منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 27 Aug 2010, 02:09 PM
أبو الفضل لقمان الجزائري
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي الــــــعـــزلـــــــــة

بِسْمِ اللهِ الرَّحمْنِ الرَّحِيمِ

إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ، ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) ، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ) .أما بعد:
فإن العُزلة كما هو معروف موجودة منذ عهد الرِّسالات،بَيْد أن الرسل والأنبياء أنفسهم_صلوات الله وسلامه عليهم_لما رأوا تكذيب قومهم لهم ،واستمرارهم على كفرهم، وعدم الانقياد لطاعة ربهم ،اعتزلوهم ومايعبدون من الله عزوجل،فحَاق بقومهم ماكانوا به يستهزؤون،وحل بساحتهم العذاب الهُون.
قال تعالى:" فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا". (مريم:49)
و
قال موسى عليه السلام:"وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ". (الدخان :21)
ولقد جاء في خبر من قبلنا أنهم ترهبنوا، فكانوا يفرون إلى الجبال والصحاري ليخلصوا من الفتنة في دينهم ، فيقطعون أنفسهم عن مخالطة الناس، وعن الزواج والنسل.
ولقد بقيت منها _العزلة_بقايا في شرعنا،وجاءت بها نصوص وآثار،وجاءت بضدها_المخالطة_نصوص أيضا وآثار،فكان أن تنازعهما طرفان من أهل العلم_رحمهم الله_،فبين مستحب لها على المخالطة، وبين مستحب للمخالطة على العزلة.
فذهب إلى اختيار العزلة ، وتفضيلها على المخالطة : سفيان الثوري ، وإبراهيم بن أدهم ، وداود الطائي ، والفضيل بن عياض ، وسليمان الخواص ، ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي ، وبشر الحافي .
أمّا من رفضها وفضل المخالطة فنجد :سعيد بن المسيب ، والشَّعبي ، وابن أبي ليلى ، وهشام بن عروة ، وابن شبرمة ، وشُريح القاضي ، وشريك بن عبد الله ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الله بن المبارك ، ومحمد بن إدريس الشافعي ، وأحمد ابن جنبل ، وجماعة . (1)
وقد احتجَّ هؤلاء بما رواه مسلم وغيره ، من حديث أبي هريرة_رضي الله عنه_ مرفوعًا بلفط : " من ترك الجماعة فمات فميتته جاهلية " .


قال في " الإحياء " (2/222) :
" وهذا ضعيف ـ أي رأي ضعيف وليس الحديث ـ لأن المراد به : الجماعة التي اتفقت آراؤهم على الإمام بعقد البيعة ، فالخروج عليهم بغي ، وذلك مخالفة بالرأي وخروج عليهم ، وذلك محظور لاضطرار الخلق إلى الإمام يجمع رأيهم ، ولا يكون ذلك إلاَّ بالبيعة من الأكثر ، فالمخالفة تشويش مثير للفتنة ، فليس في هذا تعرض للعزلة" اهـ .

وقال ابن حجر في الفتح (11/332):
" فتحمل الأدلة الواردة في الحض على الاجتماع على ما يتعلق بطاعة الأئمة وأمور الدين وعكسها في عكسه وأما الاجتماع والافتراق بالأبدان فمن عرف الاكتفاء بنفسه في حق معاشه ومحافظة دينه فالأولى له الانكفاف عن مخالطة الناس بشرط أن يحافظ على الجماعة والسلام والرد وحقوق المسلمين من العيادة وشهود الجنازة ونحو ذلك . " اهـ

°°°بيان بعض النصوص الشرعية في العزلة°°°


قال جل وعز:" إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا" (الكهف )10.


قال القرطبي في تفسيره(10/312):
هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة وقد خرج النبي صلى الله عليه و سلم فارا بدينه وكذلك أصحاب..... قال العلماء الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب مرة في السواحل والرباط ومرة في البيوت وقد جاء في الخبر : ( إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك ) ولم يخص موضعا من موضع وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزل الشر وأهله بقلبك وعملك وإن كنت بين أظهرهم وقال ابن المبارك في تفسير العزلة : أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت.اهـ


قال ابن كثير في تفسيرها(5/142):
"وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس، أن يفر العبد منهم خوفًا على دينه، كما جاء في الحديث: "يوشك أن يكون خيرُ مال أحدكم غنمًا يتبع بها شغف الجبال ومواقع القَطْر، يفر بدينه من الفتن" ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع."اهـ

قال البخاري في صحيحه في كتاب الفتن _ باب التعرب فى الفتنة _:
حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبى صعصعة عن أبيه عن أبى سعيد الخدرى - رضى الله عنه - أنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم ، يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن ".

قال في الفتح (13/42):
" والخبر دال على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه وقد اختلف السلف في أصل العزلة فقال الجمهور الاختلاط أولى لما فيه من اكتساب الفوائد الدينية للقيام بشعائر الإسلام وتكثير سواد المسلمين وإيصال أنواع الخير إليهم من إعانة وإغاثة وعيادة وغير ذلك.
وقال قوم: العزلة أولى لتحقق السلامة بشرط معرفة ما يتعين وقد مضى طرف من ذلك في باب العزلة من كتاب الرقاق .
قال النووي: المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنه أنه يقع في معصية فان أشكل الأمر فالعزلة أولى .
وقال غيره : يختلف باختلاف الأشخاص فمنهم من يتحتم عليه أحد الأمرين ومنهم من يترجح وليس الكلام فيه بل إذا تساويا فيختلف باختلاف الأحوال فان تعارضا اختلف باختلاف الأوقات فمن يتحتم عليه المخالطة من كانت له قدرة على إزالة المنكر فيجب عليه إما عينا وإما كفاية بحسب الحال والإمكان وممن يترجح من يغلب على ظنه أنه يسلم في نفسه إذا قام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وممن يستوي من يأمن على نفسه ولكنه يتحقق أنه لا يطاع وهذا حيث لا يكون هناك فتنة عامة فان وقعت الفتنة ترجحت العزلة لما ينشأ فيها غالبا من الوقوع في المحذور وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتنة فتعم من ليس من أهلها كما قال تعالى :"واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" ويؤيد التفصيل المذكور حديث أبي سعيد أيضا "خير الناس رجل جاهد بنفسه وماله ورجل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره" وقد تقدم في باب العزلة من كتاب الرقاق حديث أبي هريرة الذي أشرت إليه آنفا فان أوله عند مسلم" خير معاشر الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله الحديث وفيه ورجل في غنيمة" الحديث وكأنه ورد في أي الكسب أطيب فان أخذ على عمومه دل على فضيلة العزلة لمن لا يتأتي له الجهاد في سبيل الله إلا إن يكون قيد بزمان وقوع الفتن والله أعلم" اهـ

وقال البخاري في كتاب الرقاق _ باب العزلة راحة من خلاط السوء _:
حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني عطاء بن يزيد أن أبا سعيد حدثه قال قيل يا رسول الله
وقال محمد بن يوسف حدثنا الأوزاعي حدثنا الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله أي الناس خير ؟ قال :" رجل جاهد بنفسه وماله ورجل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره ".

قال ابن حجر في الفتح(11/332):
" قوله :"ورجل في شعب من الشعاب..." الخ هو محمول على من لا يقدر على الجهاد فيستحب في حقه العزلة ليسلم ويسلم غيره منه والذي يظهر انه محمول على ما بعد عصر النبي صلى الله عليه و سلم ." اهـ

وقال في الفتح أيضا(11/332):
" ولفظه هنا صريح في أن المراد بخيرية العزلة أن تقع في آخر الزمان وأما زمنه صلى الله عليه و سلم فكان الجهاد فيه مطلوبا حتى كان يجب على الأعيان إذا خرج الرسول صلى الله عليه و سلم غازيا أن يخرج معه إلا من كان معذورا وأما من بعده فيختلف ذلك باختلاف الأحوال."اهـ

قال الشيخ العلامة عبد المحسن العباد حفظه الله في شرحه على هذا الحديث في سنن أبي داود :
"وهذه إشارة إلى العزلة، ولكن العزلة إنما تكون عند كثرة الفساد وعدم الفائدة من وراء الخلطة، أما إذا كان يترتب على الخلطة إصلاح وإفادة، فلا شك أنها خير من العزلة."اهـ كلامه

وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى في شرحه للحديث في شرح رياض الصالحين :
"واعلم أن الأفضل هو المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم هذا أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، ولكن أحيانا تحصل أمور تكون العزلة فيها خيرا من الاختلاط بالناس، من ذلك إذا خاف الإنسان على نفسه فتنة مثل أن يكون في بلد يطالب فيها بأن ينحرف عن دينه أو يدعو إلى بدعة أو يرى الفسوق الكثير فيها، أو يخشى على نفسه من الفواحش، فهنا تكون العزلة خيرا له .
ولهذا أمر الإنسان أن يهاجر من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، ومن بلد الفسوق إلى بلد الاستقامة فكذلك إذا تغير الناس والزمان، ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن فهذا هو التقسيم تكون العزلة هي الخير إن كان في الاختلاط شر وفتنة في الدين، وإلا فالأفضل أن الاختلاط هو الخير، يختلط الإنسان مع الناس فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يدعو إلى حق، يبين السنة للناس فهذا خير .
لكن إذا عجز عن الصبر وكثرت الفتن، فالعزلة خير ولو أن يعبد الله على رأس جبل أو في قعر واد."اهـ

وقال البخاري أيضا:
حدثنا أبو نعيم حدثنا الماجشون عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أنه سمعه يقول : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول :" يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ".

قال ابن حجر في الفتح(11/332):
"قوله: "يفر بدينه" أي بسبب دينه."اهـ

وقال ابن رجب في فتح الباري(10/100):
"يعني : يهرب خشية على دينه من الوقوع في الفتن ؛ فإن من خالط الفتن ، وأهل القتال على الملك لم يسلم دينه من الإثم إما بقتل معصوم أو أخذ مال معصوم أو المساعدة على ذلك بقول و نحوه وكذلك لو غلب على الناس من يدعوهم إلى الدخول في كفر أو معصية حسن الفرار منه . وقد مدح الله من فر بدينه خشية الفتنة عليه فقال - حكاية عن أصحاب الكهف _ ( وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ( [ الكهف : 16 ] ..... وفي " الصحيحين " عن حذيفة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر له الفتن فقال له : فما تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك ؟ قال : " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " قال : فإن لم يكن جماعة ولا إمام ؟ قال : " فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ".
وقد اعتزل جماعة من أصحابه في الفتن في البوادي .
وقال الإمام أحمد : إذا كانت الفتنة فلا بأس أن يعتزل الرجل حيث شاء، فأما إذا لم يكن فتنة فالأمصار خير .
فأما سكنى البوادي على وجه العبادة وطلب السياحة والعزلة فمنهي عنه ..... والسياحة على هذا الوجه قد فعلها طوائف ممن ينسب على عبادة واجتهاد بغير علم ، ومنهم من رجع لما عرف ذلك .
وقد كان في زمن ابن مسعود من المتعبدين خرجوا إلى ظاهر الكوفة وبنوا مسجدا يتعبدون فيه ، منهم : عمرو بن هتبة ، ومفضل العجلي، فخرج إليهم ابن مسعود وردهم على الكوفة وهدم مسجدهم وقال : إما أن تكونوا أهدى من أصحاب محمد أو تكونوا متمسكين بذنب الضلالة .اهـ

قال مسلم في صحيحه كتاب الفتن وأشراط الساعة _ باب نزول الفتن كمواقع القطر _ :

حدثنى أبو كامل الجحدرى فضيل بن حسين حدثنا حماد بن زيد حدثنا عثمان الشحام قال انطلقت أنا وفرقد السبخى إلى مسلم بن أبى بكرة وهو فى أرضه فدخلنا عليه فقلنا هل سمعت أباك يحدث فى الفتن حديثا قال نعم سمعت أبا بكرة يحدث قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :"إنها ستكون فتن ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشى فيها والماشى فيها خير من الساعى إليها ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه ". قال فقال رجل يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض قال :"يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاء اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت ". قال فقال رجل يا رسول الله أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بى إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربنى رجل بسيفه أو يجىء سهم فيقتلنى قال :" يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار ".

°°°من فوائد العزلة°°°

الفائدة الأولى :التفرغ للعبادة والفكر والاستئناس بمناجاة الله تعالى عن مناجاة الخلق فإن ذلك يستدعى فراغاً، لا فراغ مع المخالطة، فالعزلة وسيلة إلى ذلك خصوصاً في البداية . قيل لبعض الحكماء : إلى أي شئ أفضى بهم الزهد والخلوة ؟ قال : إلى الأنس بالله . وقال أويس القرني رضى الله عنه : ما كنت أرى أن أحداً يعرف ربه فيأنس بغيره .
واعلم : أن من تيسر له بدوام الذكر الأنس بالله، أو بدوام الفكر تحقيق معرفة الله، فالتجرد لذلك أفضل من كل ما يتعلق بالمخالطة . .
الفائدة الثانية : التخلص بالعزلة عن المعاصي التي يتعرض الإنسان لها غالبًا بالمخالطة ، ويسلم منها في الخلوة ، وهي أربع : الغيبة ، والنميمة ، والرياء ، والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة ، والأعمال الخبيثة التي يوجبها الحرص على الدنيا .
الفائدة الثالثة : الخلاص من الفتن والخصومات وصيانة الدين والنفس عن الخوض فيها والتعرض لأخطارها ، وقلما تخلو البلاد عن تعصبات وفتن وخصومات ، فالمعتزل عنهم في سلامة منها وقد روى ابن عمر رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم ذكر الفتن، ووصفها وقال : " إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم " ، وخفت أماناتهم، فكانوا هكذا " وشبك بين أصابعه، فقلت : ما تأمرني ؟ فقال : " الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف، ما تنكر، وعليك بأمر الخاصة، ودع أمر العامة " . وقد روى غير ذلك من الأحاديث في معناه .
الفائدة الرابعة : الخلاص من شر الناس ، فإنهم يؤذونك مرة بالغيبة، ومرة بالنميمة، ومرة بسوء الظن، ومرة بالتهمة، ومرة بالأطماع الكاذبة، ومن خالط الناس لم ينفك من حاسد وعدو، وغير ذلك من أنواع الشر التي يلقاها الإنسان من معارفه، وفى العزلة خلاص من ذلك، كما قال بعضهم :
عدوك من صديقك مستفاد** فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه ** يكون من الطعام أو الشراب
وقال عمر رضى الله عنه : في العزلة راحة من خلطاء السوء .
وقال إبراهيم بن أدهم : لا تتعرف إلى من لا تعرف، وأنكر من تعرف .
وقال رجل لأخيه : أصحبك إلى الحج ؟ فقال : دعنا نعش فى ستر الله، فإنا نخاف أن يرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه . وهذه فائدة أخرى في العزلة، وهى بقاء الستر على الدين والمروءة وسائر العورات.
بل إنها تعين المرء على عدم حب الاشتهار والظهور بين الناس.
وأنظرللفائدة رسالة ابن رجب الحنبلي رحمه الله:"شرح حديث إن أغبط أوليائي" في مجموع رسائله (2/757).
الفائدة الخامسة:أن ينقطعَ الناسُ عنك ، وينقطع طمعك عن الناس .
الفائدة السادسة : الخلاص من مشاهدة الثقلاء ، والحمقى ، ومقاساة حمقهم وأخلاقهم ، فإن رؤية الثقيل هي العمى الأصغر. (2)

ومما يجدر التنبيه عليه أنه يجب التفريق بين العزلة الشرعية الواردة في النصوص وبين العزلة الواردة عن المبتدعة من المتصوفة وغيرهم فالشرعية تابعة للحاجة وجارية للمصلحة وليست مطلوبة لذاتها، أما العزلة عند الصوفية فهي مطلوبة لذاتها كما سيبينها كلام أهل العلم عليها .

1_العزلة الصوفية وكلام أهل العلم عليها:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى مبينا لها (10/403):
"ومن أهل هذه الخلوات من لهم أذكار معينة وقوت معين ولهم تنزلات معروفة .
وقد بسط الكلام عليها ابن عربي الطائي ومن سلك سبيله كالتلمساني , وهي تنزلات شيطانية قد عرفتها وخبرت ذلك من وجوه متعددة لكن ليس هذا موضع بسطها وإنما المقصود التنبيه على هذا الجنس , ومما يأمرون به الجوع والسهر والصمت مع الخلوة بلا حدود شرعية (3) بل سهر مطلق وجوع مطلق وصمت مطلق مع الخلوة كما ذكر ذلك ابن عربي وغيره وهي تولد لهم أحوالا شيطانية ."اهـ

و قال في مجموع الفتاوى (10/406):
"وهذه الخلوات قد يقصد أصحابها الأماكن التي ليس فيها أذان ولا إقامة ولا مسجد يصلى فيه الصلوات الخمس ؛ إما مساجد مهجورة وإما غير مساجد مثل الكهوف والغيران التي في الجبال ومثل المقابر لا سيما قبر من يحسن به الظن ومثل المواضع التي يقال إن بها أثر نبي أو رجل صالح ولهذا يحصل لهم في هذه المواضع أحوال شيطانية يظنون أنها كرامات رحمانية ."اهـ


قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس(256):
" كان خيار السلف يؤثرون الوحدة والعزلة عن الناس اشتغالا بالعلم والتعبد إلا أن عزلة القوم لم تقطعهم عن جمعة ولا جماعة ولا عيادة مريض ولا شهود جنازة ولا قيام بحق وإنما هي عزلة عن الشر وأهله مخالطة البطالين وقد لبس إبليس على جماعة من المتصوفة فمنهم من أعتزل في جبل كالرهبان يبيت وحده ويصبح وحده ففاتته الجمعة وصلاة الجماعة ومخالطة أهل العلم وعمومهم اعتزل في الأربطة ففاتهم السعي إلى المساجد وتوطنوا على فراش الراحة وتركوا الكسب." اهـ

وسئل شيخ الإسلام عن رجل منقطع في بيته لا يخرج ولا يدخل ويصلي في بيته ولا يشهد الجماعة وإذا خرج إلى الجمعة يخرج مغطى الوجه ثم إنه يخترع العياط من غير سبب وتجتمع عنده الرجال والنساء . فهل يسلم له حاله ؟ أو يجب الإنكار عليه ؟

فأجاب كما في مجموع الفتاوى (11/612):
" هذه الطريقة طريقة بدعية مخالفة للكتاب والسنة ولما أجمع عليه المسلمون . والله تعالى إنما يعبد بما شرع لا يعبد بالبدع . قال الله تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } فإن التعبد بترك الجمعة والجماعة بحيث يرى أن تركهما أفضل من شهودهما مطلقا كفر يجب أن يستتاب صاحبه منه فإن تاب وإلا قتل . فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن لا يعبد بترك الجمعة والجماعة بل يعبد بفعل الجمعة والجماعة ومن جعل الانقطاع عن ذلك دينا لم يكن على دين المسلمين بل يكون من جنس الرهبان الذين يتخلون بالصوامع والديارات والواحد من هؤلاء قد يحصل له بسبب الرياضة أو الشياطين - بتقريبه إليهم أو غير ذلك - نوع كشف وذلك لا يفيده ؛ بل هو كافر بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ."اهـ

2_العزلة الشرعية وأقوال العلماء فيها وقد تقدم ماورد فيها من الأحاديث النبوية:

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (10/404):
" فأما الخلوة والعزلة والانفراد المشروع فهو ما كان مأمورا به أمر إيجاب أو استحباب . ( فالأول ) كاعتزال الأمور المحرمة ومجانبتها كما قال تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } ومنه قوله تعالى عن الخليل : { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا } وقوله عن أهل الكهف : { وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف } فإن أولئك لم يكونوا في مكان فيه جمعة ولا جماعة ولا من يأمر بشرع نبي فلهذا أووا إلى الكهف وقد قال موسى : { وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون } . وأما اعتزال الناس في فضول المباحات وما لا ينفع وذلك بالزهد فيه فهو مستحب وقد قال طاوس : نعم صومعة الرجل بيته يكف فيه بصره وسمعه . وإذا أراد الإنسان تحقيق علم أو عمل فتخلى في بعض الأماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة فهذا حق (4) كما في الصحيحين { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الناس أفضل ؟ قال : رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما سمع هيعة طار إليها يتتبع الموت مظانه ، ورجل معتزل في شعب من الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خير }.اهـ

وقال أيضا في بيانها كما في مجموع الفتاوى(10/425):
" فحقيقة الأمر : أن " الخلطة " تارة تكون واجبة أو مستحبة والشخص الواحد قد يكون مأمورا بالمخالطة تارة وبالانفراد تارة . وجماع ذلك : أن " المخالطة " (5) إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها فالاختلاط بالمسلمين في جنس العبادات : كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين وصلاة الكسوف والاستسقاء ونحو ذلك هو مما أمر الله به ورسوله . وكذلك الاختلاط بهم في الحج وفي غزو الكفار والخوارج المارقين وإن كان أئمة ذلك فجارا وإن كان في تلك الجماعات فجار وكذلك الاجتماع الذي يزداد العبد به إيمانا : إما لانتفاعه به وإما لنفعه له ونحو ذلك . (6) ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه (7) وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه ؛ إما في بيته ، كما قال طاوس : نعم صومعة الرجل بيته يكف فيها بصره ولسانه ، وإما في غير بيته . فاختيار المخالطة مطلقا خطأ واختيار الانفراد مطلقا خطأ .
وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا وما هو الأصلح له في كل حال فهذا يحتاج إلى نظر خاص(8). "اهـ

وقال الشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان في كتابه الفريد المفيد سلاح اليقظان لطرد الشيطان :
" اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن مداواة مرض القلب واجبة وهي تأتي من وجوه كثيرة جدًا نشير إلى بعضها.
أحدها: وهي من أنفعها العزلة المصحوبة بالاشتغال بالعلوم النافعة , فبالعزلة يتقيد الظاهر عن مخالطة من لا تصلح مخالطته ومن لا يأمن دخول الآفات عليه بصحبته , فيتخلص من المعاصي التي يتعرض لها بالمخالطة مثل الغيبة والمداهنة والتملق والرياء والتصنع, ويحصل له بذلك السلامة من مسارقة الطباع الرديئة والأخلاق الدنيئة , ويستفيد بذلك أيضًا صيانة دينه ونفسه عن التعرض للخصومات وأنواع الشرور والفتن , فإن للنفس تولعًا وتسرعًا إلى الخوض في مثل هذا
.
فينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن السؤال عن أخبار الناس وما هم مشغولون فيه وما هم منهمكون فيه ومنكبون عليه من القيل والقال مما لا فائدة فيه وضرره يزيد على نفعه وربما أنه ضرر خالص.
وقال آخر: وإذا هممت بالباطل وما لا فائدة فيه فاجعل مكانه تسبيحًا وتهليلاً (9) .
وينبغي أن يصون سمعه عن الإصغاء إلى أراجيف البلدان وما شملت عليه من الأحوال التي تضر ولا تنفع, وليحرص على أن لا يأتيه من شأنه التطلع والبحث عن شؤونه وأحواله كأصحاب المقابلات والمولعين بأكل لحوم الغوافل , وليجتنب صحبة من لا يتورع في منطقه ولا يضبط لسانه عن الاسترسال في دقائق الغيبة والوقيعة والتعرض بالطعن على الناس والقدح فيهم , فإن ذلك مما يكدر صفاء القلب ويؤدي إلى ارتكاب مساخط الرب , فليهجره وليفر منه فراره من الأسد ولا يتجمع معه في مكان البتة.قال الشاعر:

فَخَفْ أَبْنَاءَ جِنْسِكَ واخْشَ منهم ** كَمَا تَخْشِى الضَّراغِم والسّـَبِنْتَا

وخَــالِطْهُمْ وزَايِلهُمْ حِذَارًا ** وكُنْ كالسَّـــامِري إِذَا لُمـِسْتَا."اهـ كلامه

إلـمـاحـة:

هذاولا يظن ظان أناَّ قد حققنا تلكم المقامات،وأنَّى ذلك في زمن الملهيات والمكدرات،وكيف ذلك ونحن ننهض مرة ونكبوا مرات.
أسير خلف النجب ذا عرج* مؤملا غير ما يقضي به عرجي.
فإذا لحقت بهم من بعد ما سبقوا* فكم لرب السماء في الناس من فرج
وإن ظللت بقفر الأرض منقطعا* فما على أعرج في ذاك من حرج

ولكنها إطلالة على تلك الصفحات النيرات،وقبسة من تلك القبسات،عساها تكون برقا في أرض فلاة، فتهتز الأرض على إثرغيث فتُخرج من كل الثمرات، نسأل الله التعرض لتلك النفحات.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبيه،نبي الرحمات.


جمعه / أبو الفضل لقمان الجزائري
_ عفا الله عنه_

الهــــوامــــش
__________________________________________________ ___________

(1) وانظر : مختصر منهاج القاصدين(ص:109) وموعظة المؤمنين للقاسمي(2/162)و في الإحياء (2/222).

(2) وللمزيد انظر : مختصر منهاج القاصدين (ص 111 ـ 114) ، وموعظة المؤمنين للقاسمي (2/132) ، وتجدها مبينة بأدلتها في كتاب الأمر بالعزلة لابن الوزير (ص 111 ـ وما بعده / ط. دار الصحابة للتراث) والعزلة للخطابي (ص 112) والإحياء !!!.

(3) لذلك نبه العلماء على ضرورة أخذ قسط من العلم الشرعي الواجب تعلمه على المكلف قبل الاعتزال.

فقال الخطابي في كتابه العزلة ص225:
" قال أبو سليمان فالعزلة إنما تنفع العلماء العقلاء وهي من أضر شيء على الجهال وقد روينا عن إبراهيم ، أنه قال لمغيرة : تفقه ثم اعتزل."وانظر الأمر بالعزلة في آخر الزمان ، لابن الوزير (ص 49 وما بعدها.

قال ابن قدامة المقدسي في مختصر منهاج القاصدين:
"فأما من تعلم الفرض ورأى أنه لا يتأتى منه الخوض في العلوم، ورأى الاشتغال بالعبادة، فليعتزل.
وإن كان يقدر على التبرز في علوم الشرع فالعزلة في حقه قبل التعلم غاية الخسران.
ولهذا قال الربيع بن خثيم : تفقه ثم اعتزل، والعلم أصل الدين، ولا خير في عزلة العوام .
سئل بعض العلماء : ما تقول في عزلة الجاهل ؟ فقال : خبال ووبال، فقيل له : فالعالم ؟ فقال : مالك ولها، دعها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها ."اهـ

(4) تأمل قوله رحمه الله" وإذا أراد الإنسان تحقيق علم أو عمل فتخلى في بعض الأماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة فهذا حق." وإليه أشار الشيخ محمد بن هادي المدخلي ، فقال_حفظه الله_: " فالانطواء في تحصيل الفائدة مطلوب:
يَقُولونَ لِيْ فِيْكَ انْقِبَـاضٌ وَإِنَّمـا ** رَأَوا رَجلاً عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا
أَرَى النَّاسَ مَن دَانَاهُمُ هَانَ عِنْدَهمْ ** وَمَـنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا
إذا قِيلَ: هذا مَنْهَلٌ قُلْتُ قَدْ أَرَى ** وَلكِنَّ نَفْسَ الحُـرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَـا
وَمَا كُلُّ بَـرْقٍ لاحَ لي يَسْتَفِزُّنِـي ** ولا كُلُّ مَنْ لاقَيْـتُ أَرْضَاهُ مُنْعِمَا

فلابد من أن تكون الانقباضة التي فيها النفع التي تخرج بعدها فتقعد للناس فتعلمهم، أما إذا ضاع الوقت عليك وما حصلت ما جاءت الانقباضة التي تنتفع فيها، كيف ستنفع؟ هٰذا سؤال لابد من سائله كل عاقل منا لنفسه، فالواجب أن نكون على درجة عالية من الحرص والاجتهاد في التحصيل, ومن هٰذا أقول -معشر الإخوان- إن في هٰذا الوقت نحتاج إلى أن نروض أنفسنا على احتمال المرارة التي قد نحس بها في أول الأمر؛ وهي مرارة الانعزال النافع، الخلطة بقدر، بقدر مقدور، فالاعتزال النافع أو الانعزال النافع الذي ننتفع فيه نحن تحضيرا وحفظا واستذكارا." اهـ كلامه حفظه المولى.(من شريط:الوصايا السلفية لأصحاب العلوم الشرعية).

وقال القاسمي في موعظة المؤمنين(2/164) : " وبالجملة فلا تستحب العزلة إلا لمستغرق الأوقات في علم بحيث لو خالطه الناس لضاعت أوقاته أو كثرت آفاته ." اهـ

وأما عن تحصيل العمل الصالح المقرب إلى الله جل وعز:

فقال ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوئد (3/218):
" المحب يهرب إلى العزلة والخلوة بمحبوبة والتعلق بذكره كهرب الحوت إلى الماء والطفل إلى أمه" .

وأخرج من بين البيوت لعلني ** أحدث عنك النفس بالسر خاليا. "اهـ كلامه

(5) قال العلامة ابن القيم في كتابه البديع بدائع الفوئد (2/274) في بيان قاعدة نافعة فيما يعتصم به العبد من الشيطان ويستدفع به شره ويحترز به منه وأن من أسباب دخول الشيطان على ابن آدم فضول المخالطة: " ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر.
أحدها:
من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر وهم العلماء بالله تعالى وأمره ومكايد عدوه وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولخلقه فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله .
القسم الثاني:
من مخالطته كالدواء يحتاج إليه عند المرض فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته وهم من لا يستغنى عنه مخالطتهم في مصلحة المعاش وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من ,
القسم الثالث:
وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه فمنهم من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت فهي مرض الموت المخوف ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربا عليك فإذا فارقك سكن الألم ومنهم من مخالطته حمى الروح وهو الثقيل البغيض العقل الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها بل إن تكلم فكلامه كالعصي تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به فهو يحدث من فيه كلما تحدث ويظن أنه مسك يطيب به المجلس وإن سكت فأثقل من نصف الرحى العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: "ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر" ورأيت يوما عند شيخنا قدس الله روحه رجلا من هذا الضرب والشيخ يحمله وقد ضعف القوى عن حمله فالتفت إلي وقال: "مجالسة الثقيل حمى الربع ثم قال: لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى فصارت لها عادة" أو كما قال وبالجملة فمخالطة كل مخالف حمى للروح فعرضية ولازمة ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا .
القسم الرابع:
من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم فإن اتفق لأكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء وما أكثر هذا الضرب في الناس لا كثرهم الله وهم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله الداعون إلى خلافها .اهـ كلامه

(6) لذا فقد ذكر العلماء أن للعزلة آفات في الدين والدنيا منها:

1 - التعليم والتعلم ، وهما أعظم العبادات ، والعزلة قبل تعلم العلم المفروض عصيان .
2 - النفع والانتفاع ، لأن كلاٌّ منهما بالمخالطة .
3 - التأديب والتأدب ، بقهر الشهوات ، وهو أفضل من العزلة لمن لم تتهذب بعد أخلاقه .
4 - الاستئناس والإيناس ، وذلك قد يكون حرامًا ، كمجالس الغيبة واللهو وقد يكون مباحًا في الدين ، كمجالسة المشايخ ، وأهل العلم .
5 - في نيل الثواب وإنالته ، وذلك بحضور الصلوات الخمس في جماعة ، وصلاة العيدين ، وعيادة المريض ، وحضرو الجنائز ، وغيرها ، وهذا لا يأتي إلاَّ بالمخالطة .وانظرللمزيد مختصر منهاج القاصدين(ص:114) وموعظة المؤمنين للقاسمي(2/162) والموافقات (2/284)و(3/95) _ تحقيق مشهور _ وغيرها.

(7)وقال الشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان في كتابه موارد الظمآن لدروس الزمان في الجزء الأول منه : وذكر العلماء أن صلاح القلب في أمور منها :_مجالسة الصالحين _العزلة عن أهل الجهل والسفه ومن فرطت أعمارهم."اهـ

(8) قال ابن قدامة المقدسي في هذا المعنى في كتابه مختصر منهاج القاصدين:
" اعلم : أن اختلاف الناس في هذا أيضاً هو كاختلافهم في فضيلة النكاح والعزوبة، وقد ذكرنا أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص."اهـ

وقال الملا علي القاري في مرقاة المفاتيح (4/743):
" والمختار هو التوسط بين الغزلة عن أكثر الناس وعوامهم , والخلطة بالصالحين والإجتماع مع عامتهم في نحو جمعهم وجماعاتهم."اهـ
وانظر مدارج السالكين لابن القيم (2/3554) _ منزلة البسط والتخلي عن القبض _

وقال ابن حجر في الفتح (11/332):
"والمطلوب إنما هو ترك فضول الصحبة لما في ذلك من شغل البال وتضييع الوقت عن المهمات ويجعل الاجتماع بمنزلة الاحتياج إلى الغداء والعشاء فيقتصر منه على ما لا بد له منه فهو أروح للبدن والقلب والله أعلم."اهـ

وقال الخطابي في كتاب العزلة (11_12):
" ولسنا نريد ، رحمك الله ، بهذه العزلة التي نختارها مفارقة الناس في الجماعات والجمعات وترك حقوقهم في العبادات وإفشاء السلام ورد التحيات وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم ووضائع السنن والعادات المستحسنة فيما بينهم فإنها مستثناة بشرائطها جارية على سبلها ما لم يحل دونها حائل شغل ولا يمنع عنها مانع عذر .
إنما نريد بالعزلة ترك فضول الصحبة ونبذ الزيادة منها وحط العلاوة التي لا حاجة بك."اهـ

وقال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين_ رحمه الله تعالى_:
"ولكن لا يعني ذلك أن الإنسان إذا أعطاه الله علما أن يتقوقع في بيته ولا يعلم الناس، هذا يعارض التقي فتعليمه الناس خير من كونه يقبع في بيته ولا ينفع أحدا بعلمه أو يقعد في بيته ولا ينفع الناس بماله .
لكن إذا دار الأمر بين أن يلمع نفسه ويظهر نفسه ويبين نفسه، وبين أن يخفيها، فحينئذ يختار الخفاء، أما إذا كان لابد من إظهار نفسه فلابد أن يظهرها وذلك عن طريق نشر علمه في الناس وإقامة دروس العلم وحلقاته في كل مكان، وكذلك عن طريق الخطابة في يوم الجمعة والعيد وغير ذلك، فهذا مما يحبه الله عز وجل . "اهـ

قال الشيخ العلامة عبد المحسن العباد _حفظه الله_ في شرحه على سنن أبي داود:
"والمخالطة مع النفع خير من العزلة، وإذا كانت المخالطة فيها ضرر ولا يترتب من ورائها نفع فالعزلة أفضل. فالعزلة تكون أفضل باعتبار والمخالطة تكون أفضل باعتبار آخر، فالذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم وينفعهم خير من الذي يعتزلهم ولا يفيدهم شيئاً؛ ولكن إذا لم يحصل منه نفع، لعلة لا تمكنه من النفع، أو كانت الخلطة تؤدي إلى ضرر؛ فعند ذلك تكون العزلة خيراً له."اهـ
وقال عبد الكريم الخضير _ حفظه الله _في أحد دروسه:
" العزلة والخلطة جاءت النصوص بهذا وهذا، النصوص الصحيحة جاءت بالخلطة مخالطة الناس، ونفع الناس، والصبر على آذاهم، وشرعت الجمع والجماعات والأعياد والحج، كل هذا من أجل الخلطة وهي الأصل؛ لكن إذا خشي الإنسان على دينه؛ فالسلامة لا يعدلها شيء، ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، يفر بدينه من الفتن)) فبعض الناس المتجه في حقه المخالطة، وبعض الناس المتجه في حقه العزلة، والشراح من القرن الثامن، وهم يقولون: والمتعين في هذه الأزمان العزلة! لاستحالة خلو المحافل من الجرائم والمعاصي، يعني مجتمعات الناس ما تسلم فكيف بهم لو رأوا زمننا هذا؟!" اهـ

(9) وفي هذا المعنى يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه الوابل الصيب(ص:111):
" إن في الاشتغال بالذكر اشتغالا عن الكلام الباطل من الغيبة واللغو ومدح الناس وذمهم وغير ذلك فإن الإنسان لا يسكت البتة : فإما لسان ذاكر وإما لسان لاغ ولا بد من أحدهما فهي النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل وهو القلب إن لم تسكنه محبة الله عز و جل سكنه محبة المخلوقين ولا بد وهو اللسان إن لم تشغله بالذكر شغلك باللغو وما هو عليك ولا بد فاختر لنفسك إحدى الخطتين وأنزلهها في إحدى المنزلتين ."اهـ

التعديل الأخير تم بواسطة أبو الفضل لقمان الجزائري ; 09 Nov 2010 الساعة 10:57 PM
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 27 Aug 2010, 03:23 PM
هشام بن حسن هشام بن حسن غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: الجزائر العاصمة
المشاركات: 270
إرسال رسالة عبر MSN إلى هشام بن حسن إرسال رسالة عبر Skype إلى هشام بن حسن
افتراضي

جزاك الله خيرا أبا الفضل على هذا الجمع الموفق ، وأضيف ههنا حديثا نبويا له علاقة وطيدة بموضوعك ( وإن كان الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله قد ضمّنه كلامه ) وهو ما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة 2/614 برقم 939 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " ، وخلاصة الأمر أن الخلطة أفضل من العزلة ، ولكن مع الخلطة يجب اعتزال مواطن الشر وأصحابه ، والله تعالى أعلم .
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 11 Sep 2010, 06:34 PM
أبو الفضل لقمان الجزائري
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي تتمة

تـتـــمـة:

هذا ولم تخل كتب السنة ودواوين الإسلام من ذكر باب العزلة فهاهو الإمام البخاري أورد في صحيحه (باب العزلة راحة من خلطاء السوء) وقد مضى الحديث أعلاه.
و كذا ابن ماجة فقد بوب في سننه في كتاب الفتن (باب العزلة).
واعتنى بهذا الموضوع من صنف في الزهد كهناد بن السري في كتابه"الزهد" وكذا نعيم بن حماد في "زياداته على زهد ابن المبارك" و البيهقي في كتابه "الزهد الكبير" فأوردوا مبحث العزلة فيها.
كذا اعتنت به كتب الأدب والترغيب والترهيب والرقائق ككتاب "الآداب" للبيهقي و"روضة العقلاء" لابن حبان و"الترغيب والترهيب" للمنذري,عقدوا فصولا فيها يعرفها من طالعها.
ولم يقتصر العلماء في بحث هذا الموضوع على هذا النحو بل اعتنوا به عناية دقيقة وأوضح ما تجلت فيه إفرادهم التصانيف لهذا الموضوع وكان من هؤلاء:

·ابن أبي الدنيا الذي اسماه "العزلة" _ مطبوع بدار الوطن _محققا.
·أبو بكر الآجري في كتابه "التفرد والعزلة" ذكره العلماء له كابن خير في فهرسته.
·أبو سليمان الخطابي البستي في كتابه "العزلة" _ مطبوع في مكتبة ابن كثير _ محققا.
·أبو علي الحسن بن أحمد البغدادي في "الرسالة المغنية في السكوت ولزوم البيت"_ مطبوع بدار العاصمة (الرياض) _ محققا.
·أبو سعد عبد الكريم السمعاني في" عز العزلة".
·أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "العزلة".
·محمد بن إبراهيم الوزير في "الأمر بالعزلة آخر الزمان" _ مطبوع بدار ابن القيم _ محققا.

والله أعلم

التعديل الأخير تم بواسطة أبو الفضل لقمان الجزائري ; 11 Sep 2010 الساعة 06:45 PM
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 09 Nov 2010, 10:41 PM
أبو الفضل لقمان الجزائري
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو الفضل لقمان الجزائري مشاهدة المشاركة
أسير خلف النجب ذا عرج* مؤملا غير ما يقضي به عرجي.
فإذا لحقت بهم من بعد ما سبقوا* فكم لرب السماء في الناس من فرج
وإن ظللت بقفر الأرض منقطعا* فما على أعرج في ذاك من حرج.
قد أخرج أحمد ( 5 / 211 ، 212 ) عن الأشعث بن قيس.
وكذا أخرج الحديث البخاري في " الأدب المفرد " ( 33 ) و أبو داود ( 2 / 290 ) و ابن حبان ( 2070 ) و الطيالسي ( ص 326 رقم 2491 ) و أحمد ( 2 / 295 ، 302 ، 388 ، 492 ) عن أبي هريرة مرفوعا " لا يشكر الله من لا يشكر الناس ". والحديث صححه علامة الشام في صحيحته (416).
وبعد , فقد نبهني أخي الكريم أبو أحمد ضياءُ الدينِ التِبِسِي خلال زيارة زارنيها على سهو وقع مني في هذه الأبيات وصوبها جزاه الله خيرا من كتاب الشيخ عبد الرزاق البدر "فقه الأسماء الحسنى":
"أسيرِ خلف رِكابِ النُجُبِ ذا عرجٍ * مُؤَمِلاً غير ما يقضي به عرجي"
فجزاه الله عني خيرا وبارك له في علمه وعمله ووفقه لكل خير.



التعديل الأخير تم بواسطة أبو الفضل لقمان الجزائري ; 10 Nov 2010 الساعة 12:59 AM
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
العزلة

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013