سؤال : هل يجوز أخذ جزء من جسد الإنسان وتركيبه في إنسان آخر مضطر إليه برضا من أخذ منه ؟ . جواب : جميع المسائل التي تحدث في كل وقت ، سواء حدثت
أجناسها أو أفرادها - يجب أن تتصور قبل كل شيء ، فإذا عرفت حقيقتها ، وشخصت صفاتها ، وتصورها الإنسان تصورا تاما بذاتها ومقدماتها ونتائجها - طبقت على نصوص الشرع وأصوله الكلية ، فإن الشرع يحل جميع المشكلات : مشكلات الجماعات والأفراد ، ويحل المسائل الكلية والجزئية ، يحلها حلا مرضيا للعقول الصحيحة ، والفطر المستقيمة ، ويشترط أن ينظر فيه البصير من جميع نواحيه وجوانبه الواقعية والشرعية ، فنحن في هذه المسألة قبل كل شيء نقف على الحياد ، حتى يتضح لنا اتضاحا تاما للجزم بأحد القولين . فنقول : من الناس من يقول : هذه الأشياء لا تجوز ؛ لأن الأصل أن الإنسان ليس له التصرف في بدنه بإتلاف أو قطع شيء منه أو التمثيل به ؛ لأنه أمانة عنده لله ؛ ولهذا قال تعالى : سورة البقرة الآية 195 وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
والمسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه .
أما المال : فإنه يباح بإباحة صاحبه ، وبالأسباب التي جعلها الشارع وسيلة لإباحة التملكات .
وأما الدم : فلا يباح بوجه من الوجوه ، ولو أباحه صاحبه لغيره ، سواء كان نفسا أو عضوا أو دما أو غيره ، إلا على وجه القصاص بشروطه ، أو في الحالة التي أباحها الشارع ، وهي أمور معروفة ليس منها هذا المسئول عنه .
ثم إن ما زعموه من المصالح للغير ، معارض بالمضرة اللاحقة لمن قطع منه ذلك الجزء ، فكـم من إنسان تلف أو مرض بهذا العمل .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 71)
ويؤيد هذا قول الفقهاء : من ماتت وهي حامل بحمل حي لم يحل شق بطنها لإخراجه ، ولو غلب الظن ، أو لو تيقنا خروجه حيا ، إلا إذا خرج بعضه حيا فيشق للباقي ، فإذا كان هذا في الميتة فكيف حال الحي ؛ فالمؤمن بدنه محترم حيا وميتا .
ويؤخذ من هذا أيضا أن الدم نجس خبيث ، وكل نجس خبيث لا يحل التداوي به ، مع ما يخشى عند أخذ دم الإنسان من هلاك أو مرض ، فهذا من حجج هذا القول .
ومن الناس من يقول : لا بأس بذلك ؛ لأننا إذا طبقنا هذه المسألة على الأصل العظيم للمحيط الشرعي - صارت من أوائل ما يدخل فيه ، وأن ذلك مباح ، بل ربما يكون مستحبا ، وذلك أن الأصل : إذا تعارضت المصالح والمفاسد ، والمنافع والمضار ، فإن رجحت المفاسد أو تكافأت منع منه ، وصار درء المفاسد في هذه الحال أولى من جلب المصالح ، وإن رجحت المصالح والمنافع على المفاسد والمضار اتبعت المصالح الراجحة . وهذه المذكورات مصالحها عظيمة معروفة ، ومضارها إذا قدرت فهي جزئية يسيرة منغمرة في المصالح المتنوعة .
ويؤيد هذا : أن حجة القول الأول ، وهي : أن الأصل أن بدن الإنسان محترم لا يباح بالإباحة ، متى اعتبرنا فيه هذا الأصل ، فإنه يباح كثير من ذلك للمصلحة الكثيرة المنغمرة في المفسدة بفقد ذلك العضو أو التمثيل به ، فإنه يباح لمن وقعت فيه الآكلة التي يخشى أن ترعى بقية بدنه ، يجوز قطع العضو المتآكل لسلامة الباقي ، وكذلك يجوز قطع الضلع التي لا خطر في قطعها ، ويجوز التمثيل في البدن بشق البطن أو غيره ؛ للتمكن من علاج (الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 72)
المرض ، ويجوز قلع الضرس ونحوه عند التألم الكثير ، وأمور كثيرة من هذا النوع أبيحت لما يترتب عليها من حصول مصلحة أو دفع مضرة . وأيضا فإن كثيرا من هذه الأمور المسئول عنها ، يترتب عليها المصالح من دون ضرر يحدث ، فما كان كذلك فإن الشارع لا يحرمه ، وقد نبه الله تعالى على هذا الأصل في عدة مواضع من كتابه ، ومنه قوله عن الخمر والميسر : سورة البقرة الآية 219 قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا
فمفهوم الآية : أن ما كانت منافعه ومصالحه أكثر من مفاسده وإثمه ، فإن الله لا يحرمه ولا يمنعه ، وأيضا فإن مهرة الأطباء المعتبرين متى قرروا تقريرا متفقا عليه أنه لا ضرر على المأخوذ من جسده ذلك الجزء ، وعرفنا ما يحصل من ذلك من مصلحة الغير ، كانت مصلحة محضة خالية من المفسدة ، وإن كان كثير من أهل العلم يجوزون ، بل يستحسنون إيثار الإنسان غيره على نفسه بطعام أو شراب هو أحق به منه ، ولو تضمن ذلك تلفه أو مرضه ونحو ذلك ، فكيف بالإيثار بجزء من بدنه لنفع أخيه النفع العظيم من غير خطر تلف ، بل ولا مرض ، وربما كان في ذلك نفع له ، إذا كان المؤثر قريبا أو صديقا خاصا ، أو صاحب حق كبير ، أو أخذ عليه نفعا دنيويا ينفعه ، أو ينفع من بعده .
ويؤيـد هذا أن كثيرا من الفتاوى تتغير بتغير الأزمان والأحوال والتطورات ، وخصوصا الأمور التي ترجع إلى المنافع والمضار .
(الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 73)
ومن المعلوم أن ترقي الطب الحديث له أثره الأكبر في هذه الأمور ، كما هو معلوم مشاهد ، والشارع أخبر بأنه ما من داء إلا وله شفاء ، وأمر بالتداوي خصوصا وعموما ، فإذا تعين الدواء وحصول المنفعة بأخذ جزء من هذا ، ووضعه في الآخر ، من غير ضرر يلحق المأخوذ منه - فهو داخل فيما أباحه الشارع ، وإن كان قبل ذلك ، وقبل ارتقاء الطب فيه ضرر أو خطر ، فيراعى كل وقت بحسبه ؛ ولهذا نجيب عن كلام أهل العلم القائلين : بأن الأصل في أجزاء الآدمي تحريم أخذها ، وتحريم التمثيل بها ، فيقال : هذا يوم كان ذلك خطرا أو ضررا ، أو ربما أدى إلى الهلاك ، وذلك أيضا في الحالة التي ينتهك فيها بدن الآدمي وتنتهك حرمته ، فأما في هذا الوقت ، فالأمران مفقودان : الضرر مفقود ، وانتهاك الحرمة مفقود ، فإن الإنسان قد رضي كل الرضا بذلك ، واختاره مطمئنا مختارا ، لا ضرر عليه ، ولا يسقط شيء من حرمته ، والشارع إنما أمر باحترام الآدمي تشريفا له وتكريما ، والحالة الحاضرة غير الحالة الغابرة .
ونحن إنما أجزنا ذلك إذا كان المتولي طبيبا ماهرا ، وقد وجدت تجارب عديدة للنفع وعدم الضرر ، فبهذا يزول المحذور .
ومما يؤيد ذلك ما قاله غير واحد من أهل العلم ، منهم : شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم : أنه إذا أشكل عليك شيء ، هل هو حلال أم حرام ، أو مأمور به أو منهي عنه ؛ فانظر إلى أسبابه الموجبة وآثاره ونتائجه الحاصلة ، فإذا كانت منافع ومصالح وخيرات وثمراتها طيبة ، كان من قسم المباح أو المأمور به ، وإذا كان بالعكس ، كانت بعكس ذلك .
طبق هذه المسألة على هذا الأصل ، وانظر أسبابها وثمراتها ، تجدها (الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 74)
أسبابا لا محذور فيها ، وثمراتها خير الثمرات .
وإذ قال الأولون : أما ثمراتها - ( غير متيقنة ) فنحن نوافق عليها ، ولا يمكننا إلا الاعتراف بها ، ولكن الأسباب محرمة كما ذكرنا في أن الأصل في أجزاء الآدمي : التحريم ، وأن استعمال الدم استعمال للدواء الخبيث ، فقد أجبنا عن ذلك بأن العلة في تحريـم الأجزاء إقامة حرمة الآدمي ، ودفع الانتهاك الفظيع ، وهذا مفقود هنا .
وأما الدم فليس عنه جواب إلا أن نقول : إن مفسدته تنغمر في مصالحه الكثيرة ، وأيضا ربما ندعي أن هذا الدم الذي ينقل من بدن إلى آخر ليس من جنس الدم الخارج الخبيث المطلوب اجتنابه والبعد عنه ، وإنما هذا الدم هو روح الإنسان وقوته وغذاؤه ، فهو بمنزلة الأجزاء أو دونها ، ولم يخرجه الإنسان رغبة عنه ، وإنما هو إيثار لغيره ، وبذل من قوته لقوة مخيره ، وبهذا يخف خبثه في ذاته ، وتلطفه في آثاره الحميدة ؛ ولهذا حرم الله الدم المسفوح ، وجعله خبيثا ، فيدل ( هذا ) على أن الدماء في اللحم والعروق ، وفي معدنها قبل بروزها ليست محكوما عليها بالتحريم والخبث .
فقال الأولون : هذا من الدم المسفوح ، فإنه لا فرق بين استخراجه بسكين أو إبرة أو غيرها ، أو ينجرح الجسد من نفسه فيخرج الدم ، فكل ذلك دم مسفوح محرم خبيث ، فكيف تجيزونه ، ولا فرق بين سفحه لقتل الإنسان أو الحيوان ، أو سفحه لأكل ، أو سفحه للتداوي به ، فمن فرق بين هذه الأمور فعليه الدليل .
فقال هؤلاء المجيزون : هب أنا عجزنا عن الجواب عن حل الدم المذكور فقد ذكرنا لكـم عن أصول الشريعة ومصالحها ما يدل على إباحة (الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 75)
أخذ جزء من أجزاء الإنسان لإصلاح غيره ، إذا لم يكن فيه ضرر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، سنن أبو داود الأدب (5131) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405). المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا و صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270). مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد .
فعموم هذا يدل على هذه المسألة ، وأن ذلك جائز .
فإذا قلتم : إن هذا في التواد والتراحم والتعاطف ، كما ذكره النبي لا في وصل أعضائه بأعضائه .
قلنا : إذا لم يكن ضرر ، ولأخيه فيه نفع فما الذي يخرجه من هذا ، وهل هذا إلا فرد من أفراده ؛ كما أنه داخل في الإيثار ، وإذا كان من أعظم خصال العبد الحميدة مدافعته عن نفس أخيه وماله ولو حصل عليه ضرر في بدنه أو ماله - فهذه المسألة من باب أولى وأحرى ، وكذلك من فضائله تحصيل مصالح أخيه ، وإن طالت المشقة ، وعظمت الشقة ، فهذه كذلك وأولى .
ونهاية الأمر : أن هذا الضرر غير موجود في هذا الزمن ، فحيث انتقلت الحال إلى ضدها وزال الضرر والخطر ، فلم لا يجوز ؛ ويختلف الحكـم فيه لاختلاف العلة .
ويلاحظ أيضا في هذه الأوقات التسهيل ، ومجاراة الأحوال ، إذا لـم تخالف نصا شرعيا ؛ لأن أكثر الناس لا يستفتون ولا يبالون ، وكثير ممن يستفتي إذا أفتي بخلاف رغبته وهواه تركه ولـم يلتزم .
فالتسهيل عند تكافؤ الأقوال يخفف الشر ، ويوجب أن يتماسك الناس بعض التماسك ؛ لضعف الإيمان وعدم الرغبة في الخير ، كما يلاحظ أيضا أن العرف عند الناس : أن الدين الإسلامي لا يقف حاجزا دون المصالح الخالصة أو الراجحة ، بل يجاري الأحوال والأزمان ويتتبع المنافع (الجزء رقم : 2، الصفحة رقم: 76)
والمصالح الكلية والجزئية ، فإن الملحدين يموهون على الجهال أن الدين الإسلامي لا يصلح لمجاراة الأحوال والتطورات الحديثة ، وهم في ذلك مفترون ، فإن الدين الإسلامي به الصلاح المطلق من كل وجه ، الكـلي والجزئي ، وهو حلال لكل مشكلة خاصة أو عامة ، وغير قاصر من جميع الوجوه . اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء