عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 13 Oct 2013, 12:08 PM
أبو البراء
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي

قد تأملت ما ذكره أخي أبو معاذ - أعاذه الله من كل ما يسوءه - فسُررت به جدًّا، لكن بقيت عندي من المباحثة بقية أحببت إيرادها لينظر محلَّها مما كتب، إذ فرق بين تقرير مسألة من غير اعتراض فيكتفي الكاتب فيها بأصل الحجة وبشيء من الإيضاح، ولا يبلغ به الغاية، فإذا اعترض بحثه فلا بد من بسط وجه الحجَّة، وهذا بسطها.

غفلت عن أصل حجَّتي، وحمت حول المورد
فأصبتَ بعضًا وأخطأتَ بعضًا

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

إنَّ من سعادة المرء أن يرزقه الله أخًا ناصحًا يقرأ ما يكتب بعيني ناقد، لا يحجبه الإخاء عن البحث والاستيفاء، ولا يردُّه الوفاء عن إبداء الحجج، وتقويم العوَج، من غير مخاصمة ولا لجج.
تضمَّن مقال أخي أبي معاذ - وفَّقه الله - أربعة أمور، أذكرها على ترتيب مقاله وأذكر ما ظهر لي فيها، طلبًا للحقِّ، وبحثًا عن الصَّواب، وإحياءً لسنَّة من مضى من أعلام العصر.
فقد كانت الطَّبقة المتقدِّمة من أعيان النَّهضة في هذا العصر شديدة عنايتهم بالنَّقد فلا يصدر بحث ولا كتاب ولا تحقيق إلا تناولته المجلات والجرائد النَّقدية بمقالات التَّقويم والتَّقييم، فكان ذلك حاملًا للكاتبين على التَّحرير والتَّجويد، وخرجت البحوث والكتابات والتَّحقيقات في الغاية القصوى من التَّحقيق والإجادة، ولما تُرك ذاك ونُسي آل الحال إلى ينشر النَّاس الغُفل والعُطل، فلا رقيب ولا حسيب، والله المستعان.


ـ دار مقال الحرِّ الكريم أبي معاذٍ على:


1- كون ابن كثير ترجم للأشعريِّ في "الطَّبقات"، وهو صحيح بلا ريب، وقد فاتني، فجزاه الله خيرًا.
أمَّا قوله: "فقريب من المستحيل أن يتوهم إمام حافظ مثل ابن كثير ويحيل إلى ترجمة كاملة وليس كلمة أو فقرة- إلى كتاب صنّفه في (التراجم) ثم يخطئ في ذلك".
فلا أدري أيَّ موضع في كلامي أفهم هذا المعنى، فالذي قلته هو أنَّ ابن كثير قصد بقوله: "ترجمته في الطبقات" قصد به زكريا السَّاجي، وأن الترجمة موجودة هناك.
وكونه ترجم للأشعري في "الطَّبقات" لست أخلد إليه في تبديل نتيجة البحث، بل يبقى أنَّ قول ابن كثير: "تفقَّه بابن سريج" عائدٌ عندي على السَّاجي كما قدَّمته، وقوله: "وقد ترجمته في الطبقات" يصلح رجوعه إليهما، ورجوعه إلى الأشعري أقرب، وعلى هذا فتقدير الكلام أن الأشعري أخذ عن السَّاجي الذي تفقَّه بابن سريج، فكأنَّه ذكر نسَبَه الفقهي كما هو عادةٌ لبعض المترجمين، ولذلك لما ذكر السَّاجي في الطَّبقات (1/197) قال: "وروى عنه جماعة: الشيخ أبو الحسن الأشعري وأخذ عنه مذهب أهل السنة من المحدثين"، ولو كان مقصوده أن الأشعري هو الذي تفقَّه على ابن سريج لكان ذكر ذلك في ترجمة الأشعري من الطَّبقات أعني لذكر تفقهه على ابن سريج،، لأن المترجمين لا يغفلون مثل هذا أبدًا، وأنا أجزم أن لو تفقَّه الأشعري بابن سريج لصُدِّرت أكثر تراجمه بذكر ذلك والإشارة إليه، وقد سلف مني التَّنبيه إلى أن ابن عساكر مع استيعابه لم يذكره، ولا ذكره السبكي على مبالغته في تعظيم الأشعري واستجلاب كل شاردة وواردة من مناقبه ومزاياه.
واقرأ معي هذا النص بتعلم منزلة التفقه على ابن سريج، فهذا أبو سعيد الهروي صاحب الأإشراف على غوامض الحكومات الذي هو شرح كتاب القضاء لشيخه العبادي، أراد الهروي في صدر كتابه أن يبين منزلة شيخه من العلم الفقه فقال (1/93-95): "ولعمري لقد كان أرفع أبناء عصره في غزارة نكت الفقه والإحاطة بغرائبه عمادا وأعلاهم فيه إسنادا، فإنه كان تلميذ الإمام أبي طاهر محمد بن محمد بن محسن الزيادي، وأبو طاهر كان تلميذا لأبي الوليد حسان بن محمد القرشي، وأبو الوليد كان تلميذا لأبي العباس احمد بن عمر بن سريج رحمهم الله".
فهذا في طبقة هو بها تلميذلمن تتلمذ على تلميذ ابن سريج ومع ذلك ذكرها في سياق الدلالة على رفعة مقامه في العلم، فكيف يكون الأشعري تتلمذ لابن سريج وتفقه عليه ويغفل ذلك مترجموه!


2- كلامه عن "سهل" و"سرح"، أبدى فيه ثلاث احتمالات:
- أن يكون خطأ من ابن كثير.
- أن يكون تصحيفًا.
- أن يكون أحد النَّاسخين أو الطَّابعين أخذ ذلك من كتاب الطَّبقات وأدخله في "البداية والنهاية" بعد أن تصحَّف له "سهل" إلى "سرح".
وأقول: الثَّاني هو المتعيِّن، على أنَّه تصحَّف على الطَّابع، لا على النَّاسخين، وقد جاء ذكره على الصَّواب "سرح" في طبعة دار المدار الإسلامي بتحقيق عبد الحفيظ منصور (1/203).
أما الاحتمال الأوَّل والثَّالث فكلام فبعيد، ولا سيَّما الثَّالث منها فإنَّه احتمال وهمي، ولا سيَّما مع تعدد طبعات الكتاب واعتماد المحقِّقين على نسخ متتعددة مختلفة، وهذا واضح جلي.


3- إثبات تتلمذ الأشعري على ابن سريج بالنَّقل المذكور من "سمط النُّجوم" للعصامي المتوفي سنة (1111)، ولعلَّه –أعني العصامي - أخذه من "الصَّواعق المحرقة" للهيتمي، فهو موجود فيه (ص11- ط القديمة).
قال أبو معاذ: "وهو نصُّ لا يحتمل غير ظاهره"، أقول: نعم، لا يحتمل غير ظاهره، وظاهره أن الأشعري سمع تلك الكلمة من ابن سريج وأنا لا أنكر أن يكون الأشعري سمع من ابن سريج الكلمة والكلمتين، أو أنه رآه أو جلس إليه، فقد علمتُ أنَّه بلديُّه ومعاصرٌ له، كانا في بغداد، وبين وفاتيهما نحو من ثمانية عشر سنة.
ولكن الكلام في كونه تتلمذ عليه و تفَّقه به.
ولا يخفى على أحد معنى قولنا تفقّه عليه، وما يتضمَّنه من الملازمة وطول المجالسة، ولو لبضعة أشهر على الأقل.
فالنَّقل المذكور لا يثبت أنَّه تتلمذ عليه.


4- قال: "قول أخي الفاضل حمودة: (فلهذا تبيَّن أن قول ابن كثير: "تفقَّه بابن سريج، وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية" كلامٌ عائد على زكريا السَّاجي لا على الأشعري).
لست أدري كيف فهم أن (تفقَّه بابن سريج) تعود على الساجي؟!
مع أنّ الترجمة للأشعري، وسياق الكلام وسباقه يدلان على هذا".

وأقول:
فهمت ذلك منه لأنِّي لما اشتغلت بالتَّعليق على جواب ابن سريج في الصِّفات اعتنيت بتتبع ترجمة ابن سريج، وأقواله، وتلاميذه، وشيوخه، وكتبه، والمسائل المنقولة عنه، فعشت معه، وعرفته، وعرفت منزلته من أئمَّة الشَّافعية، وأنَّه ليس عندهم بعد الشَّافعي مثله، فلمَّا رأيت قول ابن كثير عن الأشعري (وتفقَّه بابن سريج) جزمت بأنه ليس المعنيّ به الأشعري، وبقي عندي احتمالان:
- أن يكون وهمًا من ابن كثير، وهذا استبعدته لمكان ابن كثير من التحرير والإتقان.
- أو أن أطلب لكلامه وجهًا يصحُّ به، فاخترت هذا الثَّاني، لما أعلمه من القرائن الَّتي تدلُّ على أنَّ الأشعري لم يتفقَّه على ابن سريج، ولست أخالف في كون المتبادر من كلام ابن كثير أن الأشعري هو الَّذي تتلمذ على ابن سريج.
بل ذهبت به إلى المعنى الآخر لئلا أخطئ ابن كثير بغير شيء قاطع.
وأضرب مثالًا مشابهًا لهذا حتَّى يتبيَّن أنَّه احتمال واردٌ معمول، به ليس ببدع من التَّوجيه.
قال أبو حاتم ابن حبان في كتاب الثِّقات له (5/233): "عكرمة بن عمار العجلي من أهل اليمامة...يروي عن الهرماس بن زياد، وله صحبة، روى عنه الثوري..."
فقوله: "وله صحبة" لا شكَّ أنَّه راجع على الهرماس رضي الله عنه، مع السِّياق والسِّباق كله في عكرمة.
ولا يقال: تعيَّن هنا حمله على الصَّحابي للقطع بأنَّ عكرمة ليس كذلك، وأن الهرماس كذلك، لأني أقول" إن الشَّاهد منه حمل الكلام على غير من يتبادر عوده إليه لقرينة، وهو عين ما صنعته أنا في كلام ابن كثير للقرائن التي قامت عندي.
وقريب منه أيضًا ما قال الإمام النَّسائي في تسمية شيوخه (رقم27): "محمد بن عزيز، أبلي، يروي عن سلامة، وسلامة ضعيف، ليس بثقة".
فعادة النَّسائي في كتابه أن يذكر شيخه، ويذكر درجته من العدالة والثِّقة، فلذلك فالمتبادر أنَّ قوله: "ليس بثقة" راجعٌ إلى شيخه محمد بن عزيز، ولهذا نقلها المصنِّفون في الجرح والتَّعديل كابن عساكر في "المعجم المشتمل" وابن حجر في "تهذيب التَّهذيب" عن النَّسائي في ترجمة محمد بن عزيز، وقد طُبع طبعتين بتحقيقين، ورجَّح كلٌّ منهما أنَّه عائد إلى "سلامة"، وأنَّ النَّسائي أخلا ترجمة شيخه هذا من الحكم عليه، وذلك بسبب القرائن الَّتي هي حكم النَّسائي وغيره من الأئمَّة على محمد بن عزيز بالعدالة، وحكمهم على سلامة بالضَّعف، فتعيَّن حمل كلام النَّسائي على أنَّه أراد سلامة، ليوافق حكمَه وحكمَ غيره من الأئمَّة على ابن عزير.
وأيضا هو نظير ما وقع لي في هذه المسألة.
والخلاصة أنَّ أدلَّتي على أنَّ الأشعري لم يتتلمذ على ابن سريج لم يُجب أخونا على شيء منها غير كون المترجمين لم يذكروا ذلك، فلم يسلِّم بكونه كافيًا.
وقد بقي عليه شيئان ممَّا استندت إليهما في الجزم بخطأ الكلام المذكور لم يعرِّج على الجواب عليهما، وهما:
أ- استيعاب ابن عساكر وابن السُّبكي لكلِّ ما يتعلَّق بالأشعري مع جلالة ابن سريج وشهرته بالفقه، ومن أبجديَّات التَّرجمة المبادرة إلى هذا لو كان.
وليس المقصود هنا أنَّهما ترجماه فقط، ولم يذكرا ذلك، فإنَّ هذا سهل، ولكن المقصود أنَّك لمَّا تعرف جلالة ابن سريج، وتلمس حرص ابن عساكر والسُّبكي على تفخيم شأن الأشعري، وجمعهما لكلِّ ما يدلُّ على ذلك من حكاية أو رواية أو منام أو غيرها ألقى ذلك في نفسك ما ألقاه في نفسي من أنَّه يمتنع أن يتفقَّه الأشعري على ابن سريج ثمَّ يغفلانه.
ب - كون أبي العباس ابن سريج ممَّن اشتهر بمنابذة المتكلِّمين والتَّحذير منهم، بل حذَّر من الأشعريَّة المنسوبة إلى الأشعري نفسه، كما أ شرت إليه في المقال الأصل، ونصُّ كلامه: "ولا نقول بتأويل المعتزلة والأشعرية والجهمية والملحدة والمجسمة..".


هذا ما ظهر لي، كتبتُه ليُتأمَّل مع ما ذكره أبو معاذ.
ولأنبَّه إلى أنَّ بعض البحث قد ينطلق صاحبه فيه من خلفيَّة ذوقيَّة في شيء عايشه وشاهده، فمن لم يشاهد مشاهدته لم يعرف معرفته، يستصعب ما استسهله، ويستبعد ما هو عند الآخر بمنزلة ما لا شكَّ فيه، فليُعتبر هذا عند النَّظر في كلام كلِّ متكلِّم فإنَّه مهمٌّ، ولا تكاد تجد من ينبِّه عليه، والله الموفِّق.