"منهج الدّعوة والإصلاح من قول الله جلّ وعلا { وداعيا إلى الله بإذنه }" للشّيخ حسن آيت علجت الجزائري.
السّلام عليكم و رحمة الله و بركاته
منهج الدّعوة و الإصلاح
من قول الله جلّ و علا : { و داعيا إلى الله بإذنه }
للشّيخ الفاضل :
حسن آيت علجت الجزائري
- حفظه الله و رعاه -
إنّ الدّعوة إلى الله تعالى طريق الرّسل و أتباعهم ، كما قال الله تعالى : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة انا و من اتّبعني و سبحان الله ما أنا من المشركين } ( يونس : 108 ) ، كما أنّها أحسن الأقوال و الأحوال التي يكون عليها المؤمن ، إذ قال سبحانه : { ومن أحسن قولا ممّن دعا إلى الله و عمل صالحا و قال إنّني من المسلمين } ( فصلت : 33 ).ومن الآيات التي تناولت هذا الموضوع ذا الأهميّة البالغة ، قول الله عزّ و جلّ في سورة الأحزاب : { يا أيّها النّبيّ إنّا أرسلناك شاهدا و مبشّرا و نذيرا و داعيا إلى الله بإذنه و سراجا منيرا } ( الأحزاب : 45 – 46 ).
و سنقتصر على جزء من هذه الآية الثّانية و هو قوله تعالى : { و داعيا إلى الله بإذنه } ، هذه الجملة التي تضمنت المنهج الذي ينبغي أن يسلكه الدّاعي ، في دعوته إلى الله تعالى .
فإلى تفسير هذه الجملة :
أوّلا – قوله تعالى : { و داعيا إلى الله } :
لأهل التّفسير ثلاثة أقوال في معناها ، ذكرها الماوردي في تفسيره ( 3 / 383 ) ، و مؤدّاها كلّها واحد و هو إخلاص الدّين لله تعالى :
فالأول : قول ابن عباس رضي الله عنه : " إلى شهادة أن لا إله إلا الله " ، و هي كلمة الإخلاص ، كما جاء في حديث عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه مرفوعا : " أصبحنا على فطرة الإسلام ، و كلمة الإخلاص ، ودين نبينا محمد صلى الله عليه و سلم ، وملّة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما و ما كان من المشركين " (1).
و الثّاني : قول ابن عيسى : " إلى طاعة الله " ، و أصلها ما أمر به من إخلاص ، كما قال سبحانه : { و ما أمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدّين حنفاء } ( النساء : 05 ) ، و قال : { قل إنّي أمرت أن أعبد الله مخلصين له الدّين } ( الزمر : 11 ).
و الثّالث : قول النّقاش : " إلى الإسلام " ، و فيه معنى السّلامة التي هي الإخلاص ، قال أهل اللغة (2) : سلم لي الشّيء الفلاني ، أي : خلص لي ، و من ذلك قوله تعالى : { و رجلا سلما لرجل } ( الزمر : 29 ) ، أي عبدا خالصا لسيّده ، و في هذا جاء قول الله تعالى : { ومن أحسن دينا ممّن أسلم وجهه لله } ( النساء : 125 ) أي : أخلص العمل لله وحده لا شريك له ، كما قال ابن كثير في " تفسيره " ( 1 / 385 ).
و هذا الإخلاص ينبغي أن يتحقق من جهتين : من جهة الدّاعي نفسه ، ومن جهة الأمر المدعو إليه.
أما من جهة الدّاعي : فبأن يكون المقصود من دعوته تقريب النّاس إلى ربّهم عز و جل ، ابتغاء وجه الله تعالى ، لا يريد بذلك منهم جزاءا و لا شكورا.
و يخل بهذا الإخلاص أمران : حب الرياسة ، و حب المال ، و قد جمع بينهما رسول الله صلى الله عليه و سلم في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه مرفوعا : " ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم ، بأفسد لها ، من حرص المرء على المال و الشرف لدينه " (3) ، و في رواية أبي هريرة : " ما ذئبان ضاريان جائعان باتا في زريبة غنم أغفلها أهلها ، يفترسان و يأكلان ، بأسرع فيها فسادا من حبّ المال و الشّرف في دين المرء المسلم " (4) ، كما جمع الله بينهما في قوله : { ما أغنى عنّي مالية هلك عنّي سلطانيه } ( القلم : 28 – 29 ) ، و ذكر سبحانه مثالين لمن ابتلي بهاتين الفتنتين في سورة القصص :
أما الأوّل : فهو فرعون المفتون بحبّ الرّياسة ، قال الله تعالى : { إنّ فرعون علا في الأرض و جعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم و يستحيي نساءهم إنّه كان من المفسدين } ( القصص : 04 ).
أما الثّاني : فهو قارون المفتون بحبّ المال ، قال تعالى : { إنّ قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم و آتيناه من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولى القوّة } ( القصص : 76 ).
فالفتنة الأولى : هي حبّ الشّرف و الرّياسة : وهي الشّهوة الخفيّة التي حذّر منها رسول الله صلى الله عليه و سلم كما في حديث عبد الله بن زيد المازني رضي الله عنه مرفوعا : " إنّ أخوف ما أخاف عليكم : الرّياء ، و الشّهوة الخفيّة " (5) ، قال الإمام أبو داود السّجستانيّ فيما رواه عنه الخطيب في تاريخه ( 4 / 115 ) : " الشّهوة الخفيّة : حبّ الرّياسة ".
وتجد المُبتلى بهذا الأمر يدعو إلى نفسه و تعظيمها ، كما نبه على هذا الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب في " كتاب التّوحيد " ، فقال في معرض ذكر مسائل باب : ( الدّعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله ) : " الثّانية : التّنبيه على الإخلاص ، لأنّ كثيرا من النّاس لو دعا إلى الحقّ ، فهو يدعو إلى نفسه ".
و نبّه على هذا أيضا العلاّمة عبد الرّحمن السّعدي في " تفسيره " ( ص 667 ) فقال : إنّ كونه { و داعيا إلى الله } يستلزم إخلاص الدّعوة إلى الله ، لا إلى نفسه و تعظيمها ، كما قد يعرض ذلك لكثير من النّفوس في هذا المقام .
و سبب هذا المرض أمر آخر مهلك و هو : العجب ، كما جاء في الحديث المرويّ عن جماعة من الصّحابة من طرق يشدّ بعضها بعضا أنّ النّبيّ صلى الله عليه و سلم قال : " ثلاث مهلكات : شحّ مطاع ، و هوى متّبع ، و إعجاب المرء بنفسه " (6).
ومن العلامات الدّالة على وجود هذه الآفة في الدّاعي أمور منها :
كثرة الكلام عن نفسه على وجه المباهاة و التّعاظم لغير حاجة تقتضيه ، و ذلك سواء بذكر فضائله و أفضاله على الدّعوة ، أو بذكر من عرف من الشّيوخ ، و جالس من العلماء ، وما له من التّزكيات و الإجازات.
نعم ! قد يكون ذلك سائغا إذا احتاج المدرّس أو المعلّم إلى ذلك ليطمئنّ الطالب ، و ليوثّق العلم الذي عنده بذكر أصله و مصدره ، أما الإكثار من ذلك و التّباهي به ، فمناف للإخلاص ألبتّة ، و لله درّ الإمام الشّافعي القائل : " وددت أنّ كلّ علم أعلمه ، يتعلّمه النّاس : أؤجر عليه و لا يحمدونني " ، و القائل : " وددت أنّ النّاس تعلّموا هذه الكتب ، و لا ينسب إليّ منها شيء " رواهما عنه ابن عساكر في " تاريخه " ( 51 / 365 ).
ومنها : إرادة كون قوله هو المقبول حقّا كان أو باطلا : و ذلك على طريقة : " عنز و لو طارت !" بخلاف الذي يدعو إلى الله فإنه لا يريد إلاّ أن يقوم دين الله تعالى ، كما أفاده الشّيخ ابن عثيمين في " القول المفيد " ( 1 / 139).
ومنها : طلب عيوب أقرانه و إخوانه ، و الطّعن فيهم بالباطل ، لينفرد بالزّعامة و الرّياسة ، كما ذكر ابن مفلح في " الآداب الشّرعيّة " ( 2 / 341 ) عن أبي بكر الخلاّل أنّه قال : " بلغني أنّ أحمد ( ابن حنبل ) قال لسفيان ( ابن عيينة ) : حبّ الرّياسة أعجب على الرّجل من الذّهب و الفضّة ، ومن أحبّ الرّياسة طلب عيوب النّاس ".
وفي الجملة فإنّ المبتلى بحبّ الرّياسة يطغى عليه قول : أنا ، و نحن ، و عندي ، ولي ، وهذا ممّا حذّر منه الإمام ابن القيّم فقال في " زاد المعاد " ( 2 / 428 ) : " و ليحذر كلّ الحذر من طغيان : " أنا " ، و " لي " ، و " عندي " ، فإنّ هذه الألفاظ الثّلاثة ابتلي بها إبليس ، و فرعون ، و قارون : ف { أنا خير منه } ( ص : 76 ) لإبليس ، و{ لي ملك مصر } ( الزخرف : 52 ) لفرعون ، و { قال إنّما أوتيته على علم عندي } ( القصص : 78 ) لقارون . و أحسن ما وضعت " أنا " في قول العبد : أنا العبد المذنب ، و المخطىء ، المستغفر ، المعترف ، و نحوه ، و " لي " في قوله : لي الذّنب ، و لي الجرم ، و لي المسكنة ، و لي الفقر ، و " عندي " في قوله : " اغفر لي جدّي و هزلي ، و خطئي و عمدي ، و كل ذلك عندي (7) "" اه.
و قد قيل في هذا المعنى شعر :
أربعةٌ مفسدةٌ للعبد **** نحن و لي و أنا و عندي
و لا سبيل إلى التّخلص من هذا المرض العضال إلا بسلوك سبيل الانبياء ، و كبار أولياء الله تعالى من الصّحابة و من سار على هديهم ، و ذلك بالإزراء على النّفس و كبح جماحها.
ومن درر ابن القيّم ما ذكره في معرض الكلام عن تبرئة الله تعالى لأمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها من قول أهل الإفك ، و ذلك في كتابه " جلاء الأفهام " ( 239 – 240 ) فقال : " و تأمّل هذا التّشريف و الإكرام النّاشىء عن فرط تواضعها و استصغارها لنفسها حيث قالت : " و لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلّم الله في بوحي يتلى ، و لكن كنت أرجو أن برى رسول الله رؤيا يبرّئني الله بها " (8). فهذه صدّيقة الأمّة ، و أمّ المؤمنين ، وحبّ رسول الله ، و هي تعلم أنّها بريئة ، مظلومة ، و أن قاذفيها ظالمون لها ، مفترون عليها ، قد بلغ أذاهم إلى أبويها ، و إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و هذا كان احتقارها لنفسها ، و تصغيرها لشأنها ، فما ظنّك بمن صام يوما أو يومين ، أو شهرا أو شهرين ، و قام ليلة أو ليلتين ..." إلى أن قال : " و ينبغي للعبد أن يستعيذ بالله أن يكون عند نفسه عظيما و هو عند الله حقير " اه.
و الفتنة الثّانية هي حبّ المال : و ذلك أن يكون في الدّاعي نوع من طلب الأجر على دعوته ، فإنّ هذا من قبيل أكل الدّنيا بالدّين ، بل الواجب أن تكون له أسوة في رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي لم يسأل على تبليغ رسالة ربّه أجرا ألبتة ، بل أجره على الله ، كما قال الله تعالى : { قل ما أسألكم عليه من أجر و ما أنا من المتكلّفين } ( ص : 86 ) ، و قال : { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله } ( سبأ : 47 ) ، بل هذا هو ديدن سائر المرسلين ، فقد تكرّر في سورة الشّعراء قوله تعالى حكاية عن جملة منهم : { وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على ربّ العالمين } ( الشعراء : 109 ).
وقد ذكر ابن القيّم علاجا نافعا لهذين الدّائين الدّويّين المهلكين في كتابه " الفوائد " ( ص 149 ) فقال : " لا يجتمع الإخلاص – في القلب – و محبّة المدح و الثّناء ، و الطّمع فيما عند النّاس ، إلّا كما يجتمع الماء و النّار ، و الضّبّ و الحوت ! فإذا حدّثتك نفسك بطلب الإخلاص : فأقبل على الطّمع – أوّلا – فاذبحه بسكّين اليأس ، و أقبل عل المدح و الثّناء فازهد فيهما زهد عشّاق الدّنيا في الآخرة ، فإذا استقام لك ذبح الطّمع ، و الزّهد في الثّناء و المدح : سهل عليك الإخلاص ، فإن قلتَ : و ما الذي يسهل عليّ ذبح الطّمع ، و الزّهد في الثّناء و المدح ؟ قلت : أما ذبح الطّمع ، فيسهله عليك : علمك يقينا أنّه ليس من شيء يطمع فيه إلاّ و بيد الله وحده خزائنه ، ولا يملكها غيره ، و لا يؤتي العبد منها شيئا سواه ، و أمّا الزّهد في الثّناء و المدح ، فيسهله عليك : علمك أنّه ليس أحدٌ ينفع مدحه و يزين ، و يضرّ ذمّه و يشين ، إلا الله وحده ، كما قال ذلك الأعرابيّ للنبيّ صلى الله عليه و سلم : " إنّ مدحي زين ، وذمّي شين " فقال صلى الله عليه و سلم : " ذلك الله عزّ و جلّ ! " ، فازهد في مدح من لا يزينك مدحه ، وفي ذمّ من لا يشينك ذمّه ، وارغب في مدح من كلّ الزّين في مدحه ، و كلّ الشّين في ذمّه ، و لن يقدر على ذلك إلاّ بالصّبر و اليقين ، فمتى فقدت الصّبر و اليقين ، كنت كمن أراد السّفر في البحر في غير مركب ، قال تعالى : { فاصبر إنّ وعد الله حقّ و لا يستخفنّك الذين لا يوقنون } ( الروم : 60 ) ، و قال تعالى : { وجعلنا منهم أئمّة يهدون بأمرنا لمّا صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون } ( السجدة : 24 ) " اه.
و أمّا من جهة الأمر المدعو إليه : فإنّ أوّل شيء ، و أعظم شيء يتعيّن على الدّاعي أن يدعو إليه هو : إخلاص الدّين لله ، و إفراده بالعبادة ، و هذا هو توحيد القصد و الطّلب الذي هو توحيد العبادة ، أو توحيد الألوهيّة ، و هذا هو حق الله على العباد كما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه في " الصّحيحين " مرفوعا : " حقّ الله على العباد أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا " ، و هو الأمر الذي بعث الله به جميع أنبيائه و رسله ، كما قال عزّ من قائل : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلاّ نوحي إليه أنّه لا إله إلّا أنا فاعبدون } ( الأنبياء : 25) ، و به – أيضا – بدأ الأنبياء دعوة أقوامهم ، كما ذكر الله عنهم في غير ما موضع من كتابه الكريم قولهم : { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } ( المؤمنون : 23 ) ، و في " الصّحيحين " عن ابن عباس رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم لمّا بعث معاذا إلى اليمن ، قال : " إنّك تأتي قوما من أهل الكتاب ، فليكن أوّل ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ( و في رواية : إلى أن يوحّدوا الله ) ".
ثانيا – قوله تعالى : { بإذنه } : ممّا ينبغي أن يعلم أنّ الإذن في كتاب الله نوعان : كونيّ ، و شرعيّ .
فالإذن الكونيّ : هو بمعنى المشيئة و الخلق ، ومنه قوله تعالى في السّحر : { وما هم بضارّين به من أحد إلاّ بإذن الله }( البقرة : 102) فإنّ ذلك بمشيئة الله و قدرته ، و إلاّ فهو لم يبح السّحر ، و قوله جلّ و علا : { و ما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله }( آل عمران : 166 ) فالذي أصابهم من القتل و الجراح و الهزيمة ، كان بمشيئته ، و إن كان لا يحبّه و لا يرضاه.
و الإذن الشّرعيّ : وهو بمعنى الإباحة و الجواز أو المحبّة و الرّضا ، و من ذلك قوله تعالى : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله } ( الحشر : 05 ) فإنّ هذا يتضمّن إباحته لذلك ، و قوله : { من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه } ( البقرة : 255 ) و يتضمّن رضاه عن الشّافع و المشفوع له ، و قوله : { وما أرسلنا من رسول إلاّ ليطاع بإذن الله } ( النساء : 64 ) فهو سبحانه يحبّ أن يطاع رسله و يرضى بذلك ، و من ذلك أيضا هذه الآية و هي قوله تعالى : { وداعيا إلى الله بإذنه } (10).
و قد ذكر المفسّرون ثلاثة أقوال لهذه اللّفظة ذكرها الماورديّ في تفسيره ( 3 / 373 ) و مردّها كلّها إلى أمر واحد أيضا وهو : بما شرعه الله تعالى له ، أي : إذنه الشّرعي كما تقدم :
فالأوّل قول ابن عباس رضي الله عنه : " بأمره " ، و هو ما أمره الله به ، و شرعه له.
و الثّاني قول الحسن البصري : " بعلمه " ، و هو ما أنزله الله تعالى عليه من العلم.
الثّالث قول يحيى بن سلام : " بالقرآن " ، و هو أصل العلم الإلهي الذي جاء به الرّسول صلّى الله عليه و سلّم.
فيتقرّر من هذا أنّ الرّسول صلى الله عليه و سلم داع إلى الله ، بإذن الله ، لا من تلقاء نفسه ، بل بما أنزله الله عليه من العلم و الهدى و الكتاب المنير ، خلاف الذين ذمّهم الله تعالى و هم صنفان (11) : صنف ابتدعوا في دين الله ، وهم المذكورون في قوله تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدّين ما لم يأذن به الله } ( الشورى : 27 ) ، و الصّنف الثّاني حرّموا ما أحلّ الله ، و هم المذكورون في قوله تعالى : { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما و حلالا قل آ الله أذن لكم أم على الله تفترون } ( يونس : 59 ) ، ومن هذا استنبط العلماء قاعدة أصوليّة عظيمة و هي : " الأصل في العبادات الحظر ، و الأصل في العادات الإباحة ".
و عليه فإن لفظة : " بإذنه " تضمّنت توجيها للدّاعي بأن يحقّق في دعوته توحيد المتابعة للرّسول صلّى الله عليه و سلّم ، و ذلك من جهتين : من جهة و سائل دعوته ، ومن جهة مقاصدها :
أمّا من جهة الوسائل : فيتعيّن على الدّاعي أن يراعي في وسائل دعوته أن تكون مأذونا بها من الشّارع ، سواءا إذن تنصيص أو بدخولها تحت قاعدة عامّة كالمباح.
و أمّا من جهة المقاصد : فينبغي على الدّاعي أن يحرص على دعوة النّاس إلى اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه و سلم باطنا و ظاهرا ، وذلك بنشر ما صحّ من سنّته ، و دعوة النّاس للتّحاكم إليها ، و أن تترك أقوال الرّجال لها ، و على النّهي عمّا يضادّ هذا الأصل و هو : البدع و الأهواء ، و التّحذير منها ، و هو من تمام توحيد متابعة الرّسول صلى الله عليه و سلم ، لأنّه ما ابتدعت بدعة إلاّ رفع مثلها من السّنّة.
فتبيّن حينئذ أنّ قوله تعالى : { و داعيا إلى الله بإذنه } يتضمّن توجيها للدّاعي أن تكون دعوته مؤسّسة على الأمر بشيئين هما : توحيد الإخلاص ، و توحيد المتابعة ، و التّحذير من ضدّيهما و هما : الشّرك ، و البدعة ، و هما الأمران اللّذان قال فيهما العلاّمة ابن أبي العزّ في " شرحه للطّحاويّة " ( 1 / 447 ) : " فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلاّ بهما : توحيد المرسل ، و توحيد متابعة الرّسول ".
و الله تعالى أعلم.
الحواشي :
(1) صحيح : رواه أحمد و غيره . " الصحيحة " ( 2989 ).
(2) أنظر : " لسان العرب " لابن منظور ( باب : سلم و باب : شكس ).
(3) صحيح : رواه الترمذي و ابن حبان . " صحيح الترغيب " ( 1710 ).
(4) صحيح : رواه الطبراني و غيره . " صحيح الترغيب " ( 3251 ).
(5) حسن : رواه الطبراني و أبو نعيم. " الصحيحة " ( 508 ).
(6) حسن : رواه البزار و البيهقي و غيرهما . " الصحيحة " ( 1802 ).
(7) جزء من حديث متفق عليه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(8) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.
(9) صحيح : انظر " صحيح سنن الترمذي " ( 3267 ).
(10) انظر " فتاوى ابن تيمية " ( 11 / 267 ) و ( 14 / 383 ).
(11) انظر " فتاوى ابن تيمية " ( 15 / 161 ).
انظر مجلة الإصلاح السلفية ( العدد الثاني ) ربيع الأول / ربيع الثاني 1428ه ص ( 34 - 40 ).
التعديل الأخير تم بواسطة أبو نعيم إحسان ; 17 Feb 2010 الساعة 12:12 PM
|