منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 

العودة   منتديات التصفية و التربية السلفية » القــــــــسم العــــــــام » الــمــــنــــــــتـــــــدى الـــــــــعــــــــام

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #3  
قديم 15 Jul 2010, 10:04 PM
أحمد سالم أحمد سالم غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: الجزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 608
افتراضي

-- ------------------------------------------------------------------------------

الثانية: قال كاتبه ـ عفا الله عنه ـ : لما كانت هذه الكتابة الخطيرة في موضوع الكتاب قد أَقْدَم عليها العبدُ الضعيف ـ وهو قاصر عنها ـ فقد تأَنَّيْتُ في طبعه حتى يَطَّلِع عليه من أهل العلم مَن يُرضَى، وقد كان هذا والحمد لله، ولا أعلم أحداً منهم إلا وأثنى عليه، منهم: الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، والشيخ صالح الفوزان عضوَا هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، ومن الأساتذة الكبار: الشيخ حماد بن محمد الأنصاري ـ رحمه الله ـ، والشيخ ربيع بن هادي المدخلي، والشيخ محمد بن عبد الله بن سبيل الرئيس العامّ لشئون المسجد الحرام وإمام وخطيب المسجد الحرام وعضو هيئة كبار العلماء، والشيخ عبد الله الزاحم رئيس المحاكم الشرعية بالمدينة وإمام وخطيب المسجد النبوي، والشيخ صالح العبود مدير الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وغيرهم كثير ... فضلاً عن كبار طلبة العلم الذين لا يُحصَون كثرةً، فجزاهم اللهُ خيراً جميعاً.
وقد ذكرت هذا ـ لا ليمدحني القارئ! ـ ولكن ليطمئن قلبُه؛ فإن الفضل لله وحده، وهو الذي حمدُه زَيْنٌ، وذَمُّه شَيْنٌ على الحقيقة.

M
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله.
{يأيّها الذين ءامنوا اتقوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُسْلِمُونَ}.
{يأيّها الناسُ اتّقُوا ربَّكمُ الَّذي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً واتَّقُوا اللهََ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كان عَلَيْكُمْ رَقِيباً}.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكمْ ويَغْفِرْ لَكمْ ذُنوبَكُمْ ومَن يُطِعِ اللهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}.
أما بعد. فقد منَّ الله تعالى على أمة نبيّه محمد e بإكمال دينها، وإتمام نعمته عليها، ورضاه عنها بالإسلام الذي لا يقبل منها دينا سواه، قال الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً}.
عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين! إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلَتْ لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: وأيُّ آية؟ قال: قوله: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فقال عمر: " والله! إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله e والساعة التي نزلت فيها على رسول الله e: عشية عرفة في يوم جمعة" رواه أحمد والبخاري ومسلم.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " فالنعمة المطلقة هي المتصلة بسعادة الأبد، وهي نعمة الإسلام والسنة ". ثم قال بعد ذكر النبيين والصديقين والشهداء والصالحين: " فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة، وأصحابها أيضا هم المعنيّون بقول الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً}"().
قال أبو العالية ـ رحمه الله ـ: " قرأت المحْكَم بعد وفاة نبيكم e بعشر سنين، فقد أنعم الله علَيَّ بنعمتين، لا أدري أيهما أفضل: أن هداني للإسلام، ولم يجعلني حَرورياً "().
أي نعمة الهداية إلى الإسلام من بين الملل الكافرة، ونعمة الهداية إلى السنة من بين الطوائف المبتدعة؛ وكانت بدعةُ الخوارج الحَروريين أشدَّها خطفاً للقلوب وترويعاً للمسلمين! والله العاصم.
ثم أما بعد، فقد أحكمَ الله U كتابه وأحسن تفصيله، وفصَّل لنا فيه كل ما ينفعنا ويضرنا، وهو القائل: {الــــر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ ءاياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} وقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً}، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين}، وقال: {وأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمْ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}، وقال: {وما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}.
وعن ابن مسعود t أن رسول الله e قال:» ليس من عمل يقرِّب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به، ولا عمل يقرِّب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه، لا يستبطئنّ أحد منكم رزقه، إن جبريل عليه السلام ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه، فاتقوا الله أيها الناس! وأجملوا في الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية، فإن الله لا يُنال فضله بمعصية « رواه الحاكم وغيره وهو صحيح.
وإذا كان النبي e بيَّن لنا الهدى وحثَّنا عليه، وبيَّن لنا الضلال وحذَّرنا منه، لم يبق لأحد عذر في الطمع في غير هذه الشريعة الكاملة، قال ابن القيم
ـ رحمه الله ـ: " وأما الرضى بنبيّه رسولاً: فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره ألبتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه، لا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه، فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم، وأحسن أحواله أن يكون من باب التراب الذي إنما يُتيمَّم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور.
وأما الرضى بدينه: فإذا قال أوحكم أو أمر أو نهى، رضي كل الرضى، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسلَّم له تسليما، ولو كان مخالفا لمراد نفسه أو هواها، أو قول مقلَّده وشيخه وطائفته "().
وكما أن الله أكمل دينه علماً، فقد أكمله عملاً؛ إذ كما لا يخلو زمن من قائم لله بحجته، فلا يخلو زمن من طائفة مؤمنة تعمل بهذا الدين، فعن حميد بن عبد الرحمن قال:سمعت معاوية خطيباً يقول: سمعت النبي e يقول: » من يُرِد الله به خيراً يفقِّهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال من هذه الأمة أمة قائمة على أمر الله، لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك « متفق عليه.
ثم اعلم ـ أيها القاريء! ـ أن الذي دفعني إلى هذه الكتابة على الرغم من القصور، أنني رأيت شباب المسلمين يَرِدون مواقع الحِمام، يرشفون سمّه بسقي أيديهم ولا يُحِسّون بملام، فدعوتُ إلى صون العمل السياسي عن العبث الذي هو أحد أسباب هذا الواقع المشؤوم، بتأصيل احترام التخصص انطلاقاً من قاعدة: {وما مِنّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}، ثم تنَفَّلتُ بضرب المثل بتجربة الجزائر؛ زيادةً في البيان وإمعاناً في الإعذار لذوي البصائر.
ولعلك واجد في هذه النافلة أخباراً لا تروقُك، أو لا يُصدِّقها ظنُّك، فتجاوزْها! فإن ذلك لا يضرّك؛ لأنني لست ممن يُحكِّم الواقع في الشرع الحنيف، وقِفْ عند القواعد العلمية؛ فإنها أصل هذا التصنيف، والله الموفق لسلوك هدي خير البرية.
ثم إنني شاكر للشيخ العلامة الألباني وللشيخ العلامة عبد المحسن العبّاد
ـ حفظهما الله تعالى ـ تفرُّغهما لقراءة هذا الكتاب المتواضع وحسن عنايتهما بالنصيحة للمسلمين، وشاكر لسائر المشايخ والإخوة الذين لم يبخلوا عليّ بإرشاداتهم وتنبيهاتهم القيّمة، فجزاهم الله خيراً.
وقبل الخوض في الموضوع، إليك تنبيهات سريعة على أصول مهمة، لا أستقصي بحثها وجمع أدلتها، وإنما هي لفت انتباه وتذكير.



الأصل الأول: الطريق واحد
اعلم ـ رحمك الله! ـ أن الطريق الذي يضمن لك نعمة الإسلام واحد لا يتعدد؛ لأن الله كتب الفلاح لحزب واحد فقط فقال: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُون}، وكتب الغلبة لهذا الحزب وحده فقال: {وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغالِبُون}.
ومهما بحثتَ في كتاب الله وسنة رسوله e، فلن تجد تفريق الأمة إلى جماعات وتحزيبها في تكتلات إلا مذموماً، قال الله تعالى: {ولاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِين فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُون}، وكيف يُقِر ربنا U أمة على التشتت بعدما عَصَمَها بحبله، وهو يُبرِّيء نبيّه e منها حين تكون كذلك وتوعَّدها عليه فيقول: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ إنَّما أَمْرُهُمْ إلى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهمْ بِما كانُوا يَفْعَلُون}.
وعن ابن مسعود t قال: " خطَّ لنا رسول الله e خطا، ثم قال: » هذا سبيل الله «ourier New Euro"، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: » هذه سبل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه «"، ثم قرأ: {وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} " رواه أحمد وغيره وهو صحيح.
فدلّ هذا الحديث بنصه على أن الطريق واحد، قال ابن القيم: " وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد، وهو ما بَعث به رسله وأنزل به كتبه، ولا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق، ولو أتى الناسُ من كل طريق واستفتحوا من كل باب، فالطرق عليهم مسدودة، والأبواب عليهم مغلقة، إلا من هذا الطريق الواحد، فإنه متّصل بالله موصل إلى الله "().
قلت: ولكن كثرة بُنَيّاته العاديات تشكك فيه وتُخذِّل عنه، وإنما انحرف عنه من انحرف من الفرق استئناساً بالتَّعدُّد، وتوحُّشاً من التفرُّد، واستعجالاً للوصول، وجُبْناً عن تحمّل الطول؛ قال ابن القيم: " من استطال الطريق ضعُف مشيُه "().
والله المستعان.
الأصل الثاني: اتباع الكتاب والسنة
على فهم السلف الصالح()
إنَّ الذي لم يختلف فيه المسلمون قديماً وحديثاً هو أن الطريق الذي ارتضاه لنا ربنا هو طريق الكتاب والسنة، فإليه يَرِدون ومنه يصدرون، وإن اختلفوا في وجوه الاستدلال بهما.
ذلك؛ لأنَّ الله ضَمِن الاستقامة لمتبع الكتاب فقال على لسان مؤمني الجن: {يا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وإلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}.
كما ضَمِنها لمتبع الرسول e الذي قال له ربه: {وإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
لكن الذي جعل الفرق الإسلامية تنحرف عن الصراط هو إغفالها ركناً ثالثاً جاء التنويه به في الوحيين جميعاً، ألاَ وهو فَهْمُ السلف الصالح للكتاب والسنة.
وقد اشتملت سورة الفاتحة على هذه الأركان الثلاثة في أكمل بيان:
فقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} اشتمل على ركني الكتاب والسنة، كما سبق.
وقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} اشتمل على فهم السلف لهذا الصراط، مع أنه لا يشكّ أحد في أن من التزم بالكتاب والسنة فقد اهتدى إلى الصراط المستقيم، إلا أنه لما كان فَهْم الناس للكتاب والسنة منه الصحيح ومنه السقيم، اقتضى الأمرُ ركْناً ثالثاً لرفع الخلاف، ألا وهو تقييدُ فَهْم الأخلاف بِفَهْم الأسلاف؛ قال ابن القيم: " وتأمل سراً بديعاً في ذِكْر السبب والجزاء للطوائف الثلاثة بأوجز لفظ وأخصره؛ فإن الإنعام عليهم يتضمن إنعامه بالهداية التي هي العلم النافع والعمل الصالح"().
وقال: " فكلُّ من كان أعرف للحق وأتبع له كان أولى بالصراط المستقيم، ولا ريب أن أصحاب رسول الله e و رضي الله عنهم هم أولى بهذه الصفة من الروافض ... ولهذا فسَّر السلف الصراط المستقيم وأهله بأبي بكر وعمر وأصحاب رسول الله e ..."().
وفي هذا تنصيص منه ـ رحمه الله ـ على أن أفضل من أنعم الله عليه بالعلم والعمل هم أصحاب رسول الله e؛ لأنهم شَهِدوا التنزيل، وشاهَدوا من هدي الرسول الكريم ما فهموا به التأويل السليم، كما قال ابن مسعود t: " من كان منكم مُسْتَنًّا فلْيستنَّ بمَن قد مات، فإن الحيّ لا تُؤْمَن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد e، كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرَّها قلوباً، وأعمقها عِلْماً، وأقلّها تكلُّفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيّه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتَّبِعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم؛ فإنهم كانوا على الهدي المستقيم "().
وقال أيضا: " إنَّ الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد e خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيّه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسَناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيِّئاً فهو عند الله سيّء "().
إذًا فالمسلمون المقصودون لابن مسعود هم الصحابة y؛ قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: " أصول السنة عندنا التمسُّك بما كان عليه أصحاب رسول الله e والاقتداء بهم "().
ومَن حظيَ برضى الله مِن بعدهم فلاقتدائه بهديهم، قال الله تعالى: {والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}().
وقد جاء تحديد زمن السلف الذين لا تجوز مخالفتهم بإحداث فهْم لم يفهموه، في حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله e: »\f "Courier New Euro" خيرُ الناسِ قَرْني، ثم الَّذين يَلُونَهم، ثم الَّذين يَلُونَهم، ثم يجيءُ قومٌ تَسبقُ شهادةُ أحدهم يمينَه، ويمينُه شهادتَه «() متفق عليه.
ولهذا الأصل نظائر وأدلة من الكتاب والسنة، منها قول الله تعالى: {ومَن يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}، والشاهد هنا في ضمّ مجانبة سبيل المؤمنين إلى مشاقَّة الرسول لاسْتحقاق هذا الوعيد الشديد، مع أن مشاقَّة الرسول e وحده كفيلةٌ بذلك كما قال الله تعالى: {إنَّ الَّذينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وسَيُحبِطُ أَعْمالَهُمْ}().
ومنها ما رواه عبد الله بن لحي عن معاوية بن أبي سفيان أنه قام فينا فقال: ألاَ إن رسول الله e قام فينا فقال: 87 \f "Courier New Euro" ألاَ إن مَن قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة « رواه أبو داود وغيره وهو صحيح.
والشاهد هنا في وصف الفرقة الناجية بالجماعة، والعدول عن إضافتها إلى الكتاب والسنة، مع أنها لا يمكن أن تخرج عنهما قط؛ والسر في ذلك يكمن في التنبيه على الجماعة التي فهمت نصوص الوحيين وعملت بهما على مراد الله ورسوله، ولم يكن يومئذ جماعة إلا أصحاب رسول الله e، ولذلك صحَّح أهل العلم ـ في الشواهد ـ اللفظ الآخر الوارد في هذا الحديث من رواية
الحاكم وغيره وهو قوله e في وصف الفرقة الناجية: (( ما أنا عليه اليوم وأصحابي )).
ومنها ما رواه أبو داود وغيره بسند صحيح لغيره عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله e موعظة بليغة، ذرَفت منها العيون ووجِلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة موَدِّع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: » أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإنْ عبداً حبشيًّا؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسَّكوا بها وعَضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة «w Euro".
والشاهد هنا في الجمع بين اتباع السنة النبوية وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، ثم تأمل كيف جعل النبي e كلمته هذه وصيّته لأمته من بعده لتعلم صدق القول بأصالة هذا المنهج، ثم تأمل كيف قابل الاختلاف بالتزام هذا المنهج لتعلم أن ضابط ( فَهْم السلف الصالح ) سبب النجاة من التفرُّق، قال الشاطبيّ ـ رحمه الله ـ: " فقرن u ـ كما ترى ـ سنّة الخلفاء الراشدين بسنّته، وأن مِن اتّباع سنّته اتّباع سنّتهم، وأن المحدثات خلاف ذلك، ليست منها في شيء؛ لأنهم y فيما سَنُّوا: إمّا متَّبِعون لسنّة نبيّهم عليه السلام نفسها، وإمّا متّبِعون لما فهموا من سنّته e في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثلُه، لا زائدة على ذلك "().
وقد جعلتُ هذه النصوص من النظائر والأدلة على تأصيل ما أنا بصدده؛ لأنني وجدت ابن أبي العز نزع بها عند شرحه قول الطحاوي: " ونتَّبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفُرقة "().
تطبيق:
لبيان ضرورة تقييد فهم الكتاب بالسنة، وتقييد فهم الكتاب والسنة بما كان عليه السلف الصالح، أُورد هنا قصة جرَت أيام محنة الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ؛ لأبيِّن بها المقصودَين في آنٍ واحد، قال الآجرّي ـ رحمه الله ـ():
" بلغني عن المهتدي ـ رحمه الله تعالى ـ أنه قال: ما قطع أَبي ـ يعني الواثق ـ إلا شيخ جيء به من المصيصة، فمكث في السجن مدة، ثم إن أبي ذكره يوما فقال: علي بالشيخ، فأُتي به مقيَّدا، فلما أُوقف بين يديه سلَّم عليه، فلم يرُدَّ عليه السلام، فقال له الشيخ: يا أمير المؤمنين! ما استعملتَ معي أدب الله تعالى ولا أدب رسوله e؛ قال الله تعالى: {وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أو رُدُّوها}، وأمر النبي e بردّ السلام؟! فقال له: وعليك السلام. ثم قال لابن أبي دُؤاد: سَلْهُ، فقال: يا أمير المؤمنين! أنا محبوس مقيَّد، أُصلّي في الحبس بتيمم، مُنِعتُ الماء، فمُر بقيودي تُحَلّ، ومر لي بماء أتطهر وأصلي، ثم سَلْني، قال: فأمر فحُلَّ قيده، وأمر له بماء، فتوضأ وصلى، ثم قال لابن أبي دؤاد: سلْهُ، فقال الشيخ: المسألة لي، تأْمُره أن يجيبني، فقال: سل، فأقبل الشيخ على ابن أبي دؤاد يسأله فقال: أخبرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه، أشيء دعا إليه رسول الله e؟ قال: لا! قال: فشيء دعا إليه أبو بكر الصديق t بعده؟ قال: لا! قال: فشيء دعا إليه عمر بن الخطاب t بعدهما؟ قال: لا! قال الشيخ: فشيء دعا إليه عثمان بن عفان بعدهم؟ قال: لا! قال: فشيء دعا إليه علي بن أبي طالب t بعدهم؟ قال: لا! قال الشيخ: فشيء لم يدعُ رسول الله e ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله تعالى عنهم تدعو أنت الناس إليه ؟! ليس يخلو أن تقول: علِموه أو جهِلوه؛ فإن قلتَ: علِموه وسكتوا عنه، وسِعَنا وإياك ما وَسِع القوم من السكوت، فإن قلتَ: جهِلوه وعلِمتُه أنا، فيا لُكَعُ بن لكع! يجهل النبي e والخلفاء الراشدون رضي الله تعالى عنهم شيئا وتعْلمه أنت وأصحابك؟! قال المهتدي: فرأيتُ أبي وثب قائماً ودخل الحيرى()، وجعل ثوبه في فيه يضحك، ثم جعل يقول: صدق، ليس يخلو من أن نقول: جهلوه أو علموه، فإن قلنا: علِموه وسكتوا عنه، وسِعَنا من السكوت ما وسِع القوم، وإن قلنا: جهلوه وعلمته أنت، فيا لكع بن لكع! يجهل النبي e وأصحابه رضي الله تعالى عنهم شيئا تعلمه أنت وأصحابك؟! ثم قال: يا أحمد! قلت: لبيك، قال: لستُ أعنيك، إنما أعني ابن أبي دُؤاد، فوثب إليه فقال: أعط هذا الشيخ نفقةً وأخرجه عن بلدنا ".
وفي رواية أوردها الذهبي في » السير «: " .. وسقط من عينه ابن أبي دُؤاد، ولم يَمتحن بعدها أحداً "، وفي رواية: " قال المهتدي: فرجعتُ عن هذه المقالة، وأظن أن أبي رجع عنها منذ ذلك الوقت"().
قلت: تأمل! فإن ردَّ الشيخ هذا الأمرَ العظيمَ إلى سيرة السلف الصالح رفع الخلاف مباشرة وكان سبب هداية الواثق والمهتدي إلى ما جاء ذكره في القصة، فهذا يدلّك على أنه تأصيل دقيق، فاحفظه!
تنبيه
إذا اختلف سلفنا الصالح في مسألة ما كان تحكيم الدليل من الكتاب والسنة هو المسلك الوحيد، لقول الله تعالى: {فإن تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، وكلمة {شَيْءٍ} هنا نكرةٌ في سياق الشَّرط، فتَعُمّ كل اختلاف التضاد في الأصول والفروع، كما أشار إليه العلاّمة محمد الأمين الشنقيطي().
وقال ابن القيم: " ولو لم يكن في كتاب الله وسنة رسوله بيانُ حُكْمِ ما تنازَعوا فيه ولم يكن كافياً، لم يَأمر بالرَّدِّ إليه؛ إذ مِن الممتنِع أن يَأمر تعالى بالرَّدّ عند النزاع إلى مَن لا يوجَدُ عنده فَصْلُ النزاع "().
الأصل الثالث: نيل السؤدد بالعلم
هذا الفصل من أنفس ما في هذه الأصول الستة؛ لأن الغرض منه هو تبيان أصل العمل الذي ينبغي أن تُكرَّس له الجهود، فإن قوما رأوا النشاط الرهيب الذي تجتهد فيه قُوى الكفر والضلال، فظنوا أن سيادتهم ترجع إليهم بمجرد مقابلة نشاطهم بنشاط أقوى منه، فوَجَّهوا كل ما يملكون من وسائل لمجاراتهم، وأهملوا العلم الشرعي إهمالاً فاحشاً! والحقيقة أنهم مهما أحكموا التنظيم وأحسنوا التدبير وكثَّفوا النشاط وحفظوا من مكائد العدوّ، فلن يُكتَب لهم سؤدد ولا رِفعة حتى يُؤَسِّسوا عملهم على العلم ويعرفوا له ولأهله قدره؛ قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُم والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ} وقال: {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشَاءُ}، قال مالك ـ رحمه الله ـ: " بالعلم "().
وهذه الرِفعة تكون في الدنيا قبل الآخرة؛ كما قال الله تعالى عن اصطفائه طالوت لسيادة الملأ من بني إسرائيل: {وقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المالِ قَال إنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطةً في العِلْمِ وِالجِسْمِ واللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
وفي صحيح مسلم عن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعُسْفان، وكان عمر يستعمله على مكة()، فقال: مَن استعملتَ على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومَن ابن أبزى؟ قال: مَوْلى() مِن موالينا، قال: فاستخلفتَ عليهم مولى؟! قال: إنه قاريء لكتاب الله U وإنه عالم بالفرائض()، قال عمر: أمَا إن نبيّكم e قال: »Euro" إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين «.
ولذلك أخبر الله U أنه رفع الربانيين من بني إسرائيل حتى جعلهم حكّاماً عليهم ينفِّذون فيهم أمر الله فقال: {إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيها هُدًى ونُورٌ يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبارُ بِما اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء}.
وهؤلاء الربانيون الممَكَّن لهم جاء وصفهم بالعلم والتعليم، قال الله تعالى: {مَا كانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤتِيَهُ اللهُ الكِتابَ والحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّـينَ بِما كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُون}.
وفي كتاب الله U آيتان تشابهتا في اللفظ، يقول الله في الأولى عن إبراهيم e: {وتِلْكَ حُجَّتُنا ءَاتَيْنَاها إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَن نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}، وفي الثانية يقول عن يوسف e: {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}، وفي هذا سرٌّ بديعٌ من أسرار الكتاب العزيز، ذكره ابن تيمية في كلام نفيسٍ جدًّا، حيث يقول:
" ذَكَر اللهُ أنه يرفع درجات من يشاء في قصة مناظرة إبراهيم وفي قصة احتيال يوسف، ولهذا قال السلف: بالعلم؛ فإن سياق الآيات يدلّ عليه، فقصة إبراهيم في العلم بالحجة والمناظرة لدفع ضرر الخصم عن الدين، وقصة يوسف في العلم بالسياسة والتدبير لتحصل منفعة المطلوب، فالأول: علم بما يدفع المضار في الدين، والثاني: علم بما يجلب المنافع.
أو يقال: الأول: هو العلم بما يدفع المضرة عن الدين ويجلب منفعته، والثاني: علم بما يدفع المضرة عن الدنيا ويجلب منفعتها.
أو يقال: قصة إبراهيم في علم الأقوال النافعة عند الحاجة إليها، وقصة يوسف في علم الأفعال عند الحاجة إليها، فالحاجة جلب المنفعة ودفع المضرة قد تكون إلى القول، وقد تكون ...()
ولهذا كان المقصِّرون عن علم الحجج والدلالات وعلم السياسة والأمارات مقهورين مع هذين الصنفين، تارة بالاِحتياج إليهم إذا هجم عدوّ يفسد الدين بالجدل أو الدنيا بالظلم، وتارة بالاحتياج إليهم إذا هجم على أنفسهم من أنفسهم ذلك، وتارة بالاحتياج إليهم لتخليص بعضهم من شرّ بعض في الدين والدنيا، وتارة يعيشون في ظلهم في مكان ليس فيه مبتدع يستطيل عليهم ولا والٍ يظلمهم، وما ذاك إلا لوجود علماء الحجج الدامغة لأهل البدع، والسياسة الدافعة للظلم ..."().
فدار أمر الرئاسة الدينية والدنيوية على العلم؛ لأنه أصل لهما، ولذلك قال ابن تيمية ـ أيضا ـ: " وذلك أن الله يقول في كتابه: {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنَا بِالبَيِّناتِ وأَنزَلْنَا مَعَهمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ومَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيْبِ}، فأخبر أنه أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنه أنزل الحديد كما ذكره.
فقوام الدين بالكتاب الهادي والسيف الناصر {وكَفَى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً}، والكتابُ هو الأصلُ، ولهذا أول ما بعَث اللهُ رسولَه أنزل عليه الكتاب، ومكث بمكة لم يأمره بالسيف حتى هاجر وصار له أعوانٌ على الجهاد "().
إذن فالذين يتصوّرون قيام دولة الإسلام بمجرد عاطفةٍ إسلامية، وفكرٍ مجـرّد عن حـجّـة الشـرع يسمّونـه فكـراً إسلاميًّا! ونتفٍ من العلم يسمونها ( ثقافةً إسلاميةً!)، وأن التعليم مرحلة قادمة بعدها، فهؤلاء طالبو سراب؛ لأنهم يتخيَّلونها بلا قوة ولا أسباب، وأُولى القوّتين قوةُ الدين الذي عليه وعد الله المؤمنين بالنصر فقال: {وكان حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِين}؛ ولهذا قال ابن القيم: " ولما كان جهادُ أعداء الله في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسَه في ذات الله، كما قال النبي e: » المجاهِدُ من جاهَدَ نفسَه في طاعة الله، والمهاجِرُ من هجَرَ ما نهى اللهُ عنه «()، كان جهادُ النَّفْس مُقَدَّماً على جهاد العدوّ في الخارج وأصلاً له؛ فإنه مَن لم يجاهد نفسَه أولاً لتفعل ما أُمِرَت به وتترك ما نُهيَت عنه ويحارِبْها في الله، لم يمْكِنْهُ جهادُ عدوِّه في الخارج، فكيف يمكنه جهاد عدوِّه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له، متسلِّطٌ عليه، لم يجاهده ولم يحاربه في الله؟! بل لا يمكنه الخروج إلى عدوِّه حتى يجاهد نفسه على الخروج.
فهذان عدوّان قد امتُحِن العبدُ بجهادهما، وبينهما عدوٌّ ثالثٌ، لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده، وهو واقفٌ بينهما يُثبِّطُ العبدَ عن جهادهما ويُخذِّلُه ويُرجِف به، ولا يزال يخيِّل له ما في جهادهما من المشاقِّ وترك الحظوظ وفَوْت اللذات والمشتهيات، ولا يمكنه أن يجاهد ذَيْنك العدوَّيْن إلا بجهاده، فكان جهاده هو الأصل لجهادهما، وهو الشيطان، قال تعالى: {إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}، والأمر باتخاذه عدوًّا تنبيهٌ على استفراغ الوُسْع في محاربته ومجاهدته، كأنه عدوٌّ لا يفْتُر ولا يقصر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس "().
هذا الكلام في غاية الجودة والوضوح، وهو تصحيح لمنهج الذين يرمون غيرهم بالحجارة وبيوتهم من زجاج! وفي الوقت نفسه يُعَظّمون الأسباب المادية حتى يروا أن عدوّهم تمكَّن لقوّته، والحق أنه لا يدخل عليهم العدوُّ بيوتَهم إلا إذا وَهَى بنيانُها؛ أي لا ينهزم المسلمون لقوّة عدوّهم ولكن لضعف إيمانهم، حتى ولو عَرِيَت أيديهم من الأسباب ـ بعد بذل الوسع ـ كفاهم الله ما نابهم، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: " ومن سنة الله أن من لم يُمْكن المؤمنون أن يعيذوه() من الذين يؤذون الله ورسوله؛ فإن الله سبحانه ينتقم منه لرسوله ويكفيه إياه، كما قدّمنا بعض ذلك في قصة الكاتب المفتري، وكما قال سبحانه: {فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِين. إنَّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِين} "().
وقال ابن القيم: " تالله! ما عَدَا عليك العدوُّ إلا بعد أن تَوَلَّى عنك الوَلِيُّ، فلا تظنّ أن الشيطان غَلَبَ ولكن الحافظ أَعْرَض "().
وقد عرفتَ أنك تُحْرَم ولاءَ ربك إذا تركتَ المأمور وركبتَ المحظور، كما أنك منصور بحفظك اللهَ في أمره ونهيه، فعاد الأصل إلى العلم؛ لأنه لا يُعرَف الأمر والنهي إلا به.
لطيفة
روى البخاري ومسلم عن الزبير بن عدي قال: دخلنا على أنس بن مالك قال: فشكونا إليه ما نَلقى من الحَجَّاج، فقال: » ما مِن عامٍ إلاَّ والَّذي بعده شرٌّ منه حتى تَلْقَوْا ربَّكم «، سمعتُ هذا من نبيّكم.
قال ابن حجر: " وقد استُشكل هذا الإطلاق مع أن بعض الأزمنة تكون في الشرّ دون التي قبلها، ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبد العزيز، وهو بعد زمن الحجاج بيسير، وقد اشتهر الخير الذي كان في زمن عمر بن عبد العزيز ... وأجاب بعضهم أن المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر، فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء، وفي عصر عمر بن عبد العزيز انقرضوا، والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده لقوله e: » خير القرون قرني ... « وهو في الصحيحين "().
ثم قال: " ثم وجدت عن عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد وهو أولى بالاتباع، فأخرج يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة عن زيد بن وهب قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: " لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شرّ من اليوم الذي قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه، ولا مالاً يفيده، ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقلّ علماً من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس، فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون "، ومن طريق الشعبي عن مسروق عنه قال: " لا يأتي عليكم زمان إلا وهو شرّ مما كان قبله، أمَا إني لا أعني أميراً خيراً من أمير، ولا عاماً خيراً من عام، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفاء، ويجيء قوم يُفتون برأيهم "().
قلت: رفعُ الإشكال بالأثر هو قرة عيون أهل الأثر، خاصة وهو جارٍ على الأصول؛ لأن غالب الخلق لِرَحم المال والسلطان وَصول، ألم تسمع الله تعالى يخبر عن أهل الشمال حسرتهم قائلين: {ما أَغْنَى عَنِّي مالِيَه. هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَه}.
ولو تأمَّلتَ فتنةَ الحركات الإسلامية - فضلاً عن غيرها - لوجدتَها مجموعة في هاتين النعرتين: تصوُّرُ أن خيريَّة أمة على أخرى تابعة لخيريَّة حكّامها، أو وفرة اقتصادها؛ ألا ترى أن أكثرهم لا يرُدّون من عرش الملك يَدَ لامِس، ولو كانت طَماعة من ديمقراطية الوساوس! وآخرين يرون أن عودة عزّ المسلمين مرهونة بالتفوق الحضاري، ولذلك لا يبْرَحون عليه عاكفين!
وهذا يبيِّن لك سرّ عناية ابن مسعود بمعالجتهما دون غيرهما، وتالله إنه لفقه النفس الذي فتح الله به عليه، فلْتعرف ـ أخا الإسلام ـ للسلف فضلهم، واستمسك بغرزهم تسترح من شبهات بُنَيّات الطريق.
وأخيراً: إلى العلم! يا من ينشد عز الإسلام، فعن تميم الداري قال: تطاول الناس في البناء في زمن عمر، فقال عمر: " يا معشر العريب! الأرضَ الأرضَ! إنه لا إسلام إلا بجماعة، ولاجماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة، فمن سوَّده قومه على الفقه كان حياة له ولهم، ومن سوَّده قومه على غير فقه كان هلاكاً له ولهم "().
وعن الحسن قال: " كانوا يقولون: موت العالم ثُلْمة في الإسلام لا يَسُدُّها شيء ما اختلف الليل والنهار "().
وعن هلال بن خباب قال: سألت سعيد بن جبير قلت: يا أبا عبد الله! ما علامة هلاك الناس؟ قال: " إذا هلك علماؤهم "().
الأصل الرابع: صِمَام الأمان من الكفر والهزيمة
باتِّباع الكتاب والسنة

يتبع
رد مع اقتباس
 

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013