منتديات التصفية و التربية السلفية

منتديات التصفية و التربية السلفية (http://www.tasfiatarbia.org/vb/index.php)
-   الــمــــنــــــــتـــــــدى الـــــــــعــــــــام (http://www.tasfiatarbia.org/vb/forumdisplay.php?f=2)
-   -   دروس في شرح "كتاب التوحيد" (متجدد إن شاء الله) (http://www.tasfiatarbia.org/vb/showthread.php?t=4259)

حسن بوقليل 01 Jun 2010 10:01 AM

يرفع.
ونرجو التفاعل، فهذه مسائل تهم المسلم.

حسن بوقليل 06 Jun 2010 10:51 AM

بابُ ما جاءَ في الرُّقى والتَّمائم
 
بابُ ما جاءَ في الرُّقى والتَّمائم

لم يَذكُر المؤلِّف أنَّ هذا الباب مِن الشِّرك؛ لأنَّ مِن الرُّقى ما ليسَ شركًا.
قوله: "الرُّقَى"، جمع رُقيَةٍ، وهي القِراءة.
قوله: "التَّمائم"، جمع تمِيمَة، وسمِّيت تميمَةً؛ لأنَّهم يرَون أنَّه يتِمُّ بها دفعُ العَين.

قال ـ رحمه الله ـ: في "الصَّحيح" عن أبي بَشير الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ، أنَّه كان معَ رسُول اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بعض أسفَاره، فأرسَل رسُولاً: "أَن لاَ يَبقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدَةٌ مِن وَتَرٍ أَو قِلاَدَةٌ إِلاَّ قُطِعَت" [البخاري ومسلم].


قوله: "قِلاَدَةٌ مِن وَتَرٍ، أَو قِلاَدَةٌ"، شكٌّ مِن الرَّاوي، والأُولى أرجَح؛ لأنَّ القلائد كانَت تُتَّخذ من الأَوتار، ويعتقدون أنَّ ذلك يدفع العين عن البعير، وهذا اعتقادٌ فاسدٌ؛ لأنَّه تعلُّقٌ بما ليسَ بسبَبٍ، وقد سبق هذا، لأنَّه بتعلُّقِه أثبَت للأشياء سببًا لم يُثبِته اللهُ لا بشَرعه ولا بقَدَره، ولهذا أمر النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نَقطَع هذِه القلائشد.
أمَّا إذا كانت هذه القِلادة مِن غَير وَتَرٍ، وإنَّما تُستَعمل للقيادَة كالزِّمام، فهذا لا بأسَ به لعدَم الاعتِقاد الفاسِد، وكان النَّاس يعملون ذلك كثيرًا مِن الصُّوف أو غيره.
قوله: "فِي رَقَبَةٍ بَعِيرٍ"، ذكر البَعير، لأنَّ هذا هو الَّذي كان منتشرًا حينَذاك، فهذا القيد بناءً على الواقِع عندهم، فيكون كالتَّمثيل، وليس بمخصَّصٍ.
يستفاد من الحديث:
1. أنَّه ينبغي لكبير القَوم أن يكون مراعيًا لأحوالهم، فيتفقَّدهم وينظر في أحوالهم.
2. أنَّه يجب عليه رعايتهم بما تقتضيه الشَّريعة، فإذا فعلوا محرَّمًا منعهم منه، وإن تهاونوا في واجبٍ حثَّهم عليه.
3. أنَّه لا يجوز أن تُعلَّق في أعناق الإبل أشياءٌ تُجعَل سببًا في جلب منفَعةٍ أو دفع مضَرَّةٍ، وهي ليس كذلك لا شرعًا ولا قدرًا، لأنَّه شركٌ، ولا يلزم أن تكون القلادة في الرَّقبة، بل لو جُعِلت في اليد أو الرِّجل، فلها حكمُها، لأنَّ العلَّة هي القلادة، وليس المكان.
4. أنَّه يجب على من يستطيع تغيير المنكر باليد أن يغيِّره بيَده.

وعَن ابنِ مَسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ، قالَ: سمِعتُ رسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقُول: "إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِركٌ". رواه أحمد وأبو داود

قوله: "إِنَّ الرُّقَى"، ليست على عمومها، بل هي عامٌّ أرِيد به خاصٌّ، وهو الرُّقى بغير ما ورَد به الشَّرعُ، ممَّا فيه شِركٌ، أمَّا ما ورَد به الشَّرع، فليسَت من الشِّرك، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الفاتحة: "وَمَا يُدرِيكَ أَنَّهَا رُقيَةٌ" [الترمذي]، وفي الحديث: "لاَ بَأسَ بِالرُّقَى مَا لَم يَكُن فِيهِ شِركٌ" [مسلم]، فالرُّقى المباحة الَّتي يَرقي بها الإنسانُ المريضَ بدُعاءٍ مِن عنده ليس فيه شِركٌ جائِزةٌ.

قوله: "التَّمائم"، فسَّرها المؤلِّف بقوله: "شيءٌ يعلَّق على الأولاد يتَّقون به العَين"، وهي من الشِّرك؛ لأنَّ الشَّارع لم يجعَلها سببًا تُتَّقى به العَينُ.
وأمَّا الأورَاقُ من القرآن تُجمَع في جِلدٍ ويخاط علَيها، ويلبَسُها الطِّفل على يده أو رقبته، ففيها خلافٌ بين العُلماء، وظاهِر الحديث: أنَّها ممنوعَةٌٌ، ولا تَجُوز.
ومِن ذلك أنَّ بعضَهم يكتب القُرآن كلَّه بحُروفٍ صغيرةٍ في أوراقٍ صغيرةٍ، ويضعُها في صندوقٍ صغيرٍ، ويعلِّقها على الصَّبي، وهذا مع أنَّه مُحدَثٌ، فهو إهانةٌ للقرآن الكرِيم؛ لأنَّ هذا الصَّبي سوف يسِيل عليه لعابُه، وربَّما يتلوَّث بالنَّجاسة، ويدخُل به الحمَّام والأماكِن القذِرة، وهذا كلُّه إهانةٌ للقرآن.
ومع الأسَف أنَّ بعض النَّاس اتَّخذوا من العبادات نوعًا من التَّبرُّك فقَط، مثل ما يشاهَد من أنَّ بعضَ النَّاس يمسَحُ الرُّكن اليماني، ويمسح به وجهَ الطِّفل وصدرَه، وهذا معنَاه أنَّهم جعَلُوا مسحَ الرُّكن اليماني من باب التَّبرُّك لا التَّعبُّد، وهذا جَهلٌ، وقد قال عُمَر في الحِجر: "إنِّي أعلَم أنَّك حجَرٌ لا تَضُرُّ ولا تَنفَعُ، ولولا أنِّي رأيتُ رسُولَ الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يُقبِّلُك ما قبَّلتُك" [البخاري وسلم].

قوله: "التِّوَلَةُ"، شيءٌ يعلِّقونه على الزوج، يزعمون أنه يحبب الزوجة إلى زوجها والزوج إلى امرأته، وهذا شرك، لأنه ليس بسبب شرعي ولا قدري للمحب.
ومثل ذلك الدِّبلَة، وهي خاتَمٌ يُوضَع في يَد الزَّوج، فإذا أَلقاهُ الزَّوجُ، قالَت امرأتُه: إنَّه لا يحِبُّها، فهم يعتَقِدُون فيه النَّفعَ والضَّررَ، وهذَا مِن الشِّرك الأَصغَر، وإن لم تُوجَد هذِه النِّية ـ وهذَا بعِيدٌ ـ؛ ففِيه تشبُّهٌ بالنَّصارى.
فإِن كانَت مِن الذَّهَب؛ ففِيها محذُورٌ ثالِثٌ للرجال.
فإن خلَت مِن هذه الأُمور فهِي جائِزةٌ؛ لأنَّها خاتَمٌ مِن الخوَاتِم.

وقوله: "شِركٌ": هل هِي شِركٌ أصغَرُ أو أكبَرُ؟
نقول: بحسَب ما يُرِيد الإِنسَان مِنها؛ إن اتَّخذَها مُعتقِدًا أنَّ المُسبِّب للمحبَّة هُو اللهُ، فهِي شِركٌ أصغَرُ، وإن اعتَقد أنَّها تفعَلُ بنَفسِها، فهي شِركٌ أكبَرُ.

وعَن عَبدِ اللهِ بنِ عُكَيمٍ مَرفُوعًا: "مَن تَعَلَّقَ شَيئًا، وُكِلَ إِلَيهِ" رواه أحمد والتِّرمذي


قوله: "مَن تَعَلَّقَ": اعتمَد علَيه، وجعَله همَّهُ ومَبلَغ عِلمِه، ويعلِّقُ رجاءَه بِه، وزَوالَ خَوفِه بِه.

قوله: "شَيئًا": نكِرةٌ في سِياق الشَّرط؛ فتعُمُّ جميعَ الأشيَاء، فمَن تعلَّق باللهِ ـ سبحانَه وتعَالى، وجعَل رغبَتَهُ ورجاءَه فِيه وخَوفَه مِنه، فإنَّ الله تعَالى يقُول: "وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ" [الطَّلاق: 3]، أي: كافِيه.

قوله: "وُكِلَ إِلَيهِ"، أي: أُسنِد إلَيه، وفُوِّض.

أقسَامُ التَّعلُّق بغَيرِ اللهِ:
الأوَّل: ما يُنافي التَّوحيدَ مِن أصلِه، وهو أن يتَعلَّق بشيءٍ ليسَ له تأثِيرٌ، ويعتَمِد علَيه اعتِمادًا مُعرِضًا عن الله، مثل تعلُّق عُبَّاد القُبور بمن فيهَا عندَ حُلول المَصائِب، فهذا شِركٌ أكبَرُ مُخرِجٌ مِن المِلَّة.
الثَّاني: ما يُنافي كمَالَ التَّوحيد، وهو أن يعتَمِد علَى سبَبٍ شرعِيٍّ صحِيحٍ معَ الغَفلة عن المُسبِّب، وهُو اللهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ، وعدَمُ صرفِ قلبِه إلَيه، فهذا نَوعٌ مِن الشِّرك، ولا نقُول شِركٌ أكبَرُ؛ لأنَّ هذا السَّبَب جعَلهُ اللهُ سبَبًا.
الثَّالث: أن يتعلَّق بالسَّبَب تعلُّقًا مجرَّدًا، لكَونه سبَبًا فقَط، مع اعتِماده الأصلِي علَى اللهِ، فيعتَقِد أنَّ هذا السَّبَب مِن اللهِ، وأنَّ اللهَ لو شَاء لأبطَل أثَرَه، ولو شَاء لأَبقَاهُ، وأنَّه لا أثَر للسَّبَب إلاَّ بمَشِيئة اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ، فهذا لا يُنافي التَّوحيد؛ لا كمالاً ولا أصلاً، فلا إِثمَ فِيه.
ومعَ وُجود الأسبَاب الشَّرعِيَّة الصَّحيحة يَنبَغي للإنسَان أن لا يُعلِّق نفسَه بالسَّبَب، بل يعلِّقُها باللهِ، فالمُوظَّف الَّذِي يتعَلَّق قلبُه بمُرتَّبِه تعلُّقًا كامِلاً، مع الغَفلة عن المُسبِّب، وهو اللهُ، قد وقَع في نَوعٍ مِن الشِّرك، أمَّا إذا اعتَقَد أنَّ المُرتَّبَ سبَبٌ، والمُسبِّبُ هو اللهُ ـ سبحانَه وتعَالى ـ، وجعَل الاعتِماد علَى اللهِ، وهو يشعُرُ أنَّ المُرتَّبَ سبَبٌ، فهذَا لا يُنافِي التَّوكُّلَ.
وقد كانَ الرَّسولُ ـ صلَّى الله علَيه وسلَّم ـ يأخُذ بالأسبَاب، مع اعتِماده علَى المُسبِّب، وهُو اللهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ.
وجاء في الحدِيث: "مَن تَعلَّقَ"، ولم يقُل: مَن علَّق؛ لأنَّ المتعَلِّق بالشَّيء يتعلَّقُ به بقلبِه وبنفسِه، بحَيثُ يُنزِّل خوفَه ورجاءَه وأمَلَه بِه، وليسَ كذلِك مَن علَّقَ.

[مسألة: التَّميمَةُ مِن القُرآن]:
قوله: "إِذَا كَانَ المُعَلَّقُ مِنَ القُرآنِ..." إلخ.
إذا كان المعلَّق من القُرآن أو الأدعِية المباحَة والأذكَار الوارِدة، فهذه المَسألة اختَلَف فيهَا السَّلفُ ـ رحمهم اللهُ ـ:
ـ فمِنهم مَن رخَّص في ذلِك لعُموم قولِه: "وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنِينَ" [الإسراء: 82]، ولَم يذكُر الوسِيلَة الَّتي نتَوصَّل بها إلى الاستِشفاء بهذا القُرآن، فدلَّ على أنَّ كلَّ وسِيلَةٍ يُتوَصَّل بها إلى ذلِك فهِي جائِزَةٌ، كما لَو كانَ القُرآن دواءًا حسِّيًّا.
ـ ومِنهم مَن منَع ذلِك، وقال: لا يجُوز تعلِيقُ القُرآن للاستِشفاء بِه؛ لأنَّ الاستِشفاء بالقُرآن وَرَد على صِفةٍ معيَّنةٍ، وهي القِراءة بِه علَى المرِيض، فلا نتَجاوَزُها، وإذا استَشفَينَا بالقُرآن على صِفةٍ لم تَرِد، فقَد فعَلنا سببًا غير مشرُوعٍ، وقد نقَله المؤلِّف ـ رحمه الله ـ عن ابن مَسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ، ولولا الشُّعور النَّفسِيُّ بأنّ تعلِيقَ القُرآن سبَبٌ للشِّفاء، لكانَ انتِفاءُ السَّببِيَّة على هذِه الصُّورة أمرًا ظاهِرًا؛ فإنَّ التَّعلِيق ليسَ له عَلاقَةٌ بالمَرض، بخِلاف النَّفث على مَكانِ الألَم، فإنَّه يتأثَّرُ بذلِك.
ولهذا فالأَقرَبُ أن يُقَال: إنَّه لا ينبَغي أن تُعلَّق الآياتُ للاِستِشفاء بهَا، لا سيَّما وأنَّ هذا المعلَّق قد يفعَل أشيَاء تُنافي قُدُسيَّة القُرآن، كالغِيبة مثلاً، ودُخول الخَلاء، وأيضًا إذا علَّق وشعَر أنَّ به شِفاءً استَغنى به عن القِراءة المَشرُوعة، فيَستَغني بغير المَشرُوع عن المَشرُوع.
وإن كان صبِيًّا، فربَّما بالَ على المعلَّق.
وأيضًا؛ فإنَّه لم يرِد عن النَّبِيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ فيه شيءٌ.
يقُول الشَّيخ ابنُ عثَيمِين ـ رحمه الله ـ:
"الأَقرَب أن يُقال: أنَّه لا يُفعَل، أمَّا أن يصِل إلى درَجةِ التَّحريم، فأنا أتَوقَّفُ فِيه، لكن إذا تضَمَّن محظورًا، فإنَّه محرَّمٌ بسبَب ذلِك المحظُور".

قوله: "الَّتي تُسَمَّى العَزائِم"، أي في عُرف النَّاس، والعَزيمة: القِراءة.
و"خَصَّ مِنها الدَّليلُ ما خَلا مِن الشِّرك": سواء ما ورد؛ كـ: "اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ! أَذهِبِ البَاسَ، اِشفِ أَنتَ الشَّافِي، لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا" [البخاري ومسلم]، أو لم يرد؛ كقول: "اللَّهُمَّ! عافِهِ، اللَّهُمَّ! اشفِهِ".
أمَّا إن كانَ فيها شِركٌ فلا تَجُوز؛ كقَول: "يا جِنِّيُّ! أنقِذهُ، ويا فُلان (الميِّت)! اشفِهِ".

قوله: "مِن العَينِ والحُمَة"، سبق تعريفهما في (باب مَن حقَّق التَّوحيد دخَل الجنَّة)، وظاهِر كلام المؤلِّف: أنَّ الدَّليل لم يرخِّص بجَواز القِراءة إلاَّ فيهما!! لكن ورَد بغيرِهما؛ فقَد كان النَّبِيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ينفُخ على يدَيه عندَ منامِه بالمعوِّذات، ويمسَح بهِمَا ما استَطاع مِن جسَدِه [البخري ومسلم]، وهذا مِن الرُّقية، وليس عَينًا ولا حُمَةً.
ولهذا يرَى بعضُ أهل العِلم أنَّ التَّرخيص في الرُّقيَة مِن القُرآن عامٌّ، وقولُ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لاَ رُقيَةَ إِلاَّ مِن عَينٍ أَو حُمَةٍ" يعني: لا استِرقاء إلاَّ مِن عينٍ أو حُمَةٍ.

شُرُوط جَوَاز الرُّقيَة:
الأوَّل: أن لا يعتَقِد أنَّها تنفَعُ بذاتِها دُون الله، فإِن اعتَقد أنَّها تنفَعُ بذاتِها مِن دُون الله، فهو محرَّمٌ، بل شِركٌ، بل يعتَقِد أنَّها سبَبٌ لا تنفَع إلاَّ بإِذن الله.
الثَّاني: أن لا تكُون ممَّا يخالِف الشَّرع، كما إذا كانَت متضَمِّنةً دعاءَ غيرِ الله، أو استِغاثةً بالجِنِّ، وما أشبَه ذلك، فإنَّها محرَّمةٌ، بل شِركٌ.
الثَّالث: أن تكون مفهومَةً معلومَةً، فإن كانَت من جِنس الطَّلاسِم والشَّعوذَة، فإنَّها لا تجُوز.
أمَّا بالنِّسبة للتَّمائم؛ فإن كانَت مِن أمرٍ محرَّمٍ، أو اعتقَد أنَّها نافِعةٌ لذاتِها، أو كانَت بكتابَةٍ لا تُفهَم، فإنَّها لا تجُوز بكلِّ حالٍ.
وإن تمَّت فيها الشُّروط الثَّلاثة السَّابِقة في الرُّقية، فإنَّ أهلَ العِلم اختَلفُوا فيها كما سبَق.

ورَوَى أحمَدُ عَن رُوَيفِعٍ، قالَ: قالَ لِي رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ: "يَا رُوَيفِعُ! لَعَلَّ الحَيَاةَ سَتَطُولُ بِكَ، فَأَخبِرِ النَّاسَ أَنَّ مَن عَقَدَ لِحيَتِهِ، أَو تَقَلَّدَ وَتَرًا، أَو استَنجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ أَو عَظمٍ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا بَرِيءٌ مِنهُ" [أحمد وصححه الألباني].


قوله: "مَن عَقَدَ لِحيَتَهُ"، اللِّحيَة عندَ العَرب كانَت لا تُقصُّ ولا تُحلَق، كما أنَّ ذلِك هُو السُّنة، لكنَّهُم كانُوا يعقِدُون لِحاهُم لأسبَابٍ:
منها: الاِفتِخارُ والعَظمَةُ؛ فتجِد أحدَهم يعقِدُ أطرَافها، أو يعقِدُها مِن الوسَط عُقدَةً واحِدةً ليُعلم أنَّه رجُلٌ عظِيمٌ، وأنَّه سيِّدٌ في قومِه.
الثَّاني: الخَوف مِن العَين؛ لأنَّها إذا كانَت حسَنةً وجمِيلَةً ثمَّ عُقِدت أصبَحت قبِيحَةً، فمَن عقَدها لذلِك، فإنَّ الرَّسولَ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ برِيءٌ مِنه.

قوله: "أَو تَقَلَّدَ وَتَرًا"، الوتَر: سِلكٌ مِن عصَب الشَّاة، يتَّخذُ للقَوس وَتَرًا، ويستَعمِلونه في أعنَاق إِبِلِهم أو خَيلِهم، أو في أعناقِهم، يزعمُون أنَّه يمنَع العَين، وهذا مِن الشِّرك.

قوله: "أَو استَنجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ": وهو إزالة أثر الخارج من السَّبيلَين، ورجِيعُ الدَّابة: رَوثُها.

قوله: "أَو عَظمٍ": العَظمُ معرُوفٌ.
قوله: "فَإِنَّ مُحَمَّدًا بَرِيءٌ مِنهُ": وإنَّما تبرَّأَ النَّبِيُّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ـ ممَّن استَنجى بهِما؛ لأنَّ الرَّوث عَلَفُ بهائِم الجِنِّ، والعَظمَ طعَامُهم، يجِدُونه أَوفرَ ما يَكُون لحمًا.
وكلُّ ذَنبٍ قُرِن بالبَراءَة مِن فاعِلهِ؛ فهُو مِن كبَائِر الذُّنوبِ، كما هو مَعرُوفٌ عِند أهلِ العِلم.

الشَّاهِد مِن هَذَا الحَدِيث قَولُه: "مَن تَقَلَّدَ وَتَرًا".

وعَن سَعِيدِ بن جُبَيرٍ، قالَ: "مَن قَطَعَ تَمِيمَةً مِن إِنسَانٍ، كَانَ كَعَدلِ رَقَبَةٍ" روَاه وكِيعٌ.


قوله: "كَعَدلِ رَقَبَةٍ" بفَتح العَين؛لأنَّه مِن غَير الجِنس، والمُعادِل مِن الجِنس بكَسر العَين.
ووَجهُ المشابَهة بين قَطع التَّمِيمة وعِتق الرَّقَبة: أنَّه إذَا قطَع التَّمِيمةَ مِن إِنسَانٍ، فكأَنَّه أعتَقَهُ مِن الشِّرك، ففَكَّه مِن النَّار، ولكِن يقطَعُها بالَّتي هي أحسَن، لأنَّ العُنف يؤدِّي إلى المُشاحَنة والشِّقاق، إلاَّ إن كانَ ذا شَأنٍ؛ كالأمِير، والقَاضِي، ونحوِه ممَّن له سُلطَةٌ، فلَه أن يقطَعها مُباشَرةً.

ولَهُ عَن إِبرَاهِيمَ، قالَ: "كَانُوا يَكرَهُونَ التَّمائِمَ كُلَّهَا مِن القُرآنِ وَغَيرِ القُرآنِ".


قوله: "ولَهُ عَن إِبرَاهِيمَ": هو النَّخَعِي.
قوله: "كَانُوا يَكرَهُونَ التَّمَائِم...": قَد سبَق أنَّه رأيُ ابن مَسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ، فأصحابُه يرَونَ ما يَراهُ.

وفي هذا الوَقت أصبَح تعلِيقُ القُرآنِ لا للاِستِشفاء، بل لمجرَّد التَّبرُّك والزِّينة، كالقلائِد الذَّهبِيَّة، أو الحُلِي الَّتي يُكتَب عليها لفظُ الجَلالة، أو آيَةُ الكرسِي، أو القُرآن كامِلاً، فهذا كلُّه مِن البِدَع، فالقُرآن ما نزَل ليُستَشفى به علَى هذَا الوَجه، إنَّما يُستَشفى به علَى ما جَاء بِه الشَّرع.

كتبه أبو عبد الله حسن بن داود ـ عفا الله عنه ـ.
(أعتذر عن تأخر الدرس إلى هذا اليوم).

حسن بوقليل 16 Jun 2010 10:23 AM

بابُ مَن تبرَّكَ بشَجَرٍ أو حجَرٍ ونحوِهما
 
بابُ مَن تبرَّكَ بشَجَرٍ أو حجَرٍ ونحوِهما


قوله: "تبرَّك"، تفعَّل مِن البَرَكة، وهي كثرةُ الخير وثبوتُه، مأخوذةٌ مِن البِركة، وهي مجمَع الماء، الَّذي يتميَّز بكثرة الماء، وثبوته.
والتَّبرُّك طلَب البَركة، وطلَب البَركة لا يخلُو مِن أمرَين:
الأوَّل: أن يكون بأمرٍ شرعيٍّ معلومٍ، مثل القُرآن، قال تعالى: "كِتَابٌ أَنزَلنَاهُ إِلَيكَ مُبَارَكٌ" [ص: 29]؛ فمِن بَرَكتِه:
ـ أنَّ مَن أخذ به حصَل له الفَتح، فأنقذ اللهُ بذلك أُممًا كثيرةً مِن الشِّرك.
ـ أنَّ الحرف الواحِد بعَشر حسَناتٍ، وهذا يوفِّر للإنسان الوقتَ والجهدَ.
الثَّاني: أن يكون بأمرٍ حسِّيٍّ معلومٍ، مثل: التَّعليم، والدُّعاء، ونحوه، فيُتبرَّكُ بعمل الرَّجل ودعوتِه إلى الخير، فيكون بَركةً لأنَّنا نِلنا منه خيرًا كثيرًا.
وقال أُسَيد بن حُضَير: "مَا هَذِه بأَوَّلِ بَرَكَتِكُم يا آلَ أبِي بَكرٍ" [البخاري ومسلم]؛ فإنَّ الله يُجرِي على بعض النَّاس مِن أُمور الخَير ما لا يُجريه على يدِ الآخر.

[بَرَكةٌ باطِلةٌ]
وأمَّا ما يزعُمه الدَّجالون: أنَّ فلانًا الميِّت ولِيٌّ أنزل علَيكم مِن بَركَتِه، وما أشبَه ذلك؛ فهذه بَركةٌ باطِلةٌ، لا أثَر لها، وقد يكون للشَّيطان أثرٌ في هذا الأَمر، لكنَّها لا تعدُو أن تكون آثارًا حسِّيَّةً؛ بحيث إنَّ الشَّيطان يخدُم هذا الشَّيخ، فيكون في ذلك فِتنةٌ.

[كيفِيَّة تميِيز البَركة الباطِلة]
أمَّا كيفيَّةُ تمييز البَركات الباطِلةِ مِن الصَّحيحة؛ فبِحال الشَّخص؛ إن كان مِن أوليَاء الله المتَّقين المتَّبِعين للسُّنة المبتَعِدين عن البِدعة، فإنَّ الله قد يجعَلُ على يدَيه مِن الخَير والبَركة ما لا يحصُل لغَيره، ومِن ذلك ما جعَل اللهُ على يدِ شيخ الإسلام ابنِ تيمِيَّة مِن البَركة الَّتي انتَفع بها النَّاسُ في حياتِه وبعدَ مَوته.
أمَّا إن كان مخالِفًا للكِتاب والسُّنة، أو يدعُو إلى باطِلٍ، فإنَّ بَركتَه مَوهومَةٌ، وقد تضَعُها الشَّياطينُ له مساعدَةً على باطِله، وذلِك مثلُ ما يحصُل لبَعضِهم أن يقِف مع النَّاس في عرَفَةَ ثمَّ يأتي إلى بلدِه، ويضَحِّي مع أهلِ بلِده.
قال شيخُ الإسلام ابن تيمِيَّة: "إنَّ الشَّياطين تحمِلُهم لكي يغتَرَّ بهم النَّاس، وهؤلاء وقَع منهم مخالَفاتٌ، منها: عدَم إِتمام الحجِّ، ومنها أنَّهُم يمرُّون بالمِيقات ولا يُحرِمون منه" [مجموع الفتاوى: 1/83].

قوله: "شَجَرٍ" اسم جِنس، فيشمل أيَّ شجَرةٍ تكون، ومِن حسَنات أمير المؤمِنين عُمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ أنَّه لما رأى النَّاس ينتابُون الشَّجرة الَّتي وقعَت تحتَها بيعَةُ الرِّضوان أمر بقَطعِها.

قوله: "وَحَجَرٍ" اسم جِنسٍ، يشمل أيَّ حجَرٍ كان، حتَّى الصَّخرة الَّتِي في بَيت المقدِس، فلا يُتبرَّكُ بها، وكذا الحَجر الأَسود لا يُتبرَّك به، وإنَّما يُتعَبَّد اللهُ بمَسحِه وتقبِيله، اتِّباعًا للرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وبذلك تحصُل بَركة الثَّواب.
ولهذا قال عُمَر ـ رضي الله عنه ـ: "إنِّي لأَعلم أنَّك حجَرٌ لا تضُرُّ ولا تَنفَعُ، ولَولا أنِّي رأَيتُ رسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُقبِّلُك، ما قبَّلتُك" [البخاري ومسلم].
فتقبِيلُه عِبادةٌ محضَةٌ، خلافًا للعامَّة؛ يظنُّون أنَّ به بَركةً حسِّيَّةً، ولذلك إذا استَلمه بعضُ هؤلاء مسَح على جمِيع بدنِه تبرُّكًا بذلك.

قوله: "ونحوِهما"، أي: مِن البُيوت، والقِباب، والحجَر، حتَّى حُجرَة قبرِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ فلا يُتمسَّحُ بها تبرُّكًا.

وقول الله تعالى: "أَفَرَأَيتُمُ اللاَّتَ وَالعُزَّى" الآيات [النجم: 19]


قوله: "أَفَرَأَيتُمُ اللاَّتَ وَالعُزَّى": لـمَّا ذكر اللهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ المِعراج بقوله: "وَالنَّجمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم وَمَا غَوَى" إلى قوله: "لَقَد رَأَى مِن آيَاتِ رَبِّهِ الكُبرَى"؛ أي رأَى النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعضَ الآيات الكُبرى.
ثمَّ قال تعالى: "أَفَرَأَيتُمُ اللاَّتَ وَالعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخرَى"، أي: أخبِروني ما شَأنُها؟ وما حالُها بالنِّسبة إلى هذِه الآيات العظِيمة؟ إنَّها ليسَت بشيءٍ.
والاستِفهام للاستِخفاف والاستِهجان بهذِه الأصنَام.

قوله: "اللاَّتَ": تُقرَأ بتشدِيد التَّاء وتخفِيفها، والتَّشديد قراءَةُ ابنِ عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ، فعلى قراءَة التَّشديد تكون اسمَ فاعِلٍ مِن (اللَّتِّ)، وكان هذا الصَّنم أصلُه رَجُلٌ يلُتُّ السَّوِيق للحُجَّاج، أي: يجعَل فيه السَّمن، ويُطعِمه الحُجَّاج، فلمَّا مات عكَفُوا على قبرِه وجعلُوه صنَمًا.
وأمَّا على قراءة التَّخفيف؛ فإنَّ اللاَّت مشتَقَّةٌ مِن (الله)، أو مِن (الإله)، فهم اشتَقُّوا مِن أسماء الله اسمًا لهذا الصَّنم، وسمَّوه (اللاَّت)، وهي لأهل الطَّائِف ومَن حولهم مِن العَرب.

وقوله: "العُزَّى": مؤنَّث أَعَز، وهو صنَمٌ يعبُده قريشٌ وبنو كِنانة، مشتَقٌّ مِن اسم الله (العزيز)، كان بنَخلةٍ بين مكَّة والطَّائف.

قوله: "وَمَنَاةَ": قيل: مشتَقَّةٌ مِن (المَنَّان)، وقيل: مِن (مِنًى)؛ لكثرَة ما يُمنَى عندَه مِن الدِّماء بمعنى يُراق، ومِنه سمِّيَت (مِنًى)؛ لكثرة ما يُراق فيها مِن الدِّماء.
وكان هذا الصَّنم بين مكَّة والمدينة لهُذَيلٍ وخُزاعَة، وكان الأَوس والخَزرج يعظِّمونَها ويُهِلِّون مِنها للحجِّ.

قوله: "الثَّالِثَةَ الأُخرَى": إشارَةٌ إلى أنَّ الَّتي تعظِّمُونها، وتذبحون عندها، وتَكثُر إراقَةُ الدِّماء حولَها: أنَّها أُخرَى بمَعنى مُتأخِّرة، أي: ذميمَة حقِيرة، مأخوذَة من قولهم: فلانٌ أُخَر، أي: ذمِيمٌ، حقِيرٌ، متأَخِّرٌ.
فهذه الأصنَام الثَّلاثة المعبودَة عِند العَرب، ما حالُها بالنِّسبة لما رأَى النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟ لا شَيء، وإنَّما ذكر هذِه الأصنام الثَّلاثة لأنَّها أشهر الأصنَام، وأعظَمُها عند العَرب.

قوله: "أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى"، هذا أيضًا استِفهامٌ إنكارِيٌّ على المشرِكين الَّذين يجعَلُون لله البَناتِ ولَهُم البنِينَ، فإذا وُلِد لهم الذَّكرُ فرِحُوا واستَبشروا به، وإذا وُلِدت الأُنثى ظلَّ وجهُ الإنسان مِنهم مُسوَدًّا وهو كظِيمٌ، ومع ذلِك يقولون: الملائِكةُ بناتُ الله، فيَجعلُون البناتِ لله ـ والعياذ بالله ـ، ولهم ما يَشتهون.

قوله: "تِلكَ إِذًا قِسمَةٌ ضِيزَى": أي: جائِرةٌ؛ لأنَّه على الأقلِّ إذا أَردتُم القِسمةَ، فاجعَلُوا لكم مِن البَناتِ نصِيبًا، واجعلوا لله من البنِين نصِيبًا.

قوله: "إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسمَاءٌ سَمَّيتُمُوهَا أَنتُم وَآبَاؤُكُم مَا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلطَانٍ"، أي: هذه الأصنام (اللاَّتُ والعُزَّى ومَناةٌ) هي مجرَّد أسماءٍ سمَّيتموها، وما أنزل اللهُ بها مِن سلطانٍ وحجَّةٍ ودلِيلٍ، بل أبطَلها اللهُ ـ سبحانَه ـ، قال تعالى: "ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ" [الحج: 62]

قوله: "إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ"، أي: ما يتَّبِعون إلا الظَّن، والظَّنُّ الَّذي يتَّبعونه هو أنَّها آلهةٌ، وأنَّ لله البناتِ ولهم البنِين، والظَّن لا يُغنِي من الحق شيئًا.

قوله: "وَمَا تَهوَى الأَنفُسُ"، أي: يتَّبعون ما تهوَى الأنفُس، وهذا أضرُّ شيءٍ على الإنسان؛ أن يتَّبع ما يهوى، فالإنسان الَّذي يعبُد اللهَ بالهوى لا يعبُده حقًّا، إنَّما يعبُد عقلَه وهَواهُ، قال تعالى: "أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلمٍ" [الجاثية: 23]، لكِنَّ الَّذي يعبُد اللهَ بالهُدى لا بالهَوى هو الَّذي على الحقِّ.

قوله: "وَلَقَد جَاءَهُم مِن رَبِّهُمُ الهُدَى"، أي: علَى يدِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ فكان الأجدَر بهم أن يتَّبعوا الهُدى دون الهوَى.

مُناسَبَةُ الآيَة للتَّرجمة:
أنَّهم يعتَقِدون أنَّ هذه الأصنَام تنفَعُهم وتضُرُّهم، ولهذا يأتُون إليها؛ يدعُونها، ويذبَحون لها، ويتقرَّبون إليها، [يرجون بركتها]، وقد يبتلي اللهُ المرءَ فيحصُل له ما يُريد من اندِفاعٍ ضرٍّ، أو جَلب نفعٍ بهذا الشِّرك.

وعَن أبِي واقِدٍ اللَّيثِيِّ، قال: "خَرجنَا معَ رسُولِ اللهِ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ إلى حُنَينٍ، ونحنُ حُدَثاء عَهدٍ بكُفرٍ، وللمُشرِكين سِدرَةٌ يعكُفون عِندَها، ويَنُوطُون بهَا أَسلِحَتهم، يُقال لها: ذاتُ أَنواطٍ، فمَرَرنَا بسِدرَةٍ، فقُلنا: يا رسُولَ اللهِ! اجعَل لنَا ذاتَ أَنواطٍ كمَا لَهُم ذاتُ أنوَاطٍ. فقَال رسُولُ اللهِ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: "اللهُ أَكبَرُ! إِنَّهَا السُّنَنُ! قُلتُم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَت بَنُو إِسرَائِيلَ لِمُوسَى: "اِجعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُم قَومٌ تَجهَلُونَ" [الأعراف: 138]، لَتَركَبُنَّ سُنَنَ مَن كَانَ قَبلَكُم". رواه التِّرمذي وصحَّحه.


قوله: "خَرَجنَا مَعَ النَّبِيِّ ـ صلَّى الله علَيه وسلَّم ـ"، أي: بعد غزوة الفَتح.

قوله: "حُدَثَاءُ" أي: أنَّنا قرِيبُو عهدٍ بكُفرٍ، وإنَّما ذكر ذلِك ـ رضي الله عنه ـ للاِعتذار لطَلَبِهم وسُؤالهم، ولو وقَر الإيمانُ في قلُوبِهم لم يسأَلوا هذا السُّؤال.

قوله: "يَعكُفُونَ عِندَهَا"، أي: يُقِيمون عليها، والعُكوف: ملازمةُ الشَّيء.

قوله: "يُقَالُ: لَهَا ذَاتُ أَنوَاطٍ"؛ لأنَّها تُناط فيها الأسلِحة، وتُعلَّق عليها رجاءَ برَكتِها.

قوله: "اللهُ أَكبَرُ": أي: استِعظامًا لطَلَبِهم وتعجُّبًا، لا فرَحًا به، كيف يقُولون هذا القَول وهم آمنوا بأنَّه لا إله إلاَّ الله؟! لكن: "إِنَّهَا السُّنَنُ"، أي: الطُّرق الَّتي يسلُكها العِباد.

قوله: "قُلتُم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ ..."، أي: إنَّ الرَّسولَ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قاس ما قاله الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ على ما قاله بنو إسرائيل لموسى حين قالوا: اجعَل لنا إلهًا كما لهم آلهةٌ، فأنتم طلَبتُم ذاتَ أنواطٍ، كما أنَّ لهؤلاء المشرِكين ذاتَ أنواطٍ.

قوله: "لَتَركَبُنَّ سُنَنَ مَن كَانَ قَبلَكُم"، أي: لتَفعلُنَّ مثلَ فِعلِهم، ولتقُولُنَّ مثلَ قولِهم، وهذا لا يرادُ به الإِقرارُ، وإنَّما التَّحذِير.

مُناسَبةُ الحدِيث للبَاب: والشَّاهد مِن هذا الحديث قولُهم: "اِجعَل لَنَا ذَاتَ أَنوَاطٍ كمَا لَهُم ذاتُ أَنواطٍ"، فأنكَر علَيهم النَّبِيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ.

كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

حسن بوقليل 29 Jun 2010 10:28 AM

بَابُ ما جاءَ في الذَّبح لغَيرِ اللهِ
 
بَابُ ما جاءَ في الذَّبح لغَيرِ اللهِ


قوله: "في الذَّبح"، أي: ذبح البهائم، [أو غيرها مما يتقرب به].

قوله: "لغَير اللهِ" أي: قاصدًا بذبحه غيرَ الله؛ من الأنبياء، والملائكة، والأولياء، وغيرهم.

والذَّبح لغير الله ينقسم إلى قسمين:
أن يذبح لغير الله تقرُّبًا وتعظيمًا؛ فهذا شركٌ أكبرُ مخرِجٌ عن الملَّة.
أن يذبح لغير الله فرَحًا وإكرامًاً؛ فهذا مباحٌ.
ومراد المؤلِّف هنا القِسم الأول.
فلو قدِم السُّلطان إلى بلدٍ، فذبحنا له، فإن كان تقرُّبًا وتعظيمًا؛ فإنَّه شركٌ أكبرُ، وتحرُم هذه الذَّبائح، وعلامة ذلِك: أنَّنا نذبحها في وجهِه ثمَّ ندعُها.
أمَّا لو ذبحنا له إكرامًا وضيافَةً، وطبخت، وأكلت، فهذا من باب الإكرام، وليس بشركٍ.

وقوله في التَّرجمة: "بابُ ما جَاء في الذَّبح لغير الله"، أشار إلى الدَّليل دون الحكم، ومثل هذه التَّرجمة يترجم بها العُلماء للأمور الَّتي لا يجزمون بحكمها، أو الَّتي فيها تفصيلٌ، وأمَّا الأمور الَّتي يجزمون بها؛ فإنَّهم يقولونها بالجزم، مثل (باب وجُوب الصلاة)، و(باب تحريم الغِيبة)، ونحو ذلك.
والمؤلِّف ـ رحمه الله تعالى ـ لا شكَّ أنَّه يرى تحريم الذَّبح لغير الله على سبيل التَّقرُّب والتَّعظيم، وأنَّه شركٌ أكبَرُ، لكنَّه أراد أن يمرِّن الطَّالب على أخذ الحكم من الدَّليل، وهذا نوعٌ من التَّربية العلمِيَّة، فإنَّ المعلِّم أو المؤلِّف يدع الحكم مفتوحًا، ثمَّ يأتي بالأدلَّة لأجل أن يكِلَ الحكم إلى الطَّالب، فيحكم به على حسب ما سيق له من هذه الأدلَّة.

وقول الله تعالى: "قُل إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ" الآية [الأنعام: 162-163]


قوله: "إِنِّ صَلاَتِي وَنُسُكِي"، النُّسك لغةً: العبادة، وفي الشَّرع: ذبح القربان.
ويُحمَل في الآية على المعنى الشَّرعي.
وقيل: تحمل على المعنى اللُّغوي؛ لأنَّه أعمُّ، فالنُّسك العبادة، كأنَّه يقول: أنا لا أدعو إلا الله، ولا أعبد إلا الله، وهذا عامٌّ للدُّعاء والتَّعبُّد.
فإنَّ الصَّلاة أعلى العِبادات البدنِيَّة، والذَّبح أعلى العبادات الماليَّة؛ لأنَّه على سبِيل التَّعظيم لا يقَع إلاَّ قربةً، هكذا قرَّر شيخ الإسلام ابن تيميَّة في هذه المسألة.
ويحتَاج إلى مناقشةٍ في مسألةٍ أنَّ القربان أعلى أنواع العِبادات المالية، فإنَّ الزَّكاة لا شكَّ أنَّها أعظَم، وهي عبادَةٌ مالِيَّةٌ.

قوله: "مَحيَايَ وَمَمَاتِي"، أي: حياتي وموتي، أي: التَّصرُّف فِيَّ وتدبِيرُ أمرِي حيًّا وميِّتًا لله.
وفي قوله: "صَلاَتِي وَنُسُكِي" إثباتُ توحِيد العِبادة، وفي قوله: "مَحيَايَ وَمَمَاتِي" إثباتُ توحيد الرُّبوبية.

قوله: "لله"، خبر إن، والله: علم على الذات الإلهية.

قوله: "رَبِّ العَالَمِينَ"، أي: ما سوَى الله، وسُمِّي بذلِك؛ لأنَّه علَمٌ على خالِقه.
والرَّبُّ هنا: المالك المتصرِّف، وهذه ربوبيَّةٌ مطلَقةٌ.

قوله: "لاَ شَرِيكَ لَهُ": في عبادتِه، ولا في ربوبيَّتِه، ولا أسمائِه وصفاتِه.
وقد ضلَّ من زعَم أنَّ لله شركاءَ؛ كمَن عبَد الأصنامَ، أو عيسى بنَ مريم ـ عليه السَّلام ـ، وكذلك بعضُ غلاة الشُّعراء الَّذِين جعَلُوا المخلُوقَ بمنزِلَة الخالِق، كقَول بعضِهم يخاطِبُ ممدوحًا له:
فَكُن كَمَن شِئتَ يَا مَن لا شبِيهَ لَهُ *** وكَيفَ شِئتَ فَمَا خَلقٌ يُدانِيكَ
وكقَول البُوصِيري في قصيدته:
يا أَكرَمَ الخَلقِ مَا لِي مَن أَلُوذُ بِهِ *** سِوَاكَ عِند حُلولِ الحادِث العَمَمِ
إِن لَم تَكُن آخِذًا يَومَ المعَادِ يَدِي *** فضلاً وإِلاَّ فقُل يَا زَلَّةَ القَدَمِ
فَإِنَّ مِن جُودِكَ الدُّنيَا وَضَرَّتَهَا *** وَمِن عُلُومِكَ عِلمَ اللَّوحِ وَالقَلَمِ
وهذا من أعظم الشِّرك؛ لأنَّه جعل الدُّنيا والآخِرة من جُود الرَّسول، ومقتضاه أنَّ الله ـ جلَّ ذِكرُه ـ ليس له فيهما شيءٌ.
وقال: إنَّ "مِن عُلُومِكَ عِلمَ اللَّوحِ والقَلَمِ"، يعني: وليس ذلك كلَّ علومِك، فما بقي لله علمٌ ولا تدبيرٌ ـ والعياذ بالله ـ.
قوله: "وَبِذَلِكَ أُمِرتُ"، وإنَّما خصَّ بذلك؛ لأنَّه أعظم المأمورَاتِ، وهو الإخلاص لله تعالى ونفي الشِّرك، فكأنَّه ما أُمِر إلاَّ بهذا، ومعلومٌ أنَّ مَن أخلَص لله تعالى، فسيقُوم بعبادَةِ اللهِ ـ سبحانه وتعالى ـ في جميع الأمور.

قوله: "وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ"، يحتمل أنَّ المراد الأوَّلِيَّة الزَّمنِيَّة، فيتعيَّنُ أن تكُون أوَّلِيَّةً إضافِيَّةً ويكون المراد: أنا أوَّل المسلمين من هذِه الأمَّة؛ لأنَّه سبقه في الزَّمن من أسلَمُوا.
ويحتمل أنَّ المراد الأوَّلِيَّةُ المعنوِيَّة، فإنَّ أعظم النَّاس إسلامًا وأتمَّهُم انقيادًا هو الرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فتكون الأوَّلِيَّة أوَّلِيَّةً مطلَقَةً.

والشَّاهِد مِن الآيَة: أنَّ الذَّبح لا بُدَّ أن يكُونَ خالِصًا لله.

وقوله: "فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ".


قوله: "فَصَلِّ"، الفاء للسَّببِيَّة عاطِفةٌ على قوله: "إِنَّا أَعطَينَاكَ الكَوثَرَ"، أي: بسَبب إعطائِنا لكَ ذلِك صلِّ لربِّك وانحَر شُكرًا له على هذِه النِّعمة.
والمراد بالصَّلاة هنا الصَّلاةُ المعروفة شرعًا.

وقوله: "وَانْحَرْ"، أي: اذبَح، أي اجعل نحرَك لله كما أنَّ صلاتَك له.
فأفادَت هذه الآية الكريمة أنَّ النَّحر من العبادَة، ولهذا أمرَ اللهُ به وقرَنَهُ بالصَّلاة.
ويدخُل فيه كلُّ ما ثبتَت مشروعِيَّتُه؛ وهي ثلاثة أشيَاء: الأضاحي، والهدايا، والعقائِق.

[والشَّاهِد مِن الآيَة: أنَّ الله أمرَ بالذَّبح؛ فهُو عبادَةٌ لا يجُوز أن تُصرَف لغَيره].

عن علِيٍّ ـ رضي الله عنه ـ، قال: "حَدَّثَنِي رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأَربَعِ كلِماتٍ: "لَعَنَ اللهُ مَن ذَبَحَ لِغَيرِ اللهِ، لَعَنَ اللهُ مَن لَعَنَ وَالِدَيهِ، لَعَنَ اللهُ مَن آوَى مُحدِثًا، لَعَنَ اللهُ مَن غَيَّرَ مَنَارَ الأَرضِ" رواه مسلم.


قوله: "كَلِمَاتٍ": قال شيخُ الإسلام: "لا تُطلَق الكلِمةُ في اللُّغة العربِيَّة إلاَّ على الجُملة المفِيدَة".

قوله: "لَعَنَ اللهُ"، اللَّعن مِن الله: الطَّرد والإِبعاد عن رَحمةِ الله.
ويحتمل أن تكون الجملة خبرِيَّةً، ويحتمل أن تكون إنشائِيَّة بلفظ الخبَر، والخبَرُ أبلَغ؛ لأنَّ الدُّعاء قد يُستَجاب، وقد لا يُستَجاب.

قوله: "مَن ذَبَحَ لِغَيرِ اللهِ"، عامٌّ يشمل من ذبح بعيرًا، أو بقرَةً، أو دجاجَةً، أو غيرَها، ويشمل كلَّ مَن سِوى اللهِ؛ حتَّى لو ذبَح لنَبِيٍّ، أو مَلَكٍ، أو جِنِّيٍّ، أو غيرِهم.

قوله: "مَن لَعَنَ وَالِدَيهِ"، يشمَل الأبَ والأمَّ، ومَن فوقَهما.
والمسألة هنا ليسَت مالِيَّةً، بل هي من الحُقوق، ولعن الأدنى أشَدُّ مِن لعن الأعلَى؛ لأنَّه أولى بالبِرِّ، ولعنُه ينافِي البِرَّ.
ولعنُ الوالِدَين، أي: سبُّهما وشتمُهما، فاللَّعن من الإنسان السَّبُّ والشَّتم، لأنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيل له: كيف يلعَنُ الرَّجل والدَيه؟ قال: "يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ" [البخاري ومسلم].

قوله: "مَن آوَى مُحدِثًا"، أي: ضمَّهُ إليه وحمَاهُ، والإِحداث: يشمَلُ الإِحداث في الدِّين؛ كالبِدَع، والإِحداث في الأَمرِ، في شؤون الأمَّة؛ كالجرائِم وشبهِها.
فمن آوى محدِثًا؛ فهو مَلعُونٌ، وكذا من ناصَرَهُم؛ لأنَّ الإِيواء أن تأوِيه لكفِّ الأذَى عنه، فمن ناصرَهُ، فهو أشدُّ وأعظَم.

قوله: "مَن غَيَّرَ مَنَارَ الأَرضِ"، أي: علاماتِها ومراسِيمَها الَّتي تحدِّدُ بين الجِيران، فمَن غيَّرَها ظُلمًا‌، فهو مَلعُونٌ، وما أكثَر الَّذِين يغيِّرونَ منارَ الأرضِ، لا سيما إذا زادَت قيمَتُها، وما علِمُوا أنَّ الرَّسولَ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يقول: "مَنِ اقتَطَعَ شِبرًا مِنَ الأَرضِ ظُلمًا؛ طُوِّقَهُ مِن سَبعِ أَرَضِينَ" [رواه مسلم].

والشَّاهِد مِن الحدِيث: أنَّ النَّبِيَّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ لعَنَ مَن ذبَحَ لغَيرِ الله؛ فهو دلِيلٌ أنَّه مِن الكبائِر، بل هو مِن الشِّرك.

وعن طارِق بن شِهابٍ، أنَّ رسُولَ اللهِ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قال: "دَخَلَ الجَنَّةَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ، وَدَخَلَ النَّارَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ" قالوا: وكيفَ ذلِك يا رسُولَ الله؟ قال: "مَرَّ رَجُلاَنِ عَلَى قَومٍ لَهُم صَنَمٌ لاَ يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيئًا، فَقَالُوا لأَحَدِهِمَا: قَرِّبْ. قَالَ: لَيسَ عِندِي شَيءٌ أُقَرِّبُهُ. قَالُوا لَهُ: قَرِّبْ وَلَو ذُبَابًا. فَقَرَّبَ ذُبَابًا، فَخَلَّوا سَبِيلَهُ، فَدَخَلَ النَّارَ. وَقَالُوا لِلآخَرِ: قَرِّبْ. فَقَالَ: مَا كُنتُ لأُقَرِّبَ لأَحَدٍ شَيئًا دُونَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ. فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَدَخَلَ الجَنَّةَ" رواه أحمد.


قوله: "عن طارِق بنِ شِهابٍ"
في الحديث علَّتان:
الأولى: أنَّ طارق بن شِهابٍ اتَّفقوا على أنَّه لم يسمَع من النَّبِيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ، واختَلفُوا في صحبَتِه، والأكثرون على أنَّه صحابِيٌّ.
لكن إذا قُلنا: إنَّه صحابِيٌّ، فلا يضُرُّ عدَمُ سماعِه من النَّبِيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ؛ لأنَّ مرسل الصَّحابي حجَّةٌ، وإن كان غيرَ صحابِيٍّ؛ فإنَّه مرسل غيرِ صحابِيٍّ، وهو مِن أقسام الضَّعيف.
الثَّانية: أنَّ الحديث مُعنعَنٌ من قِبَل الأعمَش، وهو من المدلِّسين، وهذا آفةٌ في الحديث.
فالحدِيث في النَّفس منه شيءٌ من أجل هاتَين العِلَّتين.
ثمَّ للحديث علَّةٌ ثالثةٌ، وهي أنَّ الإمام أحمَد رواه عن طارقٍ عن سَلمان موقوفًا من قوله، وكذا أبو نعيم وابن أبي شَيبة، فيحتمل أنَّ سلمان أخذَهُ عن بني إسرائِيل.

قوله: "فِي ذُبَابٍ"، أي: بسَببِ ذُبابٍ، ونظيرُه قول النَّبِيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: "دَخَلَتِ النَّارَ امرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتهَا" أي: بسَببِ هِرَّةٍ.

قوله: "فَدَخَلَ النَّارَ"، مع أنَّه ذبَح شيئًا حقِيرًا لا يُؤكَل، لكن لمَّا نوَى التَّقرُّبَ به إلى هذا الصَّنم، صار مشرِكًا، فدخَل النَّار.

كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

حسن بوقليل 07 Jul 2010 07:31 AM

بَاب لا يُذبَح لله بمكانٍ يُذبَح فيه لغَير الله
 
بَاب لا يُذبَح لله بمكانٍ يُذبَح فيه لغَير الله

هذا الانتقال من المؤلف من أحسن ما يكون، ففي الباب السابق ذكر الذبح لغير الله، فنفس الفعل لغير الله.
ومثاله: مَن يريد أن يضحِّي لله في مكان يُذبح فيه للأصنام، فلا يجوز أن يذبح فيه؛ لأنه موافقة للمشركين في ظاهِر الحال، وربما أدخل الشَّيطان في قلبه نيَّةً سيِّئةً، فيعتقد أن الذبح في هذا المكان أفضل، وما أشبه ذلك، وهذا خطر.

وقول الله تعالى: "لاَ تَقُم فِيهِ أَبَدًا" الآية [التوبة: 108].


قوله: "لاَ تَقُم فِيهِ"، أي: مسجد الضرار؛ حيث بني على نية فاسدة، قال تعالى: "وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسجِدًا ضِرَارًا وَكُفرًا وَتَفرِيقًا بَينَ المُؤمِنِينَ وَإِرصَادًا لِمَن حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ" [التوبة: 107]، والمتَّخِذون هم المنافقون، وغرضهم من ذلك:
1- مضارَّة مسجِد قباء: ولهذا يسمَّى مسجد الضِّرار.
2- الكفر بالله: لأنَّه يُقرَّر فيه الكفر ـ والعياذ بالله ـ؛ لأنَّ الَّذين اتَّخذوه هم المنافقون.
3- التَّفريق بين المؤمنين: فبدلاً من أن يصلِّي في مسجد قُباء صفٌّ أو صفَّان يصلِّي فيه نِصفُ صفٍّ، والباقون في المسجد الآخر، والشَّرع له نظر في اجتِماع المؤمنين.
4- الإرصاد لمن حارَب الله ورسُولَه؛ يقال: إنَّ رجلاً ذهب إلى الشَّام، وهو أبو عامر الفاسِق، وكان بينَه وبين المنافقين الَّذين اتَّخذوا المسجِد مراسلات، فاتَّخذوا هذا المسجد بتوجِيهاتٍ منه، فيجتمعون فيه لتقرير ما يريدونه من المكر والخديعة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، قال الله تعالى: "وَلَيَحلِفُنَّ إِن أَرَدنَا إِلاَّ الحُسنَى" [التوبة: 107]، فهذه سنَّة المنافقين: الأيمان الكاذِبة.
والجواب على هذا اليمين الكاذب: "وَاللهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ"؛ لأنَّه ما يعلَم ما في القلوب إلاَّ علاَّمُ الغُيوب.

قوله: "أَبَدًا" إشارَةٌ إلى أنَّ هذا المسجِد سيَبقى مسجِد نِفاقٍ.

قوله: "لَمَسجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقوَى"، في هذا التَّنكير تعظِيمٌ للمَسجد، بدليل قوله: "أُسِّسَ عَلَى التَّقوَى"، أي: جعلت التَّقوى أساسًا له، فقام عليه.

قوله: "يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا"، بخلاف من كان في مسجد الضرار، فإنهم رجس، كما قال الله تعالى في المنافقين: "سَيَحلِفُونَ بِاللهِ لَكُم إِذَا انقَلَبتُم إِلَيهِم لِتُعرِضُوا عَنهُم فَأَعرِضُوا عَنهُم إِنَّهُم رِجسٌ" [التوبة: 95].
وطهارتهم تشمل طهارة القلب من النفاق والحسد والغل وغير ذلك، وطهارة البدن من الأقذار والنجاسات والأحداث.

وجهُ المناسَبة من الآية:
أنه لما كان مسجد الضِّرار مما اتُّخِذ للمعاصي ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين، نهى اللهُ رسُولَه أن يقوم فيه، مع أن صلاته فيه لله، فدل على أن كل مكان يعصى الله فيه أنه لا يقام فيه، فهذا المسجد متخذ للصلاة، لكنه محل معصية، فلا تقام فيه الصلاة.
وكذا لو أراد إنسان أن يذبح في مكان يذبح فيه لغير الله كان حرامًا، لأنه يشبه الصلاة في مسجد الضرار.
وقريب من ذلك النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، لأنهما وقتان يسجد فيهما الكفار للشمس، فهذا باعتبار الزمن والوقت والحديث الذي ذكره المؤلف باعتبار المكان.

وَعَن ثَابِت بن الضَّحَّاك ـ رضي الله عنه ـ، قال: نذَرَ رَجُلٌ أن يَنحَر إِبِلاً ببُوَانَة، فسأَل النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال: "هَل كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِن أَوثَانٍ الجَاهِلِيَّةِ يُعبَدُ؟". قالوا: لا. قال: "فَهَل كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِن أَعيَادِهِم؟". قالوا: لا. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أَوفِ بِنَذرِكَ، فَإِنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِنَذرٍ فِي مَعصِيَةِ اللهِ، وَلاَ فِيمَا لاَ يَملِكُ ابنُ آدَمَ". رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما.


قوله: "نَذَرَ"، النَّذر في اللغة: الإلزام والعهد.
واصطلاحًا: إلزامُ المكلَّف نفسَه لله شيئًا غيرَ واجِبٍ.
وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله.

قوله: "ببُوَانَة"، مكان يسمَّى بُوانَة.

قوله: "هَل كَانَ فِيهَا وَثَنٌ"، الوثَن: كل ما عُبِد من دون الله، من شجر، أو حجر، سواء نُحِت أو لم يُنحَت.
والصَّنم يختص بما صنعه الآدمي.

قوله: "الجَاهِلِيَّة"، نسبة إلى ما كان قبل الرسالة، وسميت بذلك، لأنهم كانوا على جهل عظيم.

قوله: "يُعبَدُ"، صفة لقوله: "وَثَنٌ"، وهو بيان للواقع، لأن الأوثان هي التي تعبد من دون الله.

قوله: "عِيدٌ"، العِيد: اسم لما يَعُود أو يتَكَرَّر، والعَود بمعنى الرُّجوع، أي: هل اعتاد أهل الجاهلية أن يأتوا إلى هذا المكان ويتخذوا هذا اليوم عيدًا، وإن لم يكن فيه وثَنٌ.
فسأَل النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أمرين: عن الشرك، ووسائله.
فالشرك: هل كان فيها وثن؟
ووسائله: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟

قوله: "أَوفِ بِنَذرِكَ"، هل المراد به المعنى الحقيقي أو المراد به الإباحة؟
الجواب: يحتمل أن يراد به الإباحة، ويحتمل أن يراد به المعنى الحقيقي، فبالنسبة لنحر الإبل المراد به المعنى الحقيقي.
وبالنسبة للمكان المراد به الإباحة، لأنه لا يتعين أن يذبحها في ذلك المكان، إذ إنه لا يتعين أي مكان في الأرض إلا ما تميَّز بفضل، والمتميز بفضل المساجد الثلاثة، فالأمر هنا بالنسبة لنحر الإبل من حيث هو نحر واجب.
وبالنسبة للمكان، فالأمر للإباحة، بدليل أنه سأل هذين السؤالين، فلو أجيب بنعم، لقال: لا توف، فإذا كان المقام يحتمل النهي والترخيص، فالأمر للإباحة.
ثم علل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك بانتفاء المانع، فقال:
"فَإِنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِنَذرٍ فِي مَعصِيَةِ اللهِ"، أي: لا يمكن أن توفي بنذر في معصية الله، لأنه لا يتقرب إلى الله بمعصيته، وليست المعصية مباحة حتى يقال افعلها.

وقوله: "وَلاَ فِيمَا لاَ يَملِكُ ابنُ آدَمَ" الَّذي لا يملكه ابنُ آدم يحتَمِل معنَيَين:
الأوَّل: ما لا يملك فعله شرعًا؛ كما لو قال: لله على أن أعتق عبد فلان، فلا يصح لأنه لا يملك إعتاقه.
الثَّاني: ما لا يملك فعله قدرًا؛ كما لو قال: لله عليّ نذر أن أطير بيدي فهذا لا يصح لأنه لا يملكه والفقهاء رحمهم الله يمثلون بمثل هذا للمستحيل.

الشاهد من الحديث: أن الذبح لله بمكان فيه معصية أو شرك لا يجوز؛ ولهذا استفسر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من السائل.


كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

حسن بوقليل 15 Jul 2010 10:08 AM

بابٌ من الشِّرك النَّذرُ لغير الله
 
بابٌ من الشِّرك النَّذرُ لغير الله

النَّذر لغير الله مثل أن يقول: "لفلان عليَّ نذرٌ"، أو "لهذا القبر عليَّ نذرٌ"، تقرُّبًا.
والفرق بينه وبين نذر المعصية:
أن النَّذر لغير الله ليس لله أصلاً، ونذر المعصية لله؛ ولكنَّه على معصية من معاصيه، مثل أن يقول: "لله عليَّ نذرٌ أن أفعل كذا وكذا من معاصي الله"، فيكون النَّذر والمنذور معصِيةً.
ونظير هذا:
ـ الحلِف بالله على شيءٍ محرَّمٍ. نحو: "والله لأسرقن".
ـ الحلِف بغير الله. نحو: "والنَّبِيِّ لأفعلَنَّ كذا وكذا
ـ نذر المعصية.

[حكم النذر لغير الله]:
وحكم النَّذر لغير الله شركٌ؛ لأنه عبادة للمنذور له، وإذا كان عبادَةً، فقد صرَفها لغير الله، فيكون مشرِكًا.
وهذا النَّذر لغير الله لا ينعقِد إطلاقًا، ولا تجِب فيه كفَّارةٌ، بل هو شِركٌ تجِب التَّوبة منه، كالحلِف بغير الله؛ فلا ينعقِد وليس فيه كفَّارةٌ.
وأمَّا نذر المعصِية؛ فينعقِد ولكن لا يجوز الوفاء به، وعليه كفَّارة يمين، كالحلِف بالله على المحرَّم ينعقِد، وفيه كفَّارةٌ.

وقول الله تعالى: "يُوفُونَ بِالنَّذرِ" [الإنسان: 7]


قوله: "يُوفُونَ بِالنَّذرِ"، هذا مدحٌ للأبرار، وهو يقتضي أن يكون عبادَةً؛ لأنَّ الإنسان لا يُمدَح ولا يستحِقُّ دخول الجنَّة إلاَّ بفِعل شيءٍ يكون عبادَةً.
[تعقِيبٌ مفِيدٌ]
ولو أعقَب المؤلِّف هذه الآية بقوله تعالى: "وَلْيُوفُوا نُذُورَهُم" [الحج: 29] لكان أوضح؛ لأنَّه أمرٌ، والأمر بوفائِه يدلُّ على أنَّه عبادَةٌ؛ لأنَّ العِبادة "ما أُمِر به شرعًا".

وجه استِدلال المؤلِّف بالآية على التَّرجمة:
أنَّ الله تعالى أثنى عليهم بذلك، وجعله مِن الأسباب الَّتي بها يدخُلون الجنَّة، ولا يكون سببًا يدخُلون به الجنَّة إلاَّ وهو عبادَةٌ، فيقتضي أنَّ صرفَه لغير الله شِركٌ.

وقوله: "وَمَا أَنفَقتُم مِن نَفَقَةٍ أَو نَذَرتُم مِن نَذرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعلَمُهُ" [البقرة: 270].


قوله: "ما": شرطية، و"أَنفَقتُم أَو نَذَرتُم مِن نَذرٍ": فعل الشَّرط، وجوابه: "فَإِنَّ اللهَ يَعلَمُهُ".
والنَّفقة: بذل المال، وقد يكون في الخير، وقد يكون في غيره.
وتعليق الشَّيء بعِلم الله دليلٌ على أنَّه محلُّ جزَاءٍ؛ إذ لا نعلَم فائِدةً لهذا الإخبار بالعِلم إلاَّ لترتُّب الجزاء عليه، وترتُّب الجزاء عليه يدلُّ على أنَّه من العِبادة الَّتي يُجازَى الإنسان عليها.
وهذا وجه استِدلال المؤلِّف بهذه الآيَة.

وَفِي "الصَّحِيح" عَن عائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قال: "مَن نَذَرَ أَن يُطِيعَ اللهَ، فَلْيُطِعْهُ، وَمَن نَذَرَ أَن يَعصِيَ اللهَ، فَلاَ يَعصِهِ". [رواه البخاري].


قوله: "مَن نَذَرَ"، شرطية تفيد العُموم، وهل تشمل الصَّغير؟
قال بعض العلماء: تشمَلُه؛ فينعقِد النَّذر منه.
وقيل: لا تشمَلُه؛ لأنَّ الصَّغير ليس أهلاً للإلزام ولا للاِلتزام، وبناءً على هذا يخرُج الصَّغير من هذا العموم؛ لأنَّه ليس أهلاً للإلزام ولا للالتزام.

قوله: "أَن يُطِيعَ اللهَ"، الطَّاعة: هي فعل المأمور به، وترك المنهي عنه.

قوله: "فَلْيُطِعْهُ"، ظاهره: يشمل ما إذا كانت الطَّاعة المنذورة جنسها واجب، كالصلاة والحج وغيرهما، أو غير واجب، كتعليم العلم وغيره.
وظاهره أيضًا أنه يشمل:
ـ النَّذر المطلَق: ليس له سبَبٌ، مثل: "لله عليَّ أن أصوم ثلاثة أيَّام".
ـ النَّذر المعلَّق: معلَّقٌ بحصول سبَبٍ، مثل: "إن نجَحتُ، فلِله عليَّ أن أصوم ثلاثة أيَّامٍ".

[حُكم النَّذر]
واعلم أنَّ النَّذر لا يأتي بخيرٍ ولو كان نذر طاعَةٍ؛ و"إِنَّمَا يُستَخرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ"، ولهذا نهى عنه النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ، وبعض العلماء يحرِّمه.
وإليه يمِيل شيخُ الإسلام ابن تيمِيَّة للنَّهي عنه، ولأنَّك تُلزِم نفسك بأمرٍ أنت في عافِيةٍ منه، وكم من إنسانٍ نذَر وندِم، وربَّما لم يفعل.
ويدلُّ لقوَّة القَول بتحريم النَّذر:
ـ قوله تعالى: "وَأَقسَمُوا بِاللهِ جَهدَ أَيمَانِهِم لَئِن أَمَرتَهُم لَيَخرُجُنَّ"، فهذا التِزامٌ مؤكَّدٌ بالقَسَم فيُشبِه النَّذر، "قُل لاَ تُقسِمُوا طَاعَةٌ مَعرُوفَةٌ" [النور: 53]، أي: عليكم طاعةٌ معروفةٌ بدون يمِينٍ، والإنسان الَّذي لا يفعل الطَّاعة إلا بالنَّذر، أو حلَف على نفسِه يعني أنَّ الطَّاعة ثقِيلةٌ عليه.
ـ أنَّ النَّاذر كأنَّه غير واثقٍ بالله ـ عزَّ وجلَّ ـ؛ فكأنَّه يعتقد أنَّ الله لا يُعطِيه الشِّفاء إلاَّ إذا أعطاه مقابَلةً، ولهذا إذا أيِسوا من البُرء ذهبوا ينذُرون، وفي هذا سُوء ظنٍّ بالله ـ عزَّ وجلَّ ـ.
والقَول بالتَّحريم قولٌ وجِيهٌ.
فإن قِيل: كيف تحرِّمون ما أثنى الله على مَن وفَّى بِه؟
فالجواب: أنَّنا لا نقول: إنَّ الوَفاء هو المحرَّم حتَّى يقال: إنَّنا هدمنا النَّص، إنَّما نقول: المحرَّم أو المكرُوه كراهَةً شديدةً هو (عقد النَّذر)، وفرقٌ بين عَقدِه ووفائِه، فالعقد ابتِدائيٌّ، والوفاء في ثاني الحال تنفيذٌ لما نذر.

قوله: "وَمَن نَذَرَ أَن يَعصِيَ اللهَ؛ فَلاَ يَعصِهِ"، لا: ناهية، والنَّهي بحسب المعصِية؛ فإن كانت المعصِية حرامًا، فالوفاء بالنَّذر حرامٌ، وإن كانت المعصِية مكروهَةً، فالوفاء بالنَّذر مكروهٌ؛ لأنَّ المعصِية الوقوع فيما نهي عنه، والمنهيُّ عنه ينقسِم عند أهل العلم إلى قسمين: منهِيٌّ عنه نهيَ تحرِيمٍ، ومنهيٌّ عنه نهيَ تنزِيهٍ.

كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

حسن بوقليل 20 Nov 2010 12:44 PM

بابٌ من الِّشرك الاستِعاذة بغير الله
 
بابٌ من الِّشرك الاستِعاذة بغير الله

قوله: "مِن الشِّرك": هذه التَّرجمة ليست على إطلاقها؛ لأنَّه إذا استَعاذ بشخصٍ ممَّا يقدِر عليه فإنَّه جائِزٌ.


وقول الله تعالى: "وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ فَزَادُوهُم رَهَقًا" [الجن: 6].

قوله تعالى: "يَعُوذُون بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ"، يقال: عاذَ بِه، ولاذَ بِه، فالعِياذُ ممَّا يُخاف، واللِّياذ فيمَا يُؤمَّل. أي: [أنَّ هؤلاء الإنس] يلتجِئُون إلى [الجِنِّ] ممَّا يحاذِرونَه؛ يظنُّون أنَّهم يُعِيذونهم، وكان العرب في الجاهِليَّة إذا نزَلوا في وادٍ نادَوا بأعلى أصواتهم: "أعوذُ بسيِّد هذا الوادي من سُفهاء قومِه".
ولا زال هذا الجهل في قومنا على صور؛ منها:
ـ قولهم: "مْسَلْمِينْ مْكَتْفِينْ"، أي يُسلِمون أنفسَهم، ويخضعونها للجن، ومنهم من يذبح للجن (عسَّاس الدَّار) استعاذة به من الأذى.
قوله: "فَزَادُوهُم رَهَقًا"، أي: ذُعرًا وخوفًا، بل الرَّهق أشدُّ من مجرَّد الذُّعر والخَوف، فكأنَّهم مع ذُعرهم وخَوفهم أرهقَهم وأضعَفهم شيءٌ، فالذُّعر والخَوف في القلوب، والرَّهَق في الأبدان.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الاستعاذة بالجنِّ حرامٌ؛ لأنَّها لا تفيد المستَعِيذ، بل تزيدُه رهقًا، فعُوقِب بنقيضِ قصدِه، وهذا ظاهِرٌ، فتكون الواو ضميرَ الجنِّ، والهاء ضمير الإنس.
وقيل: إنَّ الإنس زادُوا الجِنَّ رهقًا، أي: استِكبارًا وعتُوًّا، ولكنَّ الصَّحيح الأوَّل.

وجه الاستِشهاد بالآية: ذمُّ المستَعِيذين بغير الله، والمستَعِيذ بالشَّيء لا شكَّ أنَّه قد علَّق رجاءَه به، واعتمد عليه، وهذا نوعٌ مِن الشِّرك.

وعَن خَولَةَ بنتِ حكِيمٍ قالَت: سمِعتُ رسولَ اللهِ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يقول:
"مَن نَزَلَ مَنزِلاً، فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ، لَم يَضُرَّهُ شَيءٌ حَتَّى يَرحَلَ مِن مَنزِلِهِ ذَلِكَ" رواه مسلم.


وقوله: "مَن نَزَلَ مَنزِلاًً" يشمل من نزَلهُ على سبيل الإقامة الدَّائمة، أو الطَّارئة.
وقوله: "أَعُوذُ" بمعنى: ألتَجِئُ وأعتَصِم.
قوله: "كَلِماتِ اللهِ": المراد بالكلمات هنا: الكلمات الكونِيَّة والشَّرعية.
قوله: "التَّامَّاتِ"، تمام الكلام بأمرَين:
1-الصِّدق في الأخبار.
2-العَدل في الأحكام.
قال الله تعالى: "وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً" [الأنعام: 115].
قوله: "مِن شَرِّ مَا خَلَقَ"، أي: من شرِّ الَّذي خلق؛ لأنَّ الله خلَق كلَّ شيءٍ: الخير والشَّر، ولكن الشَّر لا يُنسَب إليه؛ لأنَّه خلقه لحكمةٍ، فعاد بهذه الحكمة خيرًا.
فليس كلُّ ما خلَق الله فيه شرٌّ، لكن تستعِيذُ من شرِّه إن كان فيه شرٌّ؛ لأن مخلوقات الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي:
1-شرٌّ محضٌ؛ كالنَّار وإبليس باعتِبار ذاتَيهما، أمَّا باعتِبار الحكمة الَّتي خلقهما الله من أجلها، فهي خيرٌ.
2-خيرٌ محضٌ؛ كالجنَّة، والرُّسل، والملائكة.
3-فيه شرٌّ وخيرٌ؛ كالإنس، والجنِّ، والحَيوان.
قوله: "لَم يَضُرَّهُ شَيءٌ": نكرة في سياق النَّفي؛ فتفيد العموم من شرِّ كل ذي شرٍّ من الجنِّ والإنس وغيرهم.
قوله: "حَتَّى يَرتَحِلَ مِن مَنزِلِهِ ذَلِكَ": وهذا خبرٌ لا يمكن أن يتخلَّف مخبَره؛ لأنَّه كلام الصَّادق المصدوق، لكن إن تخلَّف؛ فلِوُجود مانعٍ، لا لقُصور السَّبب، أو تخلُّف الخبَر.
قال القرطبي: "وقد جرَّبت ذلك؛ حتَّى إنِّي نسِيتُ ذات يومٍ، فدخلتُ منزِلي ولم أقل ذلك، فلدغتني عقربٌ".

والشَّاهد من الحديث: قوله: "أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ"؛ والاستعاذة بكلمات الله مشروعة؛ إذ هي صفة من صفاته، ولهذا استدل العلماء بهذا الحديث على أن كلام الله من صفاته؛ فهو غير مخلوق.

نقله ـ مختصرا ـ أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

حسن بوقليل 21 Nov 2010 04:17 PM

أرجو المشاركة من طلبة العلم؛ فالأمر ليس بالهين، هذا يتعلق بتوحيد رب العالمين.

حسن بوقليل 24 Nov 2010 09:51 AM

ومما يبكي له القلب ـ حسرة على أهل هذا البلد خاصة ـ أن بعضهم يستعيذ بشيخه، أو بوليه ـ الصالح ـ عند الشدائد والكرب، وليس من رأى كمن سمع كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ في "القواعد الأربع" وغيرها من رسائله المفيدة.
فلهذا ـ إخوتي ـ لا ينبغي أن نظن أن دراسة التوحيد والتحذير من الشرك صارت نظرية في وقتنا، بل إني أعرف من الناس ـ من أهل الثقافة والعولمة ـ من يقع في مطبات الشرك والعياذ بالله.
اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما أعلم.

أبو الفضل لقمان الجزائري 25 Nov 2010 09:29 PM

بارك الله فيك أخي الكريم حسن ونفع بك وبمجهوداتك .
ومما ينبني عليه الكلام في هذا الكتاب الطيب مسألة عظيمة ولعلها من فرائد الردود التي رد بها أهل العلم والتوحيد على أهل الشرك ألا وهي:
هل تحريم الشرك وقبحه استفيد من الشرع فقط أم ذلك قبيح عقلا وشرعا؟.(1)

الجواب:
أن يقال أن الشرك نوعان _شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته.
_ شرك يتعلق بعبادته ومعاملته.
فأما الأول (الذي يتعلق بذاته المعبود وأسمائه وصفاته) :
فنوعان:_شرك التعطيل.
_شرك التمثيل.
وأما الثاني (يتعلق بعبادته ومعاملته): فعدة أنواع:
_شرك الدعوة
_شرح المحبة
_شرك الطاعة
_شرك الإرادة والقصد ...(2)
*1*شرك التعطيل: وهو 3 أقسام:
_تعطيل المخلوق عن خالقه.
_تعطيل الخالق عن كماله.
_تعطيل الخالق عن معاملته(عبادته).
والشرك والتعطيل متلازمان.
فكل مشرك معطل (لأنه عطل حق الله وهو عبادته سبحانه) .
وكل معطل مشرك (لأنه لما عطله عن صفاته ألحقه بالمخلوق فصار شريكا له في صفاته الناقصة أو شبهه بالعدم تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا).
*2*شرك التمثيل (التشبيه) :
وهو قسمان:
_تشبيه الخالق بالمخلوق(التَشْبِيه).
_وتشبيه المخلوق بالخالق(التَشَبُّه).
أما الأول:
فإن المشرك شبه المخلوق بالخالق في خصائص الربوبية والألوهية وهي التفرد بالعطاء والمنع كذا من خصائصه الكمال المطلق وذلك يوجب أن تكون العبادة له وحده عقلا وفطرة وشرعا.
ومن خصائص الألوهية العبودية التي لا تقوم إلا على ساق الذل والحبة فمن أعطاهما لغيره فقد شبهه بالله وأعطاه خالص حقه وقبح هذا مستقر في العقول والفطر لكن الشياطين اجتالت الناس وغيرت فطرهم.
والثاني:
فمن تعاظم وتعالى وتكبر ودعى الناس إلى إطرائه ورجائه وخوفه فقد شبه نفسه الخسيسة بالله رب العالمين وهو حقيق بأن يهينه الله.
وبالجلمة فإن التَشْبِيهَ والتَشَبُّهَ هو حقيقة الشرك.
لذا كان من ظن أنه إذا تقرب إلى غير الله بالعبادة ليقربه بدوره إلى الله جل وعلا فإنه شبهه به سبحانه ومنعه حقه.
فحقيقة الشرك إذا: "منعه سبحانه حقه "وأي ظلم أعظم من هذا وقبحه مستقر شرعا وعقلا لذا لم يشرع في ملة قط ولم يغفر لفاعله.(3)


فبان الجواب والحمد لله .
نسأل الله الإخلاص في الأقوال والأعمال.
____________________
(1) ومما يفيد على هذا الجواب الكلام في مسألة "التحسين والتقبيح العقليين" وهذه قد اختلف فيها الفرق ومن أراد توسعا فليراجع ما زبره حبر الأمة في زمانه أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في مجموع الفتاوى(8/431)وكذا تلميذه ابن القيم في المدارج(360/2).
(2) فليراجع "التنبيهات السنية شرح العقيدة الواسطية" للشيخ عبد العزيز الرشيد رحمه الله.
(3)انتهى ملخصا من كتاب تجريد التوحيد المفيد للمقريزي رحمه الله (766 - 845 هـ ) بتصرف.
وقد طبع الكتاب عدة طبعات ولْيُنَبَّه على تحقيق: علي حسن الحلبي للكتاب التي تتداول في الأسواق فقد أتى فيه بالعجائب والله المستعان!!.
وفيه طبعة جيدة وهي طبعة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 1409 هـ/1989م. دراسة وتحقيق: طه محمد الزيني المصري وهي التي اعتمدها الشيخ أمان الجامي في شرحه والله الموفق.

حسن بوقليل 29 Nov 2010 10:18 AM

باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
 
باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

قوله: "من الشرك أن يستغيث": الاستغاثة: طلب الغوث، وهو إزالة الشدة.
وكلام المؤلف ـ رحمه الله ـ ليس على إطلاقه؛ بل يقيَّد بـ"ما لا يقدر عليه المستغاث به"، إما لكونه ميتًا، أو غائبًا، أو يكون الشَّيء مما لا يقدر على إزالته إلا الله تعالى، فلو استغاث بميت ليدافع عنه أو بغائب أو بحي حاضر لينزل المطر فهذا كله من الشرك، ولو استغاث بحي حاضر فيما يقدر عليه كان جائزًا، قال الله تعالى: "فَاستَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِن عَدُوِّهِ" [القصص: 15].
[تنبيه لكل نبيه]:
وإذا طلبتَ من أحد الغَوث وهو قادر عليه؛ فإنَّه يجب عليك ـ تصحيحًا لتوحيدك ـ أن تعتقِد أنَّه مجرَّد سبَبٍ، وأنَّه لا تأثير له بذاتِه في إزالة الشِّدة؛ لأنَّك ربَّما تعتمد عليه وتنسى خالِق السَّبب، وهذا قادِحٌ في كمال التَّوحيد.

قوله: "أو يدعو غيره": أي من الشرك أن يدعو غير الله؛ وذلك لأنَّ الدُّعاء من العبادة، قال الله تعالى: "وَقَالَ رَبُّكُم ادعُونِي أَستَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" [غافر: 60]، فسمَّى اللهُ الدُّعاءَ عبادةً.
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ العِبَادَةُ".
والدعاء ينقسم إلى قسمين:
1- ما يقع عبادةً؛ وهذا صرفه لغير الله شرك، وهو المقرون بالرَّهبة والرَّغبة، والحبِّ، والتضرُّع.
2- ما لا يقع عبادةً؛ فهذا لا يجوز أن يُوجَّه إلى المخلوق، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مَن دَعَاكُم فَأَجِيبُوهُ"، وقال: "إِذَا دَعَاكَ فَأَجِبهُ"، وعلى هذا، فمراد المؤلِّف ـ رحمه الله ـ بقوله "أو يدعو غيره" دعاء العبادة، أو دعاء المسألة فيما لا يمكن للمسؤول إجابَتُه.

وقول الله تعالى: "وَلاَ تَدعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ" [يونس: 106]
سياق الآية: إمَّا خاصٌّ بالرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والحكم له ولغيره، وإمَّا عامٌّ لكلِّ مَن يصِحُّ خطابُه ويدخُل فيه الرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وكونه يوجه إليه مثل هذا الخطاب لا يقتضي أن يكون ممكنًا منه، ولا يمكن أن يقع منه باعتبار حاله، لا باعتبار كونه إنسانًا وبشرًا.
إذاً، فالحكمة من النهي أن يكون غيره متأسِّيًا به؛ فإذا كان النَّهي موجَّهًا إلى من لا يمكن منه باعتبار حالِه، فهو إلى من يُمكِن منه من باب أولى.

وقوله: "وَلاَ تَدعُ مِن دُونِ اللهِ"، الدُّعاء: طلب ما ينفع، وطلب دفع ما يضر، وهو نوعان كما قال أهل العلم:
الأول: دعاء عبادة؛ وهو أن يكون قائمًا بأمر الله، [وطاعته]؛ لأنَّ القائم بذلك يريد الثواب والنجاة من العقاب، ففعله متضمن للدُّعاء بلسان الحال، وقد يصحب فعله هذا دعاء بلسان المقال.
الثاني: دعاء مسألة؛ وهو طلب ما ينفع، أو طلب دفع ما يضره.
فالأول لا يجوز صرفه لغير الله، والثاني فيه تفصيل سبق.

قوله: "مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ"، أي: ما لا يجلب لك النفع لو عبدته، ولا يدفع عنك الضر، ولو تركت عبادته لا يضرك؛ لأنه لا يستطيع الانتقام، وهو الظاهر من اللفظ.
وهذا الوصف هو لبيان الواقع؛ لأن المدعو من دون الله لا يحصل منه نفع ولا ضرر، قال الله تعالى: "وَمَن أَضَلُّ مِمَّن يَدعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لاَ يَستَجِيبُ لَهُ إِلىَ يَومِ القِيَامَةِ وَهُم عَن دُعَائِهِم غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُم أَعدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِم كَافِرِينَ" [الأحقاف: 5 ، 6].
وهذا الوصف يسمى "صفة كاشفة".

قوله: "فَإِن فَعَلتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ"، أي: إن دعَوتَ من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرُّك؛ فإنَّك حال فعلِك من الظَّالمين، وهو قيدٌ، لكن قد تتوب منه فيزول عنك وصف الظُّلم؛ فالإنسان قبل الفِعل ليس بظالمٍ، وبعد التَّوبة ليس بظالمٍ.
ونوع الظُّلم هنا (ظُلم شِركٍ)؛ قال الله تعالى: "إِنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ" [لقمان: 13]، وقال الله: "مِنَ الظَّالِمِينَ"، ولم يقل: (من المشركين)؛ لأجل أن يبيِّن أنَّ الشِّرك ظُلمٌ؛ لأنَّ كون الدَّاعي لغير الله مشرِكًا أمرٌ بيِّنٌ، لكنَّ كونَه ظالمًا قد لا يكون بيِّنًا من الآية.

قوله: "وَإِن يَمسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ" الآية [يونس: 107]
قوله: "وَإِن يَمسَسْكَ"، أي: يصيبك بضرٍّ؛ كالمرض، والفقر، ونحوه.
قوله: "فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ": وهذا كقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "وَاعلَم أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجتَمَعُوا عَلَى أَن يَنفَعُوكَ بِشَيءٍ لَم يَنفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ لَكَ".

قوله: "وَإِن يُرِدكَ بِخَيرٍ": هناك فرقٌ معنوي بين "يُرِدك" و"يَمسَسكَ"، وهو أنَّ الأشياء المكرُوهة لا تُنسَب إلى إرادةِ الله، بل تُنسَب إلى فعله، أي: مفعوله.

قوله: "فَلاَ رَادَّ لِفَضلِهِ"، أي: لا يستطيع أن يرُدَّ فضلَ الله أبدًا، ولو اجتمعت الأمَّة على ذلك، وفي الحديث: "اللَّهُمَّ! لاَ مَانِعَ لِمَا أَعطَيتَ، وَلاَ مُعطِيَ لِمَا مَنَعتَ".
وعليه؛ فنعتمد على الله في جلب المنافع، ودفع المضار، وبقاء ما أنعم علينا به، ونعلَم أنَّ الأمة مهما بلغت من المكر والكيد والحيل لتمنَع فضلَ الله، فإنَّها لا تستطيع.

الشَّاهد من الآية: قوله: "وَلاَ تَدعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ"؛ فقَد نبَّه اللهُ نبيَّه أنَّ من يدعو أحدًا مِن دون الله لا ينفَعُه ولا يضرُّه.
وكذلك قوله: "وَإِن يَمسَسكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ".


وقولُه: "فَابتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزقَ" [العنكبوت: 17]

لو أتى المؤلف بأول الآية: "إِنَّ الَّذِينَ تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَملِكُونَ لَكُم رِزقًا" لكان أولى؛ فهم يعبُدون هذِه الأوثان ولا تملِك لهم رزقًا أبدًا، فإذا كانت لا تملِك الرِّزق؛ فالَّذي يملِكه هو الله، ولهذا قال: "فَابتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزقَ"، أي: اطلُبوا عندَ اللهِ الرِّزق؛ لأنَّه سبحانه هو الَّذي لا ينقضِي ما عِنده، "مَا عِندَكُم يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ" [النحل: 96].

وقوله: "عِندَ اللهِ": أي: فابتغُوا الرِّزقَ حالَ كونِه عندَ الله لا عندَ غيرِه، ففيه تقديم الحال على صاحبها، وهو يفيد الحصر.

قوله: "وَاعبُدُوهُ"، تذلَّلوا بالطَّاعة؛ لأنَّكم إذا تذلَّلتم له بالطَّاعة، فهو من أسباب الرِّزق، قال تعالى: "وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَل لَهُ مَخرَجًا وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لاَ يَحتَسِبُ" [الطلاق: 3، 4]، فأمر أن نطلُب الرِّزق عندَه، ثمَّ أعقَبه بقوله: "وَاعبُدُوهُ" إشارة إلى أن تحقيق العبادة من طلَب الرِّزق؛ لأنَّ العابد ما دام يؤمن أنَّ مَن يتَّقِ الله يجعل له مخرجًا ويرزُقه من حيث لا يحتَسب، فعبادته تتضمَّن طلبَ الرِّزق بلسان الحال.

قوله: "وَاشكُرُوا لَهُ"، (إذا أضاف الله الشُّكر له متعدِّيًا باللام فهو إشارة إلى الإخلاص)، أي: واشكروا نعمة الله لله؛ لأنَّ الشَّاكر قد يشكُر الله لبقاء النِّعم، وهذا لا بأس به، ولكن كونُه يشكُر لله وتأتي إرادةُ بقاءِ النِّعمة تبَعًا هذَا هو الأكمَلُ والأفضَلُ.
والشُّكر فسَّروه بأنَّه: (القِيام بطاعَة المُنعِم)، وقالوا: إنَّه يكون في ثلاثة مواضِع:
1- في القَلب؛ وهو أن يعترِف بقلبه أنَّ هذِه النِّعمة من الله، فيرى لله فضلاً عليه بها، قال تعالى: "وَمَا بِكُم مِن نِعمَةٍ فَمِنَ اللهِ" [النحل: 53]، وأعظمها نِعمة الإسلام.
2- في اللِّسان؛ وهو أن يتحدَّث بها على وجه الثَّناء على الله والاعتِراف وعدم الجُحود، لا على سبيل الفَخر والخُيَلاء والترفُّع على عباد الله، فيتحدَّث بالغِنى لا ليكسِرَ خاطِر الفقير، بل لأجل الثَّناء على الله، وهذا جائِزٌ كما في قصَّة الأعمى من بني إسرائيل لما ذكَّرهم الملِك بنعمة الله، قال: "نعم، كنتُ أعمَى فرَدَّ اللهُ عليَّ بصَرِي، وكنت فقيرًا فأعطاني اللهُ المالَ"، فهذا من باب التحدُّث بنِعمة الله.
وقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ متحدِّثًا بالنعمة: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَومَ القِيَامَةِ" .
3- في الجوارح؛ وهو أن يستعمِلها بطاعة المنعِم، وعلى حسب ما يختصُّ بهذِه النِّعمة.
فمثلاً: شكر الله على نعمة العِلم: أن تعمل به، وتعلِّمه النَّاس.
وشكر الله على نِعمة المال: أن تصرِفه بطاعة الله، وتنفَع النَّاس به.
وشكر الله على نعمة الطَّعام: أن تستَعمِله في تغذِية البَدن؛ فلا تبني مِن العجِين قصرًا مثلاً، فهو لم يخلق لهذا الشَّيء.

قوله: "إِلَيهِ تُرجَعُونَ"، أي: أنَّ رجوعَنا إلى الله ـ سبحانه ـ، وهو الَّذي سيُحاسبنا على ما حملنا إيَّاه مِن الأمر بالعِبادة، والأمر بالشُّكر، وطلَب الرِّزق منه.

والشَّاهد من هذه الآية: قوله: "إِنَّ الَّذِينَ تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَملِكُونَ لَكُم رِزقًا فَابتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزقَ" [العنكبوت: 17]، فالفقير يستغيث بالله لكي يُنجيه من الفقر، والله هو الَّذي يستحِقُّ الشُّكر، وإذا كانَت هذه الأصنام لا تملِك الرِّزق، فكيف تستغِيثُ بها؟!


يتبع إن شاء الله.

نقله ـ مختصرا ـ أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

مصطفى قالية 30 Nov 2010 09:01 PM

جزاك الله خيرا أخي حسن على هذه السلسلة النافعة بإذن الله فتحقيق التوحيد من أولى وأول ما يجب الاعتناء به، لأن الله إنما خلقنا لعبادته، كما قال سبحانه وتعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} أي: ليوحدون، ولما بعث قدوتنا-صلى الله عليه وسلم- معاذا-رضي الله عنه- إلى أهل اليمن قال له: (( فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى...))[خ - م]، وغير هذا من النصوص الكثيرة التي تدل على فضل معرفة التوحيد وتحقيقه، ومع ذلك فأكثرنا عن هذا الفضل غافلون وإلى غيره منصرفون. فالله المستعان، وها هو شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- يبين أن التوحيد هو أولى ما يجب تعلمه ومعرفته من صاحب القلب والعقل السليمين فيقول في المجموع(5/8): (مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى حَيَاةٍ وَطَلَبٍ لِلْعِلْمِ أَوْ نَهْمَةٍ فِي الْعِبَادَةِ يَكُونُ الْبَحْثُ عَنْ هَذَا الْبَابِ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ فِيهِ أَكْبَرَ مَقَاصِدِهِ وَأَعْظَمَ مَطَالِبِهِ ؛ أَعْنِي بَيَانَ مَا يَنْبَغِي اعْتِقَادُهُ). والله أعلم.

حسن بوقليل 07 Dec 2010 04:37 PM

جزاكم الله خيرا.

تابع للباب السابق (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره)

وقوله: "وَمَن أَضَلُّ مِمَّن يَدعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لاَ يَستَجِيبُ لَهُ إِلىَ يَومِ القِيَامَةِ" الآية [الأحقاف: 5]
قوله تعالى: "وَمَن أَضَلُّ": الاستفهام يراد به هنا النفي، أي لا أحد أضل؛ فيكون أبلغ لأنَّ فيه معنى التحدي، أي: بيِّن لي أحدًا أضلُّ ممَّن يدعو من دون الله.
والضَّلال: أن يتِيه الإنسان عن الطَّريق الصَّحيح.
قوله: "مِمَّن يَدعُو": دعاءَ مسألةٍ، أو دعاءَ عبادَةٍ.
قوله: "مَن لاَ يَستَجِيبُ لَهُ إِلىَ يَومِ القِيَامَةِ": أي؛ لو بقِي كلَّ عمر الدُّنيا يدعو ما استجاب له، قال الله تعالى: "إِن تَدعُوهُم لاَ يَسمَعُوا دُعَاءَكُم وَلَو سَمِعُوا مَا استَجَابُوا لَكُم وَيَومَ القِيَامَةِ يَكفُرُونَ بِشِركِكِم وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثلُ خَبِيرٍ" [فاطر: 14]، يعني: نفسَه سبحانه وتعالى.
قوله: "وَهُم عَن دُعَائِهِم غَافِلُونَ"، الضَّمير في دعائهم يعود إلى المدعوِّين، وهل المعنى: "وَهُم"، أي: الأصنام، "عَن دُعَائِهِم"، أي: دعاء الدَّاعِين إيَّاهُم؛ فيكون من باب إضافة المصدَر إلى مفعوله، أو المعنى: و"هُم" عن دعاء العابِدِين لهم، فيكون "دعاء" مضافًا إلى فاعله، والمفعول محذوف؟
الأوَّل أبلَغ في أنَّ هذه الأصنام لا تُفِيد شيئًا في الدُّنيا ولا في الآخِرة.
قوله: "وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُم أَعدَاءً"، هل المعنى: كان العابِدُون للمعبودِين أعداءً؟ أو كان المعبُودُون للعابِدِين أعداءً؟
الجواب:يشمَل المعنيَين، وهذا من بلاغة القُرآن.
الشَّاهد من الآية: قوله: "مَن لاَ يَستَجِيبُ لَهُ إِلىَ يَومِ القِيَامَةِ"، فإذا كان من سِوى الله لا يستجيب إلى يوم القيامة، فكيف يلِيقُ بك أن تستَغِيث به دونَ الله؟! فبطَل تعلُّق هؤلاء العابِدين بمعبوداتهم.
فالَّذي يأتي للبَدوي أو للدَّسُوقي في مصر، فيقول: المدَد! المدَد! أو: أغِثني، لا يُغنِي عنه شيئًا، ولكن قد يُبتَلَى فيأتِيه المدَد عند حصُول هذا الشَّيء، لا بهذا الشَّيء، وفرقٌ بين ما يأتي بالشَّيء، وما يأتي عند الشَّيء.
مثال ذلك: امرأةٌ دعَت البَدوي أن تحمِل، فلمَّا جامَعها زوجُها حمَلت، وكانت سابِقًا لا تحمِل، فنقول هنا: إنَّ الحَمل لم يحصُل بدُعاء البَدوي، وإنَّما حصَل عندَه؛ لقوله تعالى: "مَن لاَ يَستَجِيبُ لَهُ إِلىَ يَومِ القِيَامَةِ".

وقوله: "أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكشِفُ السُّوءَ" [النمل: 62]
قوله تعالى: "المُضطَرَّ"، أصلها: المُضتَرُّ، أي: الَّذي أصابه الضَّرر، قال تعالى: "وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ" [الأنبياء: 84]، فلا يجيب المضطَرَّ إلاَّ اللهُ، لكن قيَّده بقوله: "إِذَا دَعَاهُ"، أمَّا إذا لم يَدعُه، فقد يكشِفُ الله ضرَّه، وقد لا يكشِفه.
قوله: "وَيَكشِفُ السُّوءَ"، أي: يُزِيل السُّوء، وهو ما يسُوء المرء، وهو دون الضَّرورة؛ لأنَّ الإنسان قد يُساء بما لا يضُرُّه، لكن (كلُّ ضرورَةٍ سُوءٌ).
وهل كشف السُّوء متعلِّقٌ بإجابة المُضطَرِّ؟ أو أنَّه أمرٌ آخَر غير متعلِّقٍ به؟
الجواب: المعنى الأخير أعمُّ؛ لأنَّها تشمل كشفَ سوء المضطَرِّ وغيره، ومن دعا الله ومَن لم يدعُه، وعلى التَّقدير الأوَّل تكون خاصَّة بكشف سوء المضطَرِّ، ومعلوم أنَّه (كلَّما كان المعنى أعمَّ كان أَولى)، ويؤيِّد العُموم قوله: "وَيَجعَلُكُم خُلَفَاءَ الأَرضِ".
قوله: "وَيَجعَلُكُم خُلَفَاءَ الأَرضِ"، الَّذِين يجعلهم اللهُ خُلَفاء الأرض هم عباد الله الصَّالحون، قال تعالى: "وَلَقَد كَتَبنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذِّكرِ أَنَّ الأَرضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ" [الأنبياء: 105]، وقال تعالى: "وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدُونَنِي لاَ يُشرِكُونَ بِي شَيئًا" [النور: 55].
قوله: "أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ"، الاستِفهام للإنكار، أو بمعنى النَّفي، وهما متقارِبان، أي: هل أحَدٌ مع الله يفعَل ذلِك؟!
الجواب:لا، وإذا كان ذلِك؛ فيجِب أن تُصرَف العبادة لله وحده، وأن يسأل العبدُ ربَّهُ تعالى، ولا يطلُب من أحد أن يُزِيل ضرورَتَه ويكشِف سوءَه وهو لا يستَطِيع.
إِشكَالٌ وجوابُه:
وهو أنَّ الإنسان المضطَرَّ يسأَل غيرَ الله ويُستجاب له، كمَن اضطُرَّ إلى طعامٍ وطلَب مِن صاحِب الطَّعام أن يُعطِيَه فأعطاه، فهل يجُوز أم لا؟
الجواب:أنَّ هذا جائِزٌ؛ لكن يجِب أن نعتَقِد أنَّ هذا مجرَّدُ سبَبٍ لا أنَّه مستَقِلٌّ، فالله يجعَل لكلِّ شيءٍ سببًا، فيُمكِن أن يصرِف الله قلبَه فلا يُعطِيك، ويمكِن أن تأكُل ولا تشبَع فلا تزول ضرورَتُك، ويمكن أن يُسخِّره اللهُ ويعطِيك.

روى الطَّبراني بإسنادِه: أنَّه كان في زمَن النَّبِيِّ ـ صلَّى الله علَيه وسلَّم ـ منافِقٌ يُؤذِي المُؤمِنِينَ، فقالَ بعضُهم: قُومُوا بنَا نستَغِيثُ برَسُولِ اللهِ ـ صلَّى الله علَيه وسلَّم ـ مِن هذا المُنافِق.
فقَالَ النَّبِيُّ ـ صلَّى الله علَيه وسلَّم ـ: "إِنَّهُ لاَ يُستَغَاثُ بِي، وَإِنَّمَا يُستَغَاثُ بِاللهِ".

قوله: "بإسناده"، يشِير إلى أنَّ هذا الإسناد ليس على شرط الصَّحيح، أو المتَّفق عليه بين النَّاس، بل هو إسنادُه الخاصِّ، وعليه، فيجب أن يراجع هذا الإسناد.
وذكَر الهيثمي في "مجمع الزوائد": "إنَّ رجالَه رجالُ الصَّحيح، غير ابن لهِيعَة، وهو حسن الحدِيث، وابن لهيعة خلَط في آخر عمُرِه لاحتِراق كتبه"، ولم يذكر المؤلِّف الصَّحابي، وفي الشَّرح ["تيسير العزيز الحميد" (1/512)] هو عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ.
قوله: "فيِ زمَنِ النَّبِيِّ"، أي: عهده، وكان الكافِر أوَّلاً يُعلِن كفرَه ولا يُبالِي، ولما قوِيَ المسلِمون بعد غزوَة بدرٍ خافَ الكُفَّار، فصاروا يُظهِرون الإسلام ويُبطِنون الكفر.
قوله: "مُنافِقٌ"، المنافِق: هو الَّذي يُظهِر الإسلام ويُبطِن الكفر.
ولم يُسَمَّ المنافق في هذا الحديث؛ فيحتَمِل أنَّه عبدُ الله بن أُبَيٍّ؛ لأنَّه مشهورٌ بإِيذاء المسلمِين، ويحتمل غيرَه.
واعلم أنَّ أذِيَّة المنافقين للمسلمين ليست بالضَّرب أو القَتل؛ لأنَّهم يتظاهَرُون بمحبَّة المسلِمين، ولكن بالقَول والتَّعريض كما صنَعوا في قصَّة الإِفك.
قوله: "فقَالَ بعضُهُم"، أي: الصَّحابة.
قوله: "نستغِيث"، أي: نطلب الغَوث وهو إزالة الشِّدَّة.
قوله: "مِن هذا المنافِق"، إمَّا بزَجره، أو تعزِيره، أو بما يناسِب المقام.
قوله: "إنَّه لا يُستَغاثُ بِي"، ظاهر هذه الجملة النَّفي مطلَقًا، ويحتمل أنَّ المراد: لا يُستَغاث به في هذِه القضِيَّة المعيَّنة.
فعلى الأوَّل: يكون نفي الاستِغاثة من باب سدِّ الذَّرائع والتأدُّب في اللَّفظ، وليس من باب الحكم بالعُموم؛ لأنَّ نفي الاستِغاثة بالرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس على إطلاقه، بل تجوز الاستغاثة به فيما يقدِر عليه.
أمَّا إذا قُلنا: إنَّ النَّفي عائِدٌ إلى القضِيَّة المعيَّنة الَّتي استغاثُوا بالنَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منها؛ فإنَّه يكون على الحقيقة، أي: لا يستغاث بي في مثل هذه القضِيَّة؛ لأنَّ النَّبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يُعامِل المنافِقين معامَلة المسلِمين، ولا يُمكِنه حسب الحُكم الظَّاهر للمنافِقين أن ينتَقِم من هذا المنافِق انتِقامًا ظاهِرًا؛ إذ إنَّ المنافِقين يستَتِرون، وعلى هذا، فلا يُستَغاث للتَّخلُّص من المنافِق إلاَّ بالله.


نقله ـ مختصرا ـ أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.

عبدالرحمان ابن داود الجزائري 08 Dec 2010 10:25 PM

قلة الردود إنما تدل على ثقل دراسة العقيدة و كل ما يتعلق بها على النفوس
اللهم ارزقنا الصبر و الثبات و التوحيد الخالص
الله يوفقك لإتمام هذه السلسلة المباركة

حسن بوقليل 14 Dec 2010 02:57 PM

بابُ قولِ الله تعالى: "أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ"
 
بابُ قولِ الله تعالى:
"أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا" الآية [الأعراف: 191،192]

مناسبة الباب لما قبله:

لما ذكر ـ رحمه الله ـ الاستِعاذة والاستغاثة بغير اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ، ذكر البراهين الدَّالَّةَ على بُطلان عبادَة ما سِوى الله، ولهذا جعَل التَّرجمة لهذا الباب نفسَ الدَّليل.
قوله: "أَيُشْرِكُونَالاستِفهام للإنكار والتَّوبيخ، أي: يُشركونَه مع الله.
قوله: "مَا لاَ يَخْلُقُ شَيئَا"، هنا عبَّر بـ "مَا" دون "مَنْ"، وفي قوله: "وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَن لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ" [الأحقاف: 5] عبر بـ "مَنْ".
والمناسَبة ظاهِرةٌ؛ لأنَّ الدَّاعِين هناك نزَّلوهُم منزِلة العاقل، أمَّا هُنا؛ فالمَدعُو جَمادٌ، لأنَّ الَّذي لا يخلُق شيئًا ولا يصنَعُه جمادٌ لا يفِيد.
قوله: "وَهُمْ يُخْلَقُونَ"، وصفَ هذه الأصنام بالعجز والنَّقص. والربُّ المعبودُ لا يمكِن أن يكون مخلوقًا، بل هو الخالِق؛ فلا يجُوز عليه الحُدوث ولا الفَناء.
والمخلوق: حادِثٌ، والحادِث يجُوز عليه العَدمُ؛ لأنَّ ما جاز انعدامُه أوَّلاً، جاز عقلاً انعدامُه آخِرًا.
فكيف يُعبَد هؤلاء مِن دون الله، إذِ المخلوق هو بنفسه مفتقِرٌ إلى خالقه، وهو حادِثٌ بعدَ أن لم يكن، فهو ناقِصٌ في إيجادِه وبقائِه؟!
قوله: "وَلاَ يَستَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا"، أي: لا يقدِرون على نصرِهم لو هاجَمهم عدوٌّ؛ لأنَّ هؤلاء المعبُودِين قاصِرُون.
والنَّصر: الدَّفع عن المخذُول؛ بحيثُ ينتصِرُ على عدوِّه.
قوله: "وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ"، أي: زِيادةً على ذلك هم عاجِزُون عن الانتِصار لأنفُسِهم، فكيفَ يَنصُرون غيرَهم؟!
فبيَّن اللهُ عجزَ هذه الأصنام، وأنَّها لا تصلُح أن تكون معبودَةً من أربعة وُجوهٍ، هي:
1- أنَّها لا تخلُق؛ ومن لا يَخلُق لا يستَحِقُّ أن يُعبَد.
2- أنَّهم مخلُوقون من العدَم؛ فهم مفتقِرون إلى غيرهم ابتِداءً ودوامًا.
3- أنَّهم لا يستطِيعون نصرَ الدَّاعِين لهم، وقوله: "لاَ يَستَطِيعُونَ" أبلغُ مِن قوله: "لاَ يَنصُرُونَهُم"؛ لأنَّه لو قال: "لا ينصُرونَهم"، فقد يقول قائل: لكنَّهم يستطيعون، لكن لـمَّا قال: "لاَ يَستَطِيعُونَ لَهُم نَصْرًا" كان أبلَغ لظهور عجزِهم.
4- أنَّهم لا يستطِيعُون نصرَ أنفُسِهم.

وقوله: "وَالَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَملِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ" الآية [فاطر: 13]

قوله: "وَالَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِهِ": يشمَل دعاءَ المسألة، ودعاء العبادة.
قوله: "مَا يَملِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ": والقِطمير: سَلب نَواة التَّمرة. وفي النَّواة ثلاثة أشياء ذكَرها الله في القرآن لبَيان حقَارة الشَّيء:
ـ القِطمير:
وهو اللُّفافة الرَّقيقة الَّتي على النَّواة.
ـ الفَتِيل:
وهو سِلكٌ يكون في الشَّق الَّذي في النَّواة.
ـ النَّقِير:
وهي النَّقرة الَّتي تكون على ظَهر النَّواة. [ويسميها بعضهم عندنا ـ في الجزائر ـ طابع النبي].
فهؤلاء لا يملكون من قطمير.
[إشكالٌ وجوابُه]

فإن قيل: أليس الإنسان يملك النَّخل كلَّه كامِلاً؟
أجيب: إنَّه يملكه؛ ولكنَّه مِلكٌ ناقِصٌ ليس حقيقِيًّا؛ فلا يتصرَّف فيه إلا على حسَب ما جاء به الشَّرعُ، فلا يملك ـ مثلاً ـ إحراقَه؛ للنَّهي عن إضاعة المال.
قوله: "إِنْ تَدْعُوهُمْ"، جملة شرطية، تدعو: فعل الشرط مجزوم بحذف النون، والواو فاعل، وأصلها: تدعونهم.
قوله: "لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ" جواب الشرط مجزوم بحذف النون، والواو فاعل.
قوله: "وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ"، أي: إنَّ هذه الأصنام لو دعَوتُموها ما سمِعَت، ولو فُرِض أنَّها سمِعت ما استجَابَت؛ لأنَّها لا تقدِر على ذلك، ولهذا قال إبراهيم ـ عليه السَّلام ـ لأبيه: "يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيئًا" [مريم: 42]
فإذا كانت كذلك، فلماذا تُدعَى من دون الله؟! بل هذا سفَهٌ، قال تعالى: "وَمَنْ يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ" [البقرة: 130].
قوله: "وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ"، هو كقوله تعالى: "وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ" [الأحقاف: 6].
فهؤلاء المعبودون:
ـ إن كانوا يُبعَثُون ويُحشَرون؛ فكُفرُهم بشِركهم ظاهِرٌ، كمَن يعبُد عُزَيرًا والمسِيحَ.
ـ وإن كانوا أحجارًا وأشجارًا ونحوَها؛ فيحتمل دخولُها في ظاهِر الآية، ويؤيِّدُه قوله تعالى: "إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ" [الأنبياء: 98]، وما ثبت في "الصَّحيحين" عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أَنَّهُ عِندَ بَعثِ النَّاس يُقَالُ لِكُلِّ أُمَّةٍ: لِتَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَت تَعبُدُ مِن دُونِ اللهِ" (البخاري ومسلم).
قوله: "وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ" [فاطر: 14]، هذا مثال يضرب لمن أخبر بخبر ورأى شكًّا عند من خاطَبه به، فيقول: ولا ينبِّئك مثلُ خبِيرٍ، ومعناه: إنَّه لا يخبرك بالخبر مثل خبِيرٍ به، وهو الله؛ لأنَّه لا يعلَم أحدٌ ما يكون في يوم القيامة إلا الله، وخبَرُه خبَرُ صِدقٍ؛ لأنَّ الله تعالى يقول: "وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً" [النساء: 122]، والخبير: العالم ببواطن الأمور.

وفي "الصَّحيح" عن أنسٍ قال: شُجَّ النَّبِيُّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ يومَ أُحُدٍ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، فقَال: "كَيفَ يُفلِحُ قَومٌ شَجُّوا نَبِيَّهُم؟"، فنَزلَت: "لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيءٌ" [آل عمران: 128]


قوله: "شُجَّ"، الشَّجة: الجرح في الرَّأس، والوجه خاصَّةً.
قوله: "وَكُسِرَت رَبَاعِيَتُهُ"، ما يلي الثَّنايا، واحدته "رَبَاعِيَةٌ".
قوله: "كَيفَ يُفلِحُ قَومٌ شَجُّوا نَبِيَّهُم": الفلاح: هو الفَوز بالمطلوب، والنَّجاة من المرهوب.
قوله: "فَنَزَلَت: "لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيءٌ""، الخطاب فيها للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والمراد: شأن الخلق؛ فشأن الخلق إلى خالقهم، حتَّى النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس له فيهم شيء.
ونستفيد من هذا الحديث:
أنَّه يجِب الحذر من إطلاق اللِّسان فيما إذا رأى الإنسان مبتلًى بالمعاصي، فلا نستبعد رحمة الله منه، فإنَّ الله تعالى قد يتوب عليه.
فهؤلاء الَّذين شجُّوا نبيَّهم لمَّا استبعد النَّبيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ فلاحَهم، قيل له: "لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيءٌ".
والرَّجل المُطِيع الَّذي يمُرُّ بالعاصي من بني إسرائيل ويقول: "وَاللهِ، لاَ يَغفِرُ اللهُ لِفُلاَنٍ. قالَ اللهُ لهُ: مَن ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَن لاَ أَغفِرَ لِفُلاَنٍ؟ قَد غَفَرتُ لَهُ وَأَحبَطتُ عَمَلَكَ" [البخاري، ومسلم].
ثمَّ إنَّنا نشاهد أو نسمع قومًا كانوا من أكفَر عباد الله، وأشدِّهم عداوةً انقلبوا أولياءَ لله، فإذا كان كذلك، فلماذا نستبعد رحمة الله من قومٍ كانوا عُتاةً؟!


وفيه: عن ابنِ عُمر ـ رضي الله عنهما ـ أنَّه سمِع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقُول ـ إذَا رفَع رأسَهُ مِن الرُّكوعِ في الرَّكعة الأخِيرة مِن الفَجر ـ: "اللَّهُمَّ! الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا"؛ بعدَما يقُولُ: سمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمدُ"، فأَنزَل اللهُ: "لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيءٌ".

وفي رواية: يَدعُو علَى صَفوَانَ بنِ أُمَيَّةَ، وَسُهَيلِ بنِ عَمرٍو، والحَارِثِ بنِ هِشَامٍ، فنزَلت: "لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيءٌ".



قوله: "إِذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِن الرُّكُوعِ فِي الرَّكعَةِ الأخِيرَةِ مِن الفَجر"، قيَّد مكانَ الدُّعاء من الصَّلوات بـ(الفَجر)، ومكانَه من الرَّكعات بـ(الأخيرة)، ومكانَه من الرَّكعة بـ(ما بعد الرَّفع من الرُّكوع).
قوله: "يقُولُ: اللَّهُمَّ! الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا" اللَّعن: الطَّرد والإبعاد عن رحمة الله.
وبيَّنَت الرواية الثانية المدعو عليهم.
قوله: "فَأَنزَلَ اللهُ: "لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيءٌ""، فيه أنَّ سبَبَ نزول الآية دعوةُ النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هؤلاء، وقولُه: "كَيفَ يُفلِحُ قَومٌ شَجُّوا نَبِيَّهُم؟ولا مانع أن يكون لنزول الآية سببان.
وقد أسلَم هؤلاء الثَّلاثةُ، وحسُن إسلامُهم ـ رضي اللهُ عنهُم ـ، فتأمَّل الآن أنَّ العداوة قد تنقلب وَلايَةً؛ لأنَّ القلوب بيد الله ـ سبحانه وتعالى ـ

وفيه: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، قال: قامَ فينَا رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أُنزِل علَيه: "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ" [الشعراء: 214]، فقالَ: "يَا مَعشَرَ قُرَيشٍ! (أو كلِمةً نحوَها) اشتَرُوا أَنفُسَكُم؛ لاَ أُغنِي عَنكُم مِنَ اللهِ شَيئًا.

يَا عَباسُ بنَ عَبدِالمُطَّلِبِ! لاَ أُغنِي عَنكَ مِنَ اللهِ شَيئًا.

يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ! لاَ أُغنِي عَنكِ مِنَ اللهِ شَيئًا.

وَيَا فَاطِمَةُ بِنتَ مُحَمَّدٍ! سَلِينِي مِن مَالِي مَا شِئتِ؛ لاَ أُغنِي عَنكِ مِنَ اللهِ شَيئًا.


قوله: "قام"، أي: خطيبًا.
قوله: "أَنذِرْ"، الإنذار: الإعلامُ المقرونُ بتخوِيفٍ.
قوله: "عَشِيرَتَكَ"، العشِيرة: قبِيلة الرَّجل من الجَدِّ الرَّابع فما دون.
قوله: "الأَقْرَبِينَ"، أي: الأقرب فالأقرب، فأوَّل من يدخل في عشيرة الرَّجل أولادُه، ثمَّ آباؤُه، ثمَّ إِخوانُه، ثمَّ أعمامُه، وهكذا.
ويؤخذ من هذا أنَّ الأقرب فالأقرب أولى بالإنذار، لأن الحكم المعلق على وصف يقوى بقوة هذا الوصف، وذلك أن الوصف الموجب للحكم كلما كان أظهر وأبين، كان الحكم فيه أظهر وأبين.
قوله: "اِشتَرُوا أَنفُسَكُم"، أي: أنقِذوها؛ لأنَّ المشتري نفسَه كأنَّه أنقَذها من هلاك، والمشتري راغِبٌ، ولهذا عبَّر بالاشتراء كأنه يقول: اشتروا أنفسكم راغبين.
قوله: "لاَ أُغنِي عَنكُم مِنَ اللهِ شَيئًاهذا هو الشَّاهد، أي: لا أنفَعُكم بدفعِ شيءٍ عنكم دونَ الله، ولا أمنَعُكم من شيءٍ أرادَه اللهُ لكم؛ لأنَّ الأمر بيد الله، ولهذا أمر الله نبيَّه بذلك، فقال: "قُلْ إِنِّي لاَ أَملِكُ لَكُم ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَن أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا" [الجن: 21،22].
قوله: "يَا عَبَّاسُ بنَ عَبدِ المُطَّلِبِ!"، هو عم النبي r، وعبد المطلب جدُّه.
وذِكرُ النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (عبد المطلب) ـ مع أنَّ تعبِيدًا لغير الله ـ عزَّ وجلَّ ـ من باب الإخبار فقط.
قوله: "لاَ أُغنِي عَنكَ مِنَ اللهِ شَيئًا"، فالنَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يغنِي عن أحدٍ شيئًا؛ حتَّى عن أبيه وأمِّه.
قوله: "يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ!": وهي عمَّتُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
قوله: "يَا فَاطِمَةُ بِنتَ مُحَمَّدٍ! سَلِينِي مِن مَالِي مَا شِئتِ"، أي: اطلبي من مالي ما شِئتِ؛ فلن أمنَعَك لأنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مالِكٌ لمَالِه، ولكن بالنِّسبة لحقِّ الله قال: "لاَ أُغنِي عَنكِ مِنَ اللهِ شَيئًا".
فهذا كلام النَّبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ لأقاربه الأقرَبين: عمِّه، وعمَّتِه، وابنَتِه، فما بالك بمن هم أبعد؟!
فهؤلاء الَّذين يتعلَّقون بالرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ويلُوذون به، ويستجِيرُون به، قد غرَّهُم الشيطانُ، واجتالَهُم عن طريق الحقِّ؛ لأنَّهم تعلَّقُوا بما ليس بمتعلَّقٍ، إذ الَّذي ينفع هو الإيمان بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واتِّباعُه، أمَّا دعاؤُه والتَّعلُّق به، ورجاؤُه فيما يؤمَّل، وخشيتُه فيما يُخاف منه، فهذا شِركٌ بالله، وهو ممَّا يُبعِد عن الرَّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وعن النَّجاة من عذاب الله.
وإذا كان القُرب من النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يُغنِي عن القريب شيئًا؛ دلَّ ذلك على منع التَّوسُّل بجَاه النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ لأنَّ جاهَه لا يَنتَفِع به إلاَّ هُو، ولهذا كان أصحَّ قولي أهل العلم تحريمُ التَّوسُّل بجَاه النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

نقله ـ مختصرا ـ أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.


الساعة الآن 12:17 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013