
18 Jul 2010, 12:50 AM
|
موقوف
|
|
تاريخ التسجيل: Apr 2010
الدولة: الجزائري مقيم في فرنسا
المشاركات: 608
|
|
--------------------------------------------------------------------------------
مختصر تاريخ الدعوة الحديث في الجزائر
لما كان حديثي عن أوضاع الجزائر في هذا الزمن، لزمني أن أقَدّم للقارئ إلماحة عنها ليفهم ما يأتي بيانه، وقد أوجزتُ في ذلك جداً حرصاً على تصغير حجم الكتاب، ولذلك فقد تلحظ أنني خنقتُ الكلمات خنقاً! إلا أنني حرصتُ على الأهم فيما أظن. ثم لعلّك تارك بعض ما كتب ههنا في انتقاد بعضهم بأسمائهم وضائقٌ به صدرُك أن يقال: إنما هي غيبة وأكل لحمِ جيفة؟! فاطمئنَّ؛ فإن نيَّتي في ذلك الدفاع عن الدين، وما كان كذلك فذكاته شرعية شريفة. وقد اكتفيت في ذلك بالإحالة على الأحياء، والذمة تبرَأ بالإسناد، وما نَدَّ عنه قلمي أو شرَد عنه ذهني فعذر الاختصار فيه باد، فأقول وعلى الله الاعتماد:
عَرَفَت الدعوةُ السلفية نشاطها الكبير في الجزائر أيام الاستعمار الفرنسي على يد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كان يرأسها الشيخ عبد الحميد ابن باديس ـ رحمه الله ـ وكان من علمائها المبرِّزين الشيخ الطيب العقبي، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والشيخ مبارك الميلي، والشيخ العربي التبسي، وغيرهم ... وتوفي جلُّهم ـ رحمهم الله ـ أيام الاستعمار، ومن بقي منهم فقد انحسر نشاطه السلفي جدا من يوم أن حُلَّت الجمعية بعد الاستقلال، وأضحت الدعوة لدى الإخوان المسلمين موضع استغلال، على حين جهل الأمة، وقلة المعارض من أهل البدعة وأهل السنة. مع العلم أنه لتصلب الجزائريين في دينهم لم ينجح فيهم التهويد ولا التنصير، ولا كان للقاديانية وجود ولا لجماعة الهجرة والتكفير، ولا سُمع فيها بدعوة رافضية، بل كل ما هنالك دير تصوف وصوامع إباضية.
بدأت الدعوة ساذجة على نشاط ملحوظ من أتباع فكر مالك بن نبي
ـ رحمه الله ـ يَرون أن العمل الأكبر يكمن في مسابقة الحضارة، ثم لأسباب الإمارة انقسم الإخوان المسلمون إلى إخوان عالميين وآخرين إقليميين اشتهروا باسم ( الجَزْأَرة )()، بينهم بأس شديد وتبديع، ثم عن العالميين انشقت جماعة النهضة وهي أبعدها عن التمييع، وأقربها عناية بالتربية، لكن بلا تصحيح ولا تصفية، وظهرت دعوة جماعة التبليغ، على ضعف حيث برَّز العلم، وقوة حيث ضعف، إلا أن انتشارها ليس بذاك. ولما كان جميع الإخوان بعقد السياسة يتناكحون، وبماء التصويت يتناسلون، وفي علم الكتاب والسنة يتزاهدون، وُلِد لهم مولود عاقّ، سمَّوه بالهجرة والتكفير كيلا يكون بينه وبين نسبهم إلحاق، وادَّعوا أنه خرِّيج السلفية وأهل الأثر، ولكن الحق أن » الولد للفراش وللعاهِر الحَجَر «ier New Euro"، وقد شهد العدول يوم كان يُلقَم بأيديهم ثدي التكفير من صحف سيد قطب، كما قيل:
فإن لم تكُنْهُ أو يكُنْهافإنّه أخوها غَذَتْهُ أمُه بلبانها
وهم جميعا وإن كانوا لا يَرضَون بحسن البنّا بديلاً، فلا يقبلون في سيد قطب جرحاً ولا تعديلاً. أما تفرقهم فنتيجة حتمية لمن غاب عنده أصل
( التصفية والتربية ).
عاش هؤلاء آنذاك في صراع ضائع مع الشيوعية، أمضى سلاحهم: المسرحيات والأناشيد ورياضة ركضٍ كركض الوحشي في البرية.
ولغياب أصل الرد على المخالف، مع ظهور قرن الشيطان في إيران وتتابع التأييد المجازف، تلَقَّى هؤلاء ـ عن بكرة أبيهم ـ دعوة الخميني بكل ترحاب وتحنان، ولغياب أصل السلفية عندهم لم يشعروا بأدنى إثم وهم يجتمعون بمن يكيل لأصحاب رسول الله e أفظع السباب وأقذع الشنآن، فما أوسع صدورهم لكل خلاف عقدي ما لم يكن سلفيا! وما أضيقها على كل خلاف حزبي خاصة إذا كان النقد سلفيا! وتراهم من كل حدب ينسلون، وإلى محاضرات الرافضي رشيد بن عيسى يتنادون، في عقر دارهم وبدعوة منهم، لا يفتر عن التفكه بأعراض السلف الصالح وهم يضحكون! {وسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُون}().
ثم لم يلبثوا مليًّا حتى نجم التشيّع بعد أفول، وأخذ بعض أفذاذهم للرفض يتشيَّعون، عن اعتقاد جازم وحماس قوي، فتدارك الأمرَ الإقليميُّ محمد سعيد الونّاس، لكن بصوت خفيّ وعلم غير حفيّ؛ لأنهم لا يزالون يلَقَّنون ويلقِّنون: لا تُظهروا الخلاف بينكم؛ فإن العدوّ متربِّص بكم!! وكانوا من قبل هذا يَرمون السلفيين ـ إذا حذَّروهم من الشيعة الروافض ـ بتفريق الصف!! وأيم الله! إنه لبسبب تأييد هؤلاء لهم سياسياً صار للروافض في الجزائر وجود، وإلا فمن الذي فتح لهم الباب غيرُ ذلك الحزبي، وكل حزبيّ للمبتدعة وَدود! فهل يَرجعون بنا إلى تشيُّع بني عبيد؟ وليس فيهم من يقطع دابرهم كالقيروانيّ ابن أبي زيد؟ أم لم يعرفوا فقيههم هذا إلا بالمالكي صاحب الرسالة؟ فلِمَ يكتمون حربه للتشيّع وأشاعرة الضلالة؟!
ولما كان العمل السياسي طاغياً على هذه الأحزاب، لم تجد العقيدة بها في دعوتهم محلاًّ من الإعراب، ومن كان يعلِّمها يومذاك ـ كعلي بن حاج ـ كان يعلِّمها على الطريقة الأشعرية، وعلى رِسْلكم قبل أن تجيء قلوبكم ناكرة؛ فإن كراريس تلاميذه الأولين شاهدة سافرة.
وقبيل سنة (1400هـ)، تعلَّم شيئا من السلفية، ودعا إليها على تقصير ملحوظ في جنب العقيدة، وكان بينه وبين عباسي مدني ردود عنيدة، أوشكت على تحبيب السنة للشباب لولا أن أذهبَ بركتها تدخّلاته السياسية، منها: دخوله في الصراع المستمر في الجامعات بين الطلبة الإسلاميين والشيوعيين.
وفي السنة التي بعدها نشب اقتتال بين هؤلاء، حمل على إثره مصطفى أبو يعلي وجماعته الإسلامية السلاح، وورَّطوا معهم علي بن حاج مع أنه كان يتظاهر بنهيهم عن مثل هذا الكفاح. وقامت هذه الجماعات كلها ـ ولم تبرز الفُرقة بينها بعدُ ـ بمظاهرة في الجامعة المركزية بالجزائر العاصمة، يطالِبون فيها بتحكيم الشريعة، وكان ـ يومها ـ علي بن حاج يقول: " أعطوني دليلاً واحداً من الكتاب أو السنة على مشروعية المظاهرات وأنا معكم "!! لكن مشكلته أنه إذا خطب أظهر الوفاق للمتظاهرين، والله أعلم بما هو في قلبه دفين.
من أجل ذلك ضيَّق عليه النظام، حتى خطب في الناس قائلا: " لقد خُيِّرْتُ بين ترك الخطابة أو السجن، وأنا أختار ما اختار يوسف عليه الصلاة والسلام حين قال :{رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِليَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}"!! وكانت هذه الدروشة مضرب المثل في الشجاعة لدى الرعاع، إلا أن أحد الفطناء اعترض عليه بعد ذلك قائلا: " لقد تلوْتَ في خطبتك آية في غير محلها؛ وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام قال ذلك حين خُيِّر بين الفاحشة والسجن، أما أنت فخُيِّرتَ بين ترك وسيلة من وسائل الدعوة وبين السجن، وقد علَّمتَنا مرارا أن الحكومة لو منعتك من كلمة المسجد، فلن تَحُول بينك وبين الدعوة، فلك الكلمة في المقهى والوليمة والمأتم وغيرها، فلا أظنك بهذا الخطأ تدخل السجن إلا عقوبة من الله .. ".
وأُدخل السجن هو وكثير من الدعاة، وأُرْغم بعضهم على الإقامة الجبرية، وضُيِّق على الدعوة بعدما كانت في غنىً عن ذلك.
ولا بدّ من التذكير ههنا أن عباسي مدني من غلاة حزب ( الجَزْأَرة )! وهو كذلك إلى الآن! وإنما الذي جمعه بعلي بن حاج هو أمران:
الأوّل: أنّ المنَظِّرين الحقيقيّين للجزأرة منعوه من القيادة بعد نازلة الجامعة المركزية آنفة الذكر؛ يوم أن أجمعوا في السجن على أنه ـ بحمقه وتسرّعه ـ أَوردهم شرّ الموارد!! فنكايةً منه بهم انضمّ إلى ابن حاج.
الثّاني: النزعة السياسية الغالبة عليهما لم تُبقِ للولاء العقديّ محلاًّ!
المرحلة الذهَبيَّة للدَعْوَة
أقول بصراحة: إن أزهى أيام الدعوة التي عرفتُها عندنا هي السنوات الخمس التي تلت هذه النازلة، وقد كانت قبلها الجماعاتُ آنفة الذكر تجمع غثاءً بلا علم ولا تربية، ثم تفرِّقه؛ إما أن تفرِّقه هي بتحزباتها، وإما أن تزُجَّ به في مغامرات خطيرة لتقدِّمه في الأخير للأنظمة قرابين سياسية، ولا يَرْعَوُون! وكأن دعوتهم لا تزيد على تجميع هذا الغثاء السياسي، وبطن السياسة بأضعاف أمثاله وَلود، وبعد كل عملية إجهاض يعلِّق بعضهم لبعض وِسام المجاهد ويُنادَى عليه بالخلود!!
لكن بعد أن ولَّت الدعوات السياسية إلى انحسار، تعلَّمنا على أيدي طلبة العلم علماً جمًّا، وكثرت المساجد وازدحمت بأهلها، وكادت العقيدة السلفية تتبوَّأ من الديار الجزائرية مبوَّأ صدق، وأُخفيت مظاهر الشرك في كثير من المدن، وعَضَّت الطرقية الأنامل من الغيظ، حتى رأينا منهم مَن لا يلبَس عباءته إلا متخفيًّا في زاويته، فإذا خرج منها خلعها! وطُمِس على كثير من البدع، بل ربما دخلتَ مسجدا فلم تصادف فيه بدعة، لا في بنائه، ولا في تزويقه، ولا في صلاة إمامه، وتعلَّم الناس كثيرا من الآداب الإسلامية التي شحَّت بها التخطيطات السياسية! وعظُمت ثقة الناس بدعاتهم، الذين كان الواحد منهم ينتقل من قرية إلى قرية في أنصاف الليالي لا يخاف إلا الذئب على نفسه، بل كان ينتقل بين الثكنات العسكرية يُعلّم الهدى حتى انتشر الوعي في أوساطها.
والسر في ذلك هو أن هذه المرحلة كانت أكثر الأزمنة نشراً للعلم الشرعي منذ الاستقلال، ومن عجيب الموافقات أن هذا العمل قد اجتمع عليه ثلاث فئات هي:
1 ـ السلفية: لأن العلم أصل دعوتها، ونشر كتب السنة أكبر نَشْوَتها، خاصة من قِبل بعض خرِّيجي الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، الذين لم تَغْتَل عقولَهم الدعواتُ الحزبية، كما كان لرسائل الدعوة التي يرجع بها المعتمرون أثر بالغ في نشر العلم الصحيح؛ لأن جلّها في أبواب العقيدة وأنْعِم بها عقيدة! وأعظَم منه قيام الملحق الثقافي السعودي بتوزيع » مجموع فتاوى ابن تيمية « في الأوساط العلمية عن طريق بعض الفضلاء بوزارة الشئون الدينية، واستفاد الأئمة منه استفادة عظيمة لولا أن منَعَتْه بعدها يد طُرُقِيَّة مذهبية شقيَّة.
وأعظَم من هذا كله أن الديار الجزائرية حظيَت بعناية أكبر محدِّثي هذا العصر، ألا وهو الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ حفظه الله ـ؛ فقد أخبر الثقة أنه حضر عنده في بيته، فجاءته خمسون مكالمة هاتفية من الجزائر في مجلس واحد! فكان ـ حفظه الله ـ غرسه بالأردن، وثمار دعوته ممتدة إلى الجزائر، فسبحان الله الهادي! أقول هذا لأن الكثير ظنّ أن سلفية الجزائر هي مولود ( الجبهة الإسلامية للإنقاذ )، كلا! فإنه لا وجود لهذه الجبهة يومئذ، بل كان علي بن حاج في السجن الأول نسياً منسيًّا.
2 ـ جلّ الجماعات الأخرى التي سبق الحديث عنها: وهي وإن كانت لاتؤَصِّل دعوتها إلا على السياسة، فقد أرغمتها سياسة الحديد والنار ـ بعد نازلة الجامعة ـ على احتراف العلم وترك السياسة إلا في الظلام. وقد كنتُ انبهرتُ يوم دخلت مساجد بعض الجامعات، فرأيتُ فيها لأول مرة لوحة منصوبة على الجدار، كتِب عليها في يوم: أحكام التجويد، وفي آخر: فقه، وفي ثالث: علوم القرآن ... الخ، مع أنني لم أكن أسمع فيها من قبلُ إلا قال المودودي، وقال سيد قطب، وقال سعيد حوَّى ... وأقرب علم إلى الشرع عرفتُه عنهم هو السيرة النبوية، لكن دراستهم لها كانت لأغراض سياسية، حتى لكأنهم لا يعرفون منها إلا الغزوات! ولذلك فإن أشد ما يكرهون عند تدريسها هو أن يشوَّش عليهم بدراسة أسانيد الروايات، خاصة إذا كانت تُفَوِّت عليهم استنباطات حركية!! أو توقفهم عند أحكام فقهية قد تقيِّد حريَّتهم الحركية أو تأخذ من وقتهم، والقطار السياسي لا ( يبرمج ) لتَوقُّفه مثل هذه المحطات، إنه لا يرضى إلا بمحطة البرلمان! المهم أنه مَهْما تكن نيَّتهم في تحوُّلهم العلمي، فقد كانت مرحلة أفضل من سابقتها
3ـ وافق هذا إقامةُ الدولة معارضَ كبيرة للكتاب، مع إقبال على المؤلفات الإسلامية يفوق الوصف، وربما بيع ألف ألف كتاب في أسبوعين فقط.
وظهرت ثمرة الدعوة العلمية في سرعة فائقة، وكانت الصدارة فيها للدعوة السلفية التي لقيت في العاصمة حفاوة رائقة، وبدأت تبسط أجنحتها خارجها على الرغم من قلة دعاتها وكثرة عِداتها، وقلة مراجعها العلمية، وكثرة محاربيها بالمؤتمرات الرسمية، لكن مساجدها هي المطروقة، ونشراتها هي الموثوقة، فقد كان الطلبة يحضرون دروسها بانتظام ومواظبة، وربما بلغ عددهم الألفين في المجلس الواحد، ليس في الجمعة، بل في درس الليل، أما الجمعة فيسافَر لها من مئات الأميال، وظهرمن الشباب السلفي مَن عُلِّقت عليه آمال وآمال: في شغفه العلمي، والتزامه العملي، واشتهر بحفظ القرآن، حتى كان مَوْئل الباحثين عن أئمة رمضان، مع التنبيه على أنه الوقت الذي أفلست فيه الجماعات الأخرى، وكل من أضحى سلفياً من رموزهم ففي هذه المدة القصيرة، وفيها برز انقسام الإخوان بجلاء إلى الكتل الثلاثة التي ذكرتها في أول هذا الفصل.
وإذا رأيتني هنا أنحى باللوم الشديد على بعض الدعاة وأغضّ الطرف عن حسناتهم؛ فلأنني لا أرى من تسبَّب في وَأْد هذا الخير العظيم إلا جانيا على الإسلام والمسلمين أعظم جناية، ولو رأيتَ ما رأيتُ لقلتَ: ليس الخبر كالمعاينة.
ومن بركة العلم أن كثيرا من القوانين الوضعية أخذ في انحسار سريع، على الرغم من ندرة التعرض لنقضها، فقد أدرك الناس ـ بتعلم السنة ـ مناهضتها للشرع، حتى الإداريّ الذي يحفظها أضحى لا يعرفها إلا حِبرا على ورق؛ لأنه يسمع في مسجده أو في مكتبه ما يُضْعف قناعته بها. وأعرف من هدم ستين قبّة في منطقة واحدة من الغرب الجزائري، ووجد من المسئولين من يدعمه على الرغم من إرجاف الصوفية القبوريين، وأضحت المحافظة على الصلوات في العمل لا تقبل الجدل، بل فَرض القانونُ بناءَ مسجد في كل مؤسسة، وكاد يُقضى على مشكلة الصيام بالحساب، بل قُضي عليها لولا تقصير بعض الثقات الموكَّلين بترقّب الهلال، كما قلَّت بيوت الفساد والخمارات وعوقب المفطر في رمضان بلا عذر عقوبة رسمية، بل لقد نوقش في البرلمان لأول مرة بشكل مفتوح: منع الخمور، ورياضة المرأة، وغيرها من القضايا وفق الأحكام الشرعية.
أما المظاهر الإسلامية كالجلباب للمرأة والزي الإسلامي للرجل، فلم تعُد محل نقاش، حتى اللحية التي يمنعها القانون العسكري على الجنود، قد رُئِيَ منهم أنفسهم من يوَفّرها، وحظِيَ ذوو المظاهر الإسلامية بتوقير كبير لدى الناس.
وأما من الناحية الأمنية فقد كانت الجزائر من آمَن بلاد الله؛ وقد كان الواحد منا يمكث سنوات متتابعات لا يَحمِل معه أوراقه الثبوتية! وكانت الشُّرَط نادراً ما يحملون معهم السلاح، بل ذُكِر لي أن بعضهم كان يضع في حزامه خشبةً تُشبِه المسدَّس بَدَله!
أكتب هذا تذكيراً بأصل ( نيل السؤدد بالعلم )، ليَقْصُر الدعاة من زهدهم في نشر العلم الصحيح؛ لأنهم إن لم يَحْرِموا الناس من بركته، وظهر في الأمة الإخلاص لله في العمل به، غيَّر الله ما بهم من بأس. وإنما عربون الفتنة في انصراف العلماء عن تعليم أمتهم الكتاب والسنة أي العلم الذي يعني الجميع، إلى الجهد الضائع في السياسات العصرية التي لا تعني إلا فئة محصورة على أكبر تقدير، وهذا خلاف سيرة النبي فعن جابر قال: مكث رسول الله بمكة عشر سنين، يتبع الناس بعكاظ ومجنة، وفي المواسم بمنى يقول: (( من يُؤويني؟ من ينصرني حتى أبَلِّغ رسالة ربي وله الجنة؟ ))، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر ـ كذا قال ـ فيأتيه قومه فيقولون: " احذر غلام قريش لا يفتنك "، ويمشي بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب، فآويْناه وصدَّقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن، ويُقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيُسلِمون بإسلامه، حتى لم يَبق دار من دور الأنصار إلا وفيها من المسلمين يُظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعا، فقلنا:
" حتى متى نترك رسول الله يُطرَد في جبال مكة ويخاف؟ "، فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدِموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين حتى تَوافينا، فقلنا: يا رسول الله! نبايعك؟ قال:
» تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله، لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني، فتمنعوني إذا قدِمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة ... «
من مظاهر رفع الله لأمة العلم أن الشيوعيين ـ الذين كانوا يحاولون التسلّل في الدولة التي كانت لهم بالمرصاد آنذاك ـ قلُّوا بصفة مدهشة! واعتزلهم الناس، إلا أنهم لم ييْأسوا، فحاولوا بكل وسيلة ضرب الإسلام، فلم يجدوا أنفع لهم من استفزاز شخصية إسلامية ثورية، يستطيعون التحكم فيها بالتهييج السياسي، ويبدو أنهم لم يجدوا أحسن من علي بن حاج في شبابه وقوة نشاطه، وسحر بيانه وشدة نقمة سجين على نظامه، فأُخرج من السجن قبل انتهاء مدته، ثم هُيِّئَت له ثورة شعبية! عُرفت بثورة (5 أكتوبر 1988م)، وزُعِم أنها شعبية شعبية!! وزُعِم أن أمن الدولة مُنِع من التدخل!! وقُرْقِر في أذن علي بن حاج أن ( الشعب ) ينتظر كلمة المسجد!! فجعل يقذف بلسانه ذات اليمين وذات الشمال، وكان جلّ حديثه بل قُلْ كل حديثه عن السجن والحكومة، فنصح له الدعاة السلفيون بل وغيرهم لكن بلا جدوى. ثم نُصِب له الفخّ السياسي: التعددية الحزبية، وقيل للناس هل أنتم متحزِّبون؟! لعلنا نتَّبع الكثرة إن كانوا هم الغالبين؟! فاستجاب لهم أصحاب الوعي السياسي عن بكرة أبيهم!! مِن الجماعات الإسلامية التي هي على مستوى تحديات العصر!!! لأنهم يكثرون عند الطمع، ويقلُّون عند الفزع، و(اليد الشعبية!) تتصيَّدهم حزباً حزباً، وخَطَبَ العدوُّ دعاةَ الحماسة، وتَمَّ النكاح حتى تخلَّقَت الحزبية في ظلمات ثلاث: ظلمة الجهل بالشريعة، وظلمة إغلاق العقل عند شباب حديد بالطبيعة، وظلمة الاستفزاز الخارجي الذي لا يألوهم خبالاً ولا مكرًا ولا خديعة! وكَوَّن علي بن حاج حزبه في ليل من السياسة غاسق، وسمّوه: ( جبهة الإنقاذ الإسلامية )، ومن يومها والجزائر تستغيث: هل من منقذ؟!
حقيقةً! إنّ فتنة هؤلاء الخطباء في قومهم أعظم فتنة؛ لأنهم ملَقِّحوها! ويا عجباً! كيف لا يُقلَّدون عارها وقد أضرموا نارها؟! وهم أدوات في أيدي عدوّهم يحرِّكها كيف يشاء، قال خبير الفتن حذيفة بن اليمان t: " إنّ الفتنة وُكِلت بثلاث: بالحادّ النحرير الذي لا يرتفع له شيء إلا قمعه بالسيف، وبالخطيب الذي يدعو إليها، وبالسيِّد؛ فأما هذان فتبطحهما لوجوههما، وأما السيّد فتبحثه حتى تبلو ما عنده "().
وطبيعة التحزب تغنيك عما يتبعها من عنف، كانت تُستدرَج إليه الجبهة في سرعة جعلت ( الأحزاب الإسلامية ) الأخرى مقبوضة اليد، توجِس من التحزب خيفة، ولكن ما دام لا بد ـ عندهم ـ من البديل ولو لم يكن مشروعاً، فقد أنشأوا لهم: ( رابطة الدعوة الإسلامية )، لتكون لها الوصاية الدعوية على غيرهم، وأوغلوا فيها عباسي مدني وعلي بن حاج ليكونوا تحت عينهم، وتَوَّجوا الإقليمي الشيخ أحمد سحنون كرئيس شرفي، والرئاسة الحقيقية ترجع إلى حِرَفِيِّي الاحتيال في حلبة النطاح الحزبي: إما إقليمي، أو إخواني، أو نهضوي، أو رافضي ...! وما سُمِّيَت رابطة إلا لأنهم يربطون عقدها، وكلٌّ فيها بسحر السياسة نافث، فنعوذ بالله من شر النفاثات في العقد.
لكن رُقيتها لم تفلح طويلا في علي بن حاج رغم اجتماع النافخين فيه، فكان كلما أراد أن يخالفهم فعل ولم يبالِ بمخالفيه، من أجل ذلك استشارني بعض الإقليميين في أن يتَخلَّلوا صفوف جبهة الإنقاذ، فقلت: ولِمَ؟ قال:
" لنُخَفِّف من جنون الرجلين: مدني وابن حاج! "، فقلت: " إذن سيُوَرِّطانكم فيما تكرَهون "، فلم يقبلوا النصيحة، وانخرط كبيرهم محمد سعيد الونّاس، وزعموا: " أنه لا يزيد على وظيفة الحماية المدنية {كُلَّمَا أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ} بأيدينا!"، واتَّخذ الجميعُ من السياسة جارحةَ صَيدٍ يَجْمعون بها الرغوة، واتَّخذها أعداؤهم آلةَ كَيدٍ يَجهضون بها الدعوة، ولذلك لم يمض إلا زمن يسير، وإذا بالجميع بحمأة الفتن يُكوَى، والله يهديهم.
أما الإخوان العالميون فقد أظهروا بقوة رفضهم للتحزب، وتظاهروا بسلوك طريق التربية، وأعلن ذلك أميرهم محفوظ نحناح في الجرائد بلا خفاء، وهم يترقَّبون يوم مذبحة الجبهة ليقال لهم: يا لكم مِن حكماء!، ولكن ذلك لم يحصل، بل هالهم أن نجحت الجبهة في الانتخابات البلدية وامتدّ سلطانها، وظنوا المُلْك غنيمة باردة، فلم يلبثوا إلا قليلا حتى قصروا عمر الحكمة وخلعوا برقع التربية، وقالوا: " السياسة من الدين ولا بد من الحزبية! "، لكن قطار الجبهة حشد الحشود ولم يُبقِ لهم من الأصوات ظَهراً مركوبا إلى الحكم إلا بحّة شيوعية ووطنية، فكانوا كالشاة العائرة بين غنمين، وأخيرا تحالفوا مع الأحزاب الشيوعية والوطنية! نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
وفي آخر سنة (1411هـ) غيَّر النظام الحاكم قانون الانتخابات، ورأت جبهة الإنقاذ أنها مكيدة مدبَّرة، فدعت إلى إضراب عام عن العمل، واعتصموا ببعض الساحات العامة، وبدأ الجدّ يظهر بعد هذه ( المسرحية )، فمِن الجبهة عنف اللسان، ومِن مخالفيهم عنف السِّنان. وبينما أنا في بيتي في حيّ يقال له: جسر قسنطينة، إذ سمعت صارخا من مكبِّر صوت المسجد ينَدِّد بفعل بعض عسكر الدولة، لكنه أرشد إلى الصبر، فحمدت الله. ولم ألبث إلا قليلا فإذا بصارخ آخر من مسجد ثان يكرِّر التنديد، لكنه مصحوب بالنداء إلى الجهاد!! فقلتُ في نفسي: " هذا ( حزب إسلامي ) يريد إقامة دولة الإسلام وقد عجز عن توحيد كلمة مسجدين في هذا الظرف العصيب؟ يا لها من مغامرة يُساق إليها بلد مسلم! قد فعلْتَها بهذه الأمة يا ابن حاج!" ففزعت إلى الصلاة، ولم أشعر حتى فاضت عيناي بالدمع، وجال في مُخَيَّلتي قصة حماة بسورية، {ولَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
وفي سنة (1412هـ) دخلت الأحزاب الترشيحات البرلمانية، وفازت جبهة الإنقاذ في الدور الأول منها، ثم تغيَّرت الأوضاع فجأة، واستقال رئيس الجمهورية ابن جديد، واستبدلت الحكومة بأخرى ...
فلجأ خطباء الجبهة إلى منابر المساجد مستنفرين الأمة إلى الجهاد؛ يتلثَّم الخطيب كيما يُعرَف، فيشتم ثم يصلي بالناس الجمعة ثم يفرّ! وربما فرَّ قبل الصلاة!! وإذا حضرت الشرطة لم تجد إلا الأبرياء، فتأخذهم بجريرة أولئك الأبطال! أبطال هذه اللعبة الصبيانية ـ وإن رأوها مناورة حركية ـ!! ودخلوا في ( مضاربة بلا رمح، وليل بلا صبح ).
يتبع
|