عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 01 Mar 2010, 10:03 AM
أبو إبراهيم خليل الجزائري أبو إبراهيم خليل الجزائري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 379
افتراضي


( تابع )

الفصل الخامس :

أسباب الوقوع في الفتن :




إن أسباب الوقوع في الفتن كثيرة متنوعة؛ منها ما يرجع إلى ذات الفتنة، ومنها ما يرجع إلى الظروف المحيطة بها، ومنها ما يرجع إلى المكلف نفسه، فمن أسباب الوقوع في الفتن:

1- كيد الكائدين على اختلاف أصنافهم؛ من يهود، ونصارى، ومنافقين، ومرجفين، وأهل أهواء وغيرهم.

ومعلوم أن أهل الباطل يبغون للحق وأهله الغوائل، ويكيدون لهم ظاهراً وباطناً بالطعن في الدين، والتشكيك، وبث الشبهات، والدعايات المضللة، ليفتنوا المسلمين عن دينهم، ويزينوا لهم الباطل في أعينهم، فهم أعوان إبليس الذي يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير قال تعالى: ﴿ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم﴾ وقال: ﴿ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم﴾ وقال سبحانه: ﴿وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون﴾ وقال تعالى: ﴿وقالت طائفة من أهل الكتاب أمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم...﴾ الآية.

وقال سبحانه: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيبتغون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله...﴾ الآية.

وقال تعالى: ﴿ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين﴾.


2- الجهل: والجهل آفة عظيمة، وظلمات حالكة، وهو مع الظلم أصل كل شر كما قال تعالى: ﴿وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً﴾. فالجهل داء عضال، يجعل صاحبه يهيم في أودية الضلالة، تقوده الشياطين، ودعاة الباطل.

والمراد به الجهل بالله وبدينه وبنبيه صلى الله عليه وسلم، وعدم معرفة ذلك على الحقيقة، وعدم فهم الدين كما فهمه السلف الصالح؛ أهل العلم والتقى.

فمن لم يعرف الحق كيف يتبعه؟! ومن لم يعلم السنن كيف يطبقها ويلتزمها ؟! وكيف تكون له نية المتابعة وهو لا يعرف ما يتابع فيه ؟! فالجاهل يسير على غير هدى، ولا منهج يلتزمه، بل يكون من الهمج الرعاع، اتباع كل ناعق، وأنصار كل منمق لمقاله، مزين لحاله، ولو ساء مخبره وضل سعيه.وكم التهمت الفتن من الجهلة؛ فكثروا سوادها، وكانوا حطبها ووقودها.

3- الهوى: واتباع الهوى يهوى بصاحبه في نار جهنم، إذ لا نص شرع يلتزم، ولا إمام حق يتبع، بل يتبع ما تهواه نفسه بدون ضابط، والنفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي قال تعالى: ﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم﴾.

وقال سبحانه: ﴿إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى﴾ فالمؤمن متبع هدى، لا متبع هوى.وقال تعالى: ﴿إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى ومالهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً﴾.


4- التشدد والتنطع في الدين؛ وذلك من أعظم أسباب الوقوع في البدع، والفتن.

والتشدد يضيق الشريعة الواسعة، ويوقع صاحبه، ومن يحكم عليه صاحبه في الحرج، وهو مضادة للشريعة، مخالفة لها، فقد قال الله تعالى: ﴿لا يكلف الله نفساً إلا وسعهاً﴾ وقال: ﴿لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها﴾.

وقال: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ وقال: ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾.


وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أرسلت بحنيفية سمحة)) رواه الإمام أحمد. وقال: ((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة)) رواه البخاري.

وقال: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)) متفق عليه.

والتنطع في الدين هلكة كما قال صلى الله عليه وسلم: ((هلك المتنطعون)) قالها ثلاثاً.رواه مسلم.

وقد رد صلى الله عليه وسلم على من أراد التبتل من أصحابه والانقطاع عن بعض ملذات الدنيا تبتلهم إذ لا رهبانية في الإسلام، فقال: أما إني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني.


فالتشدد الزيادة في العبادة وعدم الوقوف عند حدود السنة وفقهها. وقد تقرر أن اقتصاداً في سنة، خير من اجتهاد في بدعة.

وأنه ما ازداد صاحب البدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً. فمن التشدد التسرع في التكفير والتفسيق والتبديع للمخالف دون بينة أو روية، وبغض النظر عن تحقق شروط الحكم، وانتفاء موانعه، وكذا التشدد في تغيير المنكر، ولو كان في غير طاقته، وحدود مسؤوليته، أو ترتب عليه ما هو أعظم منه. وكذا رفع بعض المندوبات إلى مقام الواجبات، أو بعض المكروهات إلى مقام المحرمات، وغير ذلك.

5- الخلل في منهج التلقي :

والمراد عدم البصيرة في باب التعلم، وكيف يكون؟ وعمن يؤخذ العلم؟ ونحو ذلك؛ وتحت ذلك فقرات:

أ- أخذ العلم عن غير أهله، وذلك أن العلم إنما يؤخذ عن أهل العلم الراسخين، المعروفين بالبصيرة، والفهم السليم لنصوص الكتاب والسنة، العالمين بأصول الدين ومقاصد الشريعة، فلا يكفي أن يكون الإنسان واعظاًَ، أو خطيباً، أو كاتباً، ليؤخذ عنه العلم، وإنما يؤخذ عن العلماء الراسخين كما قال تعالى: ﴿وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾ الآية.

وقال تعالى: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾ وقد بين نبي الله صلى الله عليه وسلم أن من أسباب الضلال أخذ العلم عن غير أهله حيث قال: ((إن الله لا ينتزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال، يستفتون فيفتون برأيهم، فيضلون ويضلون)) رواه البخاري.

وفي لفظ المسلم.. ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا، وأضلوا)).

ب- الاستقلال عن العلماء والتتلمذ على الأحداث: فالاستقلال عن العلماء قد يكون بالتتلمذ على الأحداث، ممن لم يرسخوا في العلم، ولم يجربوا الحياة ويتصفوا بالبصيرة، فربما جرهم سنهم وحماسهم إلى الشطط والغلو.

وربما استبد المستقل برأيه، وحكم عقله في النصوص، وعزل فهمه عن فهم العلماء الراسخين من سلف الأمة الصالحين، وأتباعهم بإحسان، فوقع في الضلالة، كحال الخوارج لما تجردوا للنظر في النصوص عن فهم العلماء، ولم يفهموها على ضوء فهم السلف الصالح، فضلوا، وأضلوا.

والرد إلى أهل العلم، والأخذ عنهم متقرر في شريعة الإسلام، كما تقدم في الفقرة السابقة.

وقد قال نبي الهدى صلى الله عليه وسلم: ((إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم وذي السلطان المقسط وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه)) ، رواه أبو داود.

وقال: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويعرف لعالمنا حقه)) رواه الإمام أحمد.

ولم يزل العلماء يتوارثون العلم كابراً عن كابر، يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفقون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين.

ولا شك إن من أسباب الضلال الاستقلال عن العلماء، استبداداً بالرأي، واعتزازاً بالنفس، أو تأثراً بالدعايات المضللة من قطاع الطرق، الذين يريدون أن يحولوا بين المتعلمين والمعلمين؛ فيطعنوا في علمائنا المعروفين بصفاء العقيدة، وسلامة المنهج، والنصح للأمة لينفردوا هم بالتوجيه والدعوة إلى مهاوي الردى. نسأل الله السلامة.

ج- الأخذ عن أهل البدع والأهواء؛ من أصحاب الفرق، المسماة زوراً بالجماعات، والدعوات المبتدعة المخالفة لمنهج السلف الصلح، اغتراراً بالتنميق، والتنسيق، والتهويل والتلفيق.

وهذا من نقص مبدأ الولاء والبراء؛ الذي يقتضي الحذر من أهل البدع، والبعد عن مجالستهم، والتحذير منهم، وموالاة علماء السنة، والأخذ عنهم، والرجوع إليهم، واستنصاحهم، والاسترشاد بآرائهم.

6- التعصب المقيت، وهو قبول قول الغير من غير حجة مع مخالفته الحق.

فمن الناس من يتعصب لطائفة، أو مذهب، أو شخص؛ فيحمله تعصبه على قبول كل أقواله، والتسليم لها، ومناوأة المخالفين له، ولو كان الحق معهم، ولا شك أن علماء الإسلام براء من هذا المنهج، وقد كانوا يدعون أتباعهم، وعامة الناس إلى الأخذ بما دل عليه الكتاب والسنة؛ كما قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: ما جاءنا عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وما جاءنا عن الصحابة تخيرنا؛ أي من أقوالهم ولا نخرج عنها، قال وما جاءنا عن التابعين فنحن رجال هم رجال.

قال ذلك لقرب عصره منهم، ولأنهم ليسوا كالصحابة في تزكية الله لهم. وكما قال الإمام مالك رحمه الله: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر. يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله: إذا خالف قولي الكتاب والسنة فاضربوا بقولي عرض الحائط. وقال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وكما قال الإمام أحمد رحمه الله: لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الأوزاعي، ولا الشافعي؛ خذوا من حيث أخذنا.

هذا وهم أئمة المسلمين، ومن أعيان السلف الصالح، فكيف تدعى العصمة لغيرهم، ويقلد سواهم، ولا ترد أقواله ولو رد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو خالف منهج السلف، أو تجرأ على الشريعة، أو علمائها وحملتها، ولن ينفع المتعصب إمامه وقد قال الله تعالى: ﴿إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب﴾.



يتبع إن شاء الله ...

رد مع اقتباس