
21 Apr 2010, 09:50 AM
|
|
بَابُ الخَوفِ مِن الشِّركِ
بَابُ الخَوفِ مِن الشِّركِ
لما ذكر المؤلف رحمه الله فضل التَّوحيد؛ العام والخاص، ذكَر هذا البَاب؛ لأنَّ الإنسان يرَى أنَّه قد حقَّق التَّوحيد وهو لم يحقِّقه، وقَلَّ من يكون غرضُه الآخرةَ في كل عمَله.
وقَولِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: "إِنَّ اللهَ لاَ يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ" [النساء: 116].
قوله: "إِنَّ اللهَ لاَ يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ" أي: لا يغفِر إشراكًا به، فالشِّرك لا يغفِرُه الله أبدًا؛ لأنَّه جِناية على حقِّ الله الخاص، وهو التَّوحيد.
فالمعاصي؛ قَد يكُون للإِنسان فيهَا حظُّ نَفس بمَا نالَ مِن شَهوةٍ، أمَّا الشرك، فلَيس له فيه حظُّ نفسٍ، وليس شهوَةً يُرِيد الإنسانُ أن ينَال مرادَهُ، ولكنَّه ظلم.
قوله: "وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ"، المرادُ بالدُّون هنا: ما هُو أقلُّ مِن الشِّرك، وليسَ مَا سِوَى الشِّرك.
مناسبة الآية: خُطورَة الشِّرك، وأنَّه لا يُغفَر، وهذا يجعَلُنا نخَافُ مِنه.
وقَالَ الخَلِيلُ ـ علَيهِ السَّلامُ ـ: "وَاجنُبنِي وَبَنِيَّ أَن نَعبُدَ الأَصنَامَ" [إبراهيم: 35]
قوله: "وَاجنُبنِي وَبَنِيَّ أَن نَعبُدَ الأَصنَامَ" أي: اجعَلني في جانِبٍ والأصنَامَ في جانِبٍ.
فإِبراهيمُ ـ علَيه السَّلام ـ يخَافُ الشِّرك علَى نَفسِه، وهُو خلِيلُ الرَّحمَن وإِمامُ الحُنَفاء، فما بالُك بنا نحن إذًا؟
وقوله: "الأَصنَامَ": جمع صَنَم، وهُو كلُّ ما عُبِد من دُون الله وكانَ علَى صُورة إنسانٍ أو غيرِه، والوَثَن: ما عُبِدَ من دُون الله علَى أيِّ وجهٍ كانَ، وفي الحدِيث: "لاَ تَجعَل قَبرِي وَثَنًا يُعبَدُ".
ولا شكَّ أنَّ إِبراهِيمَ ـ علَيه السَّلام ـ سأَل ربَّه الثَّباتَ علَى التَّوحيد، لأنَّه إذا جنَّبه عبادَة الأصنَام كانَ باقيًا على التَّوحِيد.
مُناسَبة الآيَة: أنَّ إبراهيمَ خافَ الشِّرك، وهُو إِمام الحُنَفاء.
وفِي الحَدِيث: "أَخوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيكُم: الشِّركُ الأَصغَرُ"، فَسُئِل عَنهُ، فقَال: "الرِّيَاءُ".
قولُه: "أَخوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيكُم": الخطاب للمُسلم؛ إذ هو الَّذي يُخاف علَيه الشِّرك الأصغَر.
قوله: "الرِّيَاءُ": مِن الرُّؤية؛ مَصدر رَاءَى يُرَائِي رِيَاءً، كقَاتَل يُقَاتِلُ قِتَالاً، والرِّيَاء: أن يعبُدَ الله ليراهُ النَّاس فيَمدَحُوهُ على كَونِه عَابِدًا، وليس يُريدُ أن تكون العبادةُ للنَّاس، لأنَّه لو أرَاد ذلِك، لكانَ شِركًا أكبرَ.
والظَّاهر أنَّ هذَا علَى سبِيل التَّمثِيل، والتعبير بالأغلب، وإلاَّ، فقَد يكُون رياءً، أو سمعةً.
والرِّياءُ ينقَسم باعتِبار إِبطاله للعِبادة إلى قِسمَين:
الأوَّل: أن يكُون في أصل العِبادة، أي ما قام يتعبَّد إلاَّ رياءً، فهذا عملُهُ باطلٌ مردودٌ عليه لحدِيث أبي هريرة في "الصحيح" مرفوعاً: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَنَا أَغنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّركِ، مَن عَمِلَ عَمَلاً أَشرَكَ مَعِي فِيهِ غَيرِي تَرَكتُهُ وَشِركَهُ".
الثَّاني: أن يكُون طارِئًا على العِبادة، فهذَا قِسمان:
الأوَّل: أَن يُدَافِعَه، فهذَا لا يَضرُّه.
الثَّاني: أن يَستَرسِلَ معه، فكلُّ عمَل ينشَأُ عَن الرِّياءِ فهُو باطِلٌ. ولا يخلُو هذَا مِن حالَين:
الأُولى: أَن يكُون آخرُ العِبادة مبنيًّا على أوَّلها؛ بحيثُ لا يصحُّ أوَّلها مع فسَادِ آخِرِها؛ كالصَّلاة، فهذِه فاسِدة.
الثَّانيَة: أن يكُون أوَّلُ العِبادة مُنفصِلاً عن آخِرِها؛ بحيثُ يصِحُّ أوَّلها دونَ آخِرها، فما سبَق الرِّياءَ، فهُو صحِيحٌ، وما كانَ بعدَه، فهُو باطِل. مثالُه: رجلٌ تصدَّق بخمسِين ريالاً بنيَّة خالِصة، ثم تصدَّق بخمسِين رياءً، فالأُولى مقبُولَة، والثَّانِية غيرُ مقبُولة، لأنَّ آخِرَها منفكٌّ عن أوَّلها.
مُناسبَة الحدِيث: خَوف النَّبِي ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ علَى أمَّته الشِّركَ الأَصغَر.
وعَن ابنِ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ قالَ: "مَن مَاتَ وَهُوَ يَدعُو مِن دُونِ اللهِ نِدًّا، دَخَلَ النَّارَ" رواه البخاري.
قوله: "يَدعُو مِن دُونِ اللهِ نِدًّا"، أي: يتَّخِذ لله ندًّا، سواءً دُعاءَ عِبَادَةٍ أم دُعاءَ مَسألةٍ، لأنَّ الدُّعاءَ قِسمان:
ـ دُعاءُ عِبَادَةٍ: كالصّوم، والصّلاة، وغير ذلِك من العِبادات، فإذَا صلَّى الإنسان أو صام، فقد دعَا ربَّه بلِسان حالِه أن يَغفِر لَه، وأن يُجِيرَهُ من عَذَابِه، وأن يُعطِيَه من نَوَالِه، قال تعالى: "وَقَالَ رَبُّكُم ادعُونِي أَستَجِبْ لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" [غافر: 60]، فجَعَل الدُّعاء عبادَةً.
وهذا القسم كلُّه مَن صَرَف منهُ شيئًا من أنواع العبادة لغير الله فقد كَفَر كُفرًا مُخرِجًا له عن الملَّة.
ـ دُعاءُ مَسأَلَةٍ: فهذَا ليس كلُّه شِركًا، بل فيه تَفصِيل، فإن كانَ المخلُوق قادرًا على ذلِك، فليسَ بشِركٍ، كقوله: اسقِني ماءً لمن يستطِيعُ ذلِك، وقد قال ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ: "مَن دَعَاكُم فَأَجِيبُوهُ"، وأمَّا إن دعَا المخلُوق بمَا لا يقدِر علَيه إلا الله، فإِنَّ دعوتَه شِرك مخرِج عن الملَّة، كأن يَدعو إنسانًا أن يُنزِّل الغيثَ مُعتقِدًا أنه قَادِرٌ على ذلك.
والمراد بقَوله ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ: "مَن مَاتَ وَهُوَ يَدعُو مِن دُونِ اللهِ نِدًّا": النِّدُّ في العبادة، أمَّا النِّدُّ في المسألة، ففِيه تفصِيل.
قوله: "دَخَلَ النَّارَ"، أي: خالدًا، مع أنَّ اللَّفظ لا يَدلُّ عليه، لأنَّ دَخَلَ فعلٌ، والفِعلُ يَدُلُّ على الإطلاق، وقال الله تعالى: "إِنَّهُ مَن يُشرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن أَنصَارٍ" [المائدة: 72]، وإذا حرِّمت الجنَّةُ، لَزِمَ أن يكون خالدًا في النّار أبدًا.
فيَجِب أن نخافَ مِن الشِّرك ما دامَت هذِه عُقوبتُه؛ فالمشرِك خَسر الآخرةَ؛ لأنَّه في النَّار خَالِدٌ، وخَسِرَ الدُّنيا أيضًا، لأنَّه لم يَستفِد مِنها شيئًا، وقامت عليه الحجَّةُ، وجاءهُ النَّذيرُ، قال تعالى: "أَوَلَم نُعَمِّرْكُم مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ" [فاطر: 37]، وقال الله ـ عزَّ وجلَّ ـ: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعبُدُ اللهَ عَلَى حَرفٍ فَإِن أَصَابَهُ خَيرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِن أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ * يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ البَعِيدُ * يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَفْعِهِ لَبِئْسَ المَوْلَى وَلَبِئْسَ العَشِيرُ" [الحج: 11-13]، وقال تعالى: "قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَومَ الْقِيَامَةِ" [الزمر: 15]، فَخَسِرَ نفسَه، لأنَّه لم يستَفِد منها شيئًا، وخَسِرَ أهلَه؛ لأنهم إن كانوا من المؤمنين فهُم في الجنّة، فلا يتمتع بهم في الآخرة، وإن كانوا في النار فكذلك، لأنه كلّما دخلت أُمَّةٌ لعنت أختَها.
والشِّرك خَفِيٌّ جدًّا، فقَد يكُون في الإِنسان وهُو لا يَشعُر إِلاَّ بَعد المحاسَبَة الدَّقِيقة، ولهذَا قالَ بعضُ السَّلف: "مَا جاهَدت نفسِي علَى شيءٍ ما جاهَدتُها علَى الإِخلاص".
فالشِّرك أمرُه صعبٌ جدًّا ليس بالهيِّن، ولكن يُيَسِّر اللهُ الإخلاصَ على العبد، وذلِك بأن يجعَلَه اللهُ نصبَ عَينَيهِ، فَيقصِد بعمله وجهَ الله لا يقصد مدحَ النَّاس أو ذمَّهم أو ثناءَهم عَليه.
ولِمُسلِم عَن جابِر أنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ قالَ: "مَن لَقِيَ اللهَ لاَ يُشرِكُ بِهِ شَيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن لَقِيَهُ يُشرِكُ بِهِ شَيئًا دَخَلَ النَّارَ".
قوله: "دَخَلَ الجَنَّةَ": وهذَا الدُّخُول لا ينافي أن يُعَذَّبَ بِقَدرِ ذُنوبه ـ إِن كانَت علَيه ذُنوبٌ ـ، لِدِلالَةِ نُصُوصِ الوَعِيدِ على ذلِك، وهذا إذا لم يَغفِر اللهُ له، لأنَّه دَاخلٌ تحتَ المشيئَة.
قوله: "لاَ يُشرِكُ بِهِ شَيئًا": نكِرة في سيَاق الشَّرط، فيعمُّ أيَّ شِرك، حتَّى ولو أَشرك معَ الله أشرفَ الخلقِ؛ محمّدًا ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ دخَل النَّار، فكيفَ بمن يجعَل الرَّسولَ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ أعظَمَ مِنَ الله؛ فيَلجَأ إلَيه عِند الشَّدائِد، ولا يَلجَأ إلى الله؟!
مسألة: هَل يَلزم مِن دُخول النَّار الخُلُود لمَن أَشرَك؟ هذا بحسَب الشِّرك:
إِن كانَ الشِّرك أَصغَر؛ فإنَّه لا يَلزَم مِن ذلِك الخُلودُ في النَّار.
وإن كانَ أكبر؛ فإنَّه يَلزم مِنه الخُلودُ في النَّار.
لكن لو حمَلنا الحديثَ علَى الشِّرك الأكبَر في المَوضِعين في قوله: "مَن مَاتَ لاَ يُشرِكُ بِالله شَيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ"، وفي
قوله: "وَمَن لَقِيَ اللهَ يُشرِكُ بِهِ شَيئًا دَخَلَ النَّارَ"، وقُلنا: من لقِي اللهَ لا يشرِك به شركًا أكبَر دخَل الجنَّة، وإن عُذِّب قبل الدُّخول في النَّار بما يستحِقُّ، فيَكون مآلُه إلى الجنَّة، ومَن لقِيه يُشرِك به شركاً أكبر دخَل النَّار مخلَّدًا فِيها لم نحتَج إلى هذا التَّفصيل.
مناسبَة الحديث: أنَّ الشِّرك سبَب لدُخول النَّار، فيَنبغِي الخَوف مِنه.
كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.
تنبيه:
أعتذر لإخواني عن التأخر أحيانا في تنزيل الدرس، وأعلمهم أن الدرس القادم سيتأجل للأسبوع الذي بعده إن شاء الله.
|