
31 May 2008, 11:27 PM
|
عضو
|
|
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
|
|
طعنَ في الصحابة من أجل تزكية الثوّار
لقد حصل من الثوار الجزائريين أنواع من الإجرام لا يحصيه إلا الله، من قتل بغير حق، و تنكيل ببني آدم و تمثيل، و عدوان على أعراض النسوان، و وحشية في الهجوم على أرواح العجزة و الولدان... ! !
همجية لا نظير لها إلا أن تُقرَن بهمجية التتار و من شابههم، حاول المتظاهرون بالغيرة و الاعتدال إلصاق كل شيء بالمخابرات، كما هي عادتهم عند الفشل، و معلوم أن كل شيء لا تفسير له عندهم فإن ظهر المخابرات له حمّال، و من تناقضهم و جورهم في آن واحد، أنهم يعترفون أحيانا بأن ثوارهم قاموا بشيء من هذا؛ و ذلك إذا لم يكن في عملهم بشاعة ظاهرة، فهنالك يسارعون إلى الافتخار ’بمجاهديهم!‘، و أما إذا كان فيه بشاعة، فإنهم يسارعون إلى رمي المخابرات به، و لو كانوا لا يعرفون شيئا عن مصدر هذه العمليات، و إنما لهم الحُلو، و لغيرهم المرّ! !
لكن أبا قتادة يرفض ذلك؛ لأنه يعرف أصحابه الذين يقومون بمثل ما ذُكر، بل هو مستبشر بحالهم التي ارتقت بهم إلى الوصول لتحقيق هذه الأعمال الجهادية ف زعمه؛ لأنه يتقرّب إلى الله بها! !
فجاء يرفع عنهم اللوم، و يدفع عن أعمالهم الضَّيم فقرن فظائعهم بأخطاء الصحابة، بل زعم أن أخطاء الصحابة في جهادهم تبلغ المجلّدات {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} (الكهف 5).
قال في خطبته المشار إليها: ”و لو أردت أن اذكر لكم المثالب التي وقعت في حركة الجهاد و التي قام بها أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ت لأُلِّف منها المجلّدات؛ لأنها حركة، و فيها الاجتهاد الواسع، فهل علمتم شيئا من فعل أبي بكر مع مرتدّ حرقه بالنار، أبو بكر حرق رجلا بالنار، و هناك حديث الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقول: "لا يُعذِّب بالنار إلا ربّها"؟ لكن ل هذا أسقط شرعية قتال أبي بكر للمرتدين؟! خالد بن الوليد قتل أكثر من ثلاثة آلاف رجلا (كذا! ! !) خطأ من بني جَذيمة اجتهادا حتى أراد عمر أن يعاقب خالد (كذا)، لكن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ رفض أن يعاقبه؛ لأنها حركة بشرية و حركة جهاد، جهاد فيه دماء و أشلاء، لا بد أن يقع فيها مثل هذا! و لذلك لمّا تولّى عمر بن الخطّاب إمارة المسلمين بعد خلافة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ عزل خالد (كذا)، ثم تندّم في آخر حياته لمّا مات خالد، و قال: (رحم الله أبا بكر؛ لقد كان أعلم مني بالرجال)، فكون خالد وقع في خطأ شرعي لا يسل خالد (كذا) شرعية جهاده، و كذلك أسامة بن زيد، عندما قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله، قال له رسول الله: "أقتلته بعد ما قال...؟ !"، قال: إنما قالها تأولّا، قال: "هلّا شققت على قلبه؟!"، و مازال يعنّفه... هذه حركة، حركة بشرية، فيها دماء و أشلاء! ! فيها جهود و تضحيات! !“.
النقد:
1- إذا كانت أخطاء الصحابة في قتل النفس بغير حق لا يفي بها إلا المجلّدات، فهو يعني أنهم ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يتلاعبون بأرواح بني آدم، و حاشاهم!
أين هذه المجلّدات، و هذا المشبوه الطاعن في أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ لمّ إلا ثلاث وقائع؟!
2- إنّ جهاد أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ كان جهادا شرعيا،بل هو أشرف جهاد سُمِع به في هذه الأمة، فمن من العلماء أضفى الشرعية على جهادكم؟! و قد قيل: أثبت العرش ثم انقش!
3- إن الأخطاء التي وقع فيها بعض الصحابة كانت عن اجتهاد منهم، فأين اجتهاد من يقتحم قرية و يسلب أهلها، ثم يذبحهم عن بكرة أبيهم، لا يتحاشى شيخا و لا امرأة و لا رضيعا؟!
أين اجتهاد من يفخِّخ سيارة بالمتفجّرات في طريق آهل بالناس، بل بالمسلمين، أو في محل عمومي؟!
أين اجتهاد من يدخل على بيت مسلم و يذبح فيه الشباب الذي لم يتجاوز عمر العشرين؛ و ليس له ذنب سوى أنه طُلٍب لأداء الخدمة العسكرية فاستجاب طوعا أو كرها؟!
أين اجتهاد من يقلع العيون و يجدّع الأنوف و يقطع الشفاه...؟ !
أين اجتهاد من رأى حِلّ دم أبيه و أمه، منطلقا من مبدأ ’الولاء و البراء‘؟ !
أين اجتهاد من حوّل الحرائر من المسلمات سبيا؟!
أي ذنب ارتكب التاجر حتى استحقّ القتل؛ حين رفض أن يسلّم لهم أمواله؟!
فأين الاجتهاد هنا في إزهاق روحه؟!
أين اجتهاد من استباح دماء الشعب بحجة مشاركته في جريمة الانتخاب؟! {قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} (يونس 59)؟ !
هذه جرائم لم تقع إبّان الحركة القتالية اجتهادا طارئا على غير مثال سابق، و لكنها وقعت بعد الفتوى التي يسمّونها زورا ’شرعيّة !‘
هذه الجرائم استبحتموها على مكتب الفتوى بعد غياب التقوى، كالذي عند المشبوه بِلندن، قبل أن تستبيحوها على أرض ’حركة الجهاد!‘، فلا يقال حينئذ: إنها طرأت عليهم في ميدان القتال؛ لأنهم بيّتوها قبل دخول المعارك، و هي فتاوى لُقّنوها مراغَمة لفتاوى أهل العلم.
هذه الجرائم لم تقع على أرض (حركة الجهاد!) فلتة، و لكنها وقعت على أرض الغلوّ الذميم، فما أتعسكم و ما أضل سعيكم حين تفترون على جهاد الصحابة ما افتريتموه و تشبّهون أنفسكم بهم! !
5- إن أخطاء من أخطأ من الصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ كانت على غير اختيار منهم، أما فظائعكم فإنكم ارتكبتموها و ترتكبونها و أنتم في سعة من وقت، و بعد تقدير و سوء تدبير.
و مثاله ما فعله أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ فإنه لم يكن له خيار في قتل المشرك أو تركه، فهما فرصتان لا ثالث لهما، و الوقت كان أضيق ما يكون، بحيث لا يسعه أن يدع المشرك بعد أن نطق بكلمة الإسلام ليستشير أو يستفتي، مع ذلك عنّفه رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ كلَّ ذلك التعنيف المشهور، و هو حِبّه ـ رضي الله عنه.
قتل أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ رجلا من المشركين بعد أن نطق هذا بكلمة الإسلام و هو في المعركة، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "أقال: لا إله إلا الله؟"
فقال أسامة: يا رسول الله! إنما قالها خوفا من السلاح.
قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟!"
و في رواية أن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال: يا أسامة! أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟!
قلت: يا رسول الله! إنما كان متعوّذا.
فقال: أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟!
فمازال يكررها حتى تمنّيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم! ! رواه البخاري (6872)، و مسلم (158، 159).
فتأمل:
أ- إن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ت لم يمنعه كون القاتل هو حِبّه أسامة من تعنيفهن و تعظيم الجناية في عينيه، خلافا للمستخفّين بدماء المسلمين، مع أن أسامة كان متأوِّلا قاصدا نصرة الدين، مقاتلا رجلا من المشركين، لم ينطق بكلمة (لا إله إلا الله) إلا تحت بارقة السيف.
كل القرائن توحي بأنه لم يرد بكلمة التوحيد إلا حقن دمه، لا سيما و أنه مشرك من أصله، مع ذلك حرّم رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ قتله، بل عنّف حِبّه هذا التعنيف الذي يُعهد عنه مثله ـ صلى الله عليه و سلم ـ، حتى تمنى أسامة أنه لم يعرف الإسلام قبل هذه الحادثة، فأين هم الذين يعرفون لكلمة (لا إله إلا الله) حرمتها؟!
و على هذا، فمن كان متأسّيا برسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ فلا يجاملنّ هذه الجماعات المقاتلة كما لم يجامل رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ حِبّه أسامة ـ رضي الله عنه ـ، مع أن ما بينه و بينهم من الفرق ما لا يخفى.
قال ابن التين: [في هذا اللوم تعليم و إبلاغ في الموعظة حتى لا يقدم أحد على قتل من تلفّظ بالتوحيد، و قال القرطبي: في تكريره ذلك و الإعراض عن قبول العذر زجر شديد عن الإقدام عن مثل ذلك]، من 'فتح الباري' لابن حجر (12 / 195-196).
ب- إن الرجل المقتول لم يكن مسلما و لا كان مسالما، و لكنه جاء مقاتلا، بل قتل من المسلمين عددا، بل كاد لا يسلم منه أحد، كما قال جندب بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ: (.. فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله..) رواه مسلم (160).
و بعد أن ذكر قتل أسامة له، قال له رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "لمَ قتلته؟
فقال: يا رسول الله ! أوجع في المسلمين، و قتل فلانا و فلانا، و سمّى نفرا، و إني حملت عليه، فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله!
قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: أ قتلته؟
قال: نعم!
قال: فكيف تصنع بـ (لا إله إلا الله) إذا جاءت يوم القيامة؟!
قال: يا رسول الله! استغفر لي.
قال: و كيف تصنع بـ (لا إله إلا الله) إذا جاءت يوم القيامة؟! فجعل لا يزيد على أن يقول: كيف تصنع بـ (لا إله إلا الله) إذا جاءت يوم القيامة؟!" رواه مسلم (160).
هذا في حق مشرك آذى المسلمين بسيفه و قاتلهم، فكيف بقتل مسلم قد يكون مصليّا مزكيّا صوّاما، كل ذنبه أنه شرطي أو عسكري؟!
فكيف بقتل شعب مسلم ليس فيه أقليّات تُذكر من نصارى و يهود؟!
فلا إله إلا الله ما أشد قسوة القلوب!
قال عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج منها لمن أوقع نفسه فيها سفكَ الدم الحرام بغير حلّه) رواه البخاري (6863).
فكيف ـ مع هذا كلّه ـ يدّعي مستحلّوا دماء الشرطة أن قتالهم نظيف، ثم هم يعيشون بالأموال المسروقة و المغتصبة من أهلها عَنوة، و يزهقون أرواح العساكر المسلمين و يذرونهم يتشحّطون في دمائهم و أهلوهم ينظرون؟!
جـ - إن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ وقع فيما وقع فيه، و لم يسبق له أن عرف حكم ما وقع فيه، و لا كان لديه واقعة تشبهها فيقيس عليها حالته فكان لا بد من اجتهاده، و كان لا بد من وقوع أحد أمرين: إما قتل الرجل أو تركه.
إذاً فالفُرَص التي لديه محدودة جدا، و لا سيما و هو في معركة، و قد وجد بين يديه مشركا شجاعا و مقاتلا قويا، لم يقدر عليه غيره.
كل هذه القرائن لم تشفع له عند رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ حتى قال فيه ما قال، فكيف يكون قول رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ لقوم عرفوا حكم أهل العلم المسبَق ـ بل إجماعهم ـ على التنديد بأعمالهم، ثم تمادوا في المخالفة؟!!
فتأمل هذا ـ رحمك الله ـ متجردا عن الهوى، و متدثرا بلباس التقوى.
و اعلم أن هذا التصرف من رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ هو سيرته في الدماء، فلم يكن ـ صلى الله عليه و سلم ـ يتساهل فيها أبدا.
5- إن الأخطاء التي وقع فيها بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ رجعوا عنها، أما أنتم، فلا يمر عليكم يوم إلا ازددتم وحشية إلى وحشية، فأين وجه الشبه بينكم و بينهم، و أنتم لا تعترفون أصلا بأنكم أخطأتم؟!
بل كلما بلغكم أن العلماء ندّدوا بصنيعكم ازددتم حقدا و عمى، و لذلك فإن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ كان قد تلقّن درسا عظيما مما حصل له مع ذلك المشرك الوحيد، حتى إنه اعتزل جميع الدماء التي كانت بين المسلمين، قال وكيع: [سلِم من الفتنة من المعروفين: سعد، و ابن عمر، و أسامة بن زيد، و محمد بن سلمة].
قال الذهبي ـ رحمه الله ـ معلّقا على هذا في 'السير' (2 / 500-501): [قلت: انتفع أسامة من يوم النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ؛ إذ يقول له: "كيف بلا إله إلا الله يا أسامة؟!"، فكفّ يده و لزم بيته، فأحسن].
و لذلك لمّا دعاه علي ـ رضي الله عنه ـ ليشاركه في القتال المعروف بينه و بين مخالفيه في الجمل و صفّين اعتذر إليه، و لم يجبه إلى طلبه، فد روى البخاري (7110) و ابن سعد (4 / 71) عن حَرْملة مولى أسامة قال: (أرسلني أسامة إلى علي، و قال: إنه سيسألك الآن فيقول: ما خلّف صاحبك؟ فقل له: يقول لك: لو كنتَ في شِدْق الأسد لأحببت أن أكون معك، و لكن هذا أمر لم أره).
قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ في 'الفتح' (13 / 67): [هذا هيّأه أسامة اعتذارا عن تخلّفه عن علي؛ لعلمه أن عليا كان ينكر على من تخلّف عنه، و لا سيّما مثل أسامة الذي هو من أهل البيت، فاعتذر بأنه لم يتخلّف ضنّاً منه بنفسه عن علي و لا كراهة له، و أنه لو كان في أشدّ الأماكن هولا لأحبّ أن يكون معه فيه و يواسيه بنفسه، و لكنّه إنما تخلّف لأجل كراهيته في قتال المسلمين، و هذا معنى قوله: (و لكن أمر لم أره)]، و في رواية ذكرها الذهبي في 'السير' (2 / 504-505) قال: (فو الله لا أدخل فيه أبدا).
قال ابن بطّال ـ رحمه الله ـ كما في 'الفتح' (13 / 68): [أرسل أسامة إلى عليّ يعتذر عن تخلّفه عنه في حروبه، و يعْلِمه أنه من أحب الناس إليه، و أنه يحب مشاركته في السراء و الضراء، إلا أنه لا يرى قتال المسلم، قال: و السبب في ذلك أنه لمّا قتل ذلك الرجل.. و لامه النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ بسبب ذلك، آلى على نفسه أن لا يقاتل مسلما، فذلك سبب تخلّفه عن علي في الجمل و صفّين].
و قال أيضا كما في 'الفتح' (12 / 196): [كانت هذه القصة ـ أي قتل أسامة للمشرك ـ سبب حلف أسامة ألا يقاتل مسلما بعد ذلك، و من ثَمّ تخلّف عن علي في الجمل و صفّين].
و قد روى مسلم (158) قصة أسامة ـ رضي الله عنه ـ، وفيها أن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ قال: (و أنا ـ و الله! ـ لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البطين، يعني أسامة، قال: قال رجل: ألم يقل الله: {و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كلّه لله} (الأنفال 39)؟ !فقال سعد: قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة،و أنت و أصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة!).
و أما قصة خالد بن الوليد حين بُعث إلى بني جذيمة، فقد رواها البخاري (4339) عن ابن عمر قال: (بعث النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم و يأسر، و دفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: و الله! لا اقتل أسيري، و لا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ فذكرناه، فرفع النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ يديه، فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين").
قلت: من ذا الذي أحيا الله قلبه بخوفه ثم لا يهتزُّ لهذه الدعوة النبوية؟
وخالد ـ رضي الله عنه ـ و ما أرداك ما خالد! سيف الله المسلول، و لكنّ أمر الدماء عظيم، فلذلك تبرأ رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ من عمله.
هذا، مع ان خالدا ـ رضي الله عنه ـ لم يقتل أولئك عن عمد و معاندة لفتاوى أهل العلم، و لم يقتل من شهد بين يديه بالإسلام، كما يفعل وحوش الجزائر، يشهد الرجل بين أيديهم بشهادة الإسلام و بالأيمان المغلّظة، و قد يكون صائما، فلا يمنعهم ذلك من ضرب عنقه، و يراقبون العسكري في كل حركاته و يقتلونه و لو كان خارجا من المسجد، بل كم من مصل أخرجوه من المصلى ليذبحوه، في حكايات يطول ذكرها! !
ثم إن خالدا ـ رضي الله عنه ـ قتلهم؛ لأنه لم يفهم قولهم: (صبأنا) الذي أرادوا به الإسلام؛ لأن هذه الكلمة تحتل معنى: أسلمنا، كما تحتمل معنى خرجنا من دين إلى ين، و هذا المعنى الثاني هو الذي كثُر استعماله عندهم بعد بعثة النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و هو الذي فهمه خالد ـ رضي الله عنه ـ، قال ابن حجر في 'فتح الباري' (8 / 57): [و يؤيّده فهمه أن قريشا كانوا يقولون لكل من أسلم: صبأ، حتى اشتهرت هذه اللفظة و صاروا يطلقونها في مقام الذمّ، و من ثَمّ لمّا أسلم ثمامة بن أُثال و قدم مكة معتمرا، قالوا له: صبأت؟ قال: لا بل أسلمت].
و على كل حال فقصّة خالد ـ رضي الله عنه ـ أخرجها البخاري (4339) و (7189) كما مرّ، و عبد الرزاق (9434) و (18721) و ابن معين في 'جزئه' (17) و أحمد (2/ 151) و عبدُ بن حُميد في 'المنتخب' (729) و النسائي في 'المجتبى' (8 / 237) و كذا في 'الكبرى' (5961) و 8596) و الطحاوي في 'مشكل الآثار' (3230) و (3231) و ابن حبّان (4749) و البيهقي في 'السنن الكبرى' (9 / 115) و في 'دلائل النبوة' (5 / 113-114).
و لم أجد في هذه الطرق كلّها أن عدد الذين قتلهم خالد بلغ ثلاثة آلاف كما زعم المشبوه، و لا أدري فلعلّه أراد أن يكثّر لخالد قتلاه؛ ليخفّف الحِمل على ظهور مجرميه في الجزائر؛ لأن المصيبة إذا عمّت خفّت، كما كثّر للصحابة أخطاء خياليّة في القتل حتى وصلت عنده إلى مجلّدات، فانظر كيف يعمل الضلال بصاحبه! !
و هكذا لا يصطنعون لساحاتهم صفوا حتى يكدّروا ساحات خيرَة البشر، و الله المستعان!
و على كلّ حال، فإن التّقيّ الورِع لا يزيّن للناس انتهاك حرمات المسلمين متذرّعا بأخطاء المخطئين، و لو كان المخطئون الممثّل بهم من أهل الصلاح و الخير، كهذا الذي يستدل بأخطاء من اخطأ من الصحابة} لأن الصواب لا يُستدلّ له بالخطأ، و الخطأ خطأ مهما كان مصدره، و وقوع الشريف فيه لا يزكّيه، و أين وجل من يقرأ: {و من يقتل مؤمنا متعمّدا فجزاؤه جهنّم خالدا فيها و غضب الله عليه و لعنه و أعدّ له عذابا عظيما} (النساء 93)؟ !
سبحان الله! أيقتل الرجل أمّه و أباه المسلمين باسم الدين، عمدا و بإصرار، ثم يجيء المشبوه يستدلّ له بخطأ من أخطأ من الصحابة في الدماء ليهوّن من شأن جريمته؟!
و الحقيقة أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا أورع الناس عن الدماء، و ما وقع لهم فيها من خطأ فهو قليل جدا في سنوات طويلة و جهاد مستمر، و كان لهم فيها تأويل، و أي تأويل!
و قد كانوا كافّين عن الفتن؛ إذ لم يبلغ عدد من دخل في صفِّين ثلاثين منهم من بين عشرة آلاف صحابي تقريبا، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في 'منهاج السنة' (6 / 236-237): [و أما الصحابة، فجمهورهم و جمهور أفاضلهم ما دخلوا في فتنة، قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدّثنا أبي، حدّثنا إسماعيل ـ بن عُليّة ـ حدثنا أيوب ـ يعني السَّخيتاني ـ عن محمد بن سيرين قال: (هاجت الفتن و أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ عشرة آلاف، فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين)، و هذا الإسناد من أصح الأسانيد على وجه الأرض، و محمد بن سيرين من أورع الناس في منطِقِه، و مراسيله من أصح المراسيل.
و قال عبد الله: حدثنا إسماعيل حدثنا منصور بن عبد الرحمن، قال: قال الشّعبي: (لم يشهد الجمل من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ غير علي و عمّار، فإن جاؤوا بخامس فأنا كذّاب!)
و قال عبد الله: حدثنا أبي، حدثنا أمية بن خالد، قال: قيل لشعبة: إن أبا شيبة روى عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا، فقال: كذب ـ و الله! ـ لقد ذاكرت الحكم بذلك، و ذاكرناه في بيته، فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خُزيْمة بن ثابت.
هذا النفي يدل على قلة من حضرها، و قد قيل: إنه حضرها سهل ابن حنيف و أبو أيّوب، و كلام بن سيرين مقارب؛ فما يكاد يذكر مائة واحد، و قد روى بن بطة، عن بُكير بن الأشج، قال: أما إن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان، فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم].
و عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال: "إن بين يدي الساعة الهَرْج، قال: فلنا: و ما الهَرْج؟ قال: القتل و الكذب، قلنا: أكثر ممّا يقتل المسلمون في فروج الأرض؟ قال: إنه ليس بقتلكم الكفّار، قال: يقتل الرجل أباه، يقتل أخاه، يقتل عمّه، يقتل ابن عمه، يقتل جاره، قال: قلنا: و معنا يومئذ عقولنا؟ قال: ينتزع عقول أكثر ذلك الزمان، و يخلف له هباء من الناس، يحسب أكثرهم أنهم على شيء، و ليس هم على شيء، قال (أبو موسى): و أيم الله! إن تدركني و إياكم تلك الأمور، و أيم الله! ما لي و لكم منها مخرج فيما عهد إلينا نبينا ـ صلى الله عليه و سلم ـ إلا أن نخرج منها كما دخلنا، لا نحدث فيها شيئا" رواه أحمد (4 / 406) و البزّار (8 / 3047) و ابن ماجه (3959) و غيرهم بإسناد صحيح.
مع هذه الزواجر التي تنخلع لها القلوب الحية، فإن المشبوه قد قال في خطبته عن ثورة هؤلاء الثائرين: ”هو الجهاد الواضح: أن الجزائري يقتل الجزائري! لماذا يقتله؟ لأن هذا جند الله، و هؤلاء جند الطاغوت! ! أ رأيتم في هذا الوقت جهادا بمثل هذا الوضوح؟!!“.
6- لقد تكلّم المشبوه هنا عن الأخطاء ليوهمنا أنه مقتنع بأخطاء جماعته، لكن كلامه الأخير يشهد بأنه لا يرى تخطئتهم، فعلام إذاً الاستدلال بأخطاء الصحابة و هو في معرض تصويب جماعته؟ تأمل هذا؛ فإنه مخادعة!
و لقد جُرّب على من لم يوَفّق للرجوع عن أخطائه أنه إذا حوصر بها اجتهد في التنقيب عن أخطاء منتقديه؛ نقلا للمعركة من ميدانها إلى ميدان آخر، و استعمالا للطريقة الهجومية في الدفاع عن النفس، و منهم من يبحث في سيرة أهل الصلاح لعله يجد عندهم شيئا من جنس أخطائه، فيسارع لإبرازها؛ سترا على نفسه، و لا يكترث في ذلك لعله يطعن في الأولياء الصالحين، إنما همّه الأكبر هو أن ينجو بنفسه، حتى إني قرأت لرجل كتابة فتح فيها ملفا للأنبياء، و ذكر أن فلانا النبيَّ أخطأ في كذا، و آخر أخطأ في كذا، كلّ ذلك ليسلّك نفسه مما كسبت يداه! !
و هذه الشناعة تدل على أن صاحبها لم يتب مهما سمّى خطأه خطأ أو ذنباً؛ فليس أكثر من المشاكلة اللفظية، بل هو من باب {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم}؛ لأنه لو تاب لشغله ذنبه عن تتبع ذنوب منتقديه، فكيف إذا كان يتتبع أخطاء الأنبياء عليهم الصلاة و السلام؟!
7- المخادعة الأخرى هي أن المشبوه ذكر أن أخطاء الصحابة لم تمنع من جهادهم، و كأن العلماء منعوا جماعته من الجهاد بسبب أخطائهم في القتال فقط، و هذا من حِدَته عن أصل البحث؛ لأن علماءنا نفوا عنهم وصف الجهاد لعدم توفر أسبابه و شروطه، فافهم هذا ـ أخي القارئ! ـ حتى لا تُجرَّ إلى بحث جانبي، و لذلك كنت إذا رحلت إلى الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ لاحظت أنه كان يعطينا الجواب، و يأتينا منه بالصواب، غير مكترث كثيرا بما يجري عندنا.
و ليس المقصود من هذا الكلام الإعراض عن التعرف على واقع ما يُفتي فيه، و إنما المقصود منه أن الشيخ ينطلق من مقدّمة و أصل:
فأمّا المقدمة: فتتمثل في معرفة الشيخ بتشابه واقع البلاد الإسلامية اليوم، فيكون من التقعُّر ف الكلام تطويل ذيل الواقع المراد وصفه، و قد قال الله ـ تعالى ـ: {ما يُقال لك إلا ما قيل للرسل من قبلك} (فصّلت 43).
و أما الأصل: فهو الذي يركّز عليه دائما ـ رحمة الله عليه ـ، و يتمثّل في النظر في عمل هؤلاء، فإن وافقوا السنة في إصلاحهم كانوا على الجادة، و إن خالفوها خولِفوا، و لا أكاد أنسى حوارا جرى بينه ـ رحمه الله ـ و بين امرأة من بلدتنا، و ذلك حين أخذت الجبهة الإسلامية للإنقاذ مقاعد البرلمان سنة (1411 هـ) تقريبا، و المرأة سلفيّة لا توافق الجبهة في مسالكها، لكن يبدوا أن الوضع السياسي الجديد يومها استفزّها، حتى قالت للشيخ: لقد انتصرت الجبهة في الانتخابات البرلمانية!
فأجابها الشيخ على الفور: لا! لم تنتصر!
فقالت: بلى!
فعارضها الشيخ بقوة، فصمدت في وجهه؛ لأنها لم تكن تشكّ فيما ترى، حتى كان من قولها أن قالت متعجّبة: أنا أعيش في الجزائر، و أخبرك ـ يا شيخ! ـ بأن جبهة الإنقاذ أخذت أكثر المقاعد في البرلمان! !
ثم بيّن لها الشيخ وجه كلامه؛ و هو أن العبرة لا تكمن في النتيجة، و إنما تكمن في النظر في الطريق، و ذكر لها أن الجبهة المذكورة لم تسلك طريق الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ في الإصلاح، لأن الإصلاح النبوي لم ينطلق من الإصلاح السياسي، و إن كانت السياسة من الدين بلا ريب، فيكون انتصارها حينئذ هزيمة، و وصولها انقطاعا؛ لأن النصر يعقب الاتباع لا الابتداع، فإن الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم} (محمد 7)، و لا ريب أن عمل المرء بسنة النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـمن أعظم ما ينصر به ربّه، قال الله ـ عز و جل ـ: {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريّون نحن أنصار الله آمنّا بالله و اشهد بأنا مسلمون (52) ربنا آمنا بما أنزلت و اتبعنا فاكتبنا مع الشاهدين (53)} (آل عمران)، فسمّاهم الله أنصارا له؛ لأنه اجتمع فيهم توحيد الله و المتابعة لرسوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ، إذا فنصر الله ـ عز و جل ـ ليس مجرد تعاطف مع الإسلام، و إنما هو عمل بالإسلام، و الله المستعان على ذلك.
ذكرت القصة بالمعنى، و ذكرتها لبيان قوّة يقين الشيخ ـ رحمه الله ـ، و أن هذا اليقين هو الذي يعيش به السلفيون، و هو الذي يجب أن يراجِع فيه الحركيّون أنفسهم، و فيها عبرة لمن يُعْنون بالدعوة و الجهاد و السياسة و قلوبهم ضعيفة اليقين بطريق رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ، لا سيّما و قد صدقت فراسة الشيخ فيهم، {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون} (النمل 52).
و لذلك كنت أتعجّب كثيرا حين أُسْأل عن تفاصيل الوضع في الجزائر، و أقول: لسنا بحاجة كبيرة إلى ذلك؛ لأنه يمكننا أن نعرف هذه الجماعات بحسب أخذها بهذا الأصل، فإذا وجدناهم يأخذون المسالك السياسية أو الدموية أو غيرها مما يخالف المسلك النبوي حكمنا عليهم بلا كبير معاناة، و الله وليّ التوفيق.
تنبيه:
هذه الحجة التي وارى بها أبو قتادة عورة وحوشه هي نفسها التي احتج بها الخوارج الإباضية، كما نص عليه صاحبهم ناصر بن سليمان السابعي في كتابه ’الخوارج و الحقيقة الغائبة‘ (ص 123-124)، و استدل عندها بثلاث قصص، وافقه أبو قتادة على اثنتين منها، إحداهما قصة أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ المذكورة آنفا ـ و الأخرى قصة خالد بن الوليد مع أبي بكر و عمر ـ رضي الله عنهم ـ، إلا أن مؤلّف هذا الكتاب لم يعثر على أكثر من تلك الثلاث، بينما يرى المشبوه أنه قادر على جمعها في مجلدات!
كما أن المشبوه يراها أمرا طبيعيا في حركة الجهاد، بينما كان الإباضي أقرب إلى الصواب منه حين رآها حالات شاذة، فقال: ”و لو استعرضنا العهود الراشدة لوجدناها لا تخلو من مثل هذه الحالات الشاذة“.
و هكذا، حنانَيْك بعض الشرّ أهون من بعض!
|