآية السيف لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم ، وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يقرون على دينهم وهم أهل الكتاب وكلا القولين غلط محض فلا نسخ في السورة ، ولا تخصيص بل هي محكمة عمومها نص محفوظ وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها ، فإن أحكام التوحيد التي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ ، وهذه السورة أخلصت التوحيد . ولهذا تسمى سورة الإخلاص كما تقدم ، ومنشأ الغلط ظنهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم ، ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف فقالوا: منسوخ وقالت طائفة: زال عن بعض الكفار وهم من لا كتاب لهم ، فقالوا: هذا مخصوص ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريراً لهم ، أو إقرار على دينهم أبداً . بل لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه أشد على الإنكار عليهم، وعيب دينهم وتقبيحه، والنهي عنه والتهديد والوعيد كل وقت، وفي كل ناد. وقد سألوه أن يكف عن ذكر آلهتهم وعيب دينهم ويتركونه وشأنه فأبى إلا مضياً على الإنكار عليهم ، وعيب دينهم فكيف يقال: إن الآية اقتضت تقريره لهم معاذ الله من هذا الزعم الباطل وإنما الآية اقتضت البراءة المحضة كم تقدم. وأن ما هم عليه من الدين لا نوافقكم عليه أبداً فإنه دين باطل فهو مختص بكم لا نشرككم فيه، ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق، فهذا غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم ، فأين الإقرار حتى يدعي النسخ أو التخصيص . أفترى إذا جوهدو بالسيف ، كما جوهدوا بالحجة . لا يصح أن يقال: لكم دينكم ولي دين، بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين. إلى أن يطهر الله منهم عباده وبلاده، وكذلك حكم هذه البراءة بين أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم أهل سنته، وبين أهل البدع المخالفين لما جاء به الداعين إلى غير سنته . إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته : لكم دينكم ولنا ديننا. لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم ، بل يقولون لهم : هذه براءة منها ، وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان . فهذا ما فتح الله العظيم به من هذه الكلمات اليسيرة ، والنبذة المشيرة إلى عظمة هذه السورة وجلالتها ومقصودها ، وبديع نظمها من غير استعانة بتفسير، ولا تتبع لهذه الكلمات من مظان توجد فيه. بل هي استملاء مما علمه الله وألهمه بفضله وكرمه. والله يعلم أني لو وجدتها في كتاب لأضفتها إلى قائلها، ولبالغت في استحسانها وعسى الله المان بفضله الواسع العطاء الذي عطاؤه على غير قياس المخلوقين أن يعين على تعليق تفسير هذ النمط، وهذا الأسلوب([32]).

من أسرار فاتحة الكتاب
﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾[الفاتحة: 7]
وأمَّا المسألة الثالثة عشرة: وهو تقديم المغضوب عليهم على الضالِّين فلوجوهٍ:
أحدها: أنهم متقدِّمون عليهم بالزمان.
الثاني: أنهم كانوا هم الذين يَلُون النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم من أهل الكتابين، فإنهم كانوا جيرانه في المدينة، والنصارى كانت ديارهم نائيةً عنه، ولهذا تجد خطابَ اليهود والكلام معهم في القرآن الكريم أكثر من خطاب النصارى، كما في سورة البقرة والمائدة وآل عمران وغيرها من السور.
الثالث: أنَّ اليهود أغلظ كفرًا من النصارى، ولهذا كان الغضب أخصَّ بهم واللعنة والعقوبة، فإنَّ كفرهم عن عنادٍ وبغيٍ كما تقدَّم، فالتحذير من سبيلهم والبعد منها أحقُّ وأهمُّ بالتقديم، وليس عقوبة مَن جَهِل كعقوبة مَن عَلِم.
الرابع: -وهو أحسنها- أنه تقدَّم ذكرُ المنعَم عليهم، والغضبُ ضدُّ الإنعام، والسورة هي السبع المثاني التي يُذكر فيها الشيء ومقابله، فذكرُ المغضوب عليهم مع المنعَم عليه فيه من الازدواج والمقابلة ما ليس في تقديم الضالِّين، فقولك: الناس منعَمٌ عليه ومغضوبٌ عليه، فكن من المنعَم عليهم أحسن من قولك: منعمٌ عليه وضالٌّ.
وأمَّا المسألة الرابعة عشرة: وهي أنه أتى في أهل الغضب باسم المفعول وفي الضالِّين باسم الفاعل فجوابهم ظاهرٌ، فإنَّ أهل الغضب من غَضِب الله عليهم وأصابهم غضبه فهُمْ مغضوبٌ عليهم، وأمَّا أهل الضلال فإنهم هم الذين ضلُّوا وآثروا الضلالَ واكتسبوه، ولهذا استحقوا العقوبةَ عليه، ولا يليق أن يقال: «ولا المضَلِّين» مبنيًّ للمفعول لِمَا في رائحته من إقامة عُذرهم وأنهم لم يكتسبوا الضلالَ من أنفُسهم بل فُعل فيهم، ولا حجَّةَ في هذا للقدرية، فإنَّا نقول: إنهم هم الذين ضلُّوا وإن كان الله أضلَّهم، بل فيه ردٌّ على الجبرية الذين ل ينسبون إلى العبد فعلاً إلاَّ على جهة المجاز لا الحقيقة، فتضمَّنتِ الآية الردَّ عليهم، كما تضمَّن قوله: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ الردَّ على القدرية، ففي الآية إبطالُ قول الطائفتين والشهادةُ لأهل الحقِّ أنهم هم المصيبون وهم المثبتون للقدر توحيدًا وخلقًا، والقدرةِ لإضافة أفعال العباد إليهم عملاً وكسبًا وهو متعلَّق الأمر والعمل، كما أنَّ الأول متعلَّق الخلق والقدرة، فاقتضت الآية إثباتَ الشرع والقدر والمعاد والنبوَّة، فإنَّ النعمة والغضب هو ثوابه وعقابه، فالمنعَم عليهم رسلُه وأتباعُهم ليس إلاَّ، وهُدى أتباعِهم إنم يكون على أيديهم، فاقتضى إثباتَ النبوَّة بأقرب طريقٍ وأبينِها وأدلِّه على عموم الحاجة وشدَّة الضرورة إليها، وأنه لا سبيلَ للعبد أن يكون من المنعَم عليهم إلاَّ بهداية الله له، ولا تُنال هذه الهداية إلاَّ على أيدي الرسل، وأنَّ هذه الهداية لها ثمرةٌ وهي النعمة التامَّة المطلقة في دار النعيم، ولخلافها ثمرةٌ وهي الغضب المقتضي للشقاء الأبدي، فتأمَّلْ كيف اشتملتْ هذه الآية مع وجازتها واختصارها على أهمِّ مَطَالِبِ الدين وأجلِّها، والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو أعلم([33]).
المسألة الثالثة: وهي ما فائدة زيادة لا بين المعطوف والمعطوف عليه ففي ذلك ثلاث فوائد:
أحدها: أنَّ ذكرها تأكيدٌ للنفي الذي تضمَّنه "غير" فلولا ما فيها من معنى النفي لما عُطف عليها ﺑ "لا" مع الواو، فهو في قوة لا المغضوب عليهم ولا الضالين، أو غير المغضوب عليهم ولا الضالِّين.
الفائدة الثانية: أنَّ المراد المغايرة الواقعة بين النوعين وبين كلِّ نوعٍ بمفرده، فلو لم يذكر لا وقيل: غير المغضوب عليهم والضالِّين؛ أوهم أنَّ المراد ما غاير المجموع المركَّب من النوعين لا ما غاير كلَّ نوعٍ بمفرده. فإذا قيل: ول الضالِّين كان صريحًا أو أنَّ المراد صراط غير هؤلاء وغير هؤلاء. وبيان ذلك أنك إذا قلت: ما قام زيدٌ وعمر فإنما نفيت القيام عنهما، ولا يلزم من ذلك نفيه عن كلِّ واحدٍ منهما بمفرده.
الفائدة الثالثة: رفعُ توهُّم أنَّ الضالِّين وصفٌ للمغضوب عليهم وأنهما صنفٌ واحدٌ وُصفو بالغضب والضلال ودخل العطف بينهما، كما يدخل في عطف الصفات بعضها على بعض نحو قوله تعالى: ﴿قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون﴾ [المؤمنون: 1-3 ]، إلى آخرها فإنَّ هذه صفاتٌ للمؤمنين، ومثل قوله: ﴿سبِّح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوَّى ، والذي قدَّر فهدى﴾ [الأعلى: 1-3]، ونظائره فلمَّا دخلت "لا" عُلم أنهما صنفان متغايران مقصودان بالذكر وكانت "لا" أَوْلى بهذا المعنى من "غير" لوجوهٍ:
أحدها: أنها أقلُّ حروفًا.
الثاني: التفادي من تكرار اللفظ.
الثالث: الثقل الحاصل بالنطق ﺑ«غير» مرَّتين من غير فصلٍ إلا بكلمةٍ مفردةٍ، ول ريب أنه ثقيلٌ على اللسان.
الرابع: أنَّ «لا» إنما يُعطف بها بعد النفي، فالإتيان بها مؤذنٌ بنفي الغضب عن أصحاب الصراط المستقيم كما نفى عنهم الضلال وغيره. وإن أفهمت هذا فلا أدخل في النفي منها([34]).
[أما قوله تعالى ﴿الذين أنعمت عليهم﴾ ففيه عدة مسائل ]:
المسألة الأولى: ما الحكمة في إضافة الصراط إلى قوله تعالى : ﴿الذين أنعمت عليهم﴾ [الفاتحة: 7] بهذا اللفظ ولم يذكرهم بخصوصهم فيقول صراط النبيِّين والصدِّيقين فلِمَ عدل إلى لفظ المبهم دون المفسَّر؟
ففيه ثلاث فوائد:
إحداها: إحضار العلم وإشعار الذهن عند سماع هذا، فإنَّ استحقاق كونهم من المنعم عليهم هو بهدايتهم إلى الصراط فيه صاروا من أهل النعمة، وهذا كما يعلِّق الحكم بالصلة دون الاسم الجامد لِم فيه من الإنعام باستحقاق ما عُلِّق عليها من الحكم بها. وهذا كقوله تعالى: ﴿الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًّ وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم﴾[ البقرة: 274 ]، ﴿والذي جاء بالصدق وصدَّق به أولئك هم المتَّقون﴾ [الزمر: 33 ]، ﴿إن الذين قالوا ربُّنا الله ، ثمَّ استقاموا فلا خوفٌ عليهم﴾ [الأحقاف: 13]، وهذا الباب مطَّردٌ فالإتيان بالاسم موصولاً على هذا المعنى من ذكر الاسم الخاصِّ.
الفائدة الثانية: فيه إشارةٌ إلى أنَّ نفي التقليد عن القلب واستشعارَ العلم بأنَّ من هُدي إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه، فالسائل مستشعرٌ سؤال الهداية وطلب الإنعام من الله عليه، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أنَّ الأوَّل يتضمَّن الإخبار بأنَّ أهل النعمة هم أهل الهداية إليه، والثاني يتضمَّن الطلب والإرادة وأن تكون منه.
الفائدة الثالثة: أنَّ الآية عامَّةٌ في جميع طبقات المنعم عليهم، ولو أتى باسمٍ خاصٍّ لكان لم يكن فيه سؤال الهداية إلى صراط جميع المنعم عليهم، فكان في الإتيان بالاسم العامِّ من الفائدة أنَّ المسؤول الهدي إلى جميع تفاصيل الطريق التي سلكها كلُّ من أُنعم عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وهذا أجلُّ مطلوبٍ وأعظمُ مسؤولٍ، ولو عرف الداعي قدر هذا السؤال لجعله هجِّيراه وقرَنَه بأنفاسه، فإنه لم يدع شيئًا من خير الدنيا والآخرة إلاَّ تضمَّنه، ولمَّ كان بهذه المثابة فرضه الله على جميع عباده فرضًا متكرِّرًا في اليوم والليلة لا يقوم غيره مقامه، ومن ثمَّ يُعلم تعيُّن الفاتحة في الصلاة وأنها ليس منها عوضٌ يقوم مقامها.
المسألة الثانية: وهي أنه قال: ﴿الذين أنعمت عليهم﴾ [ الفاتحة: 7 ] ولم يقل المنعم عليهم. كما قال : ﴿المغضوب عليهم﴾ فجوابها وجواب المسألة السادسة واحد وفيه فوائد عديدة .
أحدها: إن هذا جاء على الطريقة المعهودة في القرآن. وهي أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى. فيذكر فاعلها منسوبة إليه، ولا يبني الفعل معها للمفعول، فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف الفاعل وبني الفعل معه للمفعول أدباً في الخطاب، وإضافته إلى الله أشرف فسمى أفعاله، فمنه هذه الآية فإنه ذكر النعمة فأضافها إليه، ولم يحذف فاعلها، ولما ذكر الغضب حذف الفاعل، وبني الفعل للمفعول فقال: ﴿المغضوب عليهم﴾ وقال في الإحسان: ﴿الذين أنعمت عليهم﴾، ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه: ﴿الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين﴾[ الأحقاف: 8 ، 79 ، 80 ] فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام، والسقي إلى الله تعالى، ولما جاء إلى ذكر المرض قال: ﴿وإذا مرضت﴾ ولم يقل أمرضني، وقال: ﴿فهو يشفين﴾، ومنه قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن ﴿وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا﴾[ الجن: 1 ] ، فنسبوا إرادة الرشد إلى الرب وحذفوا فاعل إرادة الشر وبنوا الفعل للمفعول، ومنه قول الخضر عليه الصلاة والسلام في السفينة ﴿فأردت أن أعيبها﴾ . فأضاف العيب إلى نفسه . وقال في الغلامين: ﴿فأراد ربك أن يبلغ أشدهما﴾[ الكهف: 82 ]، ومنه قوله تعالى: ﴿أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم﴾ [ البقرة: 187 ] ، فحذف الفاعل وبناه للمفعول وقال: ﴿وأحل الله البيع وحرم الربا﴾ [ البقرة: 275 ]، لأن في ذكر الرفث ما يحسن منه أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل ومنه ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير﴾[ المائدة: 3 ]، وقوله: ﴿قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا﴾[ الأنعام: 151 ] إلى آخرها . ومنه وهو ألطف من هذا وأدق معنى قوله: ﴿حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم﴾[ النساء: 23 ] إلى آخرها، ثم قال: ﴿وأحل لكم ما وراء ذلكم﴾[النساء: 24 ]، وتأمل قوله: ﴿فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم﴾ كيف صرح بفاعل التحريم في هذا الموضع . وقال في حق المؤمنين: ﴿حرمت عليكم الميتة والدم﴾[ المائدة: 3 ] .
الفائدة الثانية: أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعم بها وأصل الشكر ذكر النعم والعمل بطاعته، وكان من شكره إبراز الضمير المتضمن لذكره تعالى الذي هو أساس الشكر وكان في قوله: ﴿أنعمت عليهم﴾[ الفاتحة: 7 ] من ذكر وإضافته النعمة إليه ما ليس في ذكر المنعم عليهم لو قاله فضمن هذا اللفظ الأصلين وهما الشكر والذكر المذكوران في قوله: ﴿فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون﴾[ البقرة: 152 ].
الفائدة الثالثة: أن النعمة بالهداية إلى الصراط لله وحده وهو المنعم بالهداية دون أن يشركه أحد في نعمته، فاقتضى اختصاصه بها أن يضاف إليه بوصف الإفراد فيقال: أنعمت عليهم أي أنت وحدك المنعم المحسن المتفضل بهذه النعمة، وأما الغضب فإن الله سبحانه غضب على من لم يكن من أهل الهداية إلى هذا الصراط وأمر عباده المؤمنين بمعاداتهم، وذلك يستلزم غضبهم عليهم موافقة لغضب ربهم عليهم فموافقته تعالى تقتضي أن يغضب على من غضب عليه ويرضى عمن رضي عنه فيغضب لغضبه ويرضى لرضاه، وهذا حقيقة العبودية واليهود قد غضب الله عليهم، فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم، فحذف فاعل الغضب وقال: ﴿المغضوب عليهم﴾ لم كان للمؤمنين نصيب من غضبهم على من غضب الله عليه بخلاف الإنعام فإنه لله وحده، فتأمل هذه النكتة البديعة. .
الفائدة الرابعة: أن المغضوب عليهم في مقام الإعراض عنهم وترك الالتفات إليهم والإشارة إلى نفس الصفة التي لهم والاقتصار عليها، وأما أهل النعمة فهم في مقام الإشارة إليهم وتعيينهم والإشارة بذكرهم وإذا ثبت هذا فالألف واللام في المغضوب وإن كانتا بمعنى الذين، فليست مثل الذين في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات المسمى، فإن قولك الذين فعلوا معناه القوم الذين فعلوا، وقولك الضاربون والمضروبون ليس فيه ما في قولك الذين ضربوا أو ضربوا فتأمل ذلك، فالذين أنعمت عليهم إشارة إلى تعريفهم بأعيانهم وقصد ذواتهم بخلاف المغضوب عليهم، فالمقصود التحذير من صفتهم والإعراض عنهم وعدم الالتفات إليهم والمعول عليه من الأجوبة ما تقدَّم([35]).


======
[1] : رواه البخاري برقم ( 2493).

[2] : منهج الإسلام في تزكية النفس لأنس كرزون (2/ 655)

[3] : رواه البخاري برقم (79) ومسلم برقم (2282)

[4] : منهج الإسلام في تزكية النفوس لأنس كرزون (1/ 145 )

[5] : مثنى مفرده جُبَّة: وهي ثوب مخصُوص، وفي لفظ مسلم (جُنَّتان): مثنى مفرده جُنَّة، وهي في الأصل الدرع، سميت بها، لأنها تَجِنُّ صاحبها، أي: تحميه من الطعن ونحوه وتُحصِّنه.

[6] : أي امتدَّت وغَطّت.

[7] : أي تَستُرُ أثَره.

[8] : أخرجه البخاري في كتاب الزكاة باب: مثل البخيل و المتصدق برقم ( 1443)، و مسلم في كتاب الزكاة ، باب : مثل المنفق والبخيل برقم ( 2309 ) ، و النسائي في كتاب الزكاة باب: صدقة البخيل برقم ( 2547).

[9] : الروح لابن القيم: (408)

[10] : تفسير السعدي (138)

[11] : بدائع الفوائد لابن القيِّم (1/155).

[12] : بدائع الفوائد لابن القيِّم (1/ 63).

[13] : رواه مسلم في الفضائل برقم (2285).

[14] : منهج الإسلام في تزكية النفس لأنَس كرزون: (1/144) وانظر شرح النووي لمسلم.

[15] : رواه أحمد: (16198)، الترمذي: (255)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع: (5620).

[16] : راجع: شرح حديث ما ذئبان جائعان لابن رجب الحنبلي

[17] : إعراب القرآن وبيانه للدرويش (5/ 19).

[18] : شذرات الذهب دراسة في البلاغة القرآنية محمود توفيق (36).

[19] : مجموع الفتاوى ابن تيمية (16/ 529).

[20] : منهاج الإسلام في تزكية النفس لأنس كرزون: (2/ 523).

[21] : بدائع الفوائد( 2/213).

[22] : إعراب القرآن وبيانه للدرويش (5/ 97).

[23] : رواه أبو داود: (3641)، والترمذي(2682)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود(3641).

[24] : منهج الإسلام في تزكية النفوس لأنس أحمد كرزون: (1/ 187 ).

[25] : بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب للألوسي: (1/ 375).

[26] : مدارج السالكين لابن القيم: (1/ 343).

[27] : أخرجه البخاري في كتاب الزكاة ، باب الصدقة باليمين رقم (1423).

[28] : ترطيب الأفواه للعفاني: (1/ 45-49) بتصرف.

[29] : ترطيب الأفواه للعفاني: (1/ 48).

[30] : بدائع الفوائد لابن القيم:(2/ 112).

[31] : بدائع الفوائد لابن القيّم (2/ 112).

[32] : بدائع الفوائد لابن القيم (2/ 112).

[33] : بدائع الفوائد لابن القيم (2/ 33).

[34] : بدائع الفوائد لابن القيم (2/33).

[35] : بدائع الفوائد لابن القيِّم: (2/18).


التعديل الأخير تم بواسطة بلال بريغت ; 12 Aug 2013 الساعة 07:24 AM
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013