((مؤاخذاتٌ منهجيّة على "العُجالة في شرح الرِّسالة" لـ (بن حنفية العابدين)))
الحمدُ لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على عبده ورسوله وصفوته مِن خلقِهِ وأمِينه على وَحْيهِ نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومَن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدِّين, أما بعدُ:
قالَ الإمام مُسلم في مقدِّمة صحيحه: (حدثنا حسن بن الربيع قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب وهشام عن محمد وحدثنا فضيل عن هشام قال وحدثنا مخلد بن حسين عن هشام عن محمد بن سيرين قال: "إنَّ هذا العِلم دين, فانظروا عمَّن تأخذون دينكم") [برقم26].
سُئل الشيخ ربيع بن هادي المدخلي –حفظه الله-:
شيخنا الفاضل: هل يُنتفَعُ بكتب أهل البدع إذا كانت قد ألّفَت قبل انحرافهم, أو بعده إذا كانت خالية من الانحراف وجيِّدة في الباب؟
فأجابَ –سددهُ الله-: (بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن اتبع هداه, أما بعد:
فإجابة على هذا السؤال أقول: إنَّ في كتاب الله وفي سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفي تراث سلفنا الصالح الطاهر النظيف ما يُغني عن الرُّجوع لكتب أهل البدع. سواءً ألفوها قبل أن يَقعوا في البدع أو ألفوها بعد ذلك, لأن مِن مصلحة المسلمين إخماد وإخمال ذِكر أهل البدع. فالتعلق بكتبهم بقصد الاستفادة يَرفع من شأنهم, ويُعلي منازلهم في قلوب كثير من الناس, ومن مصلحة المسلمين والإسلام إخماد وإخمال ذِكر رؤوس البدع والضلال.
وما يخلوا كتاب من الحق, حتى كتب اليهود والنصارى, وطوائف الضلال تمزج بين الحق والباطل. فالأوْلى بالمسلم أن يُركز على ما ذكرناه سلفاً, فإنه آمن للمسلم وأضمن له, وأبعد له من أن يُكرم مَن أهانه الله. هذا ما أقوله إجابة على هذا السؤال)اهـ [شريط/ لقاء مع السلفيين الفلسطينيين].
وقال الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- في «شرح حلية طالب العلم»: (والذي يُعلم من كلام الشيخ –رحمه والله ووفقه الله- أنه لا يُؤخذ عن صاحب البدعة شيء, حتى فيما لا تعلق ببدعته, فمثلا: إذا وجدنا رجلاً مبتدِعاً لكنه جيد في عِلم العربية: كالبلاغة والنحو والصرف, فهل نجلس إليه ونأخذ منه هذا العلم الذي هو موجودا عنده أم نهجره؟. الظاهر من كلام الشيخ أننا لا نجلس إليه, لأن ذلك يوجب مفسدتين:
الأولى: اغتراره بنفسه, فيَحسب أنه على حق.
المفسدة الثانية: اغترار الناس به, حيث يتوارد عليه طلاب العِلم, ويتلقون منه, والعامي لا يُفرِّق بين عِلم النحو وعِلم العقيدة, لهذا نرى أن الإنسان لا يجلس إلى أهل الأهواء والبدع مطلقاً, حتى إن كان لا يجد عِلم العربية والبلاغة والصرف مثلاً إلا عندهم, فسيجعل الله له خيراً منها, لأننا لو نأتي إلى هؤلاء ونتردد إليهم لا شك أنه يوجب غرورهم واغترار الناس بهم)اهـ [صفحة 93-94].
أقول: بعدَ الذي قدمتُ من كلام الشيخين ابن عثيمين وربيع المدخلي في حكم الأخذ عن المبتدع, والنظر في كتب المبتدعة, وهذا ما دَرَج عليه العلماء والأئمة خلفاً عن سلف, وكان السَّلف أشد الناس في هذا الباب, والآثار والنقولات عنهم كثيرة, لا يَسعها المقام الآن.
ومع هذا, تجد في هذا الزمان ممن يَنتسب للسَّلف, ويَدَّعي السُنة, تجده يَنقل ويُشيدُ بالمبتدعة, بل ويحث على الأخذ عنهم.
وقد وقفتُ في كتاب «العُجالة في شرح الرٍّسالة» [الجزء الأول: العقيدة] لـ (بن حنفية العابدين) على كلام غاية في السوءِ, يَحُثّ فيه على الأخذ ممن فسَدَت عقائدهم ومناهجهم. وكذلك فَعَل.
ولم يَكتفِ بهذا, بل عابَ (كعادته) على مَن خالفه واتبع سيرة السَّلف الصالح في التحذير مِن المبتدعة وكتبهم.
قال في «العُجالة»: (واعلم أني إذا أثبتُ كلاماً لبعض الناس ولم أتعقبه فلأني أراه, ولست مجرد متابع له, وقد يكون غير معتمد في أمور أخرى, في العقيدة خصوصاً أو فيها وفي غيرها, وقد رَميتُ من وراء ذلك إلى أن لا تقام الحواجز بين المسلمين في أخذ بعضهم عن بعض كما دأب عليه فريق من الناس في هذا العصر, والشرط أن يكون النقل في دائرة الحق, وأن يطمئن إليه الناقل, فإن علمتُ من أحد خلافاً منهجياً أو عقدياً فلا أثبتُ كلامه إلا لردِّه)اهـ [الجزء الأول/صفحة 54-55/طبعة دار الإمام مالك].
أقول: وسداً للباب على المميعة مِن متعصبة (بن حنفية), وحتى لا يَحشدوا لنا أدلة وكلاماً في غير محل النزاع –كما يُقال-, نقول لهم: إن أئمة السَّلف فرَّقوا بين الرِّواية عن المبتدع بالضوابط, وبين أخذ اجتهادات وآراء المبتدعة, لذا نرى الإمام البُخاري يَروي عن عمران بن حطان –مثلاً- وهو من رؤوس الخوارج.
وتطبيقاً للكلام الذي أورَدَهُ (بن حنفية) في «العُجالة» تجده نقلَ عن الصوفي القبوري المتشيِّع أبي الفيض أحمد بن الصديق الغُماري (المغربي), وأشادَ به بطريقة إنزاله منزلة الأئمة والحُفّاظ مِن غير تنبيه ولا تنويه منه –ولو خفيفاً- على عقيدة هذا الرَّجل الفاسدة.
وأحمد الغُماري هو أكبر الإخوة الغُماريين الخمسة, وأشدهم بغضاً وعداوة لأهل السُنة, وله عِدَّة رسائل ملأها بسبِّ وشتم شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-, وكان يَرميه بالنّفاق.
قال في «العُجالة»: (..ومِن أهم ما كُتِبَ عليها تخريج الدلائل لِمَا في الرِّسالة من الفروع والمسائل, للحافظ المحدِّث أبي الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الغُماري, توسع فيه بذكر دلائل ما اشتملت عليه من المسائل الأمهات, ثم اختصره في كتاب سماه مسالك الدلالة على مسائل الرِّسالة, وهو من أحسن ما كُتِبَ على هذا السَّفر, لكن من حيث الإشارة إلى الأدلة, وتعقب الروايات بالتصحيح والتحسين والتضعيف, على وجه الاختصار, ولذلك لا يَستغني عنه طالبُ عِلم يَشتغل بهذا الكتاب)اهـ [الجزء الأول/صفحة 46-47].
أقول: نرى (بن حنفية) يُشيد بالغُماري من ناحية (الإشارة إلى الأدلة) والتصحيح والتحسين والتضعيف, ومِن ناحية أنه قلّدَ مُريدِيه بتلقيبه بـ (الحافظ), وما نعلمُهُ مِن الغُماري وإخوته أنهم أصحابُ هوىً, وإن كان عندهم شيء من العِلم, ولأبي الفيض أحمد الغُماري تأليف حسبُكَ عنوانه لتعْلمَ منهج الرَّجل في الاستدلال الذي يُشيد به (بن حنفية): «تشنيف الآذان في استحباب السِّيادة في الصلاة والإقامة والأذان», فقد قال الغُماري باستحباب زيادة (سيِّدنا) في الصلاة والإقامة والأذان معتمداً على حديث: (أنا سيِّدُ ولد آدم), قال العلاّمة الألباني مُعلقاً على هذا: (استنباطٌ عقلي أهوج أعوج)اهـ.
وله أيضاً: «الإقناع في صِحة الصلاة وراء المذياع», فلا تعليق على هذا.
قال العلامة الألباني –رحمه الله- : (فِقهُ الغُماريين ما هو فِقهٌ سَلفي أبداً, فِقهٌ هوائي, ليس له ضوابط وقواعد)اهـ [سلسلة الهدى والنور/شريط 37/الوجه الأول].
ونقل (بن حنفية) عن الغُماري في عِدَّة مواضع, أبرزها ما نقلهُ في (صفحة 52-53), و(صفحة 60), وذكَرَ له رسالة في الرَد على مَن صَحَّحَ حديث: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع), وكان الأولى به أن يُعرض عن هذا الصُّوفي الخرافي ولا يُروِّج لمؤلفاته, فالحديث المذكور تكلم عليه الشيخ الألباني في «الإرواء» و«الصحيحة» بما يكفينا النظر في كتب الغُماري وغيره من الصُوفيّة.
ونقلَ في (صفحة 86) تخريجاً لحديث: (مَثل الذي يتعلم العِلم في الصِّغر كالنقش في الحجر, ومَثل الذي يتعلم العِلم في كِبره كالذي يَكتب على الماء) من كتاب «مسالك الدلالة في شرح متن الرِّسالة» لأحمد الصدِّيق, والحديث وتخريجه والكلام عليه –بتفصيل- في «الضعيفة» للعلاّمة الألباني, فلِمَ الإعراض عن كتب أهل السُنة السَّلفيين واستبدالها بكتب الصُوفيّة الخرافيين؟؟
سُئل الشيخ الألباني:
السائل: شيخ في مسألة بسيطة, مسألة هناك نسمع ونقرأ عن الشيخ الهرَري الحبشي والغُماري, ما رأيك في هذين الشخصين مِن الناحية الحديثية, هل عندهم عِلمٌ بالحديث أم لا؟
الشيخ: الغُماري أعلمُ مِن الحبشي وكل منهما مِن أهل الأهواء والبدعة فلا يُوثقُ بعِلمِهما)اهـ [سلسلة الهدى والنور/ شريط 591/ الوجه الأول].
أقول: الشيخ الألباني –رحمه الله- أعلمُ مِن (بن حنفية) بالغُماري, لذا تراهُ يُحذِّرُ منه في أغلب مؤلفاته الحديثية, ومع هذا (بن حنفية) يَنقلُ عنه ويُشيد به وبمؤلفاته عملاً بما قاله وما رماهُ مِن أنْ لا تقام الحواجز بين المسلمين في أخذ بعضهم عن بعض, وهذِهِ مخالفة عظيمة لمنهج السَّلف في هذا الباب.
وفي الأخير, أوردُ كلاماً للشيخ الفقيه ابن عثيمين في «شرح لمعة الاعتقاد» نبَّهَ فيه على هذا والمفسدة الحاصلة مِن ذلك, قال الشيخ: (ومِن هَجْر أهل البدع: تركُ النظر في كتبهم, خوفاً مِن الفتنة بها أو ترويجها بين الناس, فالابتعاد عن مواطن الضَّلال واجب, لقوله –صلى الله عليه وسلم- في الدجال: "مَن سمع به فليَنأ عنه فوالله إنَّ الرَّجل ليأتيه وهو يحسبُ أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات")اهـ [صفحة 114].
فأين (بن حنفية) مِن منهج العلماء والأئمة في التعامل مع أهل البدَع؟؟
شبهة والجواب عليها:
فإن قال قائل: نأخذ الحق الذي في كُتب المبتدِعة ونترك الباطل!!
أجابَ عن هذا الشيخ خالد الظفيري –وفقهُ الله-: (نعم الحق يُؤخذ مِن كل مَن قاله, والسلف الصالح لا يتوقفون عن قبول الحق, مع ذلك لم يقولوا: خذ الحق مِن كتب أهل البدع واترك الباطل, بل نادوا بأعلى أصواتهم بتركها كلياً, بل وأوجبوا إتلافها, وذلك لأن الحق الموجود في كتب أهل البدع إنما هو مأخوذ من الكِتاب والسُنة, فوجبَ أن نأخذ الحق من مصادره الأصلية, التي لا يشوبها كدر ولا بدعة, إذ هي المعين الصافي والماء العذب)اهـ [إجماع العلماء على الهجر والتحذير من أهل الأهواء/صفحة50].
والله أعلم, ولله الحمد والمنة, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وكتبه/ أبو محمد سَعد صَمْدَعي
الجمعة: 21جمادى الثانية 1431هـ
الموافق لـ: 04 يونيو 2010م
منقول