عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 18 Jul 2010, 10:59 PM
أحمد سالم أحمد سالم غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: الجزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 608
افتراضي

--------------------------------------------------------------------------------

علي بن حاج والعلماء
لم يتعلم هذا الشابّ على أيدي أهل العلم، فتكوينه العلمي حصيلة دراسته على الكتب، ومن زعم أنه تتلمذ على يدي الشيخ عبداللطيف سلطاني أو الشيخ العرباوي ـ رحمهما الله ـ فقد غلط، بل ماتا وهما ساخطان عليه، وهذا شيء يعرفه كل من يسكن عاصمة الجزائر، ثم كل ما هنالك أن الرجل حضر بصفة متقطعة جداً بعض الدروس التي كان يُلقيها الشيخ العرباوي في مسجد
» جنان المبروك « في شرح كتاب » بداية المجتهد « لابن رشد.
وقد بدا لي من خلال معرفتي به الطويلة أن السجن الأول ـ قبل فتنة الأحزاب هذه ـ أثَّر فيه أثراً بالغا، وذلك من ناحيتين:
الأولى: أنه أخبرني هو أنه عكف على كتب الإخوان المسلمين وفَلاَها فَلْياً، بغرض انتقادها ـ كما زعم ـ وسمى لي منها كتب محمد الغزالي والقرضاوي وسيد قطب، لكنه لم يلبث أن تأثر بها؛ يدلُّ عليه انقباضه من العلماء بعد خروجه من السجن الأول، ومن العلماء السلفيين خاصة!
ولئن قلتَ كيف يستقيم هذا ونحن نسمع أنه سلفيّ؟
قلت: إن الذي لم يقنع بما عليه السلفيون منذ عهدهم الأول حتى يبتدع سلفية حركية، لن يجيء ـ مهما طوَّر الأسلوب وحوَّر في العبارات ـ إلا ببنت الإخوانية! ولو قرأتَ لهذا الرجل ما كتب لما استغربت،كيف وجلّ نقولاته عن الإخوان، من سيد قطب وأخيه محمد وعبدالقادر عودة وصلاح الخالدي وحسن البنا وحتى من محمد عبدالقادر أبي فارس وغيرهم ممن تقرأ أسماءهم في كتبه مثل كتاب » فصل الكلام في مواجهة ظلم الحكام «، ولئن أخذ ومضة من كتب ابن تيمية فمن باب قوله تعالى: {وإنْ يَكُن لَهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِين}، مع ذلك فيُفصِّل كلامه على قدّه ببتر نصوصه، واقرأ إن شئت ما كتبه في حكم الإضراب، ينكشف لك ما قلته بلا ارتياب.
وهذه عاقبة من لم يسعْه ما وسع السلف، وشبَّهتُ حاله في تأثّره بالإخوان ـ وهو يريد انتقادهم فيما زعم ـ بحال الغزالي الذي قال فيه أبو بكر بن العربي: " شيخُنا أبو حامد: بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيَّأهم فما استطاع! ".
ولا يخفى على من جرَّب الجماعات المعاصرة ما في منهج ( الإخوان ) من الازدراء بأهل العلم، وإلا فخبِّروني من أول من نبزهم بعلماء الحيض والنفاس؟! وبعلماء القشور؟! وبعلماء البلاط؟! وبالذين يعيشون القرون الوسطى؟! وبعلماء الكتب الصفراء؟! وبعلماء البدو؟! ..).
الثانية: ما لقيه في السجن ورَّثه الانتقام للنفس، وكرَّه إليه أهل العلم الذين لا يشاركونه الرأي في مصادمة الحكومات، وعلى هذا أمارات ظاهرة، أذكر منها:
1 ـ عند خروجه من السجن نهاية سنة (1407هـ)، ألقى دروسا في موضوع الكبائر من الكتاب المنسوب للذهبي ـ رحمه الله ـ في ذلك، فقال في أول درس له: " درج العلماء على البدء بكبيرة الشرك، وأنا أرى البدء بكبيرة ( كتمان العلم )؛ لأنَّه لولا كتمان العلماء الحقَ ما ظهر
الشرك .. "!! وهذا مسجَّل في أول شريطٍ له في » الكبائر «، ومع أنه قد قيل إنه تراجع عن مسألة الأولية، فهل تراجع عن نفرته من أهل العلم؟
2 ـ في رمضان سنة (1408هـ) كان يتجهَّز لأداء صلاة عيد الفطر قبل الدولة من أجل رؤية الهلال، فدُعيتُ إلى مجلس هو فيه، واقترحتُ على الحضور خطة لحفظ الدعوة من الاختلال فيما أظن، ودار الحوار الآتي:
قلتُ لهم: أتعلمون أن فيكم عالما؟ فأجابوا جميعا بالنفي، بما فيهم هو.
قلت: بما أن الخطأ في هذه القضايا الكبيرة وارد جدا على غير العلماء، وأنه قد يكلف الأمة دماءها وأعراضها، فأنا أقترح عليكم أمرين هما:
أ ـ تركُ الخوض في المسائل التي هي أكبر من حجمنا، وإسنادُها إلى أهلها مهما ابتُلينا بإرشاد الناس، ومن فضل الله علينا أننا لا نختلف في المرجع المؤهَّل لها، فالسلفيون لا يعرفون اليوم على وجه الأرض أعلم من الشيخ الألباني والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين وإخوانهم من أهل العلم بالأثر، ومن فضل الله علينا تيسُّر الاتصال بهم، وتواضعهم لكل سائل، وتوحيد مصدر التلقي من أعظم نعم الله علينا.
ب ـ التشاور فيما بيننا في فهم أجوبتهم، طمعا في جمع الكلمة ما استطعنا إليه سبيلا، فوافق الجميع إلا ابن حاج، قال قولة غريبة حين قال:
" كيف لا أُفتي حتى أسأل العلماء؟! هذا إرهاب فكري!!! .. وقد جرَّبناهم فوجدناهم لا يكترثون لقضايا المسلمين ...! "، ثم عرَّض ببعض علماء السعودية قائلا: " بدليل أنني كتبت إلى أحدهم بعشرة أسئلة أو أكثر، فلم يُجب إلا على اثنين منها!! ".
ثم بعد أن طالت مناشدة الحضور له من بعد صلاة الليل إلى أن كاد يفوتنا الفلاح قال: " نزولاً عند رأي الإخوان، فأنا أوافق و( أُمَشّيكم ) في هذا العيد، لكن إياكم أن تؤخِّروا عنا أجوبتهم إلى عيد الأضحى!!! ".
ثم لم يلبث أن مضى عيد الفطر والأضحى في أمن وسلامة، حتى كان شهر صفر سنة (1409هـ)، نزلت بالناس نازلة (5 أكتوبر 1988م ) آنفة الذكر، وشارك فيها علي بن حاج مشاركة من فقد عقله، وأفتى فيها بالتحزبات والمظاهرات والإضرابات بل والإضرابات عن الطعام، من غير أن يذكر ما عاهد عليه إخوانه ليالي عيد الفطر!
3 ـ طلب منه كثير من أتباعه الذين لهم ميل سلفي أن يتصل بأهل العلم
ـ أيام نازلة أكتوبر هذه ـ ليستفيد منهم فيما أهمَّ الأمة، فلم يستجب لهم، بل لما وجده ذوو العقل منهم لا يسند فتاواه الغريبة عن المنهج السلفي إلى أحد من العلماء السلفيين، ويستدلّ لها بأقوال مَن لا علاقة له بالعلم كالإخوان الذين سبق تسمية بعضهم، نبذوه مرة واحدة، خاصة وأنه قد صاحَبَ ذلك ظهورُه في الصحف وتجويزه التصوير بعد أن كان يحرِّمه! فعرفوا أنها فتاوى ضغط الواقع، ولذلك لا يُعرَف له أي استفتاء لأهل العلم لا مقروء ولا مسموع، فـ {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صادِقِينَ}.
4 ـ زار الجزائر الشيخ الفاضل أبو بكر جابر الجزائري قبل أيام الإضراب، واستدعى عليَّ بن حاج مرتين فلم يجبه! وفي المرة الثالثة حضر درسَ الشيخ في الجامع الكبير بالجزائر العاصمة، وفيه نهى الشيخ الدعاة عن أسلوب التهوُّر، وعن استعمال الألفاظ التي تُبعد الشقة بينهم وبين حكّامهم ولا يَجْنُون منها إلا التعوُّر، ومثَّل بلفظ ( الطواغيت )، فكان هذا كالذبح لعلي بن حاج؛ لأنه يَجترّ هذه الكلمة في دروسه اجترارَ الغنم للهشيم عند استراحتها، بل لعلّ دعوته لا تعيش إلا بها، وجماهيره لا تنتعش إلا عند سماعها! وهو ساكت على مضض، ولما كان الشيخ يجيب على الأسئلة
ـ وكانت كلها سياسية بطبيعة الوضع ـ وكانت الأجوبة مخالفة لما يهوَى، نفد صبره وطلب الكلمة من المقدِّم، فاستحيى هذا أن يتقدَّم بين يدي الشيخ، فقام عليٌّ بنفسه وأخذ مكبِّر الصوت عنوة، وقال كلمتين تنبئان عما في نفسه تجاه العلماء:
أما الأولى فهي قوله: " أيها الإخوة يجب عليكم أن تفهموا كلام الشيخ كما هو ولا تحرِّفوه!".
وأما الثانية فهي قوله: " نحيط الشيخ علماً بأن لنا جماعة للنهي عن الشرك!!".
قلت: أما الأولى فقد أراد بها إيهام الحضور أنه والشيخ في طريق واحد! وهو في هذا متفنِّن لبق. وأما الثانية فهي مجاملة واضحة لدعاة التوحيد
ـ والشيخ وهابي!! ـ، مع ما فيها مما يُغني عن التعليق. وأوقف الشيخ درسه مباشرة لأن أهل المسجد كادوا يصيرون فريقين يختصمان.
5 ـ زار الجزائر في تلك الأيام الأخ عدنان عرعور، فلم يلقَه علي بن حاج إلا يوم المغادرة ليُسلِّم عليه في المطار! مؤنِّبا الإخوة لأنهم لم يخبروه بقدومه! مع أنه كان يلقي دروسه في آلاف من الحضور، قريبا من مسجد علي بن حاج بأمتار فقط!! على الرغم من ذلك فقد قال له عدنان في المطار: " إذا رغبتَ في اللقاء فأنا مستعدّ لإلغاء الرحلة؟ " فلم يجبه!
ولو اعتذر ابنُ حاج بأن الأخ الزائر ليس عالما تُشَدّ إليه الرحال لوجدنا له مخرجا؛ ولكنه أوجس منه خيفة لما علِم أنه أتى من السعودية فتَوَهَّمه على شاكلة ( الوهّابيين ) المُخدِّرين للنشاط الحركي في اعتقاده! أو أنه حامل فكر الشيخ الألباني ليَشُلَّ دعوته السياسية في ظنّه!
6 ـ زار علي بن حاج السعودية أيام أزمة الخليج بدعوة منها مكرَّما معزَّزا، وكنا نأمل أن يلتقي بمشايخ السلفية الكبار ليستفيد ونستفيد؛ إذ يسعه تواضعهم إن شاء الله، فلم يحصل ذلك منه، بل جلس مع بعض المشايخ لا ينبس ببنت شفة، في تكتُّم مجرَّب عنه مع السلفيين. وفي هذه الزيارة عرَّج على الأردن في جولة سياسية ـ كما يقولون ـ ولم يزر الشيخ الألباني! وأنا أعرف عن الجزائريين عيبَهم الشديد على السلفي الذي يُحرَم من زيارة هؤلاء العلماء، نظرا لندرة أمثالهم عندنا، ولذلك لاموه كثيرا؛ لأنه دليل على أنه غير سلفي أو في نفسه منهم شيء خفيّ!
7 ـ عند سفره الثاني إلى الأردن في مسيره إلى القتال مع العراق، اضطره بعض السلفيين إلى زيارة الشيخ الألباني، ووقع منه ما يُدهش.
8 ـ وهو ما أخبرنا به الشيخ نفسه ومن كان حاضرا كالشيخ علي بن حسن بن عبد الحميد والشيخ محمد شقرة، أنه زارهم في بيت الشيخ ليعتذر إليهم عن ضيق وقته، وأنه يرجو تقصير مدة المجلس!
9ـ كما أخبرونا جميعا أنه أبى تسجيل المناقشة في جدل عقيم طال بلا عائدة إلا عائدة خوف الرجل من انتشار الحق).
10 ـ كما أخبرونا أنه حين أقنعه الشيخ بضرورة التسجيل، قَبِلَ على شرط غريب، وهو عدم نشر الشريط حتى يأذن هو به للشيخ!!! وهذا أقبح تصرّف يصدر من طالب مع شيخ، ورحم الله زمانا كان فيه السلف يطمعون في السماع من شيوخهم ولو بتحمّل الضرب، قال الذهبي: " قال يعقوب بن إسحاق الهروي عن صالح بن محمد الحافظ سمعت هشام بن عمار يقول: دخلت على مالك فقلت له: حدِّثني، فقال: اقرأ، فقلت: لا، بل حدِّثني، فقال: اقرأ، فلما أكثرت عليه، قال: يا غلام تعال! اذهب بهذا فاضربه خمسة عشر، فذهب بي فضربني خمس عشرة دِرَّة، ثم جاء بي إليه، فقال: قد ضربته، فقلت له: لِمَ ظلمتني؟ ضربتني خمس عشرة درة بغير جرم، لا أجعلك في حِلّ، فقال مالك: فما كفارته؟ قلت: كفارته أن تحَدثني بخمسة عشر حديثا، قال: فحدثني بخمسة عشر حديثا، فقلت له: زدْ من الضرب وزدْ في الحديث، فضحك مالك وقال: اذهب ).
11 ـ بهذه النفرة التي كان يجدها علي بن حاج من العلماء تفهم سرّ تكراره في غير ما شريط مسجّل أنه ألَّف كتابا أسماه: (( بين علماء السجون وعلماء الصحون! «، مع كثرة إيراده لأحاديث القُصّاص في مواجهة الحكام على طريقة الخوارج، ولو كان أبطاله من شرار المبتدعة، كعمرو بن عُبيد المعتزلي، فينشأ في نفوس الناشئة أنه لا عالم إلا من دخل السجن؟!
وبهذا التنفير من العلماء فسد سلوك الشباب تجاههم، وظهر لأول مرة في الجزائر فُرقة بين السلفيين؛ إذ أصبحتَ تسمع بسلفية علمية وسلفية حركية! ووُصف بالإرجاء كل من دعا إلى الحكمة والصبروالأخذ بسيرة الرسول في جهاده، وهذه هي بركة التحزب!
وأخيراً لا بدّ من كلمة مختصرة جداً عن هذا الرجل، أرى أنها تُعَرِّف به جيِّداً، وهي أن علي بن حاج يعيش بنفسية متوترة؛ يثور على المألوف، ويستثير الغريب المخوف، وتراه لا يثبت على مذهب؛ بل يُكثر التنقل من غريب إلى أغرب؛ يتتبّع الجديد الذي يثير الانتباه، ويَملّ العتيق ولو لم يكن به اشتباه؛ فحين كان تهريج عبد الحميد كشك مطلب الشباب كان
( كشكياً! )، ويوم أن تمكّن الخميني من الحكم مدحه مدحاً كبيراً! وحين برّزت الدعوة السلفية ـ في مجتمع قد أنهكته المذهبية ـ ولَّى إليها وجهه، لكنه حصر عنايته بها في الحرب على المذهبية، وصحب ذلك حماسة لطلب العلم، فشنَّع على الدعوات السياسية وتسجَّى بالحِلم، ثم اشرأبّت الأعناق إلى إيران، فثار عليهم ثورة الثيران! وحين جاء التحزّب يركض، ركبه ولم يُعَقِّب! فما زال سياسياً يُحاور، حتى إذا سالت من دماء التكفير عيون انقلب إلى العنيفِ المعايرِ، وهنا وضع رحله، وربط فرسه، وشُلّ منه التفكير، ورضي في سبيل ذلك بالمعاطب، واستأنسَ بوحوش التكفير، واستقرّت به المراكب، والله وحده أعلم بالذي يتلوه.
ويَعرف هذا مَن تذكَّر تنقُّله السريع في موضوعات دروسه؛ فهو لا يكاد يفتتح كتاباً إلا تركه وقفز إلى غيره؛ فمن (( شرح السنة )) للبغوي إلى
(( الكبائر )) للذهبي، فتفسير القرآن، فتبسيطه، فتزكية النفوس، فالسياسة الشرعية ... كل هذه الدروس وقف فيها عند بدايتها بالتداول، وفي كل مرة يسمع الحضور وعدًا قصير العمر يقول: اليوم نبدأ درس كذا من كتاب فلان! وهكذا ...
وقد بيّن الماورديُّ هذه النفسيةَ الغريبة التي عرفها من أهلها، وكأنه يعيش بين أظهرنا فقال: " مع أن لكل جديد لذّة، ولكلّ مستحدَث صَبْوَة؛ وقال النبيّ : (( إنّ أخوف ما أخاف على أمتي منافقٌ عليمُ اللسان ))، فتصير البدعُ فاشية، ومذاهب الحقّ واهية، ثم يُفضي الأمرُ إلى التحزّب والعصبة؛ فإذا رأوا كثرةَ جمعهم وقوّةَ شوكتهم داخلهم عِزُّ القوّة ونخوةُ الكثرة، فتضافرَ جهالُ نسّاكهم وفسقةُ علمائهم بالميل على مخالفيهم! فإذا استتبّ لهم ذلك زاحموا السلطانَ في رئاسته، وقبَّحوا عند العامة جميلَ سيرته، فربما انفتق ما لا يرتق؛ فإنّ كبار الأمور تبدو صغاراً ).
وسرّ هذه التناقضات المتعاقبة عليه والتنقّلات المتناوبة عليه ثوريّتُه المتأصِّلة في نفسه، وبعض مَن لم يَخْبُر الرجل يقول: إنه ذو شخصيّتين! والحقيقة أن له شخصيّة ثابتة؛ ألا وهي الثورية التي تحدّثتُ عنها آنفا وطول نفَسه في الخصومات، وأخرى متغيِّرة؛ لأنها تعبير عن هذه الثورية على حسب ما يَجِدّ في الدعوات، وشبيه بحاله من قال فيه عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ: " مَن جعل دينه غَرَضاً للخصومات أكثر التنقّل "، قال الدارمي بعد هذا الأثر:
" أي ينتقل من رأي إلى رأي!".
وعن خالد بن سعد مولى أبي مسعود قال: دخل أبو مسعود على حذيفة وهو مريض، فأسنده إليه، فقال أبومسعود: أوصنا، فقال حذيفة: " إن الضلالة حقّ الضلالة أن تعرف ما كنتَ تنكِر وتنكِر ما كنتَ تعرِف،
وإيّاك والتلوُّن في الدين!! "، وفي رواية: " فإن رأَى حلالاً كان يراه
حراماً ... "، وقال إبراهيم: " كانوا يَرَون التلوّن في الدين مِن شكِّ
القلوب ". ومن أوضح علامات هذا الشكّ اتباعُ المرءِ الحقَّ مجَرِّباً لا له متجرِّداً، وأن يُؤْثِر دليل الواقع على نصّ الوحي، كما قال حذيفة : " إنّ أخوف ما أخاف على هذه الأمة أنْ يُؤْثِروا ما يَرَون على ما يَعْلمون، وأنْ يَضِلُّوا وهم لا يشعرون "، وقد اشتهر عند كثير من الناس أن ابن حاج سلفي بسبب أنه جرَّب السلفية زمناً، فلما لم يجد فيها نهمته الثورية ورأى أنها لا تُصَفِّي ما بينه وبين حكامه من حسابات نفسية تركها باطناً ولم يُصرِّح بذلك ظاهراً، والله وحده الهادي؛ لأنَّه هو القائل: {وإنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وأَخْفَى}.
ومِن طرقه التي كان يسلكها للتأثير على الجماهير التظاهر بالورع البارد إذا قيل له بأن فلاناً يردّ عليك! فيقول: " أقول كما يقول أبو ضمضم إذا أصبح: تصدَّقتُ بعرضي على مَن ظلمني، رواه مسلم!! " كذا يقول ويردِّد.
وهذا مع أنه لم يَرْوِه مسلم بل هو ضعيف لا يصحّ رفعه، فهو من السماحة المصطنعة؛ لأن قائله يظهر الصوم عن أعراض المسلمين في الوقت الذي يفطر فيه على دمائهم!! فكم من آلاف من المسلمين قُتِلوا بفتواه كما ستراه في هذا الكتاب؟!.
وأما عن علمه فسبق ذكر شيء من إرجافات فقهه السياسي؛ حين استدلّ ابن حاج بقصة وقوف النبيّ على جبل أبي قبيس على مشروعية المظاهرات!! وأغرب منه استدلاله بوصال النبيّ في صومه على مشروعية الإضراب عن الطعام؛ فقد قال في قصيدة له بعد أن تأكّدنا من بعض أهله أنها له:
وأضربنا عن الطعام تعفُّفاً اقتداءًا بسيّد الواصِلينا!!!
قلت: وهذا ـ والله ـ من الدواهي!! ومنها إفتاؤه بالتفجير الجماعي في المحلات العامة، فلما سئل عن المسلمين الذين يُقْتلون في ذلك قال: يُبعَثون على نِيّاتهم!!! ويعزو ذلك لابن تيمية! نعوذ بالله من قلّة الحياء!
جناية السياسة على العلم
قيل لعلي بن حاج يوما: لقد مللْنا الدروس السياسية، فهلاّ علَّمتنا ديننا، وددنا لو بدأت بأبواب الطهارة والمياه، ولم تتكلم في السياسة ولو مرة واحدة، فقال: " أستطيع ذلك، ولكنني إذا ذكرت أن الحكومة تقطع الماء عن الناس في وقت ما لم أسكت عنها!! ".
أذكر هذا لتعْلم مصير كل سياسي في تقديره للعلم الشرعي، فلا أدري هل شعر أن الحكومة حين تقطع الماء الذي به حياة الأبدان، فهو ـ بسببها ـ يقطع عن الناس تعلّم الدين الذي به حياة الجَنان، فأي الفريقين أعظم جناية؟!
وليست جناية السياسة قاصرة على الأحكام العملية فحسب، بل تتعداها إلى العقيدة الإسلامية، فقد لقيه بعضهم بعد الإفراج عنه من السجن، فكلمه عن الأشاعرة الذين استولوا على دور التعليم، راجيا منه أن يكون عوناً له في الرد على أعداء التوحيد، ففاجأه بكلمة زهَّدته فيه، تدل على انحرافه الخطير عن المنهج السوِيّ، قال يومها: " أنا لو اشتغلت بالرد على الأشاعرة، فإن الحكومة تضحك من عينيها !! ".
فتأمل هذا ـ رحمك الله ـ ولا تكن في التعصب للرجال من الهالكين، فالرجل دخل في صراع مع السياسيين، حتى ظنّ نفسه أنه خُلق لإبكاء الحكومات!! فمن يبكي على أمة حُرِمت عقيدتها وسلامة قلبها {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}؟
إنني أريد بهذه العناوين الأخيرة إشعار القاريء بخطورة مخالفة تلك الأصول الستة التي اختصرتها في افتتاحية هذا الكتاب، بالتمثيل لها من خلال الدعوة في الجزائر.
لقد عُمِّرَت جبهة الإنقاذ الإسلامية ثلاث سنوات فقط، تهدَّم بها بنيان أوشك على التمام، وتصدَّع بها صفّ بعد الْتحام، واتُّهِمت فيها السلفية بعد أن وُضع لها القبول، ورُفع العلم وسيطر الطيش على العقول، وعشَّش التكفير في مساجد الجبهة وباض، واتحد الحزبيون مع المبتدعة حتى الطرقية وبني إباض، واتُّهم العلم، وحُرِّم الحلم، وتسمَّن فكر الخوارج، حتى عيِيَ الناصح والمعالج.
هذا والشيوعيون الأخباث في الداخل والخارج يرقبون مسرورين عملية الانتحار، يُحَرِّكون أحياناً بالتهييج السياسي استعجالاً لقطف الثمار، فرحين بعدوٍّ سهل الاستدراج؛ لأن عنف الجبهة أوجد لهم المسوِّغ القانوني لضرب المسلمين بلا احتجاج! وهي خطة ترقَّبوها من سنوات عجاف لم يغاثوا فيها إلا بتسخير علي بن حاج، بل عجزوا عنها حتى في أيام الاستعمار الفرنسي، وقد قلنا للعلامة ابن باز ـ حفظه الله ـ: " إن الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر منعت صلاة الجمعة في بعض المدن! "، فقال متعجباً: " كيف يعطِّلون الجمعة، وقد عجز عن ذلك فرنسا وبريطانيا واليهود؟!!".
وكم قَتلوا اليوم من طلبة العلم جريمتُهم أنهم رفضوا مشاركتهم فيما هم فيه! وهذه هي بركة التحزب!.
نعم! لتذكروا كلمة ابن تيمية المبيَّنة في الأصل الخامس من أن نكاية المبتدعة في المسلمين أشد وطءاً من نكاية الكفار فيهم، ولا أدري ما سرّ تلقيب النبي الخوارج بـ »كلاب النار «؟ ألأنهم يجتهدون في المسلمين تكفيرا وتقتيلا حتى يُكفِّر بعضُهم بعضاً، كما تجتهد الكلاب فيمن تنكره نباحاً وعضًّا حتى ترجع إلى أذنابها فتعضّها؟ ويكون مصداقه ما جاء في
» الصحيحين « من أن النبي قال فيهم:» يَقتلون أهل الإسلام، ويَدَعون أهل الأوثان «؟ أم لأنهم يُستَدرَجون بأبسط الحيَل حتى يَهيجوا كما أن الكلاب تنبح لأدنى استفزاز، حتى ربما دلَّت عدوَّها على مَخْبَأ صاحبها؟ ذكَّرني هذا بالمثل القائل: " وعلى نفسها تَجْنِي بَراقِش ".
لذلك كله، ما يُخاف على المسلمين من الشيوعيين كما يُخاف عليهم من أنفسهم؛ فإن أولئك مهما أوتوا من تنظيم وقوة وإدارات وبسط نفوذ، فلن يضروهم إلا أذى، وأما جناية المسلمين على أنفسهم، فقد قال الله تعالى في قوم كانوا مواجهين الكفار الخلَّص: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُو مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ}، وكان النبي يؤصِّل هذا المنهج بتأكيده في كل خطبة قائلاً: » .. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا.. «، فاللهم آمين. وقد بيَّنتُ هنا من واقع الجزائر ما يشهد لما نحن بصدده.
وأخيراً: رجائي من ذوي العلم والمنهج السلفي، أن يكتبوا عن تجربة بقية البلاد الإسلامية، فقد رُفِعت للمنهج السلفي أعلام في اليمن وأفغانستان والسودان وإيران وسورية والأردن ومصر وتونس وغيرها، تدلُّ عليه وتؤكِّده، لتُشفِقوا على المسلمين مما يصيبهم بأيديهم، ولتبيِّنوا للشباب التائه اليوم واللاعب بالنار وجوب الرجوع إلى الطريق النبوي، فقد بان لذوي الحِجَى أكبر برهان في واقع بلاد المسلمين على أنه لا يصلح لهم غيره، ولكن أقلاما وأفواها غير سلفية سبقت لتموِّه وتحرِّف الحق والواقع، فاستعينوا بالله واصبروا وإن وُصِفتم بالمثبِّطين أو المرجفين، فإن غايتكم رضى الله وحده.
حال الدعوات السياسية اليوم
يحاصَر المسلمون اليوم حصارا شديدا، لم يعرفوه حتى وقت المستعمرات الكافرة، والعالم كله تألب عليهم ورماهم عن قوس واحدة، لا يألوهم خبالا ولا يرقب فيهم إلاًّ ولا ذمة، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، الأمر الذي سبب لهم ردود فعل خطيرة، وصاروا لا يعيشون إلا على أنقاض الأحداث السياسية، نشاطهم يقوى بقوتها ويضعف بضعفها، وكأنهم هم
ـ أيضا ـ كُتب عليهم شقاء السياسيين، وانقسم المنقذون المخطئون مجموعتين:
مجموعة دخلت العمل السياسي بلا تورع، فتَميَّع منهجها، وتنازلت عن غير قليل من دينها، لأنها تعيش تحت ضغط الهزات السياسية العنيفة، فحَقَّ فيها ما حذر الله U منه نبيه حين قال: {وإن كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإذًا لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً. وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِم شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً}.
ومجموعة تَنْزَغُها الأحداث السياسية، وتؤزُّها أَزًّا لأنها وجدتها أُذُنا، وهي تُستدرَج بالاستفزازات السياسية الماكرة، وهؤلاء حق فيهم ما حذر الله U منه نبيه حين قال: {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وإذاً لاَ يَلْبَثُون خِلاَفَكَ إلاَّ قَلِيلاً}.
وحديثي هنا لا يتعرض مباشرة للأولى لأنه قد كُتب عنها ما فيه غناء، ولكن الثانية هي التي أقصد؛ لأن فكرتها لم تعد حَكْراً على فئة معروفة من الناس بل ظهرت في هذا العصر الأخير مع الإخوان المسلمين، ثم لم يلبث هؤلاء أن تخلوا عنها متأثرين بفكرة المجموعة الأولى، ثم لبسها ورثة الخوارج: جماعة الهجرة والتكفير،وتداولوها مع شيوخهم القطبيين، ثم بمكر من هؤلاء أريد للسلفية أن تلبسها. وكم كنت أتردد عند كتابة هذه الكلمات رجاء أن تكون نصيب قلم أقدر عليها مني، وهم كثيرون، ولكن ذلك لم يحصل بالصورة الدقيقة والصريحة والمفصلة التي ينبغي أن تكون، إذ الشبهات فيها كثيرة جدا وجذورها عريقة في حقيقة الأمر، فلا تكفي فيها بُلْغة الغريب، ثم استخرت الله في ذلك واستعنت به وحده فوفّق لما يأتي:
المتأمل في أحوال المسلمين اليوم يجزم بأنهم قد استيقظوا بعد سُبات عميق، وأحسوا بضرورة العودة إلى أصلهم التليد العريق، وتذكروا شخصيتهم الضائعة الممتهنة من قِبَل من جعلتهم قُدوتَها برهة من الزمن فلم ينصحوا لها، أقصد أن عاطفة إسلامية ما ـ كما يقولون اليوم ـ لا تزال في قلوب المسلمين، مما يبعث في النفوس السرور لأنها أول المبشرات، إلا أنه لا يجوز أن ندخل لَغَطا إعلاميا لا يمت إلى الإسلام بصلة فنبرز هذه الصورة فوق حجمها، مستعملين المجهر السياسي الكذاب، مجارين أعداء الله في مكرهم ودهائهم وتزويرهم الحقائق، بل الحق والحق نقول، إن الله لا ينصر إلا المؤمنين فهو القائل: {وكانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} والمؤمنون مؤمنون ما لم يكذبوا ليتولاهم مولاهم القائل: {ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذينَ ءَامَنُوا وَأَنَّ الكافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُم}.
لذا فإن محاولة إفزاع العدو بإبراز هذه اليقظة الإسلامية الأولى في صورة المستيقظ النشيط، الذي لم يبق على عينيه غبش، وأنه قادر على أن يُبصر الأمور ويُبَصِّر بها على حقيقتها، وأن يقدِّر لها أقواتها تقدير العالم البصير لن يعود على الدعوة الإسلامية إلا بالبوار؛ لأن ذلك يستعدي الأعداء الأقوياء على المسلمين الضعفاء الذين لا يتولاهم الله ما داموا مقيمين على هذا الكذب والهراء، ثم هو غش للمسلمين؛ لأنه ينفخ فيهم غرورا قد رأينا عاقبته في بلاد الإسلام.
بل نقول: الحمد لله الذي أيقظنا، إلا أننا في أول الفطنة ما أحوجه إلى إرشاد، على عوج في المتابعة ما أحوجه إلى سداد، فنحن كصبي عطشان قد فرح به أبواه لنباهته فتركاه يروي عطشه بيده، لم يُؤمَن عليه أن يتناول السم الزعاف، أو سقياه ماءً زُلالا دون رَوِية في رعاية إذن لأوشك أن يَشْرَق.
والذي نعتقده بصراحة تامة أن أكثر المرشدين اليوم على غير الجادة السلفية إذ أشعروا أمتهم هذه ـ التي لا تزال عليها غيبوبة المستيقظ من نومه ـ أن مشكلتها سياسية وهي لم ترفع بعدُ قدميها عن سرير النوم، فإذا بها تُدْعى للعَدْو إلى سرير الملك، في بهرج لا يترك لها عقلا تفكر به، ويا لها من جريمة! لأنها تحريف لها عن معرفة الداء، فكيف الاهتداء إلى الدواء؟! ويا لها من مصيبة!! لأنها صد عن سبيل الله المتمثلة في تعلم الكتاب والسنة وتعظيمهما والاحتفاء بمجالس أهلهما، إلى تعلم السياسات العصرية والعكوف على مصادرها من إعلام مرئي ومسموع، وجرائد ومجلات: الصدق فيها ممنوع، حتى إنه ليمضي على من دثارُه الكتاب والسنة، وشعاره الفيديو ومجلة البيان والسنة، يومُه بل أسبوعُه بل ربما شهره لا يجد وقتا ولا شوقا إلى آية من الكتاب، واسأله ـ إن شئت ـ منذ كم لم يرفع الغبار عن الصحيحين على حين عدم غفلته عن جريدة اليوم بل وخبر الحين!! والأمر لله.
ولا تسارع إلى إنكار هذا لأنني ما جئتك بعلم حتى تناقشه وإنما هو خبر الواقع!
روى أبو نعيم في الحلية بإسناده عن رجل من أشجع قال: " سمع الناس بالمدائن أن سلمان ( أي الفارسي ) في المسجد فأتوه فجعلوا يَثُوبون إليه حتى اجتمع إليه نحو من ألف، قال: فقام فجعل يقول: اجلسوا، اجلسوا، فلما جلس فتح سورة يوسف يقرؤها، فجعلوا يتصدعون ويذهبون حتى بقي في نحو من مائة، فغضب وقال: " الزخرف من القول أردتم؟ ثم قرأت كتاب الله عليكم ذهبتم؟! ".
قلتُ: لعل اختيار سلمان لسورة يوسف e دون غيرها لما فيها من معاني القناعة بقصص كتاب الله دون ما تصبو إليه النفوس من حكايات وأحَاجي، وهو قول الله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ}، واقتداءًا بالنبيّ حين سئل قصصاً غير قصص القرآن فتلى عليهم ما أنزل الله عليه من هذه السورة()، وكذلك فعل عمر حين رأى مَن أقبل على كتاب فيه عجائب الأوَّلين، فرضي الله عنهم جميعاً؛ ما أشدّ حرصهم على الهدي النبوي!
معنى السياسة
السياسة لغةً : " هي القيام على الشيء بما يُصلحه ".
قلت: ومنه قول أسماء بنت أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنهما: " تزوَّجَني الزبير ومالَه في الأرض مالٌ ... فكنتُ أعلف فرسه، وأكفيه مؤنته، وأسوسه، وأدقُّ النوى لِناضحه ... حتى أَرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك خادما فكفَتْني سياسةَ الفرس، فكأنما أعتقني "، ولذلك كتب ابن الجزار القيرواني في إصلاح شئون الصبيان والمحافظة على طبيعة أجسامهم وطِبِّها مؤلَّفا أسماه
(( سياسة الصبيان وتدبيرهم )) ؛ لأن لفظة ( السياسة ) مشتقة من " السُوس بالضم: الطبيعة والأصل والخلق والسجية ".
ومن هذا المعنى العام أُخذ المعنى الخاص الآتي وهو: " من السوس، وهي الرياسة، وفي الحديث:»" كان بنو إسرائيل يَسوسهم أنبياؤهم « أي يتولى أمرهم كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية ".
وأما المعنى الشرعي: " فالسياسة الشرعية هي تدبير الشئون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار مما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية، وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين ".
قلت: فهي تُعْنَى بأحكام الإمارة والقضاء وأحوال الوزارات وتدوين الدواوين وإنفاذ الجيوش وغيرها مما تراه مفصلا في مثل (( غياث الأمم )) للجويني، و(( الأحكام السلطانية )) للماوردي وكذا لأبي يعلى الفراء،
و(( التراتيب الإدارية )) لعبد الحي الكتاني وغيرهم .. ولا شك في وجوبها شرعا وعقلا، لأن أمور الناس لا تنضبط إلا بإمام عادلا كان أو جائرا، قال ابن حبان البستي ـ رحمه الله ـ: " وأنشدني ابن زنجي البغدادي للأفوه الأودي:
لا يُصلح الناسَ فوضى لا سَراة لهم ولا سَـراة إذا جـهّـالهـم ســادوا
والبــيـت لا يـُبتـنـى إلا بـأعـمــدة ولا عـمـاد إذا لم تُــرسَ أوتـــادُ
فإن تـَجـمَّع أوتادٌ وأعمدةٌ وساكنٌ أدركــوا الأمـــر الـذي كــادوا
تُهدَى الأمور بأهل الرأي ما صلــ ـحت فإن تَوَلَّت فبالأشرار تنقادُ
وذكر قبلها الحكمة المشهورة: سلطان غشوم خير من فتنة تدوم ". قال ابن تيمية: " يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين والدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس ... إلى أن قال: لأنَّ الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بالقوة والإمارة، ولهذا روي: (( أن السلطان ظل الله في الأرض )) ويقال:
( ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان ) والتجربة تبيِّن ذلك، ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان ... فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله؛ فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرئاسة أو المال بها ".
ولا تستوحش من قول خلاّف السابق: " .. وإن لم يتفق وأقوالَ الأئمة المجتهدين "؛ فإن المقصود به أن السياسة الشرعية ليست حكراً على الأئمة المتقدمين، بل لا بأس من أن يجتهد العالم المتبحّر من أولي الأمر فيما يَجدّ للأمة من نوازل بالقيود السابقة، ولذلك قال: " فالسياسة الشرعية على هذا هي العمل بالمصالح المرسلة؛ لأن المصلحة المرسلة هي التي لم يقم من الشارع دليل على اعتبارها أو إلغائها ".
وهو الأمر الذي نقله ابن القيم عن ابن عقيل نقل المقرّ وهو قوله: " فإن أردتَ بقولك: ( لا سياسة إلا ما وافق الشرع ) أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردتَ ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة؛ فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل ما لا يجحده عالم بالسير، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة ... ).
ولذلك قال ابن نجيم: " وظاهر كلامهم أن السياسة فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرِد بهذا الفعل دليل جزئي ".
لكن مع تقادم الزمن نزل بالناس حوادث لم يَعرفوها من قبل، فاستفتى الولاةُ فقهاءَ التقليد، فأغلقوا عليهم باب الاجتهاد، وحرَّموا على أنفسهم النظر فيما لم تذكره المذاهب، فاضطر الولاة إلى الاجتهاد فيما يَعِنُّ لهم من جديد بحق وبباطل، وزهِدوا في علماء الشريعة؛ ظنًّا منهم قصور الشريعة عن فتح مغاليق فتن العصر، ثم تمادى بهم الأمر حتى أعرضوا عما أنزل الله من آيات بيِّنات، وتحاكموا إلى الرأي إما جهلاً وإما ظلماً، وتجرَّأ أراذل الناس على الشرع حتى حُرِّف كثيرٌ منه.
وأدهى وأمَرّ منه أن قوماً من جهال المتديِّنين في هذا الزمان أرادوا أن يُعالجوا هذا الانحراف فضاق عليهم منهج النبيين وسبيل المؤمنين حتى اعتمدوا النظم الغربية الكافرة للوصول إلى الحكم بما أنزل الله زعموا! كالولوع باللعبة الديمقراطية ودخول البرلمانات، والاتِّكاء على الغثاء للضغط على الحكومات؛ فتارة يدَّعون أن الأمر في ذلك مصلحة مرسلة والشريعة مرِنة! وتارة يَدَّعون أنهم مضطرون إليها وقلوبهم لها كارهة!! فما زالت بهم هذه السياسة حتى استَحْسنوا الكذب والسباب، واستمْرَأوا الخيانة والمكر بالأحزاب، وجرى على لسان العوام أن لا سياسي إلا ذو كذب مرتاب. وهذه المسالك أشد من مخالفات الحكام؛ لأن هؤلاء لا يُقتَدى بهم في غالب ديار الإسلام، أما الإسلاميون السياسيون فمحطّ نظر الخواص والعوام! فما أشدّ محنتهم للناس!!
وقد نبَّه ابن القيم على هذا الخلط في معاني السياسة فقال: " هذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضَنْك ومعتَرَك صعب، فرَّط فيه طائفة فعطَّلوا الحدود وضيَّعوا الحقوق، وجرَّؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تَقوم بمصالح العباد، وسَدّوا على أنفسهم طرقاً صحيحةً من الطرق التي يُعرَف بها المحِق من المبطل، فعطَّلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق، ظناً منهم منافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوعُ تقصير في معرفة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهم هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم، فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أَحدثوه من أوضاع سياستهم شرٌّ طويل وفساد عريض، وتفاقم الأمر حتى تعذَّر استدراكُه، وأفرط فيه طائفة أخرى فسَوَّغَت منه ما يُناقض حكم الله ورسوله ... ولا نقول إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة، بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها، وتسميتها
( سياسة ) أمر اصطلاحي، وإلا فإذا كانت عَدْلاً فهي من الشرع "
قلت: هذه المرونة المشروعة في سياسة الخلق يمكن التمثيل لها بما رواه الشعبي قال: قال زياد: " ما غلبني أميرُ المؤمنين ( أي معاوية ) بشيء من السياسة إلا ببابٍ واحدٍ: استعملتُ رجلاً فكثُر خراجه، فخشي أن أعاقبه، ففرّ إلى معاوية، فكتبت إليه: إنّ هذا أدب سوء لمن قبلي، فكتب إليّ: إنه ليس ينبغي لي ولا لك أن نسُوس الناس بسياسة واحدة؛ أن نلين جميعاً فتمرح الناسُ في المعصية، أو نشتدّ جميعاً فنحمل الناسَ على المهالك، ولكن تكون للشدّة والفظاظة، وأكون للِّين والرَّأفة ".
قلتُ: هذه السياسة التي فاق بها معاوية زياداً هي التي مكَّنَته مِن أن يحكم أهل الشام أربعين سنة في وُدّ تامّ كما ذكر أهل التاريخ.

يتبع

رد مع اقتباس