منتديات التصفية و التربية السلفية

منتديات التصفية و التربية السلفية (http://www.tasfiatarbia.org/vb/index.php)
-   الــمــــنــــــــتـــــــدى الـــــــــعــــــــام (http://www.tasfiatarbia.org/vb/forumdisplay.php?f=2)
-   -   دروس في شرح "كتاب التوحيد" (متجدد إن شاء الله) (http://www.tasfiatarbia.org/vb/showthread.php?t=4259)

حسن بوقليل 30 Mar 2010 10:12 AM

دروس في شرح "كتاب التوحيد" (متجدد إن شاء الله)
 
إن كتاب "القول المفيد" للعلامة الشيخ أبي عبد الله محمد بن صالح بن عثيمين ـ رحمه الله ـ (ت: 1421هـ) يعد من أفضل شروح "كتاب التوحيد"، وحرصا على إفادة الطلاب، والاستفادة منهم، أحببت أن أضع بين أيديهم مختصرا (بل هو معتصر) لهذا الكتاب القيم، وأركز فيه على معنى الآية، والشاهد منها للتوحيد، أما الفوائد الأخرى فمكانها في الأصل، وقد أذكر بعض المسائل المهمة التي ذكرها الشيخ ـ رحمه الله ـ، وخاصة التي لها علاقة بقضايا العصر، وقد أزيد فيه أشياء مفيدة.
أسأل الله تعالى التوفيق والسداد.
وسيكون موعد الدرس كل يوم ثلاثاء، يعني أنقل شرح باب واحد في كل أسبوع.

كِتَابُ التَّوحِيدِ
لم يُذكر في النُّسخ الَّتي بأيدينا خطبةٌ للكتاب من المؤلِّف؛ فإمَّا أن تكون سقطت من النُّسَّاخ، وإمَّا أن يكون المؤلِّف اكتفى بالتَّرجمة لأنَّها عنوانٌ على موضوع الكتاب وهو التَّوحيد.

[تَعرِيفُ التَّوحِيد]
التَّوحيد: إِفرَادُ اللهِ ـ سبحانه ـ بِمَا يَختَصُّ بِهِ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالأُلُوهِيَّةِ وَالأَسمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

أَقسَامُهُ:
ينقسم التَّوحيد إلى ثلاثة أقسام:
وقد اجتمعت في قوله تعالى: "رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا" [مريم: 65].
1 ـ توحيد الرُّبوبيَّة:
"هو إفراد الله ـ عزَّ وجلَّ ـ بالخَلق، والمُلك، والتَّدبير".
وهذا القسم من التَّوحيد أقره المشركون؛ قال تعالى: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ" [الزخرف: 9].
وأنكره فرعون ـ على سبيل التَّعطيل ـ مكابَرَةً؛ "فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى" [النازعات: 24]، "مَا عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيرِي" [القصص: 38]، ولكن كما قال تعالى: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا" [النمل: 14].
وأنكره ـ على سبيل التَّشريك ـ المجوسُ؛ حيث قالوا: إنَّ للعالَم خالِقَين هما الظُّلمَة والنُّور.

2 ـ تَوحِيدُ الأُلُوهِيَّة:
"وهو إفراد الله ـ عز وجل ـ بالعبادة".
ويسمى (توحيد الألوهيَّة) باعتبار إضافته إلى الله، و(توحيد العِبادَة) باعتبار إضافته إلى الخلق.
فالله هو المستحِقُّ للعِبادة، قال تعالى: "ذِلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ البَاطِلُ" [لقمان: 30].

3 ـ توحيد الأسماء والصفات:
"إِفرَاد الله ـ عز وجل ـ بما لَه من الأسماء والصِّفات".
ويتضمَّن شيئين:
ـ الإثبات؛ بأن نُثبِت لله ـ عز وجل ـ جميع أسمائِه وصفاتِه الَّتي أثبتَها في كتابه، أو سنَّةِ نبيِّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، من غير تحريف، ولا تمثيل، ولا تعطيل، ولا تكييف.
ـ نفي المُماثَلَة؛ بأن لا نَجعل له مَثِيلاً في أسمائِه وصفاتِه؛ كما قال تعالى: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ" [الشورى: 11].
فمن لم يثبِت ما أثبتَه الله لنفسه؛ فهو معطِّلٌ، وتعطيله هذا يشبِه تعطيلَ فرعون.
ومن أثبَتها مع التَّشبيه صار مشابهًا للمشركِين الَّذين عَبَدُوا مع الله غيرَه.
ومن أثبتَها بدون مماثَلَة صار مِن المُوحِّدِين.
وهذا القِسم هو الَّذي ضَلَّت فيه بعضُ الأمَّة الإسلاميَّة وانقَسموا فيه إلى فِرقٍ كثيرة.

وَقَولُ اللهِ تَعَالَى: "وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ" [الذاريات: 56] الآية.

قوله تعالى: "إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" ليوحِّدونِ.
واللام للتَّعليل، وهي عِلَّة غائيَّةٌ؛ لبَيَان الغايَةِ والمقصودِ من الفِعل، وقد تقَعُ، وقد لا تقَعُ.
فهذه هي الحكمة من خلق الجنِّ والإنس، ولهذا أعطى اللهُ ـ عز وجل ـ البَشرَ عقولاً، وأرسل إليهم رُسُلاً، وأنزل عليهم كُتبًا، ولو كان الغَرض من خلقهم كالغَرض من خَلْق البَهائِم؛ لضَاعَت الحكمة من إِرسال الرُّسل، وإِنزال الكُتب.

فدلالة الآية على التوحيد: أنه الحكمة العظمى من إيجاد الخلق.

وَقَولُه تعالى: "وَلَقَد بَعَثنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعبُدُوا اللهَ وَاجتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" [النحل: 36]

قوله تعالى: "بَعَثنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ": أَرسَلْنا في كلِّ طائِفة من النَّاس.
فكلُّ أمَّةٍ بُعث فيها رسولٌ؛ مِن عهد نوحٍ؛ إلى عهد نبيِّنا محمَّدٍ ـ صلى الله عليهم أجمعين ـ.
قوله: "أَنِ اعْبُدُوا اللهَ" أي: تذلَّلوا له بالعِبادة.
قوله: "وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" أي: ابتَعِدوا عنه، وأجمعُ ما قِيل في تعريفه هو ما ذكره ابنُ القَيِّم ـ رحمه الله ـ بأنَّه: "مَا تجاوَز به العَبدُ حدَّهُ؛ مِن مَتبُوعٍ، أو مَعبُودٍ، أو مُطاعٍ".
فالمَتبُوع مثل: الكُهَّان، والسَّحرَة، وعُلمَاء السُّوءِ.
والمَعبُود مثل: الأَصنَام.
والمُطَاع مثل: الأُمَرَاء الخَارِجِين عن طَاعَة اللهِ.
والتَّوحِيد لا يَتِمُّ إِلاَّ برُكنَين، هما:
1 ـ الإثبات.
2 ـ النَّفي.
إذ النَّفي المَحضُ تعطِيلٌ مَحضٌ، والإِثبَات المَحضُ لا يَمنَعُ المُشارَكَة.

ودِلالَة الآية عَلَى التَّوحِيد: أنَّ الأَصنَام مِن الطَّواغِيت الَّتِي تُعبَدُ مِن دُون اللهِ، وأنَّ الرُّسل أجمعوا على الدَّعوةِ إلى التَّوحيد.

وَقَولُهُ تَعَالَى: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ" [الإسراء: 23] الآية.

قوله تعالى: "قَضَى رَبُّكَ": قضاءً شرعيًّا؛ يجوزُ وقوعُه مِن المقضِيِّ عليه وعدمُه، ولا يكون هذا إلاَّ فيما يحبُّه الله.
قوله: "أَن لاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ": أي : ألا تفردوا أحدًا بالعبادة سواه.

ودلالة الآية على التوحيد: أن الله ـ عز وجل ـ قضى بالتوحيد ووصى به.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: "وَاعبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا" [النساء: 36].

قوله تعالى: "وَلاَ تُشْرِكُوا" في مقابل (لا إله)؛ لأنَّها نفيٌ.
وقوله: "وَاعْبُدُوا اللهَ" في مقابل (إلاَّ اللهُ)؛ لأنَّها إثباتٌ.
وقوله: "شَيْئًا" تعُمُّ كلَّ شيءٍ: لا نبيًّا، ولا مَلَكًا، ولا ولِيًّا، بل ولا أمرًا من أمور الدُّنيا.

ودلالة الآية على التوحيد: أن الله عز وجل أمر به.

وَقَولُهُ تَعَالَى: "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم أَلاَّ تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا" [الأنعام: 151] الآيات.

قوله تعالى: "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ": أي أَقبِلُوا، وهَلُمُّوا أقصُّ عليكم "مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ"، ثم ذكر هذه المحرمات.
قوله: "أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا" أي لا تُشرِكوا به أيَّ شيءٍ؛ فيَعُمُّ كلَّ ما يُشرَك بِه، ومن لازِمه أن يَعبُد الله ـ عز وجل ـ وحده.

ودلالة الآية على التوحيد: أن التوحيد من الوصايا التي أمر بها الله ـ عز وجل ـ، ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

قَولُهُ: قَالَ ابنُ مَسْعُودٍ ـ رضي الله عنه ـ: "مَنْ أَرَادَ يَنظُر إلىَ وصِيَّةِ محمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَليَقرَأ" إلخ

الاستفهام هنا للحثِّ والتَّشويق.
قوله: "وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ الَّتِي عَلَيْهَا خَاتَمُهُ"، لم يوص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشيء، وإنما هذا من فقه ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ؛ إذ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بالتوحيد ودعا إليه أمته في حياته كلها.

وَعَن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ ـ رضي الله عنه ـ؛ قَال: "كُنتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى حِمَارٍ، فَقَالَ لِي: "يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ؟". قُلتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَال: "حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أَن يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ أَن لاَّ يُعِذِّبَ مَن لاَّ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا". قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَال: "لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا". أخرجاه في "الصَّحيحين"

قوله: "مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ؟"، أي: ما أوجَبَه علَيهم.
قوله: "وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ؟"، أي: ما أوجب الله ـ عز وجل ـ على نفسه في مُعاملَة العِباد.
قوله: "قُلت: اللهُ ورَسُولُه أَعلَمُ": أي: أعلَمُ مِن غيرهما، وأعلمُ منِّي أيضًا.
قوله: "يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا"وهذا هو التَّوحيد الذي جاءت به الرسل.
قوله: "أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ"، أي: أَأَسكُت فلاَ أُبشِّر النَّاس؟ والبِشارَة: هي الإِخبار بما يَسر، وقد تستعمل في الإخبار بما يَضُرُّ، ومنه قوله تعالى: "فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" [الانشقاق: 24]، لكنَّ الأكثر الأوَّل.
قوله: "لا تُبَشِّرْهُم"، أي: لا تُخبِرهم.

ودلالة الحديث على التوحيد: فضِيلة التَّوحيد، وأنَّه مانِعٌ مِن عَذابِ الله.


كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه وعن والديه ـ.

سفيان بن عثمان 30 Mar 2010 10:13 PM

كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه وعن والديه ـ

اللهم آمين.
جزاك الله خيرا أبا عبد الله, وجعل ما سطرت يمينك في ميزان حسناتك.
.

أبو الفضل لقمان الجزائري 01 Apr 2010 10:50 PM

بوركتم لكن لو مهدتم لاختصاركم المبارك هذا بمقدمة على كتاب التوحيد نفسه مثلا: منهج الكتاب, مكان تأليفه, درجة أحاديثه ,ثناء اللعماء عليه.
ولعلي أساهم في هذا العمل وللعلم فإن هناك كتابا جامعا قد تكلم على كتاب التوحيد للشيخ محمد رحمه الله بإسهاب وهو كتاب " كتب أثنى عليها العلماء " للأخ عبد الإله الشايع - أثابه الله -. ولعلي أنقل منه بعض ما سطر فيه.
مكان تألفيه:
فقد اختلفوا في مكان تأليفه على قولين:
1- أنه ألفه في حريملاء ورجح هذا القول ابن غنام في تاريخه.
2- أنه ألفه في البصرة ورحجه الشيخ عبد الرحمن بن حسن.
وذكر صالح العبود أنه يمكن الترجيح بينهما فيقال:
أن ابن غنام كان أول علمه بهذا الكتاب لما قراه على الشيخ محمد في حريملاء ولأنه انتشر منها في البلاد وقول الشيخ عبد الرحمن فقد قال بما علم من جمع الشيخ للكتاب من الكتب التي بمكاتب ومدارس البصرة ولعل الشيخ أكمل تأليفه وترتيبه وتهذيبه في حريملاء فلا منافاة. أهـ
ثناء العلماء على الكتاب:
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب(ت1233) ـ رحمه الله ـ عن «كتاب التوحيد » فـي « تيسير العزيز الحميد » (ص24): « هو كتاب فرد فـي معناه، لم يسبقه إليه سابق، ولا لحقه فيه لاحق ».
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (ت1285) - رحمه الله -: « جمع على اختصاره خيراً كثيراً، وضمّنه من أدلة التوحيد ما يكفي من وفقه الله، وبيَّن فيه الأدلة فـي بيان الشرك الذي لا يغفره الله ».
وقال العلامة المؤرخ ابن بشر (ت1290) ـ رحمه الله ـ فـي «عنوان المجد »: « ما وضع المصنفون فـي فنه أحسن منه، فإنه أحسن فيه وأجاد، وبلغ الغاية والمراد ».
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ت1293) ـ رحمه الله ـ في « الدرر السنية » (1/377): « صنف كتابه المشهور فـي التوحيد، وأعلن بالدعوة إلى صراط العزيز الحميد، وقرئ عليه هذا الكتاب المفيد، وسمعه كثير ممن لديه من طالب ومستفيد، وشاعت نسخه فـي البلاد، وطار ذكرها فـي الغور والأنجاد، وفاز بصحبته واستفاد، من جرّد القصد وسلم من الأشر والبغي والفساد، وكثر بحمد الله محبوه وجنده ... ». انتهى
وقد كان العلماء يوصون بحفظ « كتاب التوحيد » منهم الشيخ عبد الرحمن السعدي (ت1376) ـ رحمه الله ـ كما فـي « الفتاوى السعدية » (ص38):
وممن كان يوصي بتدريسه وتعليمه للناس الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (ت1389) ـ رحمه الله ـ يقول فـي رسالة لـه إلى أحد القضاة في « مجموع فتاويه » (13/205): « عليك ـ بصفتك مسؤولاً عن ما ولاك الله عليه ـ أن تعين وقتاً من أوقاتك تجلس فيه فـي السوق يقرأ عليك في « كتاب التوحيد » وتتكلم بما تيسر ... » انتهى.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم (ت1392) ـ رحمه الله ـ في « حاشيته على كتاب التوحيد » (ص7) : « كتاب التوحيد الذي ألفه شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ أجزل الله له الأجر والثواب ـ ليس له نظير فـي الوجود، قد وضّح فيه التوحيد الذي أوجبه الله على عباده وخلقهم لأجله، ولأجله أرسله رسله، وأنزل كتبه، وذكر ما ينافيه من الشرك الأكبر أو ينافي كماله الواجب من الشرك الأصغر والبدع وما يقرب من ذلك أو يوصل إليه، فصار بديعاً فـي معناه لم يسبق إليه، علماً للموحدين، وحجة على الملحدين، واشتهر أي اشتهار، وعكف عليه الطلبة، وصار الغالب يحفظه عن ظهر قلب، وعمَّ النفع به ... ». انتهى .
وقال الشيخ سليمان بن حمدان (ت1397) فـي مقدمته فـي كتابه « الدر النضيد شرح كتاب التوحيد » (ص5): « كتاب التوحيد بديع الوضع، عظيم النفع، لم أرَ من سبقه إلى مثاله أو نسج فـي تأليفه على منواله، فكل باب منه قاعدة من القواعد يبني عليه كثير من الفوائد، وأكثر أهل زمانه قد وقعوا فـي الشرك الأكبر والأصغر، واعتقدوه ديناً، فلا يتاب منه ولا يستغفر، فألّفه عن خبرة ومشاهدة للواقع، فكان لذاك الداء كالدواء النافع ». انتهى
وقال الشيخ عبد الرحمن الجطيلي (ت1404) - رحمه الله - : « كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد من أكبر الكتب نفعاً فـي معرفة التوحيد وأقسامه ، والتحذير من الشرك وأنواعه ، وسد الذرائع الموصلة إليه، وبيان شوائبه وما يقرب منه ».
وقال الشيخ عبد الله الدويش (ت1409) - رحمه الله -: « كتاب التوحيد الذي ألفه الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ أجزل الله له الأجر والثواب ـ قد جاء بديعاً فـي معناه من بيان التوحيد، وما ينافيه من الشرك والتنديد ».
وقال الشيخ عبد الله الجار الله (ت1414) ـ رحمه الله ـ فـي « الجامع الفريد » (ص6): « ألف عدة مؤلفات قيمة ـ يعني الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ ومن أهمها: هذا الكتاب القيم الذي هو من أهم الكتب المصنفة فـي التوحيد ».
وحث سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (ت1420) ـ رحمه الله ـ على حفظه والعناية به ، حيث يقول : « أوصي إخواني طلبة العلم مع العناية بالقرآن والسنة بالعناية التامة بكتب العقيدة وحفظ ما تيسر منها؛ لأنها الأساس والخلاصة من علوم الكتاب والسنة مثل «كتاب التوحيد » لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ ».
وقال الشيخ عبد الله البسام (ت1423) ـ رحمه الله ـ فـي « علماء نجد » (1/149) عن «كتاب التوحيد »: « هو من أنفس الكتب ولم يصنف على منواله ».
وقال الشيخ صالح الفوزان ـ حفظه الله ـ فـي كتابه « إعانة المستفيد شرح كتاب التوحيد » (1/18): «هذا الكتاب من أنفس الكتب المؤلفة فـي باب التوحيد؛ لأنه مبني على الكتاب والسنة ... ».
وقال الشيخ مقبل الوادعي (ت1422) - رحمه الله - فـي كتابه « المقترح فـي أجوبة بعض أسئلة المصطلح » (ص138): « ومن الكتب القيمة التي لا يستغني عنها مسلم، كتاب « فتح المجيد شرح كتاب التوحيد »، «كتاب التوحيد » للشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله تعالى ـ »، وقال أيضاً فـي المرجع السابق (1/12): « هو من أعظم مؤلفات الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ».أهـ بتصرف من الكتاب المذكور.

أبو الفضل لقمان الجزائري 01 Apr 2010 11:09 PM

ووقفت أخيرا على نظم لهذا الكتاب نظمه بعضهم في 400 بيت مطلعه:
( المقدمة )
الْحَـــمْــدُ لله الـَّـــــــذِي تـَـفـَــــــرَّدا*** بــِالـْـخـَـلْـقِ وَ الـتَّـأْلِــيهِ دَوْمــًا أَبَــــدَا
أشْــهـَــــدُ أنـَّـــهُ الإلـَـــــــهُ الأحَــــــدُ*** وَمَـالـِـكُ الـْـمُـلـْـكِ الْعَــظِـيمُ الصَّــمَــدُ
لَهُ الأسَـامِي وَ الصِّفـَـــاتُ الْحُسْــنـَى*** وَقـَــدْرُهُ قـَـــــدْرٌ عـَــظِـــيـــمٌ أسـْــنىَ
جَــــلَّ عَـــنِ الـــنـَّـدِيـــــدِ وَ الأمْثـَــالِ*** وَوَلــِــيٍ مِــــنْ عَــــجْـــــــٍز أوْ إِذلالِ
وَجَــــلَّ عَـــــنْ صَـاحِــبـَــةٍ وَوَلـَـــــدِ*** أوْ شِــْركـَـةٍ سُــبْـحـَانَهُ لـَـمْ يـُــولــــدِ
ثم الصـــلاة ُو السَّـــــلامُ السـَّـــرْمَـدُ ***عــلــى إمَــامِ كُـــلِّ مَــنْ يُـــوَحـِّـــدُ
نــبــيـِّــنا مُــحَــمَّــدٍ مــن انمَّــحَـــــى*** بــه الــظـلام فــــإذا اللــيــلُ ضُحـَى
وَصَـحْـــبــِــهِ أئِـــــمَّـــــــةِ الإيمــــانِ*** ومَــن تـــلاهــُم بــعــــدُ بالاحســــانِ
وبعْــــدُ ، هـذا النـــظـــمُ من كـــتــابِ *** مـُـحــمَّــدِ بــــن عــابــــد الوهــــــابِ
في عِــلـْــــِم تَـوْحِـيـــدِ الإلـَــهُ فـصَّلـهْ*** وَضـــــدِّه بـــالبــَــيِّـــنــاتِ أصَّــــلـهْ
نــظـَـمْـتُــهُ أرجُـــو بـــه الـثـَّـبـَـاتـَــــا*** والأمـْـن يـَــوْم الــدِّيــــنِ وَالنـَّجـَـاةََ
فـَـيَـــا إِلـَـهـِــيَ عُــبَــيْـــدُكَ انـْـبـَـــرَى*** لِــخـَـطـَـٍر وَهْــوَ مِــنَ الـْحَــوْلِ بَــــرَا
فـََاعْصِمْ إِلَهِي الْقَلْبَ مِنْ سُوءِ النـَّظَـرْ*** وَصُـنـْهُ مِـنْ كَـيْـدِ الْـهَـوَى ِإذَا حَـضَـرْ
وَارْزُقـْــهُ َربِّ الـْفَـهْـمَ وَ الــسـَّــــدَادَا *** والـقــَـصْــدَ و التـَّيـْسـيرَ وَالرَّشَـــادَا
وَيَــسِّــــِر الألـْـفـَــاظَ لِــلـْـمَـــعـَـــانـِـي *** وَزيـِّــنِ الـْــبـُــيُــــوتَ بــِـالـْـبـَـيـَــــانِ
وَرَحْــمَــةُ اللهِ لِــمَـنْ كـَــانَ الـسَّبـــَبْ ***فِي نـََظـْـمِهِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَسَــبْ
مَنْ نـَـالَ فـَـضْـــلَ الانـْتِسَابِ للنَّبــِيْ *** وَزَيــَّـنَ النـَّــفـْــسَ بــحُــسـْـــنِ الأدبِ


حسن بوقليل 02 Apr 2010 11:00 AM

جزاك الله خيرا، وجعل الله ما نقلت في ميزان حسناتك.
وأما منهج الشيخ ـ رحمه الله ـ؛ فللشيخ العلامة عبد المحسن العباد ـ حفظه الله ـ رسالة في بيان منهج التأليف عند شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ، راجعها فلن تعدم فائدة.

حسن بوقليل 10 Apr 2010 05:48 PM

باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
 
باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

سبق أن ذَكر المؤلِّف وجوبَ التَّوحِيد، وأنَّه لا بُدَّ منه، وهُنا ذكرَ : فضلَ التَّوحِيد.
قوله: "وَمَا يُكَفِّرُ مِنَ الذُّنُوبِ"، أي: بابُ فضلِ التَّوحِيد، وبابُ ما يُكفِّره مِن الذُّنوب.

فمِن فوائِد التَّوحِيد:
1 ـ أنَّه أكبَرُ دِعامَةٍ للرَّغبةِ في الطَّاعَة؛ لأنَّ المُوحِّد يَعملُ للهِ ـ.
2 ـ أنَّ المُوحِّدِين لهُمُ الأَمنُ وهُم مُهتَدون.

وَقَولُ اللهِ تَعَالَى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَم يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مُهتَدُونَ" [الأنعام: 82]

قوله: "لَم يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ"، أي: يخلِطوه بظُلمٍ، فالظُّلم هُنا يُقابِل الإِيمانَ، وهُو الشِّرك.
ولمـَّا نزلَت هذِه الآيةُ شَقَّ ذلِك على الصَّحابَة، وقَالوا: أيُّنَا لم يَظلِم نَفسَه؟ فقَالَ النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لَيسَ الأَمرُ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا المُرَادُ بِهِ الشِّركُ، أَلَم تَسمَعُوا إِلَى قَولِ الرَّجُلِ الصَّالِح ِـ يَعنِي لُقمَانَ ـ: "إِنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ"" [البخاري].

والظُّلم أَنواعٌ:
1 ـ أَظلَمُ الظُّلم: وهُوَ الشِّركُ فِي حَقِّ اللهِ.
2 ـ ظُلمُ الإِنسَانِ نَفسَه؛ بالمعاصي.
3 ـ ظُلمُ الإِنسانِ غَيرَه؛ بالتَّعدِّي عليه.

وإذَا انتَفى الظُّلمُ، حصَلَ الأَمنُ؛ فإِن كانَ الإِيمانُ:
ـ الإيمان المطلق: أي كامِلا لم يُخالِطه مَعصيةٌ؛ كان له الأَمن المُطلَقٌ (الكامِلٌ).
ـ مُطلقَ الإيمان: أي غير كامِل؛ فَلَهُ مُطلَقُ الأَمن (غير كامل).

قولُه: "لَهُمُ الأَمنُ"، (أل) لِلجِنس، ولِهذا فَسَّرنا الأَمنَ بأنَّه إمَّا أَمنٌ مُطلَقٌ، وإمَّا مُطلَقُ أَمنٍ حَسب الظُّلم الَّذي تَلبَّس بِه.

قولُه: "وَهُم مُهتَدُونَ":
ـ فِي الدُّنيا إِلى شَرعِ اللهِ بِالعِلم والعَمَل.
ـ فِي الآخِرة إِلى الجَنَّةِ.

مُناسَبَةُ الآيَةِ للتَّرجَمَةِ: أنَّ اللهَ أَثبَت الأَمنَ لمَن لَم يُشرِكْ، والَّذِي لَم يُشرِك يَكُون مُوحِّدًا؛ فدَلَّ علَى أنَّ مِن فَضائِل التَّوحِيد استِقرَارَ الأَمنِ.

عَن عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن شَهِدَ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلقَاهَا إِلَى مَريَمَ وَرُوحٌ مِنهُ، وَالجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ؛ أَدخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ العَمَلِ" أخرجاه.

قوله: "مَن شَهِدَ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ": الشَّهَادَةُ: هِي الاِعتِرافُ باللِّسانِ، والاِعتِقادُ بالقَلبِ، والتَّصدِيقُ بالجَوارِحِ، ولهذَا لمَّا قَالَ المُنافِقون للرَّسولِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "نَشهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ" [المنافقون: 1]، كذّبهم الله ـ عز وجل ـ بقوله: "وَاللهُ يَعلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ" [المنافقون: 1]؛ فلَم يَنفَعهم هذَا الإِقرَارُ بِاللِّسانِ لأَنَّه خَالٍ مِن الاِعتِقاد بالقَلبِ، وخَالٍ مِن التَّصدِيقِ بالعَمَل، فلَم يَنفَع؛ فلا تَتحقَّق الشَّهادَة إلاَّ بعقِيدَةٍ في القَلب، واعتِرافٍ باللِّسان، وتَصدِيقٍ بالعَمل.
والشَّهادَة لا تَكُون إلاَّ عَن عِلمٍ سابِقٍ، قالَ تعَالى: "إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُم يَعلَمُونَ" [الزخرف: 86].

قوله: "أَن لاَّ إِلَهَ"، أي: (لاَ مَألُوهَ)، ولَيس (لا آلِهَ)، والمَألُوهُ هوَ المَعبُودُ محبَّةً وتَعظِيمًا.

قولُهُ: "إِلاَّ اللهُ"، أي: لا مَعبُودَ بحقٍّ إِلاَّ اللهُ، وقَد حُكي عَن قُريشٍ قولُهُم: "أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا" [ص: 5].
وأمَّا قولُه تَعالَى: "فَمَا أَغْنَتْ عَنهُم آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَيءٍ" [هود: 101]، فتأَلُّههم بَاطِلٌ؛ لأنَّهُ بغَيرِ حقٍّ، فهِيَ أَسماء لا حَقيقَةَ لها.

[تنبيه]:

ومِن المُؤسِف أنَّهُ يُوجَد كَثِيرٌ مِن الكُتَّابِ الآنَ الَّذِينَ يَكتُبون فِي هَذِه الأَبوابِ تَجِدُهم عِندَما يَتكَلَّمون علَى التَّوحِيد لا يُقَرِّرُون أكثرَ مِن تَوحِيد الرُّبوبِيَّة، وهذَا غلَطٌ ونَقصٌ عَظِيمٌ، ويَجِب أَن نَغرِس فِي قُلُوب المُسلِمِين تَوحِيدَ الأُلُوهِيَّةِ أَكثرَ مِن تَوحِيد الرُّبوبِيَّة، لأنَّ تَوحِيد الرُّبوبِيَّة لَم يُنكِرهُ أَحدٌ إِنكارًا حقِيقيًّا، فكَونُنا لا نُقرِّر إِلا هَذا الأَمر الفِطرِيَّ المَعلُومَ بالعَقلِ، ونَسكُتُ عَن الأَمر الَّذِي يَغلِب فِيه الهَوى هُو نَقصٌ عَظِيمٌ، فعِبادَة غَيرِ اللهِ هِي الَّتِي يُسَيطِر فِيها هَوَى الإِنسانِ علَى نَفسِه حتَّى يَصرِفَه عَن عِبادَة اللهِ وَحدَه.

قولُه: "وَحدَه لا شَرِيكَ لَهُ": (وحدَه) توكِيدٌ للإِثباتِ، (لا شَرِيكَ لَهُ) توكِيدٌ للنَّفيِ فِي كلِّ ما يَختصُّ بِه مِن الرُّبوبيَّة والأُلوهِيَّة والأَسماءِ والصِّفات؛ إِذ لا شَرِيكَ لَه فِيما يَختَصُّ بِهِ.

قولُه: "وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ"؛ أي: المبعُوثُ بمَا أَوحَى إِلَيه، فلَيس كاذِبًا علَى اللهِ؛ فالرَّسُول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَبدٌ مَربُوبٌ، فهُوَ بَشرٌ مِثلُنا؛ إلا أنَّه يُوحَى إِلَيه، قالَ تَعالَى: "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ" [فصلت: 6].
وقَد غُفِر لَهُ مَا تَقدَّم مِن ذَنبِه ومَا تَأخَّر، هذَا تَحقِيقُ العِبَادَة العَظِيمَة.
أمَّا الرِّسالَة؛ فَهُو رَسُولٌ أَرسَلَهُ اللهُ ـ عز وجل ـ بِأَعظَم شَريعَةٍ إِلَى جَمِيع الخَلقِ، فبَلَّغَها غَايةَ البَلاغِ، مَع أنَّهُ أُوذِي وقُوتِل.
ونُحقِّق هذِه الشَهادَة بأَن نَعتَقِد ذلِك بقُلُوبِنا، ونَعتَرف بِه بأَلسِنَتنا، ونُطبِّق ذلِك فِي مُتابَعتِه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِجَوارِحِنا.
أمَّا ما يَنقُض تَحقِيقَ هذِهِ الشَّهادَة، فهُوَ: المَعاصِي والبِدَع.

قولُه: "وَأَنَّ عِيسَى عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ": الكَلامُ فِيها كالكَلامِ فِي شَهادَةِ أنَّ مُحمَّدًا رَسُول اللهِ، إِلا أنَّنا نُؤمِن بِرسَالةِ عِيسَى، وَلا يَلزَمُنا اتِّباعُه؛ فَنَشهَدُ أنَّه عَبدُ اللهِ ورَسُولُه، وأنَّ أمَّه صِدِّيقَةٌ، كمَا أَخبَر اللهُ تَعالَى بِذَلِك، وأنَّهَا أَحصَنَت فَرْجَها، وأنَّها عَذرَاءُ، قال تعالى: "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" [آل عمران: 59].

وفِي قَولِه: "عَبدُ اللهِ": رَدٌّ عَلَى النَّصارَى، وفِي قَولِه: "وَرَسُولُهُ": رَدٌّ عَلَى اليَهُودِ.

قولُه: "وَكَلِمَتُهُ أَلقَاهَا إِلَى مَريَمَ" بِقَولِه تعالى: "كُنْ".

قولُهُ: "وَرُوحٌ مِنهُ"، أَي: رُوح مِن الأَرواحِ الَّتي خلَقَها اللهُ تعالى؛ فهُو خَلْقٌ مِن مَخلُوقَاتِه، أُضِيفَت إِلَيه تَشرِيفًا، فعِيسَى بِالنَّفخِ صَارَ جَسَدًا، وَبِالرُّوحِ صَارَ جَسَدًا وَرُوحًا.

قولُهُ: "أَدخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ": إِدخَالُ الجَنَّة علَى قِسمَين:
الأوَّل: إِدخالٌ كامِلٌ لَم يُسبَق بِعذابٍ لمَن أتمَّ العَمَل.
الثَّانِي: إِدخَالٌ ناقِصٌ مَسبُوقٌ بعَذابٍ لمَن نَقَص العَمَل، فَالمُؤمِن إِذَا غَلَبت سَيِّئاتُه حسَناتِه إِن شَاءَ اللهُ عذَّبَه بقَدرِ عَملِه، وإِن شَاء لَم يُعذِّبه، قالَ اللهُ تعَالَى: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ" [النساء: 116].

دلالة الحديث على التَّوحيد: من فضل التَّوحيد أنَّ صاحبَه مآلُه الجنَّة ولو قصَّر في العَمَل.

وَلَهُمَا فِي حَدِيثِ عِتبَانَ: "فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَن قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ يَبتَغِي بِذَلِكَ وَجهَ اللهِ".


قولُهُ: "عِتبَان": هو عِتبَانُ بنُ مَالِك الأَنصَارِي ـ رضي الله عنه ـ، كَان يُصلِّي بقَومِه، فضَعُف بَصَرُه، وشَقَّ علَيه الذَّهابُ إِلَيهِم، فطَلَب مِن النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَن يَخرُج إِلَيه، وَأَن يُصلِّي فِي مَكانٍ مِن بَيتِه ليَتَّخِذه مُصَلًّى، فخَرَج إِلَيه النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَمعَه طائِفَةٌ مِن أَصحابِه، مِنهم أَبو بَكرٍ وعُمَر ـ رضي الله عنهما ـ، فلمَّا دَخَل البَيت، قالَ: "أَينَ تُرِيدُ أَن أُصَلِّي؟". قال: صَلِّ هَا هُنَا، وأَشَار إِلى نَاحيَةٍ مِن البَيتِ، فصَلَّى بِهِم النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَكعَتين، ثمَّ جَلَس علَى طَعامٍ صَنَعُوه لَه، فجَعَلُوا يَتذَاكَرُون، فذَكَرُوا رَجُلا يُقالُ لَه: مَالِكُ بنُ الدُّخْشُن، فقَال بَعضُهم: هُو مُنافِقٌ. فقَال رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا تَقُل هَكَذَا؛ أَلَيسَ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجهَ اللهِ؟!". ثمَّ قالَ: "فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ" الحَدِيث.
فنَهاهُم أَن يَقُولوا هذَا؛ لأَنَّهم لا يَدرُون مَا فِي قَلبِه؛ لأنَّه يَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَالرَّسُول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَم يُبرِّئ الرَّجُل، ونَهَى أَن نُطلِق أَلسِنَتَنا فِيمَن ظَاهِرُهم الصَّلاحُ، ولِهذَا قَال العُلَماء: يَحرُم ظَنُّ السُّوءِ بمُسلِمٍ ظاهِرُه العَدَالَةُ.

قولُهُ: "فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ"، أَي: مُنِع مِن النَّارِ، أَو مَنَعَ النَّارَ أَن تُصِيبَهُ.

قولُهُ: "مَن قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاًَّ اللهُ يَبتَغِي بِذَلِكَ وَجهَ اللهِ"، أَي: يَطلُبُ وَجهَ اللهِ، ومَن طَلَب وَجهًا؛ فَلا بُدَّ أَن يَعمَلَ كُلَّ مَا فِي وُسعِهِ لِلوُصُولِ إِلَيه.
فالحَدِيثُ واضِحُ الدِّلالَة علَى شَرطِيَّةِ العَملِ لمَن قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ.
قالَ شَيخُ الإِسلامِ: "إِنّ المُبتَغِي لا بُدَّ أَن يُكمِّلَ وَسائِل البُغيَةِ، وَإِذا أَكمَلَها حَرُمَت عَلَيه النَّارُ تحرِيمًا مُطلَقًا، وَإِن أَتى بِالحَسَناتِ علَى الوَجه الأَكمَلِ؛ فإِنَّ النَّار تَحرُم علَيهِ تحرِيمًا مُطلَقًا، وَإِن أَتى بِشيءٍ ناقِصٍ، فإِنَّ الاِبتِغاءَ فِيه نَقصٌ، فيَكُون تَحرِيم النَّارِ علَيه فِيه نَقصٌ، لكِن يَمنَعُه مَا مَعَه مِن التَّوحِيد مِن الخُلُود فِي النَّارِ، وكَذَا مَن زَنَى، أَو شَرِب الخَمر، أَو سَرَق، فإِذا فَعَل شيئًا مِن ذلِك ثُمَّ قالَ حِين فَعَلَه: أَشهَد أَن لا إِلَه إِلا اللهُ ابتَغَى بِذلِكَ وَجهَ اللهِ؛ فهُوَ كاذِبٌ فِي زَعمِهِ؛ لأَنَّ النَّبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالَ: "لاَ يَزنِي الزَّانِي حِينَ يَزنِي وَهُوَ مُؤمِنٌ"، فَضلاً عَن أَن يَكُون مُبتَغِيًا وَجهَ اللهِ".

وفِي الحَدِيثِ رَدٌّ علَى المُرجِئَة الَّذِين يَقولُون: يَكفِي قَولُ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، دُونَ ابتِغَاءِ وجهِ اللهِ، وفِيه رَدٌّ علَى الخَوارِجِ والمُعتزِلَة؛ لأَنَّ ظَاهِر الحَدِيث أَنَّ مَن فَعَل هَذِه المُحرَّمَاتِ لا يُخَلَّد فِي النَّارِ، لكِنَّه مُستَحِقٌّ لِلعُقوبَة، وهُم يَقُولُون: إِنَّ فاعِل الكَبِيرَة مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ.

دلالة الحديث على التَّوحيد: أنَّ الموحِّد مُحرَّمٌ على النَّار، وأنَّه ينبغي الإخلاصُ في قول (لاَ إله إلاَّ اللهُ).

وَعَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ ـ رضي الله عنه ـ عَن رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ قَالَ: "قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ! عَلِّمنِي شَيئًا أَذكُرُكَ وَأَدعُوكَ بِهِ. قَالَ: قُل يَا مُوسَى: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. قَالَ: يَا رَبِّ! كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ هَذَا؟ قَالَ: "يَا مُوسَى! لَو أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيرِي، وَالأَرَضِينَ السَّبعَ فِي كِفَّةٍ وَ(لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) فِي كِفَّةٍ، مَالَت بِهِنَّ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)" رواهُ ابنُ حِبَّانَ والحَاكِم وصَحَّحه.


[الحديث اختلف أهل العلم في تصحيحه؛ فلينظر في المطولات].
قولُه: "أَذكُرُكَ وَأَدعُوكَ بِهِ"، طَلبَ شيئًا يَحصُلُ بِهِ أَمرَانِ: ذِكرُ اللهِ، ودُعاؤُهُ، فأَجابَه اللهُ بقَولِه: "قُل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ"، وهذِهِ الجُملَة ذِكرٌ مُتضمِّنٌ للدُّعاءِ؛ لأنَّ الذَّاكِر يُريدُ رضَا اللهِ عَنهُ، والوُصُولَ إلَى دَارِ كَرامَتِه.

قولُه: "كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ هَذَا"، أَرادَ شيئًا يَختَصُّ بِه؛ لأَنَّ تَخصِيصَ الإِنسانِ بِالأَمرِ يَدلُّ علَى مَنقَبةٍ لَهُ ورِفعَةٍ؛ فبَيَّن اللهُ لهُ أنَّهُ مَهمَا أُعطِيَ فلَن يُعطَى أَفضَل مِن هذِه الكَلِمةِ، وأنَّ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) أَعظَمُ مِن السَّمواتِ والأَرضِ ومَا فِيهِنَّ؛ لأنَّها تَمِيلُ بِهِنَّ وتَرجُحُ، فدَلَّ ذلِكَ علَى فَضلِ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) وعِظَمِها، لكِن لا بُدَّ مِن الإِتيانِ بِشُروطِهَا.

قولُه: "عَامِرَهُنَّ غَيرِي"، أي: سَاكِنَهنَّ، واستَثنَى نَفسَه تَبارَك وتَعالَى؛ لأنَّ قَولَ (لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) ثَناءٌ عَلَيه، والمَثنِيُّ علَيه أَعظَمُ مِن الثَّناءِ.
والمَلائِكة ساكِنُون فِي السَّماءِ؛ لأنَّهم مُحتاجُونَ إلَيها، لَكنَّ الرَّبَّ تَبَارَكَ وتَعَالَى لَيس مُحتاجًا إلَيها، بَل إِنَّ السَّماءَ، وغَيرَ السَّماءِ مُحتَاجٌ إلَى اللهِ تعَالَى؛ فلاَ يَظُنَّ ظَانٌّ أنَّ السَّماءَ تُقِلُّ اللهَ، أَو تُظِلُّهُ، أَو تُحِيطُ بِهِ.
وعَلَيه؛ فالسَّمواتُ مُقِلَّةٌ لِلملائِكَة، ومَا فوقَهُم مِنها مُظِلٌّ لَهم، أمَّا بالنِّسبَة للهِ فهِيَ جِهَةٌ؛ لأَنَّ اللهَ تعَالَى مُستَوٍ علَى عَرشِهِ، لا يُقِلُّهُ شَيءٌ مِن خَلقِهِ.

قوله: "السَّموَاتِ السَّبعَ": هذا منصوص عليه في الكتاب والسنة، وورد في السنة سمكها، والمسافة ما بينها، وما يعتقده بعض الناس أن السماء الأولى هي السماء الدنيا التي نراها ليس عليه دليل.
قوله: "وَالأَرَضِينَ السَّبعَ": الوارد في الكتاب: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ" [الطلاق: 12]؛ فالمثليَّة بالكيفيَّة غير مُرادة، لظهور الفرق بين السَّماء والأرض في الهيئة، والكيفيَّة، والارتفاع، والحسن، فبقيت المثليَّة في العدد.
أما السنَّة فقد صرَّحت في غير ما حدِيث بالعَدد.

ودِلالَة الحدِيث على التَّوحِيد: فضل التَّوحِيد وعِظَم وَزنِ (لاَ إلَه إلاَّ اللهُ).


وللتِّرمذي وحسَّنه عن أنسٍ: سمِعتُ رسولَ الله ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ؛ يقُول: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا ابنَ آدَمَ! لَو أَتَيتَنِي بِقُرَابِ الأَرضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشرِكُ بِي شَيئًا؛ لأَتَيتُكَ بِقُرَابِهَا مَغفِرَةً"
قوله: "قَالَ اللهُ تَعَالَى" إلخ: هذا من الأحاديث القدسية.

قوله: "بِقُرَابِ الأَرضِ"، أي: ما يُقارِبها؛ إمَّا مِلئًا، أو ثِقلاً، أو حَجماً.

قوله: "خَطَايَا"، جمع خطِيئة، وهي الذَّنب ـ ولَو كانَت صغِيرةً ـ؛ لقوله تعالى: "بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَت بِهِ خَطِيئَتُهُ" [البقرة: 81].

قوله: "لاَ تُشرِكُ بِي شَيئًا"، أي: لقيتَني في حالٍ لا تُشرِكُ بي شيئًا؛ لا شركًا أصغَرَ ولاَ شركًا أكبَرَ.
وهذا قَيدٌ عظِيمٌ قد يتَهاونُ به الإنسَانُ، ويقول: أنا غيرُ مشرِكٍ، وهو لا يَدرِي؛ فحُبُّ المالِ مثلاً بحيث يُلهِي عَن طاعَة الله مِن الإِشراك، قالَ النَّبِيُّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ: "تَعِسَ عبدُ الدِّينارِ، تَعِسَ عَبدُ الدِّرهَمِ، تَعِسَ عَبدُ الخَمِيصَةِ، تَعِسَ عَبدُ الخَمِيلَةِ" الحديث، فسمَّى النبيُّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ مَن كانَ هذا همَّه: (عبداً له).

قوله: "لأتيتك بقُرَابها مَغفِرَة"، أي: أنَّ حسنَة التَّوحيد عظيمة تُكَفِّر الخطايا الكبيرةَ؛ إذا لقيَ اللهَ وهو لا يُشرِكُ به شَيئًا.

مناسبَة الحديث للتَّرجمة: أنَّ في هذا الحديث فضلَ التَّوحيد، وأنَّه سببٌ لتكفِير الذُّنوب؛ فهو مُطابِقٌ لقوله في التَّرجمة: "وما يكفِّر من الذنوب".

كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

حسن بوقليل 13 Apr 2010 07:26 PM

بَابُ مَن حَقَّقَ التَّوحِيدَ دَخَلَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسابٍ
 
بَابُ مَن حَقَّقَ التَّوحِيدَ دَخَلَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسابٍ

هذا البابُ مُتَمِّم للَّذي قبلَه؛ فإنَّ من فضل التوحيد دُخولَ الجنَّة بغَير حسابٍ.

قوله: "مَن حَقَّق التَّوحِيد"، تحقيق التَّوحِيد: تخلِيصُهُ مِنَ الشِّرك، ولا يكون إلاَّ بأمورٍ ثلاثَةٍ:
الأوَّل: العِلم؛ فلا يُمكِن أن تحقِّقَ شيئًا قبلَ أَن تَعلَمه، قال الله تعالى: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" [محمد: 19].
الثَّاني: الاِعتِقاد؛ فمَن عَلِمَ ولم يَعتَقِد، واستَكبرَ لم يُحقِّق التَّوحيد، قال الله تعالى عَن الكافِرين: "أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ عُجَابٌ" [ص:5]؛ فمَا اعتَقدُوا انفِرادَ اللهِ بِالأُلوهِيَّة.
الثَّالث: الاِنقِيادُ؛ فمَن عَلِمَ واعتَقَدَ ولم يَنقَد لم يُحقِّق التَّوحيد، قال تعَالى: "إِنَّهُم كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُم لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَستَكبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجنُونٍ" [الصافات: 35، 36].

قوله: "دَخَلَ الجَنَّة بغَير حِسابٍ"، أي: لا يُحاسَب.

وقَولُ الله تعَالى: "إِنَّ إِبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَم يَكُ مِنَ المُشرِكِينَ" [النحل: 120]

قولُه تعَالى: "إِنَّ إِبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً"، أي: إمامًا، وهذا ثَناءٌ مِن اللهِ ـ سُبحانَه وتعَالى ـ علَى إبراهِيم ـ عليه السَّلام ـ بأنّه إمامٌ متبوعٌ؛ لأنَّه أحدُ الرُّسل الكِرام مِن أُولي العزم، ثمَّ إنَّه ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ قُدوةٌ في أَعمالِه وأفعالِه وجِهاده.

قوله: "قَانِتًا"، القُنوت: دوَامُ الطَّاعة؛ فهو مُطِيع لله.

قوله: "حَنِيفًا"، أي: مائلاً عن الشِّرك، مجانِبًا لكُلِّ ما يُخالِف الطَّاعة، فوُصِفَ بالإثبات والنَّفي.

قوله: "وَلَم يَكُ مِنَ المُشرِكِينَ"، أي: لَم يكُن مُشركًا طُول حيَاتِه؛ فقَد كانَ ـ علَيه الصَّلاة والسَّلام ـ معصُومًا عَن الشِّرك، مع أنَّ قومَه كانُوا مُشرِكِينَ، فوَصفَهُ اللهُ بامتِناعه عَن الشِّرك استِمرارًا، وابتِداءً، والدَّليل على ذلِك: أنَّ اللهَ جعلَهُ إمامًا، ولا يَجعَلُ اللهُ للنَّاس إِمامًا مَن لَم يحقِّق التَّوحيد أبَدًا.
وثنَاءُ الله علَى أحدٍ يُقصد مِنه أَمران هامَّان:
الأوَّل: محبَّتُه، فنُحِبُّ إبراهِيم ـ علَيه السَّلام ـ.
الثَّاني: أن نَقتدِي بِه فِي هذِه الصِّفات الَّتي أثنَى اللهُ بها علَيه؛ ولنَا من الثَّناء بقَدر ما اقتَدينا بِه فِيها، قال تعَالى: "لَقَد كَانَ فِي قَصَصِهِم عِبرَةٌ لأُِولِي الأَلبَابِ" [يوسف: 111]، وقال تعَالى: "قَد كَانَت لَكُم أُسوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ" [الممتحنة: 4].
وهذِه مَسألَةٌ مهِمَّة؛ لأَنَّ الحُبَّ في اللهِ، والبُغضَ في اللهِ مِن أَوثَقِ عُرَى الإِيمان.

مناسبة الآية: أنَّ إبراهيم ـ علَيه السَّلام ـ إِمامُ المحقِّقين للتَّوحيد، بِصفاتِه المذكورَة في الآيَة.

وقوله: "والَّذِين هُم برَبِّهم لاَ يُشرِكُونَ" [المؤمنون: 59].


قوله: "وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِم لاَ يُشرِكُونَ" يُراد بِه الشِّرك بالمَعنى الأَعمِّ؛ إذ تحقيق التَّوحيد لا يكُون إلا باجتِنابِه، وليسَ معناه ألا تقَع مِنهم المَعاصي؛ ولكن إذا عَصَوا فإنَّهم يتُوبون ولا يستَمِرُّون عليها؛ كما قالَ اللهُ تعَالى: "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَو ظَلَمُوا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللهَ فَاستَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَم يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُم يَعلَمُونَ" [آل عمران: 135].

مناسبة الآية: أنَّ تحقِيق التَّوحيد يكُون بمُجانَبَة الشِّرك.

عَن حُصَينِ بنِ عَبدِ الرَّحمَن قالَ: كُنتُ عِندَ سَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ، فقَالَ: أَيُّكُم رَأَى الكَوكَبَ الَّذِي انقَضَّ البَارِحَة؟ فقُلتُ: أَنَا، ثُمَّ قُلتُ: أَمَا إِنِّي لَم أَكُن فِي صَلاَةٍ، وَلَكِنِّي لُدِغتُ، قالَ: فَمَا صَنَعتَ؟ قُلتُ: ارتَقَيتُ. قالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قُلتُ: حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعبِيُّ، قالَ: وَمَا حَدَّثَكُم؟ قُلتُ: حَدَّثَنَا عَن بُرَيدَةَ بنِ الحُصَيبِ أَنَّهُ قَالَ: «لاَ رُقيَةَ إِلاَّ مِن عَينٍ أَو حُمَةٍ». قَالَ: قَد أَحسَنَ مَنِ انتَهَى إِلىَ مَا سَمِعَ، وَلَكِن حَدَّثَنَا ابنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ: «عُرِضَت عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلاَنِ، وَالنَّبِيَّ وَلَيسَ مَعَهُ أَحَدٌ، إِذ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنتُ أَنَّهُم أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى وَقَومُهُ، فَنَظَرتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ، وَمَعَهُم سَبعُونَ أَلفًا يَدخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ وَلاَ عَذَابٍ».
ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنزِلَهُ، فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ. فقَالَ بَعضُهُم: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ، وقَالَ بَعضُهُم: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسلاَمِ؛ فَلَم يُشرِكُوا بِاللهِ شَيئًا.
وَذَكَرُوا أَشيَاءَ، فخَرَجَ عَلَيهِم رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَخبَرُوهُ، فَقَالَ: «هُمُ الَّذِينَ لاَ يَستَرقُونَ وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ وَلاَ يَكتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ».
فقَامَ عُكَّاشَةُ بنُ مِحصَنٍ، فقَالَ: اُدعُ اللهَ أَن يَجعَلَنِي مِنهُم، قَالَ: «أَنتَ مِنهُم»، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فقَالَ: اُدعُ اللهَ أَن يَجعَلَنِي مِنهُم فَقَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ».


قوله: "انقَضَّ البَارِحَةَ"، أي: سقط البارحة.

قوله: "أَمَا إِنِّي لَم أَكُن فِي صَلاةٍ"، أي: حقًّا لم أَكُن في صلاَةٍ.
وحُصَين ـ رحمه الله ـ قالَ هذا لِئلاَّ يُظَنَّ أنَّه قائِم يُصلي؛ فيُحمَدُ بما لم يَفعَل، وهذا خِلاف ما عَليه بعضُهم؛ يَفرَحُ أنَّ النَّاس يَتوهَّمُون أنَّه يَقُوم يُصَلِّي، وهذَا مِن نَقص التَّوحِيد.

قوله: "لُدِغتُ"، أي: لَدَغَته عَقرَب أو غَيرُها، والظَّاهرُ أنها شدِيدة؛ لأنَّه لَم ينَم مِنها.

قوله: "اِرتَقَيتُ" أي: طلَبت الرُّقية.

قوله: "لاَ رُقيَةَ إِلاَّ مِن عَينٍ أَو حُمَةٍ"، أي: لا قراءة أو لا استرقاء على مريض أو مصاب، والعين: نظرة من حاسد، نَفسُه خَبِيثَةٌ، تَتَكَيَّفُ بِكَيفِيَّةٍ خَاصَّةٍ، فينبَعِثُ مِنها ما يُؤَثِّر عَلى المُصَاب، ويُسمِّيها العَامَّة الآن: "التَّابْعَة"، و"حُمَة" ـ بضم الحاء وفتح الميم وتخفيفها ـ لَدغَةُ ذواتِ السُّمُوم.
وهذا يدلُّ على أنَّ الرُّقية من العين أو الحُمَة مُفِيدَةٌ، وهذا أمرٌ وَاقِعٌ؛ ويدلُّ عليه قصَّة اللَّديغ.

قوله: "عُرِضَت عليَّ الأُمَم"، أي: أُمَمُ الرُّسُلِ، وهذا العَرض في المنام فيما يظهر.

قوله: "إذ رُفِعَ لي سَوَادٌ عَظِيمٌ"، أي: أشخاص عَظِيمة كانوا من كثرتهم سوادًا.

قوله: "بِغَير حِسَابٍ ولاَ عذَابٍ"، أي: لا يُعَذَّبون ولا يُحَاسَبُون كَرَامةً لهم، وظاهرُه أنه لا في قُبُورِهم، ولا بَعدَ قِيَام السَّاعة.

قوله: "لا يَستَرقُون" أي: لا يَطلُبون مِن أَحدٍ أَن يَقرأَ علَيهم، لما يلِي:
1. لقُوَّة اعتِمادهم علَى الله.
2. لعِزَّة نفُوسِهم عن التَّذلُّل لغَير الله.
3. ولما في ذلِك مِن التَّعلُّق بغَير الله.

قوله: "وَلاَ يَكتَوُونَ"، أي: لا يَطلُبون مِن أحدٍ أَن يَكوِيَهم.

قوله: "وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ"، مأخُوذ مِن الطَّير، والطِّيَرة اسم المَصدر، وأصله: التَّشاؤُم بالطَّير، ولكنَّه أعمُّ من ذلك؛ فهو التَّشاؤم بمرئِيٍّ، أو مَسمُوع، أَو زَمانٍ، أَو مَكانٍ.
وسيَأتي الكلاَمُ علَيها فِي بابِها ـ إِن شاءَ اللهُ ـ.

قَوله: "وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوكَّلُونَ": فكَون الإِنسان لاَ يُبالِي بهذِه الأُمور، هذَا هُو التَّوكُّل علَى الله، ولهذَا ختَمَ المسأَلة بذلك، فانتفاء هذه الأمور عَنهم يدُلُّ علَى قُوَّة تَوكُّلِهم.

قوله: "فقال: أنت منهم"، خبرٌ بمعنى الدُّعاء، بدلِيل رِوايَة البُخاري: "اللَّهُمَّ اجعَلهُ مِنهُم".

قوله: "ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: اُدعُ اللهَ أَن يَجعَلَنِي مِنهُم. قَالَ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ"، أي: بهذِه المَنقَبة والفَضيلَة، أَو بهذِه المَسأَلة.
والنَّبي ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ خافَ أَن يَنفَتِح البَاب فيَطلُبَها مَن ليسَ مِنهُم؛ فقَال هذِه الكلِمَة الَّتي أَصبَحت مَثَلاً، وهذَا أَقرَبُ.

مناسبة الحديث للباب: أن من حقق التوحيد؛ بأن اتصف بالصفات الواردة في الحديث دخل الجنة بغير حساب.
والله أعلم.

كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

أبو أحمد ضياء التبسي 14 Apr 2010 10:43 AM

اقتباس:

كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.
سلمت يمينُكَ أخي الغالي؛ صاحب القدر العالي؛
ونفعَ اللهُ بكَ إخوانكَ ومُحِبِّيكَ في هته الشَّبكةِ المُباركة؛
وحفظَ اللهُ سائرَ المشائخ والإخوة؛
كشيخنا الفاضل: أبي عبد الله لزهر سنيقرة،
وشيخنا ووالدنا: أبي عبد الرحمن عبد المجيد جمعة،
وأخينا: أبي نعيم إحسان؛
وأخينا: أبي مُعاذ محمد مرابط؛
وسائر إخواننا الطيبين النَّافعين -بإذن المولى تبارك وتعالى-...
أخوكُم ومُحبُّكُم: ضياء...

حسن بوقليل 21 Apr 2010 09:50 AM

بَابُ الخَوفِ مِن الشِّركِ
 
بَابُ الخَوفِ مِن الشِّركِ


لما ذكر المؤلف رحمه الله فضل التَّوحيد؛ العام والخاص، ذكَر هذا البَاب؛ لأنَّ الإنسان يرَى أنَّه قد حقَّق التَّوحيد وهو لم يحقِّقه، وقَلَّ من يكون غرضُه الآخرةَ في كل عمَله.

وقَولِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: "إِنَّ اللهَ لاَ يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ" [النساء: 116].


قوله: "إِنَّ اللهَ لاَ يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ" أي: لا يغفِر إشراكًا به، فالشِّرك لا يغفِرُه الله أبدًا؛ لأنَّه جِناية على حقِّ الله الخاص، وهو التَّوحيد.
فالمعاصي؛ قَد يكُون للإِنسان فيهَا حظُّ نَفس بمَا نالَ مِن شَهوةٍ، أمَّا الشرك، فلَيس له فيه حظُّ نفسٍ، وليس شهوَةً يُرِيد الإنسانُ أن ينَال مرادَهُ، ولكنَّه ظلم.

قوله: "وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ"، المرادُ بالدُّون هنا: ما هُو أقلُّ مِن الشِّرك، وليسَ مَا سِوَى الشِّرك.

مناسبة الآية: خُطورَة الشِّرك، وأنَّه لا يُغفَر، وهذا يجعَلُنا نخَافُ مِنه.

وقَالَ الخَلِيلُ ـ علَيهِ السَّلامُ ـ: "وَاجنُبنِي وَبَنِيَّ أَن نَعبُدَ الأَصنَامَ" [إبراهيم: 35]


قوله: "وَاجنُبنِي وَبَنِيَّ أَن نَعبُدَ الأَصنَامَ" أي: اجعَلني في جانِبٍ والأصنَامَ في جانِبٍ.
فإِبراهيمُ ـ علَيه السَّلام ـ يخَافُ الشِّرك علَى نَفسِه، وهُو خلِيلُ الرَّحمَن وإِمامُ الحُنَفاء، فما بالُك بنا نحن إذًا؟
وقوله: "الأَصنَامَ": جمع صَنَم، وهُو كلُّ ما عُبِد من دُون الله وكانَ علَى صُورة إنسانٍ أو غيرِه، والوَثَن: ما عُبِدَ من دُون الله علَى أيِّ وجهٍ كانَ، وفي الحدِيث: "لاَ تَجعَل قَبرِي وَثَنًا يُعبَدُ".
ولا شكَّ أنَّ إِبراهِيمَ ـ علَيه السَّلام ـ سأَل ربَّه الثَّباتَ علَى التَّوحيد، لأنَّه إذا جنَّبه عبادَة الأصنَام كانَ باقيًا على التَّوحِيد.

مُناسَبة الآيَة:
أنَّ إبراهيمَ خافَ الشِّرك، وهُو إِمام الحُنَفاء.

وفِي الحَدِيث: "أَخوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيكُم: الشِّركُ الأَصغَرُ"، فَسُئِل عَنهُ، فقَال: "الرِّيَاءُ".


قولُه: "أَخوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيكُم": الخطاب للمُسلم؛ إذ هو الَّذي يُخاف علَيه الشِّرك الأصغَر.

قوله: "الرِّيَاءُ": مِن الرُّؤية؛ مَصدر رَاءَى يُرَائِي رِيَاءً، كقَاتَل يُقَاتِلُ قِتَالاً، والرِّيَاء: أن يعبُدَ الله ليراهُ النَّاس فيَمدَحُوهُ على كَونِه عَابِدًا، وليس يُريدُ أن تكون العبادةُ للنَّاس، لأنَّه لو أرَاد ذلِك، لكانَ شِركًا أكبرَ.
والظَّاهر أنَّ هذَا علَى سبِيل التَّمثِيل، والتعبير بالأغلب، وإلاَّ، فقَد يكُون رياءً، أو سمعةً.

والرِّياءُ ينقَسم باعتِبار إِبطاله للعِبادة إلى قِسمَين:
الأوَّل: أن يكُون في أصل العِبادة، أي ما قام يتعبَّد إلاَّ رياءً، فهذا عملُهُ باطلٌ مردودٌ عليه لحدِيث أبي هريرة في "الصحيح" مرفوعاً: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَنَا أَغنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّركِ، مَن عَمِلَ عَمَلاً أَشرَكَ مَعِي فِيهِ غَيرِي تَرَكتُهُ وَشِركَهُ".
الثَّاني: أن يكُون طارِئًا على العِبادة، فهذَا قِسمان:
الأوَّل: أَن يُدَافِعَه، فهذَا لا يَضرُّه.
الثَّاني: أن يَستَرسِلَ معه، فكلُّ عمَل ينشَأُ عَن الرِّياءِ فهُو باطِلٌ. ولا يخلُو هذَا مِن حالَين:
الأُولى: أَن يكُون آخرُ العِبادة مبنيًّا على أوَّلها؛ بحيثُ لا يصحُّ أوَّلها مع فسَادِ آخِرِها؛ كالصَّلاة، فهذِه فاسِدة.
الثَّانيَة: أن يكُون أوَّلُ العِبادة مُنفصِلاً عن آخِرِها؛ بحيثُ يصِحُّ أوَّلها دونَ آخِرها، فما سبَق الرِّياءَ، فهُو صحِيحٌ، وما كانَ بعدَه، فهُو باطِل. مثالُه: رجلٌ تصدَّق بخمسِين ريالاً بنيَّة خالِصة، ثم تصدَّق بخمسِين رياءً، فالأُولى مقبُولَة، والثَّانِية غيرُ مقبُولة، لأنَّ آخِرَها منفكٌّ عن أوَّلها.

مُناسبَة الحدِيث: خَوف النَّبِي ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ علَى أمَّته الشِّركَ الأَصغَر.

وعَن ابنِ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ قالَ: "مَن مَاتَ وَهُوَ يَدعُو مِن دُونِ اللهِ نِدًّا، دَخَلَ النَّارَ" رواه البخاري.


قوله: "يَدعُو مِن دُونِ اللهِ نِدًّا"، أي: يتَّخِذ لله ندًّا، سواءً دُعاءَ عِبَادَةٍ أم دُعاءَ مَسألةٍ، لأنَّ الدُّعاءَ قِسمان:
ـ دُعاءُ عِبَادَةٍ: كالصّوم، والصّلاة، وغير ذلِك من العِبادات، فإذَا صلَّى الإنسان أو صام، فقد دعَا ربَّه بلِسان حالِه أن يَغفِر لَه، وأن يُجِيرَهُ من عَذَابِه، وأن يُعطِيَه من نَوَالِه، قال تعالى: "وَقَالَ رَبُّكُم ادعُونِي أَستَجِبْ لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" [غافر: 60]، فجَعَل الدُّعاء عبادَةً.
وهذا القسم كلُّه مَن صَرَف منهُ شيئًا من أنواع العبادة لغير الله فقد كَفَر كُفرًا مُخرِجًا له عن الملَّة.
ـ دُعاءُ مَسأَلَةٍ: فهذَا ليس كلُّه شِركًا، بل فيه تَفصِيل، فإن كانَ المخلُوق قادرًا على ذلِك، فليسَ بشِركٍ، كقوله: اسقِني ماءً لمن يستطِيعُ ذلِك، وقد قال ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ: "مَن دَعَاكُم فَأَجِيبُوهُ"، وأمَّا إن دعَا المخلُوق بمَا لا يقدِر علَيه إلا الله، فإِنَّ دعوتَه شِرك مخرِج عن الملَّة، كأن يَدعو إنسانًا أن يُنزِّل الغيثَ مُعتقِدًا أنه قَادِرٌ على ذلك.
والمراد بقَوله ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ: "مَن مَاتَ وَهُوَ يَدعُو مِن دُونِ اللهِ نِدًّا": النِّدُّ في العبادة، أمَّا النِّدُّ في المسألة، ففِيه تفصِيل.

قوله: "دَخَلَ النَّارَ"، أي: خالدًا، مع أنَّ اللَّفظ لا يَدلُّ عليه، لأنَّ دَخَلَ فعلٌ، والفِعلُ يَدُلُّ على الإطلاق، وقال الله تعالى: "إِنَّهُ مَن يُشرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن أَنصَارٍ" [المائدة: 72]، وإذا حرِّمت الجنَّةُ، لَزِمَ أن يكون خالدًا في النّار أبدًا.
فيَجِب أن نخافَ مِن الشِّرك ما دامَت هذِه عُقوبتُه؛ فالمشرِك خَسر الآخرةَ؛ لأنَّه في النَّار خَالِدٌ، وخَسِرَ الدُّنيا أيضًا، لأنَّه لم يَستفِد مِنها شيئًا، وقامت عليه الحجَّةُ، وجاءهُ النَّذيرُ، قال تعالى: "أَوَلَم نُعَمِّرْكُم مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ" [فاطر: 37]، وقال الله ـ عزَّ وجلَّ ـ: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعبُدُ اللهَ عَلَى حَرفٍ فَإِن أَصَابَهُ خَيرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِن أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ * يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ البَعِيدُ * يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَفْعِهِ لَبِئْسَ المَوْلَى وَلَبِئْسَ العَشِيرُ" [الحج: 11-13]، وقال تعالى: "قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَومَ الْقِيَامَةِ" [الزمر: 15]، فَخَسِرَ نفسَه، لأنَّه لم يستَفِد منها شيئًا، وخَسِرَ أهلَه؛ لأنهم إن كانوا من المؤمنين فهُم في الجنّة، فلا يتمتع بهم في الآخرة، وإن كانوا في النار فكذلك، لأنه كلّما دخلت أُمَّةٌ لعنت أختَها.
والشِّرك خَفِيٌّ جدًّا، فقَد يكُون في الإِنسان وهُو لا يَشعُر إِلاَّ بَعد المحاسَبَة الدَّقِيقة، ولهذَا قالَ بعضُ السَّلف: "مَا جاهَدت نفسِي علَى شيءٍ ما جاهَدتُها علَى الإِخلاص".
فالشِّرك أمرُه صعبٌ جدًّا ليس بالهيِّن، ولكن يُيَسِّر اللهُ الإخلاصَ على العبد، وذلِك بأن يجعَلَه اللهُ نصبَ عَينَيهِ، فَيقصِد بعمله وجهَ الله لا يقصد مدحَ النَّاس أو ذمَّهم أو ثناءَهم عَليه.

ولِمُسلِم عَن جابِر أنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ قالَ: "مَن لَقِيَ اللهَ لاَ يُشرِكُ بِهِ شَيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن لَقِيَهُ يُشرِكُ بِهِ شَيئًا دَخَلَ النَّارَ".


قوله: "دَخَلَ الجَنَّةَ": وهذَا الدُّخُول لا ينافي أن يُعَذَّبَ بِقَدرِ ذُنوبه ـ إِن كانَت علَيه ذُنوبٌ ـ، لِدِلالَةِ نُصُوصِ الوَعِيدِ على ذلِك، وهذا إذا لم يَغفِر اللهُ له، لأنَّه دَاخلٌ تحتَ المشيئَة.

قوله: "لاَ يُشرِكُ بِهِ شَيئًا": نكِرة في سيَاق الشَّرط، فيعمُّ أيَّ شِرك، حتَّى ولو أَشرك معَ الله أشرفَ الخلقِ؛ محمّدًا ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ دخَل النَّار، فكيفَ بمن يجعَل الرَّسولَ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ أعظَمَ مِنَ الله؛ فيَلجَأ إلَيه عِند الشَّدائِد، ولا يَلجَأ إلى الله؟!

مسألة: هَل يَلزم مِن دُخول النَّار الخُلُود لمَن أَشرَك؟ هذا بحسَب الشِّرك:
إِن كانَ الشِّرك أَصغَر؛ فإنَّه لا يَلزَم مِن ذلِك الخُلودُ في النَّار.
وإن كانَ أكبر؛ فإنَّه يَلزم مِنه الخُلودُ في النَّار.
لكن لو حمَلنا الحديثَ علَى الشِّرك الأكبَر في المَوضِعين في قوله: "مَن مَاتَ لاَ يُشرِكُ بِالله شَيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ"، وفي
قوله: "وَمَن لَقِيَ اللهَ يُشرِكُ بِهِ شَيئًا دَخَلَ النَّارَ"، وقُلنا: من لقِي اللهَ لا يشرِك به شركًا أكبَر دخَل الجنَّة، وإن عُذِّب قبل الدُّخول في النَّار بما يستحِقُّ، فيَكون مآلُه إلى الجنَّة، ومَن لقِيه يُشرِك به شركاً أكبر دخَل النَّار مخلَّدًا فِيها لم نحتَج إلى هذا التَّفصيل.

مناسبَة الحديث: أنَّ الشِّرك سبَب لدُخول النَّار، فيَنبغِي الخَوف مِنه.


كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

تنبيه:
أعتذر لإخواني عن التأخر أحيانا في تنزيل الدرس، وأعلمهم أن الدرس القادم سيتأجل للأسبوع الذي بعده إن شاء الله.

سفيان بن عثمان 22 Apr 2010 10:09 AM

الله أسأل أن يجعل ما سطرت يمينك أبا عبدالله في ميزان حسناتك.

حسن بوقليل 06 May 2010 04:39 PM

اقتباس:

تنبيه:
أعتذر لإخواني عن التأخر أحيانا في تنزيل الدرس، وأعلمهم أن الدرس القادم سيتأجل للأسبوع الذي بعده إن شاء الله.
أعتذر عن عدم رفع الدرس الجديد إلى الآن؛
أسألُ اللهَ التوفيق.

حسن بوقليل 10 May 2010 06:52 AM

باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله
 
بَابُ الدُّعَاءِ إِلىَ شَهَادَةِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ

هذا التَّرتيب الَّذِي ذكرَه المؤلِّف من أحسَن ما يَكون؛ لأنَّه لما ذكَر توحِيدَ الإِنسان بنَفسِه ذكَر دَعوَة غَيرِه إلى ذلِك، لأنَّه لا يتمُّ الإيمانُ إلا إذا دعَا إلى التَّوحيد، قال تعالى: "وَالْعَصرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبرِ" [سورة العصر]، فالدّعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله من تمام التَّوحيد.

وَقَولُ اللهِ تَعَالىَ: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلىَ اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ" الآية [يوسف: 108].

قوله: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي"، المُشار إليه ما جاء بِه النَّبيُّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ مِن الشَّرع عِبادةً ودَعوةً إلى الله، والسَّبِيل: الطَّريقُ.

قولُه: "أَدعُو إِلىَ اللهِ": الدُّعاة إلى الله قسمان:
1. داعٍ إلى الله: هو المخلِصُ الَّذِي يريد أن يوصِل النَّاس إلى الله تعالى.
2. داعٍ إلى غيره: قد يكون داعيًا إلى نفسِه، يدعو إلى الحقِّ لأجل أن يعظَّم بين النَّاس ويُحتَرم، ولهذا تجدُه يَغضَبُ إذا لم يَفعلِ النّاس ما أَمَرَ بِهِ، ولا يَغضَبُ إذَا ارتَكَبُوا نهيًا أعظمَ مِنه، لكن لم يَدعُ إلى تركه.
وقد يكون داعيًا إلى رَئِيسِهِ؛ كما يوجد في كثير مِنَ الدُّوَل من علماءِ الضَّلال من عُلَماء الدُّول، لا عُلماء المِلَلِ.
ومَن دَعا إلى الله ثم رأى النَّاس فارِّينَ منه، فلا يَيأَس ويَترُكِ الدَّعوة، فإنَّ الرَّسول ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ قال لعلي: "فَوَاللهِ، لأَن يَهدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيرٌ لَكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ"، فإذا دعا إلى الله ولم يُجَب، فليكن غضبه من أجل أنَّ الحقَّ لم يُتَّبَع، لا لأنَّه لم يُجَب، فإذا كان يغضَب لهذا، فمعناه أنَّه يدعو إلى الله، فإذا استجابَ واحدٌ كَفَى، وَإِذَا لم يَستَجِب أَحَدٌ، فقد أبرأ ذمَّتَه أيضًا، وفي الحديث: "وَالنَّبِيَّ وَلَيسَ مَعَهُ أَحَدٌ".
ثم إنَّه يكفي من الدَّعوة إلى الحقِّ والتَّحذير من الباطل أن يتبيَّن للنَّاس أن هذا حقٌّ وهذا باطلٌ، لأنَّ النَّاس إذا سكتوا عن بيان الحقِّ، وأُقِرَّ الباطلُ مع طول الزَّمن، ينقلب الحقُّ باطلاً، والباطلُ حقًّا.

قوله: "عَلَى بَصِيرَةً"، أي: عِلمٍ، فتضمَّنت هذه الدَّعوة الإخلاصَ والعِلمَ، لأنَّ أكثر ما يُفسِدها عدمُ الإِخلاص، أو عدمُ العِلم.
والمقصود بالعلم هُنا العِلمُ بالشَّرع، والعِلمُ بحالِ المَدعُوِّ، والعِلمُ بالسَّبِيل المُوصِل إلى المَقصُود، وهو الحِكمة.
فالجاهل لا يصلُح للدَّعوة، وليس محمودًا، وليسَت طريقَتُه طريقةَ الرَّسول ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ لأنَّ الجاهِل يُفسِد أكثَر ممَّا يُصلِح.

قوله: "أَنَا وَمَن اتَّبَعَنِي" أي: أنا ومن اتَّبعني على بصِيرةٍ، في عِبادَتي ودَعوَتي.

مُناسَبة الآيَة للبَاب: أنَّ الدَّعوة إلى شهادَة أن لا إِله إلاَّ اللهُ هِي سبِيلُ النَّبِيِّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ.

وَعَن ابنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلىَ اليَمَنِ، قَالَ لَهُ: "إِنَّكَ تَأتِي قَومًا مِن أَهلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُن أَوَّلَ مَا تَدعُوهُم إِلَيهِ شَهَادَةُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ (وَفِي روَايةٍ: إِلىَ أَن يُوَحِّدُوا اللهَ)، فَإِن هُم أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ، فَأَعلِمهُم أَنَّ اللهَ افتَرَضَ عَلَيهِم خَمسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَومٍ وَلَيلَةٍ، فَإِن هُم أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعلِمهُم أَنَّ اللهَ افتَرَضَ عَلَيهِم صَدَقَةً تُؤخَذُ مِن أَغنِيَائِهِم فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِم، فَإِن هُم أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَموَالِهِم، وَاتَّقِ دَعوَةَ المَظلُومِ، فَإِنَّهُ لَيسَ بَينَهَا وَبَينَ اللهِ حِجَابٌ". أخرجاه
.

قولُه: "بَعَثَ مُعَاذًا" وكان ذلك ـ على المشهور ـ في ربيع الأول سنة عشرٍ من الهجرة، أرسله إلى أهل صَنعاء وما حولها معلِّمًا وحاكمًا وداعيًا.
وبعث أبا موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ إلى عدن وما حولها، وأمرَهما: "أَنِ اجتَمِعَا وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَفتَرِقَا، وَيَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَذَكِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا" [البخاري].

قولُه: "إِنَّكَ تَأتِي قَومًا مِن أَهلِ الكِتَابٍ": قال ذلك مُرشِدًا له؛ بأن يكون بصِيرًا بأحوال من يَدعُو، وأن يكون مستعِدًّا لهم، لأنَّ لهُم عِلمًا.
والمُراد بأهل الكِتاب اليهودُ والنَّصارى، وهم أكثَرُ أهلِ اليَمن في ذلِك الوَقت، وإن كان في اليَمن مُشرِكون، لكن الأكثر اليهود والنصارى.

قوله: "فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدعُوهُم إِلَيهِ شَهَادَةَ": الظَّاهر أنَّه يرِيدُ أن يبَيِّن أنَّ أوَّل ما يَكون هي الشَّهادَة، فيَكون "أَوَّلُ" مَرفوعًا على أنَّه اسم "يَكُن".
والشَّهادةُ هنَا من العِلم، قال تعَالى: "إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُم يَعلَمُونَ" [الزخرف: 86]، فالشَّهادة هنَا العِلمُ والنُّطق باللِّسان، لأنَّ الشَّاهِد مُخبِرٌ عن عِلمٍ، وهذَا المَقام لا يَكفِي فِيه مجرَّد الإِخبار، بل لا بُدَّ من عِلمٍ وإِخبارٍ وقَبولٍ وإِقرارٍ وإِذعانٍ (انقِيادٍ)، فلَو اعتَقد بقلبِه، ولم يقُل بلِسانه: أشهدُ أن لاَّ إِله إلاَّ اللهُ، فقد قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمِيَّة ـ رحمهُ اللهُ ـ: "إنَّه ليسَ بمسلِمٍ بالإِجماع حتَّى ينطِقَ بِهَا، لأنَّ كلِمة أَشهَدُ تَدلُّ علَى الإِخبار، والإِخبارُ متَضمِّنٌ للنُّطق، فلا بُدَّ مِن النُّطق، فالنِّية فقَط لا تُجزِئ، ولا تَنفَعُه عِند اللهِ حتَّى يَنطِق، والنَّبِيُّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ قالَ لعمِّه أبِي طالِبٍ: "قُل"، ولم يقُل: اعتَقِد أن لاَّ إلَه إلاَّ اللهُ".

قوله: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ": لا معبود بحقٍّ إلا الله، فـ(إِلَه) بمعنى (مَألُوه)، فهو (فِعَالٌ) بمعنىَ (مَفعُول)، وعندَ المتكلِّمين، بمعنى (آلِه)، فهو اسم فاعل، ومعناه (لاَ آلِهَ) أي: (لاَ قادِرَ علَى الاِختِراع)، وهذا باطل، ولو قيل بهذا؛ لكان المشرِكون الَّذِين قاتَلهم النَّبِيُّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ موحِّدِينَ لأنَّهم يُقرُّونَ بِه، قال تعَالى: "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَن خَلَقَهُم لَيَقُولُنَّ اللهُ" [الزخرف: 87]، وقال تعَالى: "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَن خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ" [الزمر: 38]. فإن قيل: كيف يُقَال: لاَ مَعبُود إلاَّ اللهُ، والمُشرِكون يَعبدُون أصنَامَهُم؟!
أُجِيب: بأنَّهم يعبُدونها بغَير حقٍّ، فهُم وإِن سَمَّوها آلِهة، فأُلوهِيَّتُها باطِلةٌ، وليسَت معبوداتٍ بحَقٍّ، ولذلِك إذا مسَّهُم الضُّرُّ، لَجؤُوا إلى الله تعَالى، وأخلَصُوا له الدِّين، وعلَى هذَا لا تَستحِقُّ أن تُسمَّى آلِهَة، فهُم يعبُدونَها ويعتَرِفون بأنَّهم لا يعبُدونها إِلاَّ لأَجل أن تُقرِّبهم إلى اللهِ فقَط، فجَعلُوها وسِيلَةً وذرِيعَةً، وبهذا التَّقدِير لا يرِدُ علَينا إِشكالٌ فِي قولِ الرُّسُل لقَومِهم "اُعبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِن إِلَهٍ غَيرُهُ" [الأعراف: 59]؛ لأنَّ هذه المعبوداتِ لا تستَحِقُّ أن تُعبَد، بل الإِلَهُ المَعبودُ حقًّا هُو اللهُ سُبحانَه وتعَالى.
وفى قوله: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" نفيُ الأُلوهيَّة لغير الله، وإثباتُه لله، ولهذَا جاءَت بطرِيق الحَصر.

مُناسَبَةُ الحدِيث للبَابِ: أنَّ النَّبِيَّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ بعثَ معاذًا داعِيًا إلى شهادَة أن لاَ إِلَه إلاَّ اللهُ.

وَلَهُمَا عَن سَهلِ بنِ سَعدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ قالَ يَومَ خَيبَرَ: "لأُعطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، يَفتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيهِ".
فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيلَتَهُم، أَيُّهُم يُعطَاهَا، فَلَمَّا أَصبَحُوا، غَدَوا عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ، كُلُّهُم يَرجُو أَن يُعطَاهَا.
فَقَالَ: "أَينَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ؟".
فَقِيلَ هُوَ يَشتَكِي عَينَيهِ.
فَأَرسَلُوا إِلَيهِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَبَصَقَ فِي عَينَيهِ، وَدَعَا لَهُ، فَبَرَأَ كَأَن لَم يَكُن بِهِ وَجَعٌ، فَأَعطَاهُ الرَّايَةَ، فَقَالَ: "انفُذ عَلَى رِسلِكَ حَتَّى تَنزِلَ بِسَاحَتِهِم، ثُمَّ ادعُهُم إِلىَ الإِسلاَمِ، وَأَخبِرهُم بِمَا يَجِبُ عَلَيهِم مِن حَقِّ اللهِ تَعَالىَ فِيهِ، فَوَاللهِ، لأَن يَهدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيرٌ لَكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ". (يدوكون)، أي: يَخُوضُونَ.


قوله: "لأُعطِيَنَّ الرَّايَة": وهي العَلَم، وسمِّي رايةً؛ لأنَّه يُرى، وهو ما يتَّخذه أميرُ الجيش للعلاَمة على مَكانِه.
واللِّواء، قيل: إنَّه الرَّاية، وقيل ما لُوِي أعلاهُ، أو لُوِي كلُّه، فيكون الفَرق بينَهما، أنَّ الرَّاية مَفلُولةٌ لا تُطوَى، واللِّواء يُطوَى إمَّا أعلاهُ أو كلُّه، والمقصود منهما الدِّلالة، ولهذا يسمَّى علَمًا.

قوله: "يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ": أثبَت المحبَّة لله من الجانِبَين، وهذا من مَناقب أمير المؤمنين علِيِّ بن أبي طالِب ـ رضي اللهُ عنه ـ.

قوله: "يَفتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيهِ"، أي يفتَح خيبَر على يديه، وفي ذلك بِشارة بالنَّصر.

قوله: "يَشتَكِي عَينَيهِ"، أي: يتألَّم منهما.

قوله: "فَأُتِيَ بِهِ"، كأنَّه ـ رضي الله عنه ـ قد عُمِّم على عينيه.

وقوله: "فَبَرَأَ كَأَن لَم يَكُن بِهِ وَجَعٌ"، وهذا من آيات الله الدَّالة على قُدرته وصِدق رسوله ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ.

قوله: "اُنفُذ عَلَى رِسلِكَ"، أي: مَهلِك، والمعنى: امش هُوينًا هُوَينًا؛ لأنَّ المقام خطيرٌ، يخشَى من كمِينٍ، واليَهود خُبَثاء أهلُ غَدرٍ.

قوله: "حَتَّى تَنزِلَ بِسَاحَتِهِم"، أي: ما يَقرُب مِنهم وما حَولهم، والنَّبِيُّ ـ صلَّى الله علَيه وسلَّم ـ يقول: "إِنَّا إِذَا نَزَلنَا بِسَاحَةِ قَومٍ فَسَاءَ صَبَاحُ المُنذَرِينَ" [البخاري، ومسلم].
وهذا إذا كنَّا على الوَصف الَّذي عليه الرَّسول ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ وأصحابُه، أمَّا إذا كنَّا على وَصف القَوميَّة؛ فإنَّنا لو نزَلنا في أحضانِهم، فمِن المُمكِن أن يقُوموا ونكُونَ فِي الأَسفَل.

قوله: "ثُمَّ ادعُهُم إِلىَ الإِسلاَمِ وَأَخبِرهُم بِمَا يَجِبُ عَلَيهِم"، أي: فلا تكفِي الدَّعوة إلى الإسلام فقَط، بل يُخبِرهم بما يجِب عليهم فيه حتَّى يقتَنِعوا به ويلتَزِموا.

[مسألة] هل يخبِرُهم بما يجِب عليهم من حقِّ الله في الإسلام قبل أن يُسلِموا أو بعدَه؟
فإذا نظَرنا إلى ظاهِر حديث مُعاذٍ وحديث سَهلٍ هذا، فإنَّنا نقول: الأَولى أن تَدعُوَه للإسلام، وإذَا أسلَم تُخبِره.
وإذا نظَرنا إلى واقِع النَّاس الآن، وأنَّهم لا يُسلِمون عن اقتِناعٍ، فقَد يُسلِم، وإذا أخبَرته ربَّما يرجِع، قُلنا: يُخبَرون أَوَّلاً بما يجِب علَيهم من حقِّ الله فيه، لئلا يرتدُّوا عن الإسلام بعد إِخبارهم بما يجِب عليهم، وحينَئذٍ يجِب قتلُهم لأنَّهم مُرتدُّون.
ويحتَمل أن يُقال: تُترَك هذه المسأَلة للواقِع، وما تقتضِيه المصلحةُ من تقديم هذَا أو هذَا.

قوله: "لأَن يَهدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا" ولم يقُل: تهدي، لأنَّ الَّذي يهدِي هو الله.
والمُراد بالهِداية هُنا هدايَةُ التَّوفيق والدَّلالة.
[مسألة] هَل المراد الهِداية من الكُفر إلى الإِسلام، أو يعُمَّ كلَّ هدايةٍ؟
نقول: هو موَجَّهٌ إلى قَومٍ يدعُوهم إلى الإسلام، وهل نقُول: إنَّ القرِينة الحالِية تقتضي التَّخصيص، وأنَّ من اهتَدى على يدَيه رجلٌ في مسألةٍ فرعِيَّةٍ من مسائِل الدِّين لا يحصُل له هذَا الثَّواب بقرِينة المَقام، لأنَّ علِيًّا مُوجَّهٌ إلى قومٍ كفَّارٍ يدعُوهم إلى الإسلام، والله أعلَم.

خَيرٌ لَكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ" جمع أَحمَر.
وحُمْر النَّعَم: هي الإِبل الحَمراء، وهي مَرغوبةٌ عند العَرب؛ لأنَّها مِن أنفَس الإِبل.

مُناسبَةُ الحدِيث للبَاب: أنَّ النَّبِيَّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ بعثَ علِيًّا داعِيًا إلى شهادَة أن لاَ إِلَه إلاَّ اللهُ.

كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

حسن بوقليل 18 May 2010 08:48 AM

بابُ تَفسِير التَّوحِيد وشَهادَةِ أن لاَّ إِلهَ إلاَّ اللهُ
 
بابُ تَفسِير التَّوحِيد وشَهادَةِ أن لاَّ إِلهَ إلاَّ اللهُ


العطف هنا من باب عطف المترادِفين؛ لأنَّ التَّوحيد حقيقة هو شهادة أن لا إله إلا الله.
وهذا الباب مهمٌّ؛ لأنَّه لما سبق الكلام على التَّوحيد وفضله والدَّعوة إليه، كأنَّ النفس الآن اشرأَبَّت إلى بيان ما هو هذا التَّوحيد الَّذي بوَّب له هذه الأبواب (وجوبه، وفضله، والدعوة إليه)؟
فيجاب بهذا الباب.

وقول الله تعالى: "أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدعُونَ يَبتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُم أَقرَبُ" الآية [الإسراء: 57].


قوله تعالى: "أُولِئَكَ الَّذِينَ يَدعُونَ": دعاء مسألة، ودعاء عبادة.

قوله: "يَبتَغُونَ": يطلبون.

قوله: "الوَسِيلَةَ"، أي: الشَّيء الَّذي يوصِلُهم إلى الله.
فهؤلاء الَّذين يدعُوهم هؤلاء هُم أنفسُهم يبتَغون إلى ربِّهم الوسيلَةَ أيُّهم أقرَبُ، فكيف تدعُونهم وهم محتاجُون مفتَقِرون؟!
فهذا سفَهٌ في الحقيقة، وهذا ينطبق على كلِّ من دُعِي وهو داعٍ، كعيسى بن مريم، والملائكة، والأولياء، والصَّالحين، وأمَّا الشَّجر والحَجَر، فلا يدخُل في الآية.
فهؤلاء الَّذين زعمتم أنَّهم أولياء من دون الله لا يملِكون كشفَ الضُّر ولا تحويلَه، وقد قال تعالى مبيِّنًا حالهم: "وَالَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَملِكُونَ مِن قِطمِيرٍ * إِن تَدعُوهُم لاَ يَسمَعُوا دُعَاءَكُم وَلَو سَمِعُوا مَا استَجَابُوا لَكُم وَيَومَ القِيَامَةِ يَكفُرُونَ بِشِركِكِم وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثلُ خَبِيرٍ" [فاطر: 13، 14].

وجه مناسبة الآية للباب:
أنَّ التَّوحيد يتضمَّن البراءة من الشِّرك؛ فلا يدعو مع الله أحدًا؛ لا ملَكًا مقرَّبًا، ولا نبيًّا مرسلاً، وهؤلاء الَّذين يدعون الأنبياء والملائكة لم يتبرَّؤوا من الشِّرك، بل هم واقِعون فيه، ومن العجَب أنَّهم يدعون من هُم في حاجةٍ إلى ما يقرِّبهم إلى الله تعالى، فهم غير مستَغنِينَ عن الله بأنفسهم، فكيف يُغنُون غيرَهم؟!

قوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ إِبرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَومِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي" الآية.


قوله: "بَرَاءٌ مِمَّا تَعبُدُونَ"، أي: إنَّني مُتخَلٍّ غاية التَّخلِّي عمَّا تعبدون.
وهذا يقابل النَّفي في (لا إله إلا الله).

قوله: "إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي": يقابل الإثبات في (لا إله إلا الله).
فالتَّوحيد لا يتِمُّ إلاَّ بالكفر بما سوى الله والإيمان بالله وحده؛ "فَمَن يَكفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤمِن بِاللهِ فَقَدِ استَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقَى" [البقرة: 256]، وهؤلاء يعبُدون اللهَ ويعبُدون غيرَه، لأنَّه قال: "إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي"، والأصل في الاستِثناء الاتِّصال إلاَّ بدليلٍ، ومع ذلِك تبرَّأ مِنهُم.

[مَسأَلةٌ مهِمَّةٌ]
يوجَد في بعض البُلدان الإسلاميَّة من يصلِّي ويزكِّي ويصُوم ويحُجُّ، ومع ذلك يذهبُون إلى القُبور يسجُدون لها ويركَعون، فهم كفَّارٌ غيرُ موَحِّدين، ولا يُقبَل منهم أي عمَلٍ، وهذا من أخطر ما يكون على الشُّعوب الإسلاميَّة؛ لأنَّ الكُفر بما سوى الله عندَهم ليس بشيءٍ، وهذا جهلٌ مِنهم، وتفريطٌ من عُلمائِهم، لأنَّ العامِيَّ لا يأخُذ إلاَّ من عالمه، لكنَّ بعض النَّاس ـ والعِياذُ بالله ـ عالِم دولَةٍ لا عالِم مِلَّةٍ.

مُناسبَة الآية للبَاب: أنَّ التَّوحيد لا يحصُل بعبادة الله مع غيرِه، بل لا بُدَّ من إِخلاصه لله، والنَّاس في هذا المقام ثلاثَة أقسام:
قسمٌ يعبُد الله وحدَه.
وقسمٌ يعبُد غيرَه فقَط.
وقسمٌ يعبُد الله وغيرَه.
والأوَّل فقَط هو الموحِّد.

وقوله: "اِتَّخَذُوا أَحبَارَهُم وَرُهبَانَهُم أَربَابًا مِن دُونِ اللهِ" الآية [التوبة: 31].


قوله: "أَحبَارَهُم وَرُهبَانَهُم": جمعٌ حَبر، وهو العالِم، ويقال للعالم أيضًا (بَحرٌ) لكثرة علمه.
والرُّهبان جمع راهِب، وهو العابِد.

وقوله: "أَربَابًا مِن دُونِ اللهِ": جمع ربٍّ، أي جعَلُوا الأَحبَار أربابًا؛ لأنَّهم يطيعُونَهم في معصية الله، وجعَلُوا الرُّهبانَ أربابًا باتِّخاذهم أوليَاءَ يعبُدونَهم من دون الله.

قوله: "وَالمَسِيحَ ابنَ مَريَمَ"، أي: اتَّخذوا المسيحَ ابنَ مَريم أيضًا ربًّا فقَالوا: إنَّه ثالثُ ثلاثَةٍ.

مُناسبَة الآيَة للبَابِ: أنَّ الله أنكَر علَيهم اتِّخاذ الأحبَار والرُّهبان أربابًا من دون الله، فجعَلُوا الأحبَار شُرَكاء في الطَّاعة، كلَّما أمَرُوا بشيءٍ أطاعُوهم، سواءٌ وافَق أمرَ الله أم لا.
فتفسِير التَّوحيد أيضًا بلا إله إلا الله يستَلزم أن تكُون طاعَتُك لله وحدَه، ولهذا علَى الرُّغم من تأكيد النَّبِيِّ ـ صلَّى الله علَيه وسلَّم ـ لطاعة وُلاة الأمر، قال: "إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعرُوفِ" [البخاري، ومسلم].

وقوله: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُم كَحُبِّ اللهِ" الآية [البقرة: 165]


قوله: "مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ": أَي يَجعَلُ غيرَ اللهِ.

وقوله: "أَندَادًا": جمع نِدٍّ، وهو الشَّبيه والنَّظير.

وقوله: "يُحِبُّونَهُم كَحُبِّ اللهِ": هذا وجه المُشابَهة، أي: النِّدِّيَّة في المحبَّة.
واختَلف المفسِّرون في قوله: "كَحُبِّ اللهِ":
فقِيل: يجعَلُون محبَّة الأَصنَام مساوِيةً لمحبَّة الله، فيكُون في قلُوبهم محبَّةٌ لله ومحبَّةٌ للأَصنَام.
وقِيل: يحبُّون هذِه الأصنَام كمحَبَّة المؤمِنين لله.
وسِياق هذِه الآيَة يؤيِّد القَول الأوَّل.

وقوله: "وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ":
على الرَّأي الأوَّل يكُون معنَاها: والَّذين آمنُوا أشدُّ حبًّا لله مِن هؤُلاءِ لله، لأنَّ محبَّة المُؤمِنين خالِصة، ومحبَّة هؤلاء فيهَا شِركٌ بين الله وبين أصنَامهم.
وعلى الرَّأي الثَّاني معنَاها: والَّذين آمَنُوا أشدُّ حبًّا لله مِن هؤُلاءِ لأصنَامهم، لأنَّ محبَّة المُؤمِنين ثابِتةٌ في السَّراء والضَّراء على بُرهانٍ صحيحٍ، بخلاف المُشركِين، فإنَّ محبَّتهم لأصنامِهم تتضَاءل إذا مسَّهُم الضُّر.
فما بالُك برجلٍ يحِبُّ غير الله أكثَر من محبَّته لله؟!
وما بالُك برجل يحِبُّ غيرَ الله ولا يحِبُّ الله؟!
فهذا أقبَح وأعظَم، وهذا مَوجودٌ في كثِيرٍ مِن المُنتسِبِين للإسلام اليَوم؛ فإنَّهم يحِبُّون أولِياءَهم أكثَر ممَّا يحِبُّون الله، ولهذا لو قِيل له: احلِف بالله، حَلَف صادِقًا أو كاذِبًا، أمَّا الولِيِّ، فلا يحلِف به إلاَّ صادِقًا.

والمحبَّة أنواعٌ:
الأوَّل: المحبَّة لله:
وهذه لا تنافِي التَّوحيد، بل هي من كمَاله، فأوثَق عُرَى الإيمان: الحبُّ في الله، والبُغض في الله.

الثَّاني: المحبَّة الطَّبيعِيَّة الَّتي لا يُؤثِرها المرءُ علَى محبَّة الله:
فهذه لا تنافي محبَّة الله؛ كمحبَّة الزَّوجة، والولَد، والطَّعام والشَّراب واللِّباس، والمَال، ولهذا لما سُئِل النَّبِيُّ ـ صلَّى الله علَيه وسلَّم ـ: "مَن أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيكَ؟ قالَ: "عَائِشَةُ". قِيل: فمِن الرِّجَالِ؟ قَالَ: "أَبُوهَا"(1).

الثَّالث: المحبَّة مع الله:
فهذِه تُنافِي محبَّة الله، وهي أن تكون محبَّة غيرِ الله كمحبَّة اللهِ أو أكثَر من محبَّة الله، بحيث إذا تعارَضَت محبَّة الله ومحبَّة غيرِه قدَّم محبَّةَ غير الله، وذلك إذا جعَل هذه المحبَّة ندًّا لمحبَّة الله يقدِّمها على محبَّة الله أو يساوِيها بها.

مُناسبَة الآيَة للبَاب: أنَّ الله جعَل هؤُلاءِ الَّذِين ساوَوا محبَّة الله بمَحبَّة غيرِه مُشرِكين جاعِلين لله أندادًا.

وَ
فِي الصَّحِيحِ عَن النَّبِيِّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ، أنَّه قَالَ: "مَن قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَكَفَرَ بِمَا يُعبَدُ مِن دُونِ اللهِ، حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ".
وشَرَحَ هذِه التَّرجَمة مَا بعدَها مِن الأَبوابِ.


قوله: "مَن قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" أي: لاَ مَعبُودَ حَقٌّ إِلاَّ اللهُ، فلفظ "الله" بدَلٌ مِن الضَّمير المُستَتِر في الخبَر، ومن يرى أن "لا" تعمَل في المَعرِفة يقُول: هو الخبر.

قوله: "وَكَفَرَ بِمَا يُعبَدُ مِن دُونِ اللهِ"، أي: بعِبادة من يُعبَد من دون الله.
وفيه دليلٌ على أنَّه لا يكفِي مجرَّد التَّلفُّظ بـ(لا إله إلا الله)، بل لا بُدَّ أن تَكفُر بعبادة من يُعبَد من دون الله، بل وتَكفُر أيضًا بكلِّ كُفرٍ؛ فمَن يقول (لا إله إلا الله) ويرى أنَّ النَّصارى واليَهود اليَوم على دِينٍ صحيحٍ، فليس بمُسلِمٍ، ومن يرَى الأَديان أفكارًا يختَارُ منها ما يُرِيد، فليس بمُسلِمٍ، ولهذا لا يُقَال: (الفِكرُ الإسلامِي)، بل يُقَال: (الدِّينُ الإِسلامِي) أو (العقِيدةُ الإسلامِيَّة)، ولا بأس بقَول: (المُفكِّرُ الإِسلامِي)؛ لأنَّه وصفٌ للشَّخص نفسِه، لا للدِّين الَّذي هُو علَيه.

مُناسبَةُ الحدِيث للبَاب:
أنَّ مِن تفسير التَّوحيد الكُفرَ بمَا يُعبَد مِن دُونِ الله.

قوله: "وَشَرَحَ هَذِهِ التَّرجَمَة"، المرَادُ بالشَّرح هُنا: التَّفصِيل، والتَّرجمة: تُطلَق باصطلاح المؤلِّفِين على العَناوِين والأَبواب.

كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

حسن بوقليل 25 May 2010 01:41 PM

بابٌ مِن الشِّركِ لُبسُ الحَلقَةِ وَالخَيطِ ونَحوِهِمَا لِرَفعِ البَلاَءِ أَو دَفعِهِ
 
بابٌ مِن الشِّركِ لُبسُ الحَلقَةِ وَالخَيطِ ونَحوِهِمَا لِرَفعِ البَلاَءِ أَو دَفعِهِ


قوله: "مِنَ الشِّركِ"، يَشمَلُ الأَصغَر والأَكبر، ولُبس هذِه الأشياء قَد يَكونُ أصغَرَ، وقَد يكونُ أكبرَ بحسَبِ اعتِقاد لابِسِها.
ولُبس هذِه الأشيَاء مِن الشِّرك؛ "لأَنَّ كُلَّ مَن أثبَتَ سبَبًا لَم يَجعَلهُ اللهُ سبَبًا شَرعِيًّا ولاَ قَدَريًّا، فقَد جعَل نفسَهُ شرِيكًا معَ اللهِ".

[حُكمُ مَن لَبِسَ الحَلقةَ والخَيطَ ونَحوَهُما]
ولُبسُ الحَلقة ونحوِها:
إِن اعتَقَد لابِسُها أنَّها مؤَثِّرةٌ بنَفسِها دُون اللهِ، فهُو مُشرِكٌ شركًا أكبرَ في توحِيد الرُّبوبِيَّة؛ لأنَّه اعتَقد أنَّ معَ اللهِ خالِقًا غيرَه.
وإِن اعتَقد أنَّها سبَبٌ، ولكِنَّه ليسَ مؤَثِّرًا بنَفسِه، فهُو مُشرِكٌ شِركًا أصغَرَ؛ لأَنَّه لمَّا اعتَقد أنَّ ما ليسَ بسبَبٍ سبَبًا فقَد شارَك اللهَ تعَالى فِي الحُكم لهَذا الشَّيء بأنَّه سبَبٌ، واللهُ تعالى لَم يجعَلهُ سبَبًا.

[طَرِيقُ العِلم بأنَّ الشَّيءَ سبَبٌ]
ـ إمَّا عن طرِيق الشَّرع: كالعَسَل؛ قال اللهُ تعالى: "فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ" [النحل: 69]، وقِراءَة القُرآن، قالَ اللهُ تعالى: "وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنِينَ" [الإسراء: 82].
ـ إمَّا عن طرِيق القَدَر: كمَا إذا جرَّبنَا هذا الشَّيء فوجَدنَاهُ نافِعًا في هذَا الأَلَم أو المَرَض، ولكِن لا بُدَّ أن يكُونَ أثَرُه ظاهِرًا مُباشِرًا؛ كمَن اكتَوى بالنَّار فبَرِئَ، فهَذا سبَبٌ ظاهِرٌ بيِّنٌ.
وإنَّما قُلنا هذَا لئَلاَّ يقُول قائِلٌ: أنَا جرَّبتُ هذَا وانتَفعتُ بِه، وهو لَم يكُن مباشِرًا، كالحَلقة، فقَد يَلبَسُها إِنسانٌ وهُوَ يعتَقِدُ أنَّها نافِعَةٌ، فيَنتَفِعُ؛ لأنَّ للاِنفعَال النَّفسِي للشَّيء أثَرًا بيِّنًا، فقَد يقرَأُ إنسانٌ على مرِيضٍ فلا يَرتَاحُ لَه، ثمَّ يأتِي آخَر يعتَقِدُ أنَّ قراءَته نافِعَةٌ، فيَقرَأُ علَيه الآيةَ نفسَها فيَرتاحُ لَه، ويَشعُر بخِفَّةِ الأَلَم، كذلِك الَّذِين يلبَسُون الحِلَق، ويَربِطون الخُيُوط، قَد يحِسُّون بخِفَّة الأَلَم، أو اندِفاعِه، أو ارتِفاعِه بناءً على اعتِقادِهم نَفعَها.
وخِفَّةُ الأَلَم لمَن اعتَقَد نفعَ تِلك الحَلقَة مجرَّدُ شُعورٍ نفسِيٍّ، والشُّعور النَّفسِيُّ ليس طرِيقًا شرعِيًّا لإِثبات الأَسبَاب، كما أنَّ الإِلهام ليسَ طرِيقًا للتَّشرِيع.

قوله: "لُبسُ الحَلْقَة والخَيط ونَحوِهِما" هذِه أشيَاء مَعروفَةٌ، ولَم يذكُرها المصنِّفُ ـ رحمه الله ـ على سبِيل الحَصر، فهيَ تختَلِف بحسَب الزَّمان والمَكان.

قوله: "لِرَفعِ البَلاَءِ، أَو دَفعِهِ" والرَّفع بعدَ نُزولِ البَلاء، والدَّفع قبلَ نُزولِهِ.
وشيخُ الإسلام محمَّدُ بن عبدِ الوهَّاب ـ رحمه الله ـ لا يُنكِر السَّبب الصَّحيح للرَّفع أو الدَّفع، وإنَّما يُنكِر السَّبَب غيرَ الصَّحِيح.

وقَولُ اللهِ تعَالى: "قُل أَفَرَأَيتُم مَا تَدعُونَ مِن دُونِ اللهِ إِن أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَل هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ" الآية [الزمر: 38]


قوله: "أَفَرَأَيتُم"، أي: أخبِرُوني.

وقوله: "مَا تَدعُونَ"، دُعاءَ عِبادَةٍ، ودُعاءَ مَسأَلةٍ، فيَدعُون الأَصنام بالتَّعبُّد لها بالنَّذر والذَّبح والرُّكوع والسُّجود، ويَدعُونَها بسُؤالِها دَفعَ الضَّرَر أو جَلبَ النَّفع.

قوله: "إِن أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَل هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ"، فاللهُ سُبحانَه إذا أرَاد بعَبدِه ضُرًّا لا تستَطيع الأَصنَامُ أن تَكشِفه، بدَفعِه أو رَفعِه، وإِن أرادَه برَحمةٍ لا تستَطيعُ أن تُمسِكهَا عَنه، فهِي لا تكشِف الضَّرَر، ولا تَمنَع النَّفع، فلماذَا تُعبَدُ؟!‍‍

وقوله: "قُل حَسبِيَ اللهُ"، أي: كافِينِي.

قوله: "عَلَيهِ يَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ": قدَّم الجارَّ والمَجرُورَ لإفادَةِ الحَصر.
والمَعنى أنَّ المتَوكِّلَ حقِيقَةً هُو المتوَكِّلُ على اللهِ، أمَّا الَّذِي يتوَكَّل علَى الأَصنَامِ والأَولِياءِ والأَضرِحَة، فلَيس بمُتوكِّلٍ على اللهِ تعالى.

والشَّاهِدُ مِن هذِه الآيَةِ: أنَّ هذِه الأصنَام لا تَنفعُ أصحابَها لا بِجَلبِ نَفعٍ ولا بدَفعِ ضرٍّ، فليسَت أسبابًا لذلِك، فيُقاس علَيها كلُّ ما ليسَ بسبَبٍ شرعيٍّ أو قدَريٍّ، فيُعتَبرُ اتِّخاذُه سببًا إشراكًًا باللهِ.
وهُناك شاهِدٌ آخَرُ في قولِه: "حَسبِيَ اللهُ"؛ فإِنَّ فيه تفوِيضَ الكِفايَة إلى اللهِ دُون الأَسباب الوَهمِيَّة، وأمَّا الأسبَابُ الحقِيقيَّةُ، فلا يُنافِي تعاطِيها توكُّلَ العَبد علَى اللهِ تعَالى وتفوِيضَ الأَمرِ إلَيه؛ لأنَّها مِن عِندِه.

عَن عِمرَانَ بنِ حُصَينٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ رَأَى رَجُلاً فِي يَدِهِ حَلْقَةٌ مِن صُفْرٍ، فَقَالَ: "مَا هَذِهِ"؟ قَال: مِنَ الوَاهِنَةِ. فقَالَ: "انزِعهَا، فَإِنَّهَا لاَ تَزِيدُكَ إِلاَّ وَهَنًا، فَإِنَّكَ لَو مُتَّ وَهِيَ عَلَيكَ، مَا أَفلَحتَ أَبدًا" رواه أحمد بسنَدٍ لا بأسَ بِه.


قوله: "حَلقَةٌ مِن صُفرٍ": أي نُحاسٍ.

قوله: "مِنَ الوَاهِنَةِ"، هِي وجَعٌ في الذِّراعِ أو العَضُد.

قوله: "لاَ تَزِيدُكَ إِلاَّ وَهَنًا": أي: ضعفًا في النَّفس؛ لأنَّ الإنسان إذا تعلَّقَت نفسُه بهذِه الأُمور ضعُفَت واعتَمدَت علَيها ونسِيَت الاعتِماد على اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ، والاِنفعال النَّفسي له أثَرٌ كبِيرٌ في إِضعاف الإِنسان؛ فأحيانًا يتَوهَّمُ الصَّحِيح أنَّه مرِيضٌ فيَمرَض، وأحيانًا يتنَاسى المَرض فيَصِحُّ.

قوله: "مَا أَفلَحتَ": الفلاَحُ هو النَّجاة مِن المَرهُوب، وحُصُول المَطلُوب.

مُناسبَةُ الحدِيث للبَاب: الحدِيث مناسِبٌ للبَاب مناسبَةً تامَّةً؛ لأنَّ هذا الرَّجُل لبِسَ حَلقَةً من صُفرٍ، إمَّا لدَفع البَلاءِ أو لرَفعِه.

وَلَهُ عَن عُقبَةَ بنِ عَامِرٍ مَرفُوعًا: "مَن تَعَلَّقَ تَمِيمَةً، فَلاَ أَتَمَّ اللهُ لَهُ، وَمَن تَعَلَّقَ وَدْعَةً، فَلاَ وَدَعَ اللهُ لَهُ". وفي رواية: "مَن تَعَلَّقَ تَمِيمَةً، فَقَد أَشرَكَ".


قوله: "مَن تَعَلَّقَ تَمِيمَةً": أي علَّقَها وتعلَّق بها قَلبُه واعتَمد علَيهَا في جَلب النَّفع ودَفعِ الضَّر، والتَّمِيمَةُ: شيءٌ يُعلَّق علَى الأَولادِ مِن؛ خَرَزٍ أَو غَيرِه، يتَّقُون بِه العَين.

وقوله: "فَلاَ أَتَمَّ اللهُ لَهُ": هي بمعنَى الدُّعاء، ويحتَمل أن تكُونَ خبرِيَّةً محضَةً، وكلاهما دالٌّ على أنَّ التَّميمَة محرَّمةٌ.

قوله: "مَن تَعَلَّقَ وَدْعَةً": واحِدةُ الوَدَع، وهِي أحجَارٌ تُؤخَذ مِن البَحر، يُعلِّقُونها لدَفع العَين، ويَزعمُون أنَّ الإِنسان إذَا علَّقها لم تُصِبه العَينُ، أو لا يُصِيبُه الجِنُّ!!
قوله: "فَلاَ وَدَعَ اللهُ لَهُ": أي: لا تَركَهُ في دَعةٍ وسُكونٍ، وضدُّه القَلَق والأَلَم.

قوله: "فَقَد أَشرَكَ": يكُون أكبَر إِن اعتَقد أنَّها ترفَعُ أو تَدفَعُ بذاتِها دُون اللهِ، وإِلاَّ فهُو أصغَرُ.

مُناسبَةُ الحدِيث للبَاب: أنَّه صرَّح بأنَّ تعلِيق التَّمائِم؛ مِن الحِلَق والخُيوطِ وغَيرِهما شِركٌ.

وَلاِبنِ أَبِي حَاتِمٍ عَن حُذَيفَةَ: "أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً فِي يَدِهِ خَيطٌ مِنَ الحُمَّى، فَقَطَعَهُ، وَتَلاَ قَولَهُ: "وَمَا يُؤمِنُ أَكثَرُهُم بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُشرِكُونَ" [يوسف: 106]


قوله: "خَيطٌ مِنَ الحُمَّى"، أي: لبِسه مِن أجلِها ليُشفَى مِنها.

قوله: "فَقَطَعَهُ" أي: قطَع الخَيط، تغيِيرًا للمُنكَر باليَد، وهذا لغَيرَة السَّلف الصَّالح.

وقوله: "وَمَا يُؤمِنُ أَكثَرُهُم بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُشرِكُونَ"، أي: المشرِكون الَّذين يُؤمِنون بتوحِيد الرُّبوبِيَّة، ويَكفُرون بتوحِيد الأُلوهِيَّة.
وكلام حُذَيفة ـ رضي الله عنه ـ في رجُلٍ مسلِمٍ لبِسَ خيطًا لتبرِيد الحُمَّى، وفيه دلِيلٌ على أنَّ الإنسانَ قد يجتَمِع فيه إِيمانٌ وشِركٌ، ولكنَّه أصغَرُ؛ لأنَّ الأكبَر لا يجتَمِع مع الإِيمان.

مُناسبَة الأثَر للبَاب: استِدلالُ حُذَيفة ـ رضِي اللهُ عنه ـ بمَا نزَل فِي الشِّرك الأكبَرِ علَى الشِّرك الأَصغَر.

كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

سفيان بن عثمان 30 May 2010 11:23 PM

بارك الله فيك أبا عبد الله

حسن بوقليل 01 Jun 2010 10:01 AM

يرفع.
ونرجو التفاعل، فهذه مسائل تهم المسلم.

حسن بوقليل 06 Jun 2010 10:51 AM

بابُ ما جاءَ في الرُّقى والتَّمائم
 
بابُ ما جاءَ في الرُّقى والتَّمائم

لم يَذكُر المؤلِّف أنَّ هذا الباب مِن الشِّرك؛ لأنَّ مِن الرُّقى ما ليسَ شركًا.
قوله: "الرُّقَى"، جمع رُقيَةٍ، وهي القِراءة.
قوله: "التَّمائم"، جمع تمِيمَة، وسمِّيت تميمَةً؛ لأنَّهم يرَون أنَّه يتِمُّ بها دفعُ العَين.

قال ـ رحمه الله ـ: في "الصَّحيح" عن أبي بَشير الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ، أنَّه كان معَ رسُول اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بعض أسفَاره، فأرسَل رسُولاً: "أَن لاَ يَبقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدَةٌ مِن وَتَرٍ أَو قِلاَدَةٌ إِلاَّ قُطِعَت" [البخاري ومسلم].


قوله: "قِلاَدَةٌ مِن وَتَرٍ، أَو قِلاَدَةٌ"، شكٌّ مِن الرَّاوي، والأُولى أرجَح؛ لأنَّ القلائد كانَت تُتَّخذ من الأَوتار، ويعتقدون أنَّ ذلك يدفع العين عن البعير، وهذا اعتقادٌ فاسدٌ؛ لأنَّه تعلُّقٌ بما ليسَ بسبَبٍ، وقد سبق هذا، لأنَّه بتعلُّقِه أثبَت للأشياء سببًا لم يُثبِته اللهُ لا بشَرعه ولا بقَدَره، ولهذا أمر النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نَقطَع هذِه القلائشد.
أمَّا إذا كانت هذه القِلادة مِن غَير وَتَرٍ، وإنَّما تُستَعمل للقيادَة كالزِّمام، فهذا لا بأسَ به لعدَم الاعتِقاد الفاسِد، وكان النَّاس يعملون ذلك كثيرًا مِن الصُّوف أو غيره.
قوله: "فِي رَقَبَةٍ بَعِيرٍ"، ذكر البَعير، لأنَّ هذا هو الَّذي كان منتشرًا حينَذاك، فهذا القيد بناءً على الواقِع عندهم، فيكون كالتَّمثيل، وليس بمخصَّصٍ.
يستفاد من الحديث:
1. أنَّه ينبغي لكبير القَوم أن يكون مراعيًا لأحوالهم، فيتفقَّدهم وينظر في أحوالهم.
2. أنَّه يجب عليه رعايتهم بما تقتضيه الشَّريعة، فإذا فعلوا محرَّمًا منعهم منه، وإن تهاونوا في واجبٍ حثَّهم عليه.
3. أنَّه لا يجوز أن تُعلَّق في أعناق الإبل أشياءٌ تُجعَل سببًا في جلب منفَعةٍ أو دفع مضَرَّةٍ، وهي ليس كذلك لا شرعًا ولا قدرًا، لأنَّه شركٌ، ولا يلزم أن تكون القلادة في الرَّقبة، بل لو جُعِلت في اليد أو الرِّجل، فلها حكمُها، لأنَّ العلَّة هي القلادة، وليس المكان.
4. أنَّه يجب على من يستطيع تغيير المنكر باليد أن يغيِّره بيَده.

وعَن ابنِ مَسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ، قالَ: سمِعتُ رسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقُول: "إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِركٌ". رواه أحمد وأبو داود

قوله: "إِنَّ الرُّقَى"، ليست على عمومها، بل هي عامٌّ أرِيد به خاصٌّ، وهو الرُّقى بغير ما ورَد به الشَّرعُ، ممَّا فيه شِركٌ، أمَّا ما ورَد به الشَّرع، فليسَت من الشِّرك، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الفاتحة: "وَمَا يُدرِيكَ أَنَّهَا رُقيَةٌ" [الترمذي]، وفي الحديث: "لاَ بَأسَ بِالرُّقَى مَا لَم يَكُن فِيهِ شِركٌ" [مسلم]، فالرُّقى المباحة الَّتي يَرقي بها الإنسانُ المريضَ بدُعاءٍ مِن عنده ليس فيه شِركٌ جائِزةٌ.

قوله: "التَّمائم"، فسَّرها المؤلِّف بقوله: "شيءٌ يعلَّق على الأولاد يتَّقون به العَين"، وهي من الشِّرك؛ لأنَّ الشَّارع لم يجعَلها سببًا تُتَّقى به العَينُ.
وأمَّا الأورَاقُ من القرآن تُجمَع في جِلدٍ ويخاط علَيها، ويلبَسُها الطِّفل على يده أو رقبته، ففيها خلافٌ بين العُلماء، وظاهِر الحديث: أنَّها ممنوعَةٌٌ، ولا تَجُوز.
ومِن ذلك أنَّ بعضَهم يكتب القُرآن كلَّه بحُروفٍ صغيرةٍ في أوراقٍ صغيرةٍ، ويضعُها في صندوقٍ صغيرٍ، ويعلِّقها على الصَّبي، وهذا مع أنَّه مُحدَثٌ، فهو إهانةٌ للقرآن الكرِيم؛ لأنَّ هذا الصَّبي سوف يسِيل عليه لعابُه، وربَّما يتلوَّث بالنَّجاسة، ويدخُل به الحمَّام والأماكِن القذِرة، وهذا كلُّه إهانةٌ للقرآن.
ومع الأسَف أنَّ بعض النَّاس اتَّخذوا من العبادات نوعًا من التَّبرُّك فقَط، مثل ما يشاهَد من أنَّ بعضَ النَّاس يمسَحُ الرُّكن اليماني، ويمسح به وجهَ الطِّفل وصدرَه، وهذا معنَاه أنَّهم جعَلُوا مسحَ الرُّكن اليماني من باب التَّبرُّك لا التَّعبُّد، وهذا جَهلٌ، وقد قال عُمَر في الحِجر: "إنِّي أعلَم أنَّك حجَرٌ لا تَضُرُّ ولا تَنفَعُ، ولولا أنِّي رأيتُ رسُولَ الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يُقبِّلُك ما قبَّلتُك" [البخاري وسلم].

قوله: "التِّوَلَةُ"، شيءٌ يعلِّقونه على الزوج، يزعمون أنه يحبب الزوجة إلى زوجها والزوج إلى امرأته، وهذا شرك، لأنه ليس بسبب شرعي ولا قدري للمحب.
ومثل ذلك الدِّبلَة، وهي خاتَمٌ يُوضَع في يَد الزَّوج، فإذا أَلقاهُ الزَّوجُ، قالَت امرأتُه: إنَّه لا يحِبُّها، فهم يعتَقِدُون فيه النَّفعَ والضَّررَ، وهذَا مِن الشِّرك الأَصغَر، وإن لم تُوجَد هذِه النِّية ـ وهذَا بعِيدٌ ـ؛ ففِيه تشبُّهٌ بالنَّصارى.
فإِن كانَت مِن الذَّهَب؛ ففِيها محذُورٌ ثالِثٌ للرجال.
فإن خلَت مِن هذه الأُمور فهِي جائِزةٌ؛ لأنَّها خاتَمٌ مِن الخوَاتِم.

وقوله: "شِركٌ": هل هِي شِركٌ أصغَرُ أو أكبَرُ؟
نقول: بحسَب ما يُرِيد الإِنسَان مِنها؛ إن اتَّخذَها مُعتقِدًا أنَّ المُسبِّب للمحبَّة هُو اللهُ، فهِي شِركٌ أصغَرُ، وإن اعتَقد أنَّها تفعَلُ بنَفسِها، فهي شِركٌ أكبَرُ.

وعَن عَبدِ اللهِ بنِ عُكَيمٍ مَرفُوعًا: "مَن تَعَلَّقَ شَيئًا، وُكِلَ إِلَيهِ" رواه أحمد والتِّرمذي


قوله: "مَن تَعَلَّقَ": اعتمَد علَيه، وجعَله همَّهُ ومَبلَغ عِلمِه، ويعلِّقُ رجاءَه بِه، وزَوالَ خَوفِه بِه.

قوله: "شَيئًا": نكِرةٌ في سِياق الشَّرط؛ فتعُمُّ جميعَ الأشيَاء، فمَن تعلَّق باللهِ ـ سبحانَه وتعَالى، وجعَل رغبَتَهُ ورجاءَه فِيه وخَوفَه مِنه، فإنَّ الله تعَالى يقُول: "وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ" [الطَّلاق: 3]، أي: كافِيه.

قوله: "وُكِلَ إِلَيهِ"، أي: أُسنِد إلَيه، وفُوِّض.

أقسَامُ التَّعلُّق بغَيرِ اللهِ:
الأوَّل: ما يُنافي التَّوحيدَ مِن أصلِه، وهو أن يتَعلَّق بشيءٍ ليسَ له تأثِيرٌ، ويعتَمِد علَيه اعتِمادًا مُعرِضًا عن الله، مثل تعلُّق عُبَّاد القُبور بمن فيهَا عندَ حُلول المَصائِب، فهذا شِركٌ أكبَرُ مُخرِجٌ مِن المِلَّة.
الثَّاني: ما يُنافي كمَالَ التَّوحيد، وهو أن يعتَمِد علَى سبَبٍ شرعِيٍّ صحِيحٍ معَ الغَفلة عن المُسبِّب، وهُو اللهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ، وعدَمُ صرفِ قلبِه إلَيه، فهذا نَوعٌ مِن الشِّرك، ولا نقُول شِركٌ أكبَرُ؛ لأنَّ هذا السَّبَب جعَلهُ اللهُ سبَبًا.
الثَّالث: أن يتعلَّق بالسَّبَب تعلُّقًا مجرَّدًا، لكَونه سبَبًا فقَط، مع اعتِماده الأصلِي علَى اللهِ، فيعتَقِد أنَّ هذا السَّبَب مِن اللهِ، وأنَّ اللهَ لو شَاء لأبطَل أثَرَه، ولو شَاء لأَبقَاهُ، وأنَّه لا أثَر للسَّبَب إلاَّ بمَشِيئة اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ، فهذا لا يُنافي التَّوحيد؛ لا كمالاً ولا أصلاً، فلا إِثمَ فِيه.
ومعَ وُجود الأسبَاب الشَّرعِيَّة الصَّحيحة يَنبَغي للإنسَان أن لا يُعلِّق نفسَه بالسَّبَب، بل يعلِّقُها باللهِ، فالمُوظَّف الَّذِي يتعَلَّق قلبُه بمُرتَّبِه تعلُّقًا كامِلاً، مع الغَفلة عن المُسبِّب، وهو اللهُ، قد وقَع في نَوعٍ مِن الشِّرك، أمَّا إذا اعتَقَد أنَّ المُرتَّبَ سبَبٌ، والمُسبِّبُ هو اللهُ ـ سبحانَه وتعَالى ـ، وجعَل الاعتِماد علَى اللهِ، وهو يشعُرُ أنَّ المُرتَّبَ سبَبٌ، فهذَا لا يُنافِي التَّوكُّلَ.
وقد كانَ الرَّسولُ ـ صلَّى الله علَيه وسلَّم ـ يأخُذ بالأسبَاب، مع اعتِماده علَى المُسبِّب، وهُو اللهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ.
وجاء في الحدِيث: "مَن تَعلَّقَ"، ولم يقُل: مَن علَّق؛ لأنَّ المتعَلِّق بالشَّيء يتعلَّقُ به بقلبِه وبنفسِه، بحَيثُ يُنزِّل خوفَه ورجاءَه وأمَلَه بِه، وليسَ كذلِك مَن علَّقَ.

[مسألة: التَّميمَةُ مِن القُرآن]:
قوله: "إِذَا كَانَ المُعَلَّقُ مِنَ القُرآنِ..." إلخ.
إذا كان المعلَّق من القُرآن أو الأدعِية المباحَة والأذكَار الوارِدة، فهذه المَسألة اختَلَف فيهَا السَّلفُ ـ رحمهم اللهُ ـ:
ـ فمِنهم مَن رخَّص في ذلِك لعُموم قولِه: "وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنِينَ" [الإسراء: 82]، ولَم يذكُر الوسِيلَة الَّتي نتَوصَّل بها إلى الاستِشفاء بهذا القُرآن، فدلَّ على أنَّ كلَّ وسِيلَةٍ يُتوَصَّل بها إلى ذلِك فهِي جائِزَةٌ، كما لَو كانَ القُرآن دواءًا حسِّيًّا.
ـ ومِنهم مَن منَع ذلِك، وقال: لا يجُوز تعلِيقُ القُرآن للاستِشفاء بِه؛ لأنَّ الاستِشفاء بالقُرآن وَرَد على صِفةٍ معيَّنةٍ، وهي القِراءة بِه علَى المرِيض، فلا نتَجاوَزُها، وإذا استَشفَينَا بالقُرآن على صِفةٍ لم تَرِد، فقَد فعَلنا سببًا غير مشرُوعٍ، وقد نقَله المؤلِّف ـ رحمه الله ـ عن ابن مَسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ، ولولا الشُّعور النَّفسِيُّ بأنّ تعلِيقَ القُرآن سبَبٌ للشِّفاء، لكانَ انتِفاءُ السَّببِيَّة على هذِه الصُّورة أمرًا ظاهِرًا؛ فإنَّ التَّعلِيق ليسَ له عَلاقَةٌ بالمَرض، بخِلاف النَّفث على مَكانِ الألَم، فإنَّه يتأثَّرُ بذلِك.
ولهذا فالأَقرَبُ أن يُقَال: إنَّه لا ينبَغي أن تُعلَّق الآياتُ للاِستِشفاء بهَا، لا سيَّما وأنَّ هذا المعلَّق قد يفعَل أشيَاء تُنافي قُدُسيَّة القُرآن، كالغِيبة مثلاً، ودُخول الخَلاء، وأيضًا إذا علَّق وشعَر أنَّ به شِفاءً استَغنى به عن القِراءة المَشرُوعة، فيَستَغني بغير المَشرُوع عن المَشرُوع.
وإن كان صبِيًّا، فربَّما بالَ على المعلَّق.
وأيضًا؛ فإنَّه لم يرِد عن النَّبِيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ فيه شيءٌ.
يقُول الشَّيخ ابنُ عثَيمِين ـ رحمه الله ـ:
"الأَقرَب أن يُقال: أنَّه لا يُفعَل، أمَّا أن يصِل إلى درَجةِ التَّحريم، فأنا أتَوقَّفُ فِيه، لكن إذا تضَمَّن محظورًا، فإنَّه محرَّمٌ بسبَب ذلِك المحظُور".

قوله: "الَّتي تُسَمَّى العَزائِم"، أي في عُرف النَّاس، والعَزيمة: القِراءة.
و"خَصَّ مِنها الدَّليلُ ما خَلا مِن الشِّرك": سواء ما ورد؛ كـ: "اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ! أَذهِبِ البَاسَ، اِشفِ أَنتَ الشَّافِي، لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا" [البخاري ومسلم]، أو لم يرد؛ كقول: "اللَّهُمَّ! عافِهِ، اللَّهُمَّ! اشفِهِ".
أمَّا إن كانَ فيها شِركٌ فلا تَجُوز؛ كقَول: "يا جِنِّيُّ! أنقِذهُ، ويا فُلان (الميِّت)! اشفِهِ".

قوله: "مِن العَينِ والحُمَة"، سبق تعريفهما في (باب مَن حقَّق التَّوحيد دخَل الجنَّة)، وظاهِر كلام المؤلِّف: أنَّ الدَّليل لم يرخِّص بجَواز القِراءة إلاَّ فيهما!! لكن ورَد بغيرِهما؛ فقَد كان النَّبِيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ينفُخ على يدَيه عندَ منامِه بالمعوِّذات، ويمسَح بهِمَا ما استَطاع مِن جسَدِه [البخري ومسلم]، وهذا مِن الرُّقية، وليس عَينًا ولا حُمَةً.
ولهذا يرَى بعضُ أهل العِلم أنَّ التَّرخيص في الرُّقيَة مِن القُرآن عامٌّ، وقولُ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لاَ رُقيَةَ إِلاَّ مِن عَينٍ أَو حُمَةٍ" يعني: لا استِرقاء إلاَّ مِن عينٍ أو حُمَةٍ.

شُرُوط جَوَاز الرُّقيَة:
الأوَّل: أن لا يعتَقِد أنَّها تنفَعُ بذاتِها دُون الله، فإِن اعتَقد أنَّها تنفَعُ بذاتِها مِن دُون الله، فهو محرَّمٌ، بل شِركٌ، بل يعتَقِد أنَّها سبَبٌ لا تنفَع إلاَّ بإِذن الله.
الثَّاني: أن لا تكُون ممَّا يخالِف الشَّرع، كما إذا كانَت متضَمِّنةً دعاءَ غيرِ الله، أو استِغاثةً بالجِنِّ، وما أشبَه ذلك، فإنَّها محرَّمةٌ، بل شِركٌ.
الثَّالث: أن تكون مفهومَةً معلومَةً، فإن كانَت من جِنس الطَّلاسِم والشَّعوذَة، فإنَّها لا تجُوز.
أمَّا بالنِّسبة للتَّمائم؛ فإن كانَت مِن أمرٍ محرَّمٍ، أو اعتقَد أنَّها نافِعةٌ لذاتِها، أو كانَت بكتابَةٍ لا تُفهَم، فإنَّها لا تجُوز بكلِّ حالٍ.
وإن تمَّت فيها الشُّروط الثَّلاثة السَّابِقة في الرُّقية، فإنَّ أهلَ العِلم اختَلفُوا فيها كما سبَق.

ورَوَى أحمَدُ عَن رُوَيفِعٍ، قالَ: قالَ لِي رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ: "يَا رُوَيفِعُ! لَعَلَّ الحَيَاةَ سَتَطُولُ بِكَ، فَأَخبِرِ النَّاسَ أَنَّ مَن عَقَدَ لِحيَتِهِ، أَو تَقَلَّدَ وَتَرًا، أَو استَنجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ أَو عَظمٍ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا بَرِيءٌ مِنهُ" [أحمد وصححه الألباني].


قوله: "مَن عَقَدَ لِحيَتَهُ"، اللِّحيَة عندَ العَرب كانَت لا تُقصُّ ولا تُحلَق، كما أنَّ ذلِك هُو السُّنة، لكنَّهُم كانُوا يعقِدُون لِحاهُم لأسبَابٍ:
منها: الاِفتِخارُ والعَظمَةُ؛ فتجِد أحدَهم يعقِدُ أطرَافها، أو يعقِدُها مِن الوسَط عُقدَةً واحِدةً ليُعلم أنَّه رجُلٌ عظِيمٌ، وأنَّه سيِّدٌ في قومِه.
الثَّاني: الخَوف مِن العَين؛ لأنَّها إذا كانَت حسَنةً وجمِيلَةً ثمَّ عُقِدت أصبَحت قبِيحَةً، فمَن عقَدها لذلِك، فإنَّ الرَّسولَ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ برِيءٌ مِنه.

قوله: "أَو تَقَلَّدَ وَتَرًا"، الوتَر: سِلكٌ مِن عصَب الشَّاة، يتَّخذُ للقَوس وَتَرًا، ويستَعمِلونه في أعنَاق إِبِلِهم أو خَيلِهم، أو في أعناقِهم، يزعمُون أنَّه يمنَع العَين، وهذا مِن الشِّرك.

قوله: "أَو استَنجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ": وهو إزالة أثر الخارج من السَّبيلَين، ورجِيعُ الدَّابة: رَوثُها.

قوله: "أَو عَظمٍ": العَظمُ معرُوفٌ.
قوله: "فَإِنَّ مُحَمَّدًا بَرِيءٌ مِنهُ": وإنَّما تبرَّأَ النَّبِيُّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ـ ممَّن استَنجى بهِما؛ لأنَّ الرَّوث عَلَفُ بهائِم الجِنِّ، والعَظمَ طعَامُهم، يجِدُونه أَوفرَ ما يَكُون لحمًا.
وكلُّ ذَنبٍ قُرِن بالبَراءَة مِن فاعِلهِ؛ فهُو مِن كبَائِر الذُّنوبِ، كما هو مَعرُوفٌ عِند أهلِ العِلم.

الشَّاهِد مِن هَذَا الحَدِيث قَولُه: "مَن تَقَلَّدَ وَتَرًا".

وعَن سَعِيدِ بن جُبَيرٍ، قالَ: "مَن قَطَعَ تَمِيمَةً مِن إِنسَانٍ، كَانَ كَعَدلِ رَقَبَةٍ" روَاه وكِيعٌ.


قوله: "كَعَدلِ رَقَبَةٍ" بفَتح العَين؛لأنَّه مِن غَير الجِنس، والمُعادِل مِن الجِنس بكَسر العَين.
ووَجهُ المشابَهة بين قَطع التَّمِيمة وعِتق الرَّقَبة: أنَّه إذَا قطَع التَّمِيمةَ مِن إِنسَانٍ، فكأَنَّه أعتَقَهُ مِن الشِّرك، ففَكَّه مِن النَّار، ولكِن يقطَعُها بالَّتي هي أحسَن، لأنَّ العُنف يؤدِّي إلى المُشاحَنة والشِّقاق، إلاَّ إن كانَ ذا شَأنٍ؛ كالأمِير، والقَاضِي، ونحوِه ممَّن له سُلطَةٌ، فلَه أن يقطَعها مُباشَرةً.

ولَهُ عَن إِبرَاهِيمَ، قالَ: "كَانُوا يَكرَهُونَ التَّمائِمَ كُلَّهَا مِن القُرآنِ وَغَيرِ القُرآنِ".


قوله: "ولَهُ عَن إِبرَاهِيمَ": هو النَّخَعِي.
قوله: "كَانُوا يَكرَهُونَ التَّمَائِم...": قَد سبَق أنَّه رأيُ ابن مَسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ، فأصحابُه يرَونَ ما يَراهُ.

وفي هذا الوَقت أصبَح تعلِيقُ القُرآنِ لا للاِستِشفاء، بل لمجرَّد التَّبرُّك والزِّينة، كالقلائِد الذَّهبِيَّة، أو الحُلِي الَّتي يُكتَب عليها لفظُ الجَلالة، أو آيَةُ الكرسِي، أو القُرآن كامِلاً، فهذا كلُّه مِن البِدَع، فالقُرآن ما نزَل ليُستَشفى به علَى هذَا الوَجه، إنَّما يُستَشفى به علَى ما جَاء بِه الشَّرع.

كتبه أبو عبد الله حسن بن داود ـ عفا الله عنه ـ.
(أعتذر عن تأخر الدرس إلى هذا اليوم).

حسن بوقليل 16 Jun 2010 10:23 AM

بابُ مَن تبرَّكَ بشَجَرٍ أو حجَرٍ ونحوِهما
 
بابُ مَن تبرَّكَ بشَجَرٍ أو حجَرٍ ونحوِهما


قوله: "تبرَّك"، تفعَّل مِن البَرَكة، وهي كثرةُ الخير وثبوتُه، مأخوذةٌ مِن البِركة، وهي مجمَع الماء، الَّذي يتميَّز بكثرة الماء، وثبوته.
والتَّبرُّك طلَب البَركة، وطلَب البَركة لا يخلُو مِن أمرَين:
الأوَّل: أن يكون بأمرٍ شرعيٍّ معلومٍ، مثل القُرآن، قال تعالى: "كِتَابٌ أَنزَلنَاهُ إِلَيكَ مُبَارَكٌ" [ص: 29]؛ فمِن بَرَكتِه:
ـ أنَّ مَن أخذ به حصَل له الفَتح، فأنقذ اللهُ بذلك أُممًا كثيرةً مِن الشِّرك.
ـ أنَّ الحرف الواحِد بعَشر حسَناتٍ، وهذا يوفِّر للإنسان الوقتَ والجهدَ.
الثَّاني: أن يكون بأمرٍ حسِّيٍّ معلومٍ، مثل: التَّعليم، والدُّعاء، ونحوه، فيُتبرَّكُ بعمل الرَّجل ودعوتِه إلى الخير، فيكون بَركةً لأنَّنا نِلنا منه خيرًا كثيرًا.
وقال أُسَيد بن حُضَير: "مَا هَذِه بأَوَّلِ بَرَكَتِكُم يا آلَ أبِي بَكرٍ" [البخاري ومسلم]؛ فإنَّ الله يُجرِي على بعض النَّاس مِن أُمور الخَير ما لا يُجريه على يدِ الآخر.

[بَرَكةٌ باطِلةٌ]
وأمَّا ما يزعُمه الدَّجالون: أنَّ فلانًا الميِّت ولِيٌّ أنزل علَيكم مِن بَركَتِه، وما أشبَه ذلك؛ فهذه بَركةٌ باطِلةٌ، لا أثَر لها، وقد يكون للشَّيطان أثرٌ في هذا الأَمر، لكنَّها لا تعدُو أن تكون آثارًا حسِّيَّةً؛ بحيث إنَّ الشَّيطان يخدُم هذا الشَّيخ، فيكون في ذلك فِتنةٌ.

[كيفِيَّة تميِيز البَركة الباطِلة]
أمَّا كيفيَّةُ تمييز البَركات الباطِلةِ مِن الصَّحيحة؛ فبِحال الشَّخص؛ إن كان مِن أوليَاء الله المتَّقين المتَّبِعين للسُّنة المبتَعِدين عن البِدعة، فإنَّ الله قد يجعَلُ على يدَيه مِن الخَير والبَركة ما لا يحصُل لغَيره، ومِن ذلك ما جعَل اللهُ على يدِ شيخ الإسلام ابنِ تيمِيَّة مِن البَركة الَّتي انتَفع بها النَّاسُ في حياتِه وبعدَ مَوته.
أمَّا إن كان مخالِفًا للكِتاب والسُّنة، أو يدعُو إلى باطِلٍ، فإنَّ بَركتَه مَوهومَةٌ، وقد تضَعُها الشَّياطينُ له مساعدَةً على باطِله، وذلِك مثلُ ما يحصُل لبَعضِهم أن يقِف مع النَّاس في عرَفَةَ ثمَّ يأتي إلى بلدِه، ويضَحِّي مع أهلِ بلِده.
قال شيخُ الإسلام ابن تيمِيَّة: "إنَّ الشَّياطين تحمِلُهم لكي يغتَرَّ بهم النَّاس، وهؤلاء وقَع منهم مخالَفاتٌ، منها: عدَم إِتمام الحجِّ، ومنها أنَّهُم يمرُّون بالمِيقات ولا يُحرِمون منه" [مجموع الفتاوى: 1/83].

قوله: "شَجَرٍ" اسم جِنس، فيشمل أيَّ شجَرةٍ تكون، ومِن حسَنات أمير المؤمِنين عُمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ أنَّه لما رأى النَّاس ينتابُون الشَّجرة الَّتي وقعَت تحتَها بيعَةُ الرِّضوان أمر بقَطعِها.

قوله: "وَحَجَرٍ" اسم جِنسٍ، يشمل أيَّ حجَرٍ كان، حتَّى الصَّخرة الَّتِي في بَيت المقدِس، فلا يُتبرَّكُ بها، وكذا الحَجر الأَسود لا يُتبرَّك به، وإنَّما يُتعَبَّد اللهُ بمَسحِه وتقبِيله، اتِّباعًا للرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وبذلك تحصُل بَركة الثَّواب.
ولهذا قال عُمَر ـ رضي الله عنه ـ: "إنِّي لأَعلم أنَّك حجَرٌ لا تضُرُّ ولا تَنفَعُ، ولَولا أنِّي رأَيتُ رسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُقبِّلُك، ما قبَّلتُك" [البخاري ومسلم].
فتقبِيلُه عِبادةٌ محضَةٌ، خلافًا للعامَّة؛ يظنُّون أنَّ به بَركةً حسِّيَّةً، ولذلك إذا استَلمه بعضُ هؤلاء مسَح على جمِيع بدنِه تبرُّكًا بذلك.

قوله: "ونحوِهما"، أي: مِن البُيوت، والقِباب، والحجَر، حتَّى حُجرَة قبرِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ فلا يُتمسَّحُ بها تبرُّكًا.

وقول الله تعالى: "أَفَرَأَيتُمُ اللاَّتَ وَالعُزَّى" الآيات [النجم: 19]


قوله: "أَفَرَأَيتُمُ اللاَّتَ وَالعُزَّى": لـمَّا ذكر اللهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ المِعراج بقوله: "وَالنَّجمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم وَمَا غَوَى" إلى قوله: "لَقَد رَأَى مِن آيَاتِ رَبِّهِ الكُبرَى"؛ أي رأَى النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعضَ الآيات الكُبرى.
ثمَّ قال تعالى: "أَفَرَأَيتُمُ اللاَّتَ وَالعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخرَى"، أي: أخبِروني ما شَأنُها؟ وما حالُها بالنِّسبة إلى هذِه الآيات العظِيمة؟ إنَّها ليسَت بشيءٍ.
والاستِفهام للاستِخفاف والاستِهجان بهذِه الأصنَام.

قوله: "اللاَّتَ": تُقرَأ بتشدِيد التَّاء وتخفِيفها، والتَّشديد قراءَةُ ابنِ عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ، فعلى قراءَة التَّشديد تكون اسمَ فاعِلٍ مِن (اللَّتِّ)، وكان هذا الصَّنم أصلُه رَجُلٌ يلُتُّ السَّوِيق للحُجَّاج، أي: يجعَل فيه السَّمن، ويُطعِمه الحُجَّاج، فلمَّا مات عكَفُوا على قبرِه وجعلُوه صنَمًا.
وأمَّا على قراءة التَّخفيف؛ فإنَّ اللاَّت مشتَقَّةٌ مِن (الله)، أو مِن (الإله)، فهم اشتَقُّوا مِن أسماء الله اسمًا لهذا الصَّنم، وسمَّوه (اللاَّت)، وهي لأهل الطَّائِف ومَن حولهم مِن العَرب.

وقوله: "العُزَّى": مؤنَّث أَعَز، وهو صنَمٌ يعبُده قريشٌ وبنو كِنانة، مشتَقٌّ مِن اسم الله (العزيز)، كان بنَخلةٍ بين مكَّة والطَّائف.

قوله: "وَمَنَاةَ": قيل: مشتَقَّةٌ مِن (المَنَّان)، وقيل: مِن (مِنًى)؛ لكثرَة ما يُمنَى عندَه مِن الدِّماء بمعنى يُراق، ومِنه سمِّيَت (مِنًى)؛ لكثرة ما يُراق فيها مِن الدِّماء.
وكان هذا الصَّنم بين مكَّة والمدينة لهُذَيلٍ وخُزاعَة، وكان الأَوس والخَزرج يعظِّمونَها ويُهِلِّون مِنها للحجِّ.

قوله: "الثَّالِثَةَ الأُخرَى": إشارَةٌ إلى أنَّ الَّتي تعظِّمُونها، وتذبحون عندها، وتَكثُر إراقَةُ الدِّماء حولَها: أنَّها أُخرَى بمَعنى مُتأخِّرة، أي: ذميمَة حقِيرة، مأخوذَة من قولهم: فلانٌ أُخَر، أي: ذمِيمٌ، حقِيرٌ، متأَخِّرٌ.
فهذه الأصنَام الثَّلاثة المعبودَة عِند العَرب، ما حالُها بالنِّسبة لما رأَى النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟ لا شَيء، وإنَّما ذكر هذِه الأصنام الثَّلاثة لأنَّها أشهر الأصنَام، وأعظَمُها عند العَرب.

قوله: "أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى"، هذا أيضًا استِفهامٌ إنكارِيٌّ على المشرِكين الَّذين يجعَلُون لله البَناتِ ولَهُم البنِينَ، فإذا وُلِد لهم الذَّكرُ فرِحُوا واستَبشروا به، وإذا وُلِدت الأُنثى ظلَّ وجهُ الإنسان مِنهم مُسوَدًّا وهو كظِيمٌ، ومع ذلِك يقولون: الملائِكةُ بناتُ الله، فيَجعلُون البناتِ لله ـ والعياذ بالله ـ، ولهم ما يَشتهون.

قوله: "تِلكَ إِذًا قِسمَةٌ ضِيزَى": أي: جائِرةٌ؛ لأنَّه على الأقلِّ إذا أَردتُم القِسمةَ، فاجعَلُوا لكم مِن البَناتِ نصِيبًا، واجعلوا لله من البنِين نصِيبًا.

قوله: "إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسمَاءٌ سَمَّيتُمُوهَا أَنتُم وَآبَاؤُكُم مَا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلطَانٍ"، أي: هذه الأصنام (اللاَّتُ والعُزَّى ومَناةٌ) هي مجرَّد أسماءٍ سمَّيتموها، وما أنزل اللهُ بها مِن سلطانٍ وحجَّةٍ ودلِيلٍ، بل أبطَلها اللهُ ـ سبحانَه ـ، قال تعالى: "ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ" [الحج: 62]

قوله: "إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ"، أي: ما يتَّبِعون إلا الظَّن، والظَّنُّ الَّذي يتَّبعونه هو أنَّها آلهةٌ، وأنَّ لله البناتِ ولهم البنِين، والظَّن لا يُغنِي من الحق شيئًا.

قوله: "وَمَا تَهوَى الأَنفُسُ"، أي: يتَّبعون ما تهوَى الأنفُس، وهذا أضرُّ شيءٍ على الإنسان؛ أن يتَّبع ما يهوى، فالإنسان الَّذي يعبُد اللهَ بالهوى لا يعبُده حقًّا، إنَّما يعبُد عقلَه وهَواهُ، قال تعالى: "أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلمٍ" [الجاثية: 23]، لكِنَّ الَّذي يعبُد اللهَ بالهُدى لا بالهَوى هو الَّذي على الحقِّ.

قوله: "وَلَقَد جَاءَهُم مِن رَبِّهُمُ الهُدَى"، أي: علَى يدِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ فكان الأجدَر بهم أن يتَّبعوا الهُدى دون الهوَى.

مُناسَبَةُ الآيَة للتَّرجمة:
أنَّهم يعتَقِدون أنَّ هذه الأصنَام تنفَعُهم وتضُرُّهم، ولهذا يأتُون إليها؛ يدعُونها، ويذبَحون لها، ويتقرَّبون إليها، [يرجون بركتها]، وقد يبتلي اللهُ المرءَ فيحصُل له ما يُريد من اندِفاعٍ ضرٍّ، أو جَلب نفعٍ بهذا الشِّرك.

وعَن أبِي واقِدٍ اللَّيثِيِّ، قال: "خَرجنَا معَ رسُولِ اللهِ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ إلى حُنَينٍ، ونحنُ حُدَثاء عَهدٍ بكُفرٍ، وللمُشرِكين سِدرَةٌ يعكُفون عِندَها، ويَنُوطُون بهَا أَسلِحَتهم، يُقال لها: ذاتُ أَنواطٍ، فمَرَرنَا بسِدرَةٍ، فقُلنا: يا رسُولَ اللهِ! اجعَل لنَا ذاتَ أَنواطٍ كمَا لَهُم ذاتُ أنوَاطٍ. فقَال رسُولُ اللهِ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: "اللهُ أَكبَرُ! إِنَّهَا السُّنَنُ! قُلتُم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَت بَنُو إِسرَائِيلَ لِمُوسَى: "اِجعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُم قَومٌ تَجهَلُونَ" [الأعراف: 138]، لَتَركَبُنَّ سُنَنَ مَن كَانَ قَبلَكُم". رواه التِّرمذي وصحَّحه.


قوله: "خَرَجنَا مَعَ النَّبِيِّ ـ صلَّى الله علَيه وسلَّم ـ"، أي: بعد غزوة الفَتح.

قوله: "حُدَثَاءُ" أي: أنَّنا قرِيبُو عهدٍ بكُفرٍ، وإنَّما ذكر ذلِك ـ رضي الله عنه ـ للاِعتذار لطَلَبِهم وسُؤالهم، ولو وقَر الإيمانُ في قلُوبِهم لم يسأَلوا هذا السُّؤال.

قوله: "يَعكُفُونَ عِندَهَا"، أي: يُقِيمون عليها، والعُكوف: ملازمةُ الشَّيء.

قوله: "يُقَالُ: لَهَا ذَاتُ أَنوَاطٍ"؛ لأنَّها تُناط فيها الأسلِحة، وتُعلَّق عليها رجاءَ برَكتِها.

قوله: "اللهُ أَكبَرُ": أي: استِعظامًا لطَلَبِهم وتعجُّبًا، لا فرَحًا به، كيف يقُولون هذا القَول وهم آمنوا بأنَّه لا إله إلاَّ الله؟! لكن: "إِنَّهَا السُّنَنُ"، أي: الطُّرق الَّتي يسلُكها العِباد.

قوله: "قُلتُم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ ..."، أي: إنَّ الرَّسولَ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قاس ما قاله الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ على ما قاله بنو إسرائيل لموسى حين قالوا: اجعَل لنا إلهًا كما لهم آلهةٌ، فأنتم طلَبتُم ذاتَ أنواطٍ، كما أنَّ لهؤلاء المشرِكين ذاتَ أنواطٍ.

قوله: "لَتَركَبُنَّ سُنَنَ مَن كَانَ قَبلَكُم"، أي: لتَفعلُنَّ مثلَ فِعلِهم، ولتقُولُنَّ مثلَ قولِهم، وهذا لا يرادُ به الإِقرارُ، وإنَّما التَّحذِير.

مُناسَبةُ الحدِيث للبَاب: والشَّاهد مِن هذا الحديث قولُهم: "اِجعَل لَنَا ذَاتَ أَنوَاطٍ كمَا لَهُم ذاتُ أَنواطٍ"، فأنكَر علَيهم النَّبِيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ.

كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

حسن بوقليل 29 Jun 2010 10:28 AM

بَابُ ما جاءَ في الذَّبح لغَيرِ اللهِ
 
بَابُ ما جاءَ في الذَّبح لغَيرِ اللهِ


قوله: "في الذَّبح"، أي: ذبح البهائم، [أو غيرها مما يتقرب به].

قوله: "لغَير اللهِ" أي: قاصدًا بذبحه غيرَ الله؛ من الأنبياء، والملائكة، والأولياء، وغيرهم.

والذَّبح لغير الله ينقسم إلى قسمين:
أن يذبح لغير الله تقرُّبًا وتعظيمًا؛ فهذا شركٌ أكبرُ مخرِجٌ عن الملَّة.
أن يذبح لغير الله فرَحًا وإكرامًاً؛ فهذا مباحٌ.
ومراد المؤلِّف هنا القِسم الأول.
فلو قدِم السُّلطان إلى بلدٍ، فذبحنا له، فإن كان تقرُّبًا وتعظيمًا؛ فإنَّه شركٌ أكبرُ، وتحرُم هذه الذَّبائح، وعلامة ذلِك: أنَّنا نذبحها في وجهِه ثمَّ ندعُها.
أمَّا لو ذبحنا له إكرامًا وضيافَةً، وطبخت، وأكلت، فهذا من باب الإكرام، وليس بشركٍ.

وقوله في التَّرجمة: "بابُ ما جَاء في الذَّبح لغير الله"، أشار إلى الدَّليل دون الحكم، ومثل هذه التَّرجمة يترجم بها العُلماء للأمور الَّتي لا يجزمون بحكمها، أو الَّتي فيها تفصيلٌ، وأمَّا الأمور الَّتي يجزمون بها؛ فإنَّهم يقولونها بالجزم، مثل (باب وجُوب الصلاة)، و(باب تحريم الغِيبة)، ونحو ذلك.
والمؤلِّف ـ رحمه الله تعالى ـ لا شكَّ أنَّه يرى تحريم الذَّبح لغير الله على سبيل التَّقرُّب والتَّعظيم، وأنَّه شركٌ أكبَرُ، لكنَّه أراد أن يمرِّن الطَّالب على أخذ الحكم من الدَّليل، وهذا نوعٌ من التَّربية العلمِيَّة، فإنَّ المعلِّم أو المؤلِّف يدع الحكم مفتوحًا، ثمَّ يأتي بالأدلَّة لأجل أن يكِلَ الحكم إلى الطَّالب، فيحكم به على حسب ما سيق له من هذه الأدلَّة.

وقول الله تعالى: "قُل إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ" الآية [الأنعام: 162-163]


قوله: "إِنِّ صَلاَتِي وَنُسُكِي"، النُّسك لغةً: العبادة، وفي الشَّرع: ذبح القربان.
ويُحمَل في الآية على المعنى الشَّرعي.
وقيل: تحمل على المعنى اللُّغوي؛ لأنَّه أعمُّ، فالنُّسك العبادة، كأنَّه يقول: أنا لا أدعو إلا الله، ولا أعبد إلا الله، وهذا عامٌّ للدُّعاء والتَّعبُّد.
فإنَّ الصَّلاة أعلى العِبادات البدنِيَّة، والذَّبح أعلى العبادات الماليَّة؛ لأنَّه على سبِيل التَّعظيم لا يقَع إلاَّ قربةً، هكذا قرَّر شيخ الإسلام ابن تيميَّة في هذه المسألة.
ويحتَاج إلى مناقشةٍ في مسألةٍ أنَّ القربان أعلى أنواع العِبادات المالية، فإنَّ الزَّكاة لا شكَّ أنَّها أعظَم، وهي عبادَةٌ مالِيَّةٌ.

قوله: "مَحيَايَ وَمَمَاتِي"، أي: حياتي وموتي، أي: التَّصرُّف فِيَّ وتدبِيرُ أمرِي حيًّا وميِّتًا لله.
وفي قوله: "صَلاَتِي وَنُسُكِي" إثباتُ توحِيد العِبادة، وفي قوله: "مَحيَايَ وَمَمَاتِي" إثباتُ توحيد الرُّبوبية.

قوله: "لله"، خبر إن، والله: علم على الذات الإلهية.

قوله: "رَبِّ العَالَمِينَ"، أي: ما سوَى الله، وسُمِّي بذلِك؛ لأنَّه علَمٌ على خالِقه.
والرَّبُّ هنا: المالك المتصرِّف، وهذه ربوبيَّةٌ مطلَقةٌ.

قوله: "لاَ شَرِيكَ لَهُ": في عبادتِه، ولا في ربوبيَّتِه، ولا أسمائِه وصفاتِه.
وقد ضلَّ من زعَم أنَّ لله شركاءَ؛ كمَن عبَد الأصنامَ، أو عيسى بنَ مريم ـ عليه السَّلام ـ، وكذلك بعضُ غلاة الشُّعراء الَّذِين جعَلُوا المخلُوقَ بمنزِلَة الخالِق، كقَول بعضِهم يخاطِبُ ممدوحًا له:
فَكُن كَمَن شِئتَ يَا مَن لا شبِيهَ لَهُ *** وكَيفَ شِئتَ فَمَا خَلقٌ يُدانِيكَ
وكقَول البُوصِيري في قصيدته:
يا أَكرَمَ الخَلقِ مَا لِي مَن أَلُوذُ بِهِ *** سِوَاكَ عِند حُلولِ الحادِث العَمَمِ
إِن لَم تَكُن آخِذًا يَومَ المعَادِ يَدِي *** فضلاً وإِلاَّ فقُل يَا زَلَّةَ القَدَمِ
فَإِنَّ مِن جُودِكَ الدُّنيَا وَضَرَّتَهَا *** وَمِن عُلُومِكَ عِلمَ اللَّوحِ وَالقَلَمِ
وهذا من أعظم الشِّرك؛ لأنَّه جعل الدُّنيا والآخِرة من جُود الرَّسول، ومقتضاه أنَّ الله ـ جلَّ ذِكرُه ـ ليس له فيهما شيءٌ.
وقال: إنَّ "مِن عُلُومِكَ عِلمَ اللَّوحِ والقَلَمِ"، يعني: وليس ذلك كلَّ علومِك، فما بقي لله علمٌ ولا تدبيرٌ ـ والعياذ بالله ـ.
قوله: "وَبِذَلِكَ أُمِرتُ"، وإنَّما خصَّ بذلك؛ لأنَّه أعظم المأمورَاتِ، وهو الإخلاص لله تعالى ونفي الشِّرك، فكأنَّه ما أُمِر إلاَّ بهذا، ومعلومٌ أنَّ مَن أخلَص لله تعالى، فسيقُوم بعبادَةِ اللهِ ـ سبحانه وتعالى ـ في جميع الأمور.

قوله: "وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ"، يحتمل أنَّ المراد الأوَّلِيَّة الزَّمنِيَّة، فيتعيَّنُ أن تكُون أوَّلِيَّةً إضافِيَّةً ويكون المراد: أنا أوَّل المسلمين من هذِه الأمَّة؛ لأنَّه سبقه في الزَّمن من أسلَمُوا.
ويحتمل أنَّ المراد الأوَّلِيَّةُ المعنوِيَّة، فإنَّ أعظم النَّاس إسلامًا وأتمَّهُم انقيادًا هو الرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فتكون الأوَّلِيَّة أوَّلِيَّةً مطلَقَةً.

والشَّاهِد مِن الآيَة: أنَّ الذَّبح لا بُدَّ أن يكُونَ خالِصًا لله.

وقوله: "فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ".


قوله: "فَصَلِّ"، الفاء للسَّببِيَّة عاطِفةٌ على قوله: "إِنَّا أَعطَينَاكَ الكَوثَرَ"، أي: بسَبب إعطائِنا لكَ ذلِك صلِّ لربِّك وانحَر شُكرًا له على هذِه النِّعمة.
والمراد بالصَّلاة هنا الصَّلاةُ المعروفة شرعًا.

وقوله: "وَانْحَرْ"، أي: اذبَح، أي اجعل نحرَك لله كما أنَّ صلاتَك له.
فأفادَت هذه الآية الكريمة أنَّ النَّحر من العبادَة، ولهذا أمرَ اللهُ به وقرَنَهُ بالصَّلاة.
ويدخُل فيه كلُّ ما ثبتَت مشروعِيَّتُه؛ وهي ثلاثة أشيَاء: الأضاحي، والهدايا، والعقائِق.

[والشَّاهِد مِن الآيَة: أنَّ الله أمرَ بالذَّبح؛ فهُو عبادَةٌ لا يجُوز أن تُصرَف لغَيره].

عن علِيٍّ ـ رضي الله عنه ـ، قال: "حَدَّثَنِي رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأَربَعِ كلِماتٍ: "لَعَنَ اللهُ مَن ذَبَحَ لِغَيرِ اللهِ، لَعَنَ اللهُ مَن لَعَنَ وَالِدَيهِ، لَعَنَ اللهُ مَن آوَى مُحدِثًا، لَعَنَ اللهُ مَن غَيَّرَ مَنَارَ الأَرضِ" رواه مسلم.


قوله: "كَلِمَاتٍ": قال شيخُ الإسلام: "لا تُطلَق الكلِمةُ في اللُّغة العربِيَّة إلاَّ على الجُملة المفِيدَة".

قوله: "لَعَنَ اللهُ"، اللَّعن مِن الله: الطَّرد والإِبعاد عن رَحمةِ الله.
ويحتمل أن تكون الجملة خبرِيَّةً، ويحتمل أن تكون إنشائِيَّة بلفظ الخبَر، والخبَرُ أبلَغ؛ لأنَّ الدُّعاء قد يُستَجاب، وقد لا يُستَجاب.

قوله: "مَن ذَبَحَ لِغَيرِ اللهِ"، عامٌّ يشمل من ذبح بعيرًا، أو بقرَةً، أو دجاجَةً، أو غيرَها، ويشمل كلَّ مَن سِوى اللهِ؛ حتَّى لو ذبَح لنَبِيٍّ، أو مَلَكٍ، أو جِنِّيٍّ، أو غيرِهم.

قوله: "مَن لَعَنَ وَالِدَيهِ"، يشمَل الأبَ والأمَّ، ومَن فوقَهما.
والمسألة هنا ليسَت مالِيَّةً، بل هي من الحُقوق، ولعن الأدنى أشَدُّ مِن لعن الأعلَى؛ لأنَّه أولى بالبِرِّ، ولعنُه ينافِي البِرَّ.
ولعنُ الوالِدَين، أي: سبُّهما وشتمُهما، فاللَّعن من الإنسان السَّبُّ والشَّتم، لأنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيل له: كيف يلعَنُ الرَّجل والدَيه؟ قال: "يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ" [البخاري ومسلم].

قوله: "مَن آوَى مُحدِثًا"، أي: ضمَّهُ إليه وحمَاهُ، والإِحداث: يشمَلُ الإِحداث في الدِّين؛ كالبِدَع، والإِحداث في الأَمرِ، في شؤون الأمَّة؛ كالجرائِم وشبهِها.
فمن آوى محدِثًا؛ فهو مَلعُونٌ، وكذا من ناصَرَهُم؛ لأنَّ الإِيواء أن تأوِيه لكفِّ الأذَى عنه، فمن ناصرَهُ، فهو أشدُّ وأعظَم.

قوله: "مَن غَيَّرَ مَنَارَ الأَرضِ"، أي: علاماتِها ومراسِيمَها الَّتي تحدِّدُ بين الجِيران، فمَن غيَّرَها ظُلمًا‌، فهو مَلعُونٌ، وما أكثَر الَّذِين يغيِّرونَ منارَ الأرضِ، لا سيما إذا زادَت قيمَتُها، وما علِمُوا أنَّ الرَّسولَ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يقول: "مَنِ اقتَطَعَ شِبرًا مِنَ الأَرضِ ظُلمًا؛ طُوِّقَهُ مِن سَبعِ أَرَضِينَ" [رواه مسلم].

والشَّاهِد مِن الحدِيث: أنَّ النَّبِيَّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ لعَنَ مَن ذبَحَ لغَيرِ الله؛ فهو دلِيلٌ أنَّه مِن الكبائِر، بل هو مِن الشِّرك.

وعن طارِق بن شِهابٍ، أنَّ رسُولَ اللهِ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قال: "دَخَلَ الجَنَّةَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ، وَدَخَلَ النَّارَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ" قالوا: وكيفَ ذلِك يا رسُولَ الله؟ قال: "مَرَّ رَجُلاَنِ عَلَى قَومٍ لَهُم صَنَمٌ لاَ يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيئًا، فَقَالُوا لأَحَدِهِمَا: قَرِّبْ. قَالَ: لَيسَ عِندِي شَيءٌ أُقَرِّبُهُ. قَالُوا لَهُ: قَرِّبْ وَلَو ذُبَابًا. فَقَرَّبَ ذُبَابًا، فَخَلَّوا سَبِيلَهُ، فَدَخَلَ النَّارَ. وَقَالُوا لِلآخَرِ: قَرِّبْ. فَقَالَ: مَا كُنتُ لأُقَرِّبَ لأَحَدٍ شَيئًا دُونَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ. فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَدَخَلَ الجَنَّةَ" رواه أحمد.


قوله: "عن طارِق بنِ شِهابٍ"
في الحديث علَّتان:
الأولى: أنَّ طارق بن شِهابٍ اتَّفقوا على أنَّه لم يسمَع من النَّبِيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ، واختَلفُوا في صحبَتِه، والأكثرون على أنَّه صحابِيٌّ.
لكن إذا قُلنا: إنَّه صحابِيٌّ، فلا يضُرُّ عدَمُ سماعِه من النَّبِيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ؛ لأنَّ مرسل الصَّحابي حجَّةٌ، وإن كان غيرَ صحابِيٍّ؛ فإنَّه مرسل غيرِ صحابِيٍّ، وهو مِن أقسام الضَّعيف.
الثَّانية: أنَّ الحديث مُعنعَنٌ من قِبَل الأعمَش، وهو من المدلِّسين، وهذا آفةٌ في الحديث.
فالحدِيث في النَّفس منه شيءٌ من أجل هاتَين العِلَّتين.
ثمَّ للحديث علَّةٌ ثالثةٌ، وهي أنَّ الإمام أحمَد رواه عن طارقٍ عن سَلمان موقوفًا من قوله، وكذا أبو نعيم وابن أبي شَيبة، فيحتمل أنَّ سلمان أخذَهُ عن بني إسرائِيل.

قوله: "فِي ذُبَابٍ"، أي: بسَببِ ذُبابٍ، ونظيرُه قول النَّبِيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: "دَخَلَتِ النَّارَ امرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتهَا" أي: بسَببِ هِرَّةٍ.

قوله: "فَدَخَلَ النَّارَ"، مع أنَّه ذبَح شيئًا حقِيرًا لا يُؤكَل، لكن لمَّا نوَى التَّقرُّبَ به إلى هذا الصَّنم، صار مشرِكًا، فدخَل النَّار.

كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

حسن بوقليل 07 Jul 2010 07:31 AM

بَاب لا يُذبَح لله بمكانٍ يُذبَح فيه لغَير الله
 
بَاب لا يُذبَح لله بمكانٍ يُذبَح فيه لغَير الله

هذا الانتقال من المؤلف من أحسن ما يكون، ففي الباب السابق ذكر الذبح لغير الله، فنفس الفعل لغير الله.
ومثاله: مَن يريد أن يضحِّي لله في مكان يُذبح فيه للأصنام، فلا يجوز أن يذبح فيه؛ لأنه موافقة للمشركين في ظاهِر الحال، وربما أدخل الشَّيطان في قلبه نيَّةً سيِّئةً، فيعتقد أن الذبح في هذا المكان أفضل، وما أشبه ذلك، وهذا خطر.

وقول الله تعالى: "لاَ تَقُم فِيهِ أَبَدًا" الآية [التوبة: 108].


قوله: "لاَ تَقُم فِيهِ"، أي: مسجد الضرار؛ حيث بني على نية فاسدة، قال تعالى: "وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسجِدًا ضِرَارًا وَكُفرًا وَتَفرِيقًا بَينَ المُؤمِنِينَ وَإِرصَادًا لِمَن حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ" [التوبة: 107]، والمتَّخِذون هم المنافقون، وغرضهم من ذلك:
1- مضارَّة مسجِد قباء: ولهذا يسمَّى مسجد الضِّرار.
2- الكفر بالله: لأنَّه يُقرَّر فيه الكفر ـ والعياذ بالله ـ؛ لأنَّ الَّذين اتَّخذوه هم المنافقون.
3- التَّفريق بين المؤمنين: فبدلاً من أن يصلِّي في مسجد قُباء صفٌّ أو صفَّان يصلِّي فيه نِصفُ صفٍّ، والباقون في المسجد الآخر، والشَّرع له نظر في اجتِماع المؤمنين.
4- الإرصاد لمن حارَب الله ورسُولَه؛ يقال: إنَّ رجلاً ذهب إلى الشَّام، وهو أبو عامر الفاسِق، وكان بينَه وبين المنافقين الَّذين اتَّخذوا المسجِد مراسلات، فاتَّخذوا هذا المسجد بتوجِيهاتٍ منه، فيجتمعون فيه لتقرير ما يريدونه من المكر والخديعة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، قال الله تعالى: "وَلَيَحلِفُنَّ إِن أَرَدنَا إِلاَّ الحُسنَى" [التوبة: 107]، فهذه سنَّة المنافقين: الأيمان الكاذِبة.
والجواب على هذا اليمين الكاذب: "وَاللهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ"؛ لأنَّه ما يعلَم ما في القلوب إلاَّ علاَّمُ الغُيوب.

قوله: "أَبَدًا" إشارَةٌ إلى أنَّ هذا المسجِد سيَبقى مسجِد نِفاقٍ.

قوله: "لَمَسجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقوَى"، في هذا التَّنكير تعظِيمٌ للمَسجد، بدليل قوله: "أُسِّسَ عَلَى التَّقوَى"، أي: جعلت التَّقوى أساسًا له، فقام عليه.

قوله: "يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا"، بخلاف من كان في مسجد الضرار، فإنهم رجس، كما قال الله تعالى في المنافقين: "سَيَحلِفُونَ بِاللهِ لَكُم إِذَا انقَلَبتُم إِلَيهِم لِتُعرِضُوا عَنهُم فَأَعرِضُوا عَنهُم إِنَّهُم رِجسٌ" [التوبة: 95].
وطهارتهم تشمل طهارة القلب من النفاق والحسد والغل وغير ذلك، وطهارة البدن من الأقذار والنجاسات والأحداث.

وجهُ المناسَبة من الآية:
أنه لما كان مسجد الضِّرار مما اتُّخِذ للمعاصي ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين، نهى اللهُ رسُولَه أن يقوم فيه، مع أن صلاته فيه لله، فدل على أن كل مكان يعصى الله فيه أنه لا يقام فيه، فهذا المسجد متخذ للصلاة، لكنه محل معصية، فلا تقام فيه الصلاة.
وكذا لو أراد إنسان أن يذبح في مكان يذبح فيه لغير الله كان حرامًا، لأنه يشبه الصلاة في مسجد الضرار.
وقريب من ذلك النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، لأنهما وقتان يسجد فيهما الكفار للشمس، فهذا باعتبار الزمن والوقت والحديث الذي ذكره المؤلف باعتبار المكان.

وَعَن ثَابِت بن الضَّحَّاك ـ رضي الله عنه ـ، قال: نذَرَ رَجُلٌ أن يَنحَر إِبِلاً ببُوَانَة، فسأَل النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال: "هَل كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِن أَوثَانٍ الجَاهِلِيَّةِ يُعبَدُ؟". قالوا: لا. قال: "فَهَل كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِن أَعيَادِهِم؟". قالوا: لا. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أَوفِ بِنَذرِكَ، فَإِنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِنَذرٍ فِي مَعصِيَةِ اللهِ، وَلاَ فِيمَا لاَ يَملِكُ ابنُ آدَمَ". رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما.


قوله: "نَذَرَ"، النَّذر في اللغة: الإلزام والعهد.
واصطلاحًا: إلزامُ المكلَّف نفسَه لله شيئًا غيرَ واجِبٍ.
وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله.

قوله: "ببُوَانَة"، مكان يسمَّى بُوانَة.

قوله: "هَل كَانَ فِيهَا وَثَنٌ"، الوثَن: كل ما عُبِد من دون الله، من شجر، أو حجر، سواء نُحِت أو لم يُنحَت.
والصَّنم يختص بما صنعه الآدمي.

قوله: "الجَاهِلِيَّة"، نسبة إلى ما كان قبل الرسالة، وسميت بذلك، لأنهم كانوا على جهل عظيم.

قوله: "يُعبَدُ"، صفة لقوله: "وَثَنٌ"، وهو بيان للواقع، لأن الأوثان هي التي تعبد من دون الله.

قوله: "عِيدٌ"، العِيد: اسم لما يَعُود أو يتَكَرَّر، والعَود بمعنى الرُّجوع، أي: هل اعتاد أهل الجاهلية أن يأتوا إلى هذا المكان ويتخذوا هذا اليوم عيدًا، وإن لم يكن فيه وثَنٌ.
فسأَل النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أمرين: عن الشرك، ووسائله.
فالشرك: هل كان فيها وثن؟
ووسائله: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟

قوله: "أَوفِ بِنَذرِكَ"، هل المراد به المعنى الحقيقي أو المراد به الإباحة؟
الجواب: يحتمل أن يراد به الإباحة، ويحتمل أن يراد به المعنى الحقيقي، فبالنسبة لنحر الإبل المراد به المعنى الحقيقي.
وبالنسبة للمكان المراد به الإباحة، لأنه لا يتعين أن يذبحها في ذلك المكان، إذ إنه لا يتعين أي مكان في الأرض إلا ما تميَّز بفضل، والمتميز بفضل المساجد الثلاثة، فالأمر هنا بالنسبة لنحر الإبل من حيث هو نحر واجب.
وبالنسبة للمكان، فالأمر للإباحة، بدليل أنه سأل هذين السؤالين، فلو أجيب بنعم، لقال: لا توف، فإذا كان المقام يحتمل النهي والترخيص، فالأمر للإباحة.
ثم علل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك بانتفاء المانع، فقال:
"فَإِنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِنَذرٍ فِي مَعصِيَةِ اللهِ"، أي: لا يمكن أن توفي بنذر في معصية الله، لأنه لا يتقرب إلى الله بمعصيته، وليست المعصية مباحة حتى يقال افعلها.

وقوله: "وَلاَ فِيمَا لاَ يَملِكُ ابنُ آدَمَ" الَّذي لا يملكه ابنُ آدم يحتَمِل معنَيَين:
الأوَّل: ما لا يملك فعله شرعًا؛ كما لو قال: لله على أن أعتق عبد فلان، فلا يصح لأنه لا يملك إعتاقه.
الثَّاني: ما لا يملك فعله قدرًا؛ كما لو قال: لله عليّ نذر أن أطير بيدي فهذا لا يصح لأنه لا يملكه والفقهاء رحمهم الله يمثلون بمثل هذا للمستحيل.

الشاهد من الحديث: أن الذبح لله بمكان فيه معصية أو شرك لا يجوز؛ ولهذا استفسر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من السائل.


كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

حسن بوقليل 15 Jul 2010 10:08 AM

بابٌ من الشِّرك النَّذرُ لغير الله
 
بابٌ من الشِّرك النَّذرُ لغير الله

النَّذر لغير الله مثل أن يقول: "لفلان عليَّ نذرٌ"، أو "لهذا القبر عليَّ نذرٌ"، تقرُّبًا.
والفرق بينه وبين نذر المعصية:
أن النَّذر لغير الله ليس لله أصلاً، ونذر المعصية لله؛ ولكنَّه على معصية من معاصيه، مثل أن يقول: "لله عليَّ نذرٌ أن أفعل كذا وكذا من معاصي الله"، فيكون النَّذر والمنذور معصِيةً.
ونظير هذا:
ـ الحلِف بالله على شيءٍ محرَّمٍ. نحو: "والله لأسرقن".
ـ الحلِف بغير الله. نحو: "والنَّبِيِّ لأفعلَنَّ كذا وكذا
ـ نذر المعصية.

[حكم النذر لغير الله]:
وحكم النَّذر لغير الله شركٌ؛ لأنه عبادة للمنذور له، وإذا كان عبادَةً، فقد صرَفها لغير الله، فيكون مشرِكًا.
وهذا النَّذر لغير الله لا ينعقِد إطلاقًا، ولا تجِب فيه كفَّارةٌ، بل هو شِركٌ تجِب التَّوبة منه، كالحلِف بغير الله؛ فلا ينعقِد وليس فيه كفَّارةٌ.
وأمَّا نذر المعصِية؛ فينعقِد ولكن لا يجوز الوفاء به، وعليه كفَّارة يمين، كالحلِف بالله على المحرَّم ينعقِد، وفيه كفَّارةٌ.

وقول الله تعالى: "يُوفُونَ بِالنَّذرِ" [الإنسان: 7]


قوله: "يُوفُونَ بِالنَّذرِ"، هذا مدحٌ للأبرار، وهو يقتضي أن يكون عبادَةً؛ لأنَّ الإنسان لا يُمدَح ولا يستحِقُّ دخول الجنَّة إلاَّ بفِعل شيءٍ يكون عبادَةً.
[تعقِيبٌ مفِيدٌ]
ولو أعقَب المؤلِّف هذه الآية بقوله تعالى: "وَلْيُوفُوا نُذُورَهُم" [الحج: 29] لكان أوضح؛ لأنَّه أمرٌ، والأمر بوفائِه يدلُّ على أنَّه عبادَةٌ؛ لأنَّ العِبادة "ما أُمِر به شرعًا".

وجه استِدلال المؤلِّف بالآية على التَّرجمة:
أنَّ الله تعالى أثنى عليهم بذلك، وجعله مِن الأسباب الَّتي بها يدخُلون الجنَّة، ولا يكون سببًا يدخُلون به الجنَّة إلاَّ وهو عبادَةٌ، فيقتضي أنَّ صرفَه لغير الله شِركٌ.

وقوله: "وَمَا أَنفَقتُم مِن نَفَقَةٍ أَو نَذَرتُم مِن نَذرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعلَمُهُ" [البقرة: 270].


قوله: "ما": شرطية، و"أَنفَقتُم أَو نَذَرتُم مِن نَذرٍ": فعل الشَّرط، وجوابه: "فَإِنَّ اللهَ يَعلَمُهُ".
والنَّفقة: بذل المال، وقد يكون في الخير، وقد يكون في غيره.
وتعليق الشَّيء بعِلم الله دليلٌ على أنَّه محلُّ جزَاءٍ؛ إذ لا نعلَم فائِدةً لهذا الإخبار بالعِلم إلاَّ لترتُّب الجزاء عليه، وترتُّب الجزاء عليه يدلُّ على أنَّه من العِبادة الَّتي يُجازَى الإنسان عليها.
وهذا وجه استِدلال المؤلِّف بهذه الآيَة.

وَفِي "الصَّحِيح" عَن عائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قال: "مَن نَذَرَ أَن يُطِيعَ اللهَ، فَلْيُطِعْهُ، وَمَن نَذَرَ أَن يَعصِيَ اللهَ، فَلاَ يَعصِهِ". [رواه البخاري].


قوله: "مَن نَذَرَ"، شرطية تفيد العُموم، وهل تشمل الصَّغير؟
قال بعض العلماء: تشمَلُه؛ فينعقِد النَّذر منه.
وقيل: لا تشمَلُه؛ لأنَّ الصَّغير ليس أهلاً للإلزام ولا للاِلتزام، وبناءً على هذا يخرُج الصَّغير من هذا العموم؛ لأنَّه ليس أهلاً للإلزام ولا للالتزام.

قوله: "أَن يُطِيعَ اللهَ"، الطَّاعة: هي فعل المأمور به، وترك المنهي عنه.

قوله: "فَلْيُطِعْهُ"، ظاهره: يشمل ما إذا كانت الطَّاعة المنذورة جنسها واجب، كالصلاة والحج وغيرهما، أو غير واجب، كتعليم العلم وغيره.
وظاهره أيضًا أنه يشمل:
ـ النَّذر المطلَق: ليس له سبَبٌ، مثل: "لله عليَّ أن أصوم ثلاثة أيَّام".
ـ النَّذر المعلَّق: معلَّقٌ بحصول سبَبٍ، مثل: "إن نجَحتُ، فلِله عليَّ أن أصوم ثلاثة أيَّامٍ".

[حُكم النَّذر]
واعلم أنَّ النَّذر لا يأتي بخيرٍ ولو كان نذر طاعَةٍ؛ و"إِنَّمَا يُستَخرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ"، ولهذا نهى عنه النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ، وبعض العلماء يحرِّمه.
وإليه يمِيل شيخُ الإسلام ابن تيمِيَّة للنَّهي عنه، ولأنَّك تُلزِم نفسك بأمرٍ أنت في عافِيةٍ منه، وكم من إنسانٍ نذَر وندِم، وربَّما لم يفعل.
ويدلُّ لقوَّة القَول بتحريم النَّذر:
ـ قوله تعالى: "وَأَقسَمُوا بِاللهِ جَهدَ أَيمَانِهِم لَئِن أَمَرتَهُم لَيَخرُجُنَّ"، فهذا التِزامٌ مؤكَّدٌ بالقَسَم فيُشبِه النَّذر، "قُل لاَ تُقسِمُوا طَاعَةٌ مَعرُوفَةٌ" [النور: 53]، أي: عليكم طاعةٌ معروفةٌ بدون يمِينٍ، والإنسان الَّذي لا يفعل الطَّاعة إلا بالنَّذر، أو حلَف على نفسِه يعني أنَّ الطَّاعة ثقِيلةٌ عليه.
ـ أنَّ النَّاذر كأنَّه غير واثقٍ بالله ـ عزَّ وجلَّ ـ؛ فكأنَّه يعتقد أنَّ الله لا يُعطِيه الشِّفاء إلاَّ إذا أعطاه مقابَلةً، ولهذا إذا أيِسوا من البُرء ذهبوا ينذُرون، وفي هذا سُوء ظنٍّ بالله ـ عزَّ وجلَّ ـ.
والقَول بالتَّحريم قولٌ وجِيهٌ.
فإن قِيل: كيف تحرِّمون ما أثنى الله على مَن وفَّى بِه؟
فالجواب: أنَّنا لا نقول: إنَّ الوَفاء هو المحرَّم حتَّى يقال: إنَّنا هدمنا النَّص، إنَّما نقول: المحرَّم أو المكرُوه كراهَةً شديدةً هو (عقد النَّذر)، وفرقٌ بين عَقدِه ووفائِه، فالعقد ابتِدائيٌّ، والوفاء في ثاني الحال تنفيذٌ لما نذر.

قوله: "وَمَن نَذَرَ أَن يَعصِيَ اللهَ؛ فَلاَ يَعصِهِ"، لا: ناهية، والنَّهي بحسب المعصِية؛ فإن كانت المعصِية حرامًا، فالوفاء بالنَّذر حرامٌ، وإن كانت المعصِية مكروهَةً، فالوفاء بالنَّذر مكروهٌ؛ لأنَّ المعصِية الوقوع فيما نهي عنه، والمنهيُّ عنه ينقسِم عند أهل العلم إلى قسمين: منهِيٌّ عنه نهيَ تحرِيمٍ، ومنهيٌّ عنه نهيَ تنزِيهٍ.

كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

حسن بوقليل 20 Nov 2010 12:44 PM

بابٌ من الِّشرك الاستِعاذة بغير الله
 
بابٌ من الِّشرك الاستِعاذة بغير الله

قوله: "مِن الشِّرك": هذه التَّرجمة ليست على إطلاقها؛ لأنَّه إذا استَعاذ بشخصٍ ممَّا يقدِر عليه فإنَّه جائِزٌ.


وقول الله تعالى: "وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ فَزَادُوهُم رَهَقًا" [الجن: 6].

قوله تعالى: "يَعُوذُون بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ"، يقال: عاذَ بِه، ولاذَ بِه، فالعِياذُ ممَّا يُخاف، واللِّياذ فيمَا يُؤمَّل. أي: [أنَّ هؤلاء الإنس] يلتجِئُون إلى [الجِنِّ] ممَّا يحاذِرونَه؛ يظنُّون أنَّهم يُعِيذونهم، وكان العرب في الجاهِليَّة إذا نزَلوا في وادٍ نادَوا بأعلى أصواتهم: "أعوذُ بسيِّد هذا الوادي من سُفهاء قومِه".
ولا زال هذا الجهل في قومنا على صور؛ منها:
ـ قولهم: "مْسَلْمِينْ مْكَتْفِينْ"، أي يُسلِمون أنفسَهم، ويخضعونها للجن، ومنهم من يذبح للجن (عسَّاس الدَّار) استعاذة به من الأذى.
قوله: "فَزَادُوهُم رَهَقًا"، أي: ذُعرًا وخوفًا، بل الرَّهق أشدُّ من مجرَّد الذُّعر والخَوف، فكأنَّهم مع ذُعرهم وخَوفهم أرهقَهم وأضعَفهم شيءٌ، فالذُّعر والخَوف في القلوب، والرَّهَق في الأبدان.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الاستعاذة بالجنِّ حرامٌ؛ لأنَّها لا تفيد المستَعِيذ، بل تزيدُه رهقًا، فعُوقِب بنقيضِ قصدِه، وهذا ظاهِرٌ، فتكون الواو ضميرَ الجنِّ، والهاء ضمير الإنس.
وقيل: إنَّ الإنس زادُوا الجِنَّ رهقًا، أي: استِكبارًا وعتُوًّا، ولكنَّ الصَّحيح الأوَّل.

وجه الاستِشهاد بالآية: ذمُّ المستَعِيذين بغير الله، والمستَعِيذ بالشَّيء لا شكَّ أنَّه قد علَّق رجاءَه به، واعتمد عليه، وهذا نوعٌ مِن الشِّرك.

وعَن خَولَةَ بنتِ حكِيمٍ قالَت: سمِعتُ رسولَ اللهِ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يقول:
"مَن نَزَلَ مَنزِلاً، فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ، لَم يَضُرَّهُ شَيءٌ حَتَّى يَرحَلَ مِن مَنزِلِهِ ذَلِكَ" رواه مسلم.


وقوله: "مَن نَزَلَ مَنزِلاًً" يشمل من نزَلهُ على سبيل الإقامة الدَّائمة، أو الطَّارئة.
وقوله: "أَعُوذُ" بمعنى: ألتَجِئُ وأعتَصِم.
قوله: "كَلِماتِ اللهِ": المراد بالكلمات هنا: الكلمات الكونِيَّة والشَّرعية.
قوله: "التَّامَّاتِ"، تمام الكلام بأمرَين:
1-الصِّدق في الأخبار.
2-العَدل في الأحكام.
قال الله تعالى: "وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً" [الأنعام: 115].
قوله: "مِن شَرِّ مَا خَلَقَ"، أي: من شرِّ الَّذي خلق؛ لأنَّ الله خلَق كلَّ شيءٍ: الخير والشَّر، ولكن الشَّر لا يُنسَب إليه؛ لأنَّه خلقه لحكمةٍ، فعاد بهذه الحكمة خيرًا.
فليس كلُّ ما خلَق الله فيه شرٌّ، لكن تستعِيذُ من شرِّه إن كان فيه شرٌّ؛ لأن مخلوقات الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي:
1-شرٌّ محضٌ؛ كالنَّار وإبليس باعتِبار ذاتَيهما، أمَّا باعتِبار الحكمة الَّتي خلقهما الله من أجلها، فهي خيرٌ.
2-خيرٌ محضٌ؛ كالجنَّة، والرُّسل، والملائكة.
3-فيه شرٌّ وخيرٌ؛ كالإنس، والجنِّ، والحَيوان.
قوله: "لَم يَضُرَّهُ شَيءٌ": نكرة في سياق النَّفي؛ فتفيد العموم من شرِّ كل ذي شرٍّ من الجنِّ والإنس وغيرهم.
قوله: "حَتَّى يَرتَحِلَ مِن مَنزِلِهِ ذَلِكَ": وهذا خبرٌ لا يمكن أن يتخلَّف مخبَره؛ لأنَّه كلام الصَّادق المصدوق، لكن إن تخلَّف؛ فلِوُجود مانعٍ، لا لقُصور السَّبب، أو تخلُّف الخبَر.
قال القرطبي: "وقد جرَّبت ذلك؛ حتَّى إنِّي نسِيتُ ذات يومٍ، فدخلتُ منزِلي ولم أقل ذلك، فلدغتني عقربٌ".

والشَّاهد من الحديث: قوله: "أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ"؛ والاستعاذة بكلمات الله مشروعة؛ إذ هي صفة من صفاته، ولهذا استدل العلماء بهذا الحديث على أن كلام الله من صفاته؛ فهو غير مخلوق.

نقله ـ مختصرا ـ أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

حسن بوقليل 21 Nov 2010 04:17 PM

أرجو المشاركة من طلبة العلم؛ فالأمر ليس بالهين، هذا يتعلق بتوحيد رب العالمين.

حسن بوقليل 24 Nov 2010 09:51 AM

ومما يبكي له القلب ـ حسرة على أهل هذا البلد خاصة ـ أن بعضهم يستعيذ بشيخه، أو بوليه ـ الصالح ـ عند الشدائد والكرب، وليس من رأى كمن سمع كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ في "القواعد الأربع" وغيرها من رسائله المفيدة.
فلهذا ـ إخوتي ـ لا ينبغي أن نظن أن دراسة التوحيد والتحذير من الشرك صارت نظرية في وقتنا، بل إني أعرف من الناس ـ من أهل الثقافة والعولمة ـ من يقع في مطبات الشرك والعياذ بالله.
اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما أعلم.

أبو الفضل لقمان الجزائري 25 Nov 2010 09:29 PM

بارك الله فيك أخي الكريم حسن ونفع بك وبمجهوداتك .
ومما ينبني عليه الكلام في هذا الكتاب الطيب مسألة عظيمة ولعلها من فرائد الردود التي رد بها أهل العلم والتوحيد على أهل الشرك ألا وهي:
هل تحريم الشرك وقبحه استفيد من الشرع فقط أم ذلك قبيح عقلا وشرعا؟.(1)

الجواب:
أن يقال أن الشرك نوعان _شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته.
_ شرك يتعلق بعبادته ومعاملته.
فأما الأول (الذي يتعلق بذاته المعبود وأسمائه وصفاته) :
فنوعان:_شرك التعطيل.
_شرك التمثيل.
وأما الثاني (يتعلق بعبادته ومعاملته): فعدة أنواع:
_شرك الدعوة
_شرح المحبة
_شرك الطاعة
_شرك الإرادة والقصد ...(2)
*1*شرك التعطيل: وهو 3 أقسام:
_تعطيل المخلوق عن خالقه.
_تعطيل الخالق عن كماله.
_تعطيل الخالق عن معاملته(عبادته).
والشرك والتعطيل متلازمان.
فكل مشرك معطل (لأنه عطل حق الله وهو عبادته سبحانه) .
وكل معطل مشرك (لأنه لما عطله عن صفاته ألحقه بالمخلوق فصار شريكا له في صفاته الناقصة أو شبهه بالعدم تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا).
*2*شرك التمثيل (التشبيه) :
وهو قسمان:
_تشبيه الخالق بالمخلوق(التَشْبِيه).
_وتشبيه المخلوق بالخالق(التَشَبُّه).
أما الأول:
فإن المشرك شبه المخلوق بالخالق في خصائص الربوبية والألوهية وهي التفرد بالعطاء والمنع كذا من خصائصه الكمال المطلق وذلك يوجب أن تكون العبادة له وحده عقلا وفطرة وشرعا.
ومن خصائص الألوهية العبودية التي لا تقوم إلا على ساق الذل والحبة فمن أعطاهما لغيره فقد شبهه بالله وأعطاه خالص حقه وقبح هذا مستقر في العقول والفطر لكن الشياطين اجتالت الناس وغيرت فطرهم.
والثاني:
فمن تعاظم وتعالى وتكبر ودعى الناس إلى إطرائه ورجائه وخوفه فقد شبه نفسه الخسيسة بالله رب العالمين وهو حقيق بأن يهينه الله.
وبالجلمة فإن التَشْبِيهَ والتَشَبُّهَ هو حقيقة الشرك.
لذا كان من ظن أنه إذا تقرب إلى غير الله بالعبادة ليقربه بدوره إلى الله جل وعلا فإنه شبهه به سبحانه ومنعه حقه.
فحقيقة الشرك إذا: "منعه سبحانه حقه "وأي ظلم أعظم من هذا وقبحه مستقر شرعا وعقلا لذا لم يشرع في ملة قط ولم يغفر لفاعله.(3)


فبان الجواب والحمد لله .
نسأل الله الإخلاص في الأقوال والأعمال.
____________________
(1) ومما يفيد على هذا الجواب الكلام في مسألة "التحسين والتقبيح العقليين" وهذه قد اختلف فيها الفرق ومن أراد توسعا فليراجع ما زبره حبر الأمة في زمانه أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في مجموع الفتاوى(8/431)وكذا تلميذه ابن القيم في المدارج(360/2).
(2) فليراجع "التنبيهات السنية شرح العقيدة الواسطية" للشيخ عبد العزيز الرشيد رحمه الله.
(3)انتهى ملخصا من كتاب تجريد التوحيد المفيد للمقريزي رحمه الله (766 - 845 هـ ) بتصرف.
وقد طبع الكتاب عدة طبعات ولْيُنَبَّه على تحقيق: علي حسن الحلبي للكتاب التي تتداول في الأسواق فقد أتى فيه بالعجائب والله المستعان!!.
وفيه طبعة جيدة وهي طبعة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 1409 هـ/1989م. دراسة وتحقيق: طه محمد الزيني المصري وهي التي اعتمدها الشيخ أمان الجامي في شرحه والله الموفق.

حسن بوقليل 29 Nov 2010 10:18 AM

باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
 
باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

قوله: "من الشرك أن يستغيث": الاستغاثة: طلب الغوث، وهو إزالة الشدة.
وكلام المؤلف ـ رحمه الله ـ ليس على إطلاقه؛ بل يقيَّد بـ"ما لا يقدر عليه المستغاث به"، إما لكونه ميتًا، أو غائبًا، أو يكون الشَّيء مما لا يقدر على إزالته إلا الله تعالى، فلو استغاث بميت ليدافع عنه أو بغائب أو بحي حاضر لينزل المطر فهذا كله من الشرك، ولو استغاث بحي حاضر فيما يقدر عليه كان جائزًا، قال الله تعالى: "فَاستَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِن عَدُوِّهِ" [القصص: 15].
[تنبيه لكل نبيه]:
وإذا طلبتَ من أحد الغَوث وهو قادر عليه؛ فإنَّه يجب عليك ـ تصحيحًا لتوحيدك ـ أن تعتقِد أنَّه مجرَّد سبَبٍ، وأنَّه لا تأثير له بذاتِه في إزالة الشِّدة؛ لأنَّك ربَّما تعتمد عليه وتنسى خالِق السَّبب، وهذا قادِحٌ في كمال التَّوحيد.

قوله: "أو يدعو غيره": أي من الشرك أن يدعو غير الله؛ وذلك لأنَّ الدُّعاء من العبادة، قال الله تعالى: "وَقَالَ رَبُّكُم ادعُونِي أَستَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" [غافر: 60]، فسمَّى اللهُ الدُّعاءَ عبادةً.
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ العِبَادَةُ".
والدعاء ينقسم إلى قسمين:
1- ما يقع عبادةً؛ وهذا صرفه لغير الله شرك، وهو المقرون بالرَّهبة والرَّغبة، والحبِّ، والتضرُّع.
2- ما لا يقع عبادةً؛ فهذا لا يجوز أن يُوجَّه إلى المخلوق، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن دَعَاكُم فَأَجِيبُوهُ"، وقال: "إِذَا دَعَاكَ فَأَجِبهُ"، وعلى هذا، فمراد المؤلِّف ـ رحمه الله ـ بقوله "أو يدعو غيره" دعاء العبادة، أو دعاء المسألة فيما لا يمكن للمسؤول إجابَتُه.

وقول الله تعالى: "وَلاَ تَدعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ" [يونس: 106]
سياق الآية: إمَّا خاصٌّ بالرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والحكم له ولغيره، وإمَّا عامٌّ لكلِّ مَن يصِحُّ خطابُه ويدخُل فيه الرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وكونه يوجه إليه مثل هذا الخطاب لا يقتضي أن يكون ممكنًا منه، ولا يمكن أن يقع منه باعتبار حاله، لا باعتبار كونه إنسانًا وبشرًا.
إذاً، فالحكمة من النهي أن يكون غيره متأسِّيًا به؛ فإذا كان النَّهي موجَّهًا إلى من لا يمكن منه باعتبار حالِه، فهو إلى من يُمكِن منه من باب أولى.

وقوله: "وَلاَ تَدعُ مِن دُونِ اللهِ"، الدُّعاء: طلب ما ينفع، وطلب دفع ما يضر، وهو نوعان كما قال أهل العلم:
الأول: دعاء عبادة؛ وهو أن يكون قائمًا بأمر الله، [وطاعته]؛ لأنَّ القائم بذلك يريد الثواب والنجاة من العقاب، ففعله متضمن للدُّعاء بلسان الحال، وقد يصحب فعله هذا دعاء بلسان المقال.
الثاني: دعاء مسألة؛ وهو طلب ما ينفع، أو طلب دفع ما يضره.
فالأول لا يجوز صرفه لغير الله، والثاني فيه تفصيل سبق.

قوله: "مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ"، أي: ما لا يجلب لك النفع لو عبدته، ولا يدفع عنك الضر، ولو تركت عبادته لا يضرك؛ لأنه لا يستطيع الانتقام، وهو الظاهر من اللفظ.
وهذا الوصف هو لبيان الواقع؛ لأن المدعو من دون الله لا يحصل منه نفع ولا ضرر، قال الله تعالى: "وَمَن أَضَلُّ مِمَّن يَدعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لاَ يَستَجِيبُ لَهُ إِلىَ يَومِ القِيَامَةِ وَهُم عَن دُعَائِهِم غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُم أَعدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِم كَافِرِينَ" [الأحقاف: 5 ، 6].
وهذا الوصف يسمى "صفة كاشفة".

قوله: "فَإِن فَعَلتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ"، أي: إن دعَوتَ من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرُّك؛ فإنَّك حال فعلِك من الظَّالمين، وهو قيدٌ، لكن قد تتوب منه فيزول عنك وصف الظُّلم؛ فالإنسان قبل الفِعل ليس بظالمٍ، وبعد التَّوبة ليس بظالمٍ.
ونوع الظُّلم هنا (ظُلم شِركٍ)؛ قال الله تعالى: "إِنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ" [لقمان: 13]، وقال الله: "مِنَ الظَّالِمِينَ"، ولم يقل: (من المشركين)؛ لأجل أن يبيِّن أنَّ الشِّرك ظُلمٌ؛ لأنَّ كون الدَّاعي لغير الله مشرِكًا أمرٌ بيِّنٌ، لكنَّ كونَه ظالمًا قد لا يكون بيِّنًا من الآية.

قوله: "وَإِن يَمسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ" الآية [يونس: 107]
قوله: "وَإِن يَمسَسْكَ"، أي: يصيبك بضرٍّ؛ كالمرض، والفقر، ونحوه.
قوله: "فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ": وهذا كقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "وَاعلَم أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجتَمَعُوا عَلَى أَن يَنفَعُوكَ بِشَيءٍ لَم يَنفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ لَكَ".

قوله: "وَإِن يُرِدكَ بِخَيرٍ": هناك فرقٌ معنوي بين "يُرِدك" و"يَمسَسكَ"، وهو أنَّ الأشياء المكرُوهة لا تُنسَب إلى إرادةِ الله، بل تُنسَب إلى فعله، أي: مفعوله.

قوله: "فَلاَ رَادَّ لِفَضلِهِ"، أي: لا يستطيع أن يرُدَّ فضلَ الله أبدًا، ولو اجتمعت الأمَّة على ذلك، وفي الحديث: "اللَّهُمَّ! لاَ مَانِعَ لِمَا أَعطَيتَ، وَلاَ مُعطِيَ لِمَا مَنَعتَ".
وعليه؛ فنعتمد على الله في جلب المنافع، ودفع المضار، وبقاء ما أنعم علينا به، ونعلَم أنَّ الأمة مهما بلغت من المكر والكيد والحيل لتمنَع فضلَ الله، فإنَّها لا تستطيع.

الشَّاهد من الآية: قوله: "وَلاَ تَدعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ"؛ فقَد نبَّه اللهُ نبيَّه أنَّ من يدعو أحدًا مِن دون الله لا ينفَعُه ولا يضرُّه.
وكذلك قوله: "وَإِن يَمسَسكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ".


وقولُه: "فَابتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزقَ" [العنكبوت: 17]

لو أتى المؤلف بأول الآية: "إِنَّ الَّذِينَ تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَملِكُونَ لَكُم رِزقًا" لكان أولى؛ فهم يعبُدون هذِه الأوثان ولا تملِك لهم رزقًا أبدًا، فإذا كانت لا تملِك الرِّزق؛ فالَّذي يملِكه هو الله، ولهذا قال: "فَابتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزقَ"، أي: اطلُبوا عندَ اللهِ الرِّزق؛ لأنَّه سبحانه هو الَّذي لا ينقضِي ما عِنده، "مَا عِندَكُم يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ" [النحل: 96].

وقوله: "عِندَ اللهِ": أي: فابتغُوا الرِّزقَ حالَ كونِه عندَ الله لا عندَ غيرِه، ففيه تقديم الحال على صاحبها، وهو يفيد الحصر.

قوله: "وَاعبُدُوهُ"، تذلَّلوا بالطَّاعة؛ لأنَّكم إذا تذلَّلتم له بالطَّاعة، فهو من أسباب الرِّزق، قال تعالى: "وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَل لَهُ مَخرَجًا وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لاَ يَحتَسِبُ" [الطلاق: 3، 4]، فأمر أن نطلُب الرِّزق عندَه، ثمَّ أعقَبه بقوله: "وَاعبُدُوهُ" إشارة إلى أن تحقيق العبادة من طلَب الرِّزق؛ لأنَّ العابد ما دام يؤمن أنَّ مَن يتَّقِ الله يجعل له مخرجًا ويرزُقه من حيث لا يحتَسب، فعبادته تتضمَّن طلبَ الرِّزق بلسان الحال.

قوله: "وَاشكُرُوا لَهُ"، (إذا أضاف الله الشُّكر له متعدِّيًا باللام فهو إشارة إلى الإخلاص)، أي: واشكروا نعمة الله لله؛ لأنَّ الشَّاكر قد يشكُر الله لبقاء النِّعم، وهذا لا بأس به، ولكن كونُه يشكُر لله وتأتي إرادةُ بقاءِ النِّعمة تبَعًا هذَا هو الأكمَلُ والأفضَلُ.
والشُّكر فسَّروه بأنَّه: (القِيام بطاعَة المُنعِم)، وقالوا: إنَّه يكون في ثلاثة مواضِع:
1- في القَلب؛ وهو أن يعترِف بقلبه أنَّ هذِه النِّعمة من الله، فيرى لله فضلاً عليه بها، قال تعالى: "وَمَا بِكُم مِن نِعمَةٍ فَمِنَ اللهِ" [النحل: 53]، وأعظمها نِعمة الإسلام.
2- في اللِّسان؛ وهو أن يتحدَّث بها على وجه الثَّناء على الله والاعتِراف وعدم الجُحود، لا على سبيل الفَخر والخُيَلاء والترفُّع على عباد الله، فيتحدَّث بالغِنى لا ليكسِرَ خاطِر الفقير، بل لأجل الثَّناء على الله، وهذا جائِزٌ كما في قصَّة الأعمى من بني إسرائيل لما ذكَّرهم الملِك بنعمة الله، قال: "نعم، كنتُ أعمَى فرَدَّ اللهُ عليَّ بصَرِي، وكنت فقيرًا فأعطاني اللهُ المالَ"، فهذا من باب التحدُّث بنِعمة الله.
وقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ متحدِّثًا بالنعمة: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَومَ القِيَامَةِ" .
3- في الجوارح؛ وهو أن يستعمِلها بطاعة المنعِم، وعلى حسب ما يختصُّ بهذِه النِّعمة.
فمثلاً: شكر الله على نعمة العِلم: أن تعمل به، وتعلِّمه النَّاس.
وشكر الله على نِعمة المال: أن تصرِفه بطاعة الله، وتنفَع النَّاس به.
وشكر الله على نعمة الطَّعام: أن تستَعمِله في تغذِية البَدن؛ فلا تبني مِن العجِين قصرًا مثلاً، فهو لم يخلق لهذا الشَّيء.

قوله: "إِلَيهِ تُرجَعُونَ"، أي: أنَّ رجوعَنا إلى الله ـ سبحانه ـ، وهو الَّذي سيُحاسبنا على ما حملنا إيَّاه مِن الأمر بالعِبادة، والأمر بالشُّكر، وطلَب الرِّزق منه.

والشَّاهد من هذه الآية: قوله: "إِنَّ الَّذِينَ تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَملِكُونَ لَكُم رِزقًا فَابتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزقَ" [العنكبوت: 17]، فالفقير يستغيث بالله لكي يُنجيه من الفقر، والله هو الَّذي يستحِقُّ الشُّكر، وإذا كانَت هذه الأصنام لا تملِك الرِّزق، فكيف تستغِيثُ بها؟!


يتبع إن شاء الله.

نقله ـ مختصرا ـ أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

مصطفى قالية 30 Nov 2010 09:01 PM

جزاك الله خيرا أخي حسن على هذه السلسلة النافعة بإذن الله فتحقيق التوحيد من أولى وأول ما يجب الاعتناء به، لأن الله إنما خلقنا لعبادته، كما قال سبحانه وتعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} أي: ليوحدون، ولما بعث قدوتنا-صلى الله عليه وسلم- معاذا-رضي الله عنه- إلى أهل اليمن قال له: (( فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى...))[خ - م]، وغير هذا من النصوص الكثيرة التي تدل على فضل معرفة التوحيد وتحقيقه، ومع ذلك فأكثرنا عن هذا الفضل غافلون وإلى غيره منصرفون. فالله المستعان، وها هو شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- يبين أن التوحيد هو أولى ما يجب تعلمه ومعرفته من صاحب القلب والعقل السليمين فيقول في المجموع(5/8): (مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى حَيَاةٍ وَطَلَبٍ لِلْعِلْمِ أَوْ نَهْمَةٍ فِي الْعِبَادَةِ يَكُونُ الْبَحْثُ عَنْ هَذَا الْبَابِ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ فِيهِ أَكْبَرَ مَقَاصِدِهِ وَأَعْظَمَ مَطَالِبِهِ ؛ أَعْنِي بَيَانَ مَا يَنْبَغِي اعْتِقَادُهُ). والله أعلم.

حسن بوقليل 07 Dec 2010 04:37 PM

جزاكم الله خيرا.

تابع للباب السابق (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره)

وقوله: "وَمَن أَضَلُّ مِمَّن يَدعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لاَ يَستَجِيبُ لَهُ إِلىَ يَومِ القِيَامَةِ" الآية [الأحقاف: 5]
قوله تعالى: "وَمَن أَضَلُّ": الاستفهام يراد به هنا النفي، أي لا أحد أضل؛ فيكون أبلغ لأنَّ فيه معنى التحدي، أي: بيِّن لي أحدًا أضلُّ ممَّن يدعو من دون الله.
والضَّلال: أن يتِيه الإنسان عن الطَّريق الصَّحيح.
قوله: "مِمَّن يَدعُو": دعاءَ مسألةٍ، أو دعاءَ عبادَةٍ.
قوله: "مَن لاَ يَستَجِيبُ لَهُ إِلىَ يَومِ القِيَامَةِ": أي؛ لو بقِي كلَّ عمر الدُّنيا يدعو ما استجاب له، قال الله تعالى: "إِن تَدعُوهُم لاَ يَسمَعُوا دُعَاءَكُم وَلَو سَمِعُوا مَا استَجَابُوا لَكُم وَيَومَ القِيَامَةِ يَكفُرُونَ بِشِركِكِم وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثلُ خَبِيرٍ" [فاطر: 14]، يعني: نفسَه سبحانه وتعالى.
قوله: "وَهُم عَن دُعَائِهِم غَافِلُونَ"، الضَّمير في دعائهم يعود إلى المدعوِّين، وهل المعنى: "وَهُم"، أي: الأصنام، "عَن دُعَائِهِم"، أي: دعاء الدَّاعِين إيَّاهُم؛ فيكون من باب إضافة المصدَر إلى مفعوله، أو المعنى: و"هُم" عن دعاء العابِدِين لهم، فيكون "دعاء" مضافًا إلى فاعله، والمفعول محذوف؟
الأوَّل أبلَغ في أنَّ هذه الأصنام لا تُفِيد شيئًا في الدُّنيا ولا في الآخِرة.
قوله: "وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُم أَعدَاءً"، هل المعنى: كان العابِدُون للمعبودِين أعداءً؟ أو كان المعبُودُون للعابِدِين أعداءً؟
الجواب:يشمَل المعنيَين، وهذا من بلاغة القُرآن.
الشَّاهد من الآية: قوله: "مَن لاَ يَستَجِيبُ لَهُ إِلىَ يَومِ القِيَامَةِ"، فإذا كان من سِوى الله لا يستجيب إلى يوم القيامة، فكيف يلِيقُ بك أن تستَغِيث به دونَ الله؟! فبطَل تعلُّق هؤلاء العابِدين بمعبوداتهم.
فالَّذي يأتي للبَدوي أو للدَّسُوقي في مصر، فيقول: المدَد! المدَد! أو: أغِثني، لا يُغنِي عنه شيئًا، ولكن قد يُبتَلَى فيأتِيه المدَد عند حصُول هذا الشَّيء، لا بهذا الشَّيء، وفرقٌ بين ما يأتي بالشَّيء، وما يأتي عند الشَّيء.
مثال ذلك: امرأةٌ دعَت البَدوي أن تحمِل، فلمَّا جامَعها زوجُها حمَلت، وكانت سابِقًا لا تحمِل، فنقول هنا: إنَّ الحَمل لم يحصُل بدُعاء البَدوي، وإنَّما حصَل عندَه؛ لقوله تعالى: "مَن لاَ يَستَجِيبُ لَهُ إِلىَ يَومِ القِيَامَةِ".

وقوله: "أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكشِفُ السُّوءَ" [النمل: 62]
قوله تعالى: "المُضطَرَّ"، أصلها: المُضتَرُّ، أي: الَّذي أصابه الضَّرر، قال تعالى: "وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ" [الأنبياء: 84]، فلا يجيب المضطَرَّ إلاَّ اللهُ، لكن قيَّده بقوله: "إِذَا دَعَاهُ"، أمَّا إذا لم يَدعُه، فقد يكشِفُ الله ضرَّه، وقد لا يكشِفه.
قوله: "وَيَكشِفُ السُّوءَ"، أي: يُزِيل السُّوء، وهو ما يسُوء المرء، وهو دون الضَّرورة؛ لأنَّ الإنسان قد يُساء بما لا يضُرُّه، لكن (كلُّ ضرورَةٍ سُوءٌ).
وهل كشف السُّوء متعلِّقٌ بإجابة المُضطَرِّ؟ أو أنَّه أمرٌ آخَر غير متعلِّقٍ به؟
الجواب: المعنى الأخير أعمُّ؛ لأنَّها تشمل كشفَ سوء المضطَرِّ وغيره، ومن دعا الله ومَن لم يدعُه، وعلى التَّقدير الأوَّل تكون خاصَّة بكشف سوء المضطَرِّ، ومعلوم أنَّه (كلَّما كان المعنى أعمَّ كان أَولى)، ويؤيِّد العُموم قوله: "وَيَجعَلُكُم خُلَفَاءَ الأَرضِ".
قوله: "وَيَجعَلُكُم خُلَفَاءَ الأَرضِ"، الَّذِين يجعلهم اللهُ خُلَفاء الأرض هم عباد الله الصَّالحون، قال تعالى: "وَلَقَد كَتَبنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذِّكرِ أَنَّ الأَرضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ" [الأنبياء: 105]، وقال تعالى: "وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدُونَنِي لاَ يُشرِكُونَ بِي شَيئًا" [النور: 55].
قوله: "أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ"، الاستِفهام للإنكار، أو بمعنى النَّفي، وهما متقارِبان، أي: هل أحَدٌ مع الله يفعَل ذلِك؟!
الجواب:لا، وإذا كان ذلِك؛ فيجِب أن تُصرَف العبادة لله وحده، وأن يسأل العبدُ ربَّهُ تعالى، ولا يطلُب من أحد أن يُزِيل ضرورَتَه ويكشِف سوءَه وهو لا يستَطِيع.
إِشكَالٌ وجوابُه:
وهو أنَّ الإنسان المضطَرَّ يسأَل غيرَ الله ويُستجاب له، كمَن اضطُرَّ إلى طعامٍ وطلَب مِن صاحِب الطَّعام أن يُعطِيَه فأعطاه، فهل يجُوز أم لا؟
الجواب:أنَّ هذا جائِزٌ؛ لكن يجِب أن نعتَقِد أنَّ هذا مجرَّدُ سبَبٍ لا أنَّه مستَقِلٌّ، فالله يجعَل لكلِّ شيءٍ سببًا، فيُمكِن أن يصرِف الله قلبَه فلا يُعطِيك، ويمكِن أن تأكُل ولا تشبَع فلا تزول ضرورَتُك، ويمكن أن يُسخِّره اللهُ ويعطِيك.

روى الطَّبراني بإسنادِه: أنَّه كان في زمَن النَّبِيِّ ـ صلَّى الله علَيه وسلَّم ـ منافِقٌ يُؤذِي المُؤمِنِينَ، فقالَ بعضُهم: قُومُوا بنَا نستَغِيثُ برَسُولِ اللهِ ـ صلَّى الله علَيه وسلَّم ـ مِن هذا المُنافِق.
فقَالَ النَّبِيُّ ـ صلَّى الله علَيه وسلَّم ـ: "إِنَّهُ لاَ يُستَغَاثُ بِي، وَإِنَّمَا يُستَغَاثُ بِاللهِ".

قوله: "بإسناده"، يشِير إلى أنَّ هذا الإسناد ليس على شرط الصَّحيح، أو المتَّفق عليه بين النَّاس، بل هو إسنادُه الخاصِّ، وعليه، فيجب أن يراجع هذا الإسناد.
وذكَر الهيثمي في "مجمع الزوائد": "إنَّ رجالَه رجالُ الصَّحيح، غير ابن لهِيعَة، وهو حسن الحدِيث، وابن لهيعة خلَط في آخر عمُرِه لاحتِراق كتبه"، ولم يذكر المؤلِّف الصَّحابي، وفي الشَّرح ["تيسير العزيز الحميد" (1/512)] هو عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ.
قوله: "فيِ زمَنِ النَّبِيِّ"، أي: عهده، وكان الكافِر أوَّلاً يُعلِن كفرَه ولا يُبالِي، ولما قوِيَ المسلِمون بعد غزوَة بدرٍ خافَ الكُفَّار، فصاروا يُظهِرون الإسلام ويُبطِنون الكفر.
قوله: "مُنافِقٌ"، المنافِق: هو الَّذي يُظهِر الإسلام ويُبطِن الكفر.
ولم يُسَمَّ المنافق في هذا الحديث؛ فيحتَمِل أنَّه عبدُ الله بن أُبَيٍّ؛ لأنَّه مشهورٌ بإِيذاء المسلمِين، ويحتمل غيرَه.
واعلم أنَّ أذِيَّة المنافقين للمسلمين ليست بالضَّرب أو القَتل؛ لأنَّهم يتظاهَرُون بمحبَّة المسلِمين، ولكن بالقَول والتَّعريض كما صنَعوا في قصَّة الإِفك.
قوله: "فقَالَ بعضُهُم"، أي: الصَّحابة.
قوله: "نستغِيث"، أي: نطلب الغَوث وهو إزالة الشِّدَّة.
قوله: "مِن هذا المنافِق"، إمَّا بزَجره، أو تعزِيره، أو بما يناسِب المقام.
قوله: "إنَّه لا يُستَغاثُ بِي"، ظاهر هذه الجملة النَّفي مطلَقًا، ويحتمل أنَّ المراد: لا يُستَغاث به في هذِه القضِيَّة المعيَّنة.
فعلى الأوَّل: يكون نفي الاستِغاثة من باب سدِّ الذَّرائع والتأدُّب في اللَّفظ، وليس من باب الحكم بالعُموم؛ لأنَّ نفي الاستِغاثة بالرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس على إطلاقه، بل تجوز الاستغاثة به فيما يقدِر عليه.
أمَّا إذا قُلنا: إنَّ النَّفي عائِدٌ إلى القضِيَّة المعيَّنة الَّتي استغاثُوا بالنَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منها؛ فإنَّه يكون على الحقيقة، أي: لا يستغاث بي في مثل هذه القضِيَّة؛ لأنَّ النَّبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يُعامِل المنافِقين معامَلة المسلِمين، ولا يُمكِنه حسب الحُكم الظَّاهر للمنافِقين أن ينتَقِم من هذا المنافِق انتِقامًا ظاهِرًا؛ إذ إنَّ المنافِقين يستَتِرون، وعلى هذا، فلا يُستَغاث للتَّخلُّص من المنافِق إلاَّ بالله.


نقله ـ مختصرا ـ أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

عبدالرحمان ابن داود الجزائري 08 Dec 2010 10:25 PM

قلة الردود إنما تدل على ثقل دراسة العقيدة و كل ما يتعلق بها على النفوس
اللهم ارزقنا الصبر و الثبات و التوحيد الخالص
الله يوفقك لإتمام هذه السلسلة المباركة

حسن بوقليل 14 Dec 2010 02:57 PM

بابُ قولِ الله تعالى: "أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ"
 
بابُ قولِ الله تعالى:
"أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا" الآية [الأعراف: 191،192]

مناسبة الباب لما قبله:

لما ذكر ـ رحمه الله ـ الاستِعاذة والاستغاثة بغير اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ، ذكر البراهين الدَّالَّةَ على بُطلان عبادَة ما سِوى الله، ولهذا جعَل التَّرجمة لهذا الباب نفسَ الدَّليل.
قوله: "أَيُشْرِكُونَالاستِفهام للإنكار والتَّوبيخ، أي: يُشركونَه مع الله.
قوله: "مَا لاَ يَخْلُقُ شَيئَا"، هنا عبَّر بـ "مَا" دون "مَنْ"، وفي قوله: "وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَن لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ" [الأحقاف: 5] عبر بـ "مَنْ".
والمناسَبة ظاهِرةٌ؛ لأنَّ الدَّاعِين هناك نزَّلوهُم منزِلة العاقل، أمَّا هُنا؛ فالمَدعُو جَمادٌ، لأنَّ الَّذي لا يخلُق شيئًا ولا يصنَعُه جمادٌ لا يفِيد.
قوله: "وَهُمْ يُخْلَقُونَ"، وصفَ هذه الأصنام بالعجز والنَّقص. والربُّ المعبودُ لا يمكِن أن يكون مخلوقًا، بل هو الخالِق؛ فلا يجُوز عليه الحُدوث ولا الفَناء.
والمخلوق: حادِثٌ، والحادِث يجُوز عليه العَدمُ؛ لأنَّ ما جاز انعدامُه أوَّلاً، جاز عقلاً انعدامُه آخِرًا.
فكيف يُعبَد هؤلاء مِن دون الله، إذِ المخلوق هو بنفسه مفتقِرٌ إلى خالقه، وهو حادِثٌ بعدَ أن لم يكن، فهو ناقِصٌ في إيجادِه وبقائِه؟!
قوله: "وَلاَ يَستَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا"، أي: لا يقدِرون على نصرِهم لو هاجَمهم عدوٌّ؛ لأنَّ هؤلاء المعبُودِين قاصِرُون.
والنَّصر: الدَّفع عن المخذُول؛ بحيثُ ينتصِرُ على عدوِّه.
قوله: "وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ"، أي: زِيادةً على ذلك هم عاجِزُون عن الانتِصار لأنفُسِهم، فكيفَ يَنصُرون غيرَهم؟!
فبيَّن اللهُ عجزَ هذه الأصنام، وأنَّها لا تصلُح أن تكون معبودَةً من أربعة وُجوهٍ، هي:
1- أنَّها لا تخلُق؛ ومن لا يَخلُق لا يستَحِقُّ أن يُعبَد.
2- أنَّهم مخلُوقون من العدَم؛ فهم مفتقِرون إلى غيرهم ابتِداءً ودوامًا.
3- أنَّهم لا يستطِيعون نصرَ الدَّاعِين لهم، وقوله: "لاَ يَستَطِيعُونَ" أبلغُ مِن قوله: "لاَ يَنصُرُونَهُم"؛ لأنَّه لو قال: "لا ينصُرونَهم"، فقد يقول قائل: لكنَّهم يستطيعون، لكن لـمَّا قال: "لاَ يَستَطِيعُونَ لَهُم نَصْرًا" كان أبلَغ لظهور عجزِهم.
4- أنَّهم لا يستطِيعُون نصرَ أنفُسِهم.

وقوله: "وَالَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَملِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ" الآية [فاطر: 13]

قوله: "وَالَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِهِ": يشمَل دعاءَ المسألة، ودعاء العبادة.
قوله: "مَا يَملِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ": والقِطمير: سَلب نَواة التَّمرة. وفي النَّواة ثلاثة أشياء ذكَرها الله في القرآن لبَيان حقَارة الشَّيء:
ـ القِطمير:
وهو اللُّفافة الرَّقيقة الَّتي على النَّواة.
ـ الفَتِيل:
وهو سِلكٌ يكون في الشَّق الَّذي في النَّواة.
ـ النَّقِير:
وهي النَّقرة الَّتي تكون على ظَهر النَّواة. [ويسميها بعضهم عندنا ـ في الجزائر ـ طابع النبي].
فهؤلاء لا يملكون من قطمير.
[إشكالٌ وجوابُه]

فإن قيل: أليس الإنسان يملك النَّخل كلَّه كامِلاً؟
أجيب: إنَّه يملكه؛ ولكنَّه مِلكٌ ناقِصٌ ليس حقيقِيًّا؛ فلا يتصرَّف فيه إلا على حسَب ما جاء به الشَّرعُ، فلا يملك ـ مثلاً ـ إحراقَه؛ للنَّهي عن إضاعة المال.
قوله: "إِنْ تَدْعُوهُمْ"، جملة شرطية، تدعو: فعل الشرط مجزوم بحذف النون، والواو فاعل، وأصلها: تدعونهم.
قوله: "لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ" جواب الشرط مجزوم بحذف النون، والواو فاعل.
قوله: "وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ"، أي: إنَّ هذه الأصنام لو دعَوتُموها ما سمِعَت، ولو فُرِض أنَّها سمِعت ما استجَابَت؛ لأنَّها لا تقدِر على ذلك، ولهذا قال إبراهيم ـ عليه السَّلام ـ لأبيه: "يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيئًا" [مريم: 42]
فإذا كانت كذلك، فلماذا تُدعَى من دون الله؟! بل هذا سفَهٌ، قال تعالى: "وَمَنْ يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ" [البقرة: 130].
قوله: "وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ"، هو كقوله تعالى: "وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ" [الأحقاف: 6].
فهؤلاء المعبودون:
ـ إن كانوا يُبعَثُون ويُحشَرون؛ فكُفرُهم بشِركهم ظاهِرٌ، كمَن يعبُد عُزَيرًا والمسِيحَ.
ـ وإن كانوا أحجارًا وأشجارًا ونحوَها؛ فيحتمل دخولُها في ظاهِر الآية، ويؤيِّدُه قوله تعالى: "إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ" [الأنبياء: 98]، وما ثبت في "الصَّحيحين" عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أَنَّهُ عِندَ بَعثِ النَّاس يُقَالُ لِكُلِّ أُمَّةٍ: لِتَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَت تَعبُدُ مِن دُونِ اللهِ" (البخاري ومسلم).
قوله: "وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ" [فاطر: 14]، هذا مثال يضرب لمن أخبر بخبر ورأى شكًّا عند من خاطَبه به، فيقول: ولا ينبِّئك مثلُ خبِيرٍ، ومعناه: إنَّه لا يخبرك بالخبر مثل خبِيرٍ به، وهو الله؛ لأنَّه لا يعلَم أحدٌ ما يكون في يوم القيامة إلا الله، وخبَرُه خبَرُ صِدقٍ؛ لأنَّ الله تعالى يقول: "وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً" [النساء: 122]، والخبير: العالم ببواطن الأمور.

وفي "الصَّحيح" عن أنسٍ قال: شُجَّ النَّبِيُّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ يومَ أُحُدٍ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، فقَال: "كَيفَ يُفلِحُ قَومٌ شَجُّوا نَبِيَّهُم؟"، فنَزلَت: "لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيءٌ" [آل عمران: 128]


قوله: "شُجَّ"، الشَّجة: الجرح في الرَّأس، والوجه خاصَّةً.
قوله: "وَكُسِرَت رَبَاعِيَتُهُ"، ما يلي الثَّنايا، واحدته "رَبَاعِيَةٌ".
قوله: "كَيفَ يُفلِحُ قَومٌ شَجُّوا نَبِيَّهُم": الفلاح: هو الفَوز بالمطلوب، والنَّجاة من المرهوب.
قوله: "فَنَزَلَت: "لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيءٌ""، الخطاب فيها للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والمراد: شأن الخلق؛ فشأن الخلق إلى خالقهم، حتَّى النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس له فيهم شيء.
ونستفيد من هذا الحديث:
أنَّه يجِب الحذر من إطلاق اللِّسان فيما إذا رأى الإنسان مبتلًى بالمعاصي، فلا نستبعد رحمة الله منه، فإنَّ الله تعالى قد يتوب عليه.
فهؤلاء الَّذين شجُّوا نبيَّهم لمَّا استبعد النَّبيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ فلاحَهم، قيل له: "لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيءٌ".
والرَّجل المُطِيع الَّذي يمُرُّ بالعاصي من بني إسرائيل ويقول: "وَاللهِ، لاَ يَغفِرُ اللهُ لِفُلاَنٍ. قالَ اللهُ لهُ: مَن ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَن لاَ أَغفِرَ لِفُلاَنٍ؟ قَد غَفَرتُ لَهُ وَأَحبَطتُ عَمَلَكَ" [البخاري، ومسلم].
ثمَّ إنَّنا نشاهد أو نسمع قومًا كانوا من أكفَر عباد الله، وأشدِّهم عداوةً انقلبوا أولياءَ لله، فإذا كان كذلك، فلماذا نستبعد رحمة الله من قومٍ كانوا عُتاةً؟!


وفيه: عن ابنِ عُمر ـ رضي الله عنهما ـ أنَّه سمِع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقُول ـ إذَا رفَع رأسَهُ مِن الرُّكوعِ في الرَّكعة الأخِيرة مِن الفَجر ـ: "اللَّهُمَّ! الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا"؛ بعدَما يقُولُ: سمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمدُ"، فأَنزَل اللهُ: "لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيءٌ".

وفي رواية: يَدعُو علَى صَفوَانَ بنِ أُمَيَّةَ، وَسُهَيلِ بنِ عَمرٍو، والحَارِثِ بنِ هِشَامٍ، فنزَلت: "لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيءٌ".



قوله: "إِذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِن الرُّكُوعِ فِي الرَّكعَةِ الأخِيرَةِ مِن الفَجر"، قيَّد مكانَ الدُّعاء من الصَّلوات بـ(الفَجر)، ومكانَه من الرَّكعات بـ(الأخيرة)، ومكانَه من الرَّكعة بـ(ما بعد الرَّفع من الرُّكوع).
قوله: "يقُولُ: اللَّهُمَّ! الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا" اللَّعن: الطَّرد والإبعاد عن رحمة الله.
وبيَّنَت الرواية الثانية المدعو عليهم.
قوله: "فَأَنزَلَ اللهُ: "لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيءٌ""، فيه أنَّ سبَبَ نزول الآية دعوةُ النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هؤلاء، وقولُه: "كَيفَ يُفلِحُ قَومٌ شَجُّوا نَبِيَّهُم؟ولا مانع أن يكون لنزول الآية سببان.
وقد أسلَم هؤلاء الثَّلاثةُ، وحسُن إسلامُهم ـ رضي اللهُ عنهُم ـ، فتأمَّل الآن أنَّ العداوة قد تنقلب وَلايَةً؛ لأنَّ القلوب بيد الله ـ سبحانه وتعالى ـ

وفيه: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، قال: قامَ فينَا رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أُنزِل علَيه: "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ" [الشعراء: 214]، فقالَ: "يَا مَعشَرَ قُرَيشٍ! (أو كلِمةً نحوَها) اشتَرُوا أَنفُسَكُم؛ لاَ أُغنِي عَنكُم مِنَ اللهِ شَيئًا.

يَا عَباسُ بنَ عَبدِالمُطَّلِبِ! لاَ أُغنِي عَنكَ مِنَ اللهِ شَيئًا.

يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ! لاَ أُغنِي عَنكِ مِنَ اللهِ شَيئًا.

وَيَا فَاطِمَةُ بِنتَ مُحَمَّدٍ! سَلِينِي مِن مَالِي مَا شِئتِ؛ لاَ أُغنِي عَنكِ مِنَ اللهِ شَيئًا.


قوله: "قام"، أي: خطيبًا.
قوله: "أَنذِرْ"، الإنذار: الإعلامُ المقرونُ بتخوِيفٍ.
قوله: "عَشِيرَتَكَ"، العشِيرة: قبِيلة الرَّجل من الجَدِّ الرَّابع فما دون.
قوله: "الأَقْرَبِينَ"، أي: الأقرب فالأقرب، فأوَّل من يدخل في عشيرة الرَّجل أولادُه، ثمَّ آباؤُه، ثمَّ إِخوانُه، ثمَّ أعمامُه، وهكذا.
ويؤخذ من هذا أنَّ الأقرب فالأقرب أولى بالإنذار، لأن الحكم المعلق على وصف يقوى بقوة هذا الوصف، وذلك أن الوصف الموجب للحكم كلما كان أظهر وأبين، كان الحكم فيه أظهر وأبين.
قوله: "اِشتَرُوا أَنفُسَكُم"، أي: أنقِذوها؛ لأنَّ المشتري نفسَه كأنَّه أنقَذها من هلاك، والمشتري راغِبٌ، ولهذا عبَّر بالاشتراء كأنه يقول: اشتروا أنفسكم راغبين.
قوله: "لاَ أُغنِي عَنكُم مِنَ اللهِ شَيئًاهذا هو الشَّاهد، أي: لا أنفَعُكم بدفعِ شيءٍ عنكم دونَ الله، ولا أمنَعُكم من شيءٍ أرادَه اللهُ لكم؛ لأنَّ الأمر بيد الله، ولهذا أمر الله نبيَّه بذلك، فقال: "قُلْ إِنِّي لاَ أَملِكُ لَكُم ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَن أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا" [الجن: 21،22].
قوله: "يَا عَبَّاسُ بنَ عَبدِ المُطَّلِبِ!"، هو عم النبي r، وعبد المطلب جدُّه.
وذِكرُ النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (عبد المطلب) ـ مع أنَّ تعبِيدًا لغير الله ـ عزَّ وجلَّ ـ من باب الإخبار فقط.
قوله: "لاَ أُغنِي عَنكَ مِنَ اللهِ شَيئًا"، فالنَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يغنِي عن أحدٍ شيئًا؛ حتَّى عن أبيه وأمِّه.
قوله: "يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ!": وهي عمَّتُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
قوله: "يَا فَاطِمَةُ بِنتَ مُحَمَّدٍ! سَلِينِي مِن مَالِي مَا شِئتِ"، أي: اطلبي من مالي ما شِئتِ؛ فلن أمنَعَك لأنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مالِكٌ لمَالِه، ولكن بالنِّسبة لحقِّ الله قال: "لاَ أُغنِي عَنكِ مِنَ اللهِ شَيئًا".
فهذا كلام النَّبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ لأقاربه الأقرَبين: عمِّه، وعمَّتِه، وابنَتِه، فما بالك بمن هم أبعد؟!
فهؤلاء الَّذين يتعلَّقون بالرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ويلُوذون به، ويستجِيرُون به، قد غرَّهُم الشيطانُ، واجتالَهُم عن طريق الحقِّ؛ لأنَّهم تعلَّقُوا بما ليس بمتعلَّقٍ، إذ الَّذي ينفع هو الإيمان بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واتِّباعُه، أمَّا دعاؤُه والتَّعلُّق به، ورجاؤُه فيما يؤمَّل، وخشيتُه فيما يُخاف منه، فهذا شِركٌ بالله، وهو ممَّا يُبعِد عن الرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وعن النَّجاة من عذاب الله.
وإذا كان القُرب من النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يُغنِي عن القريب شيئًا؛ دلَّ ذلك على منع التَّوسُّل بجَاه النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ لأنَّ جاهَه لا يَنتَفِع به إلاَّ هُو، ولهذا كان أصحَّ قولي أهل العلم تحريمُ التَّوسُّل بجَاه النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

نقله ـ مختصرا ـ أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

سمير مزغيش 14 Dec 2010 04:23 PM

اقتباس:

قلة الردود إنما تدل على ثقل دراسة العقيدة و كل ما يتعلق بها على النفوس
أو لعلهم لم يفهموا بعد كيفية التفاعل والمشاركة

حسن بوقليل 14 Dec 2010 05:16 PM

أخي أبا عبد الله! المشاركة تكون بـ:
ـ ذكر فائدة لها علاقة بآية الباب أو حديثه.
ـ إضافة شيء من كلام أهل العلم في مسألة ذكرت في الشرح.
ـ توضيح مشكل في الموضوع.
ـ طرح مسألة لها علاقة بالموضوع.
ولا ينبغي الاستطراد بأشياء نحن في غنى عنها في مستوانا هذا.

والله أعلم.

شهاب الدين 14 Dec 2010 08:18 PM

اقتباس:

اقتباس:
قلة الردود إنما تدل على ثقل دراسة العقيدة و كل ما يتعلق بها على النفوس
أو لعلهم لم يفهموا بعد كيفية التفاعل والمشاركة
أو لعل الشيخ حسن لم يترك لنا ما نضيفه ...
أحسن الله إليك يا حسن ...

أبو عبد الرحمن حمزة 02 Jan 2011 03:19 PM

جزاك الله خيرا أخي حسن


الساعة الآن 12:17 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013