الرَّبانيـَّة

 

 

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فقد نظرت في أحوال النَّاس فوجدت أنَّ خيرهم أولئك الَّذين نعتهم النَّبيُّ ووصفهم وبيَّن حالهم بقوله: «أحبُّ النَّاس إلى الله أنفعهم للنَّاس» [«الصَّحيحة» (906)]، وفي رواية: «خيرُ النَّاس» [«الصَّحيحة» (426)]، ولاشكَّ أنَّ أعظم النَّفع ما كان سببًا للسَّعادة في الدُّنيا والنَّجاة والفوز يوم القيامة، وكان من وظيفة المباركين من عباد الله الصَّالحين وعلى رأسهم أنبياؤه ورسله، الَّذين من وظائفهم ما يشاركهم فيه غيرهم من صادق أتباعهم ومنها ما هو خاصٌّ بهم ممَّا لا يشاركهم فيه أحد، ومن أعظم أعمالهم وأنفع آثارهم تعليم النَّاس ما ينفعهم في دينهم ويصلح شأنهم، لقوله تباك وتعالى: «هو الَّذي بعث في الأميِّين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكِّيهم ويعلِّمهم الكتاب والحكمة» [الجمعة: 2]، فبثُّ العلم ونشرُه يُعتبَر من أجلِّ القربات وأفضل الطَّاعات الَّتي دلَّت نصوص الكتاب والسُّنَّة على عظيم فضله ورفيع منزلته وقدره، ولهذا حرص عليه السَّلف الكرام، واجتهدوا فيه، وجعلوه شغلهم وديدنهم، ومن لطيف ما يروى في هذا الباب عن عبد الله بن مبارك رحمه الله أنَّه عوتب فيما يفرِّق من المال في البلدان دون بلده، فقال: «إنِّي أعرف مكان قومٍ لهم فضل وصدق، طلبوا الحديث فأحسنوا طلبه لحاجة النَّاس إليهم، احتاجوا، فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعنَّاهم بُثَّ العلم لأمَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، لا أعلم بعد النُّبوَّة أفضل من بثِّ العلم» [«سير أعلام النُّبلاء» (8/387)].

وقد كتب عبد الله العمري أحد العبَّاد الصَّالحين إلى الإمام مالك رحمه الله يحضُّه إلى الانفراد والعمل، ويرغب به عن الاجتماع إليه في العلم، فكتب إليه مالك: «إنَّ الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فربَّ رجلٍ فُتح له في الصَّلاة ولم يفتح له في الصَّوم، وآخر فُتح له في الصَّدقة ولم يُفتح له في الصَّوم، وآخر فُتح له الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البِرِّ، وقد رضيت بما فُتح لي فيه، وما أظنُّ ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خيرٍ وبرٍّ» [«التَّمهيد»: (٧/١٨٥)].

هذا هو الفهم الرَّشيد والنَّظر السَّديد الَّذي كان عليه علماء السَّلف وأئمَّة الهدى، تبحُّرٌ في العلم من غير اغترار بالنَّفس ولا اعتداد بها، مع تواضع لله ولين جانب مع خلقه فقوله : «فنشر العلم من أفضل أعمال البر» هذا الَّذي كانوا يعتقدونه، فما أحوج الأمَّة إلى علمائها الرَّبانيِّين الَّذين نفعهُم ظاهر، وحسن أثرهم لا ينكره إلَّا الجاهل، هؤلاء الَّذين وصفهم ربنا بقوله: «ولكن كونوا ربانيِّين»، فما معنى أن نكون ربانيِّين في تعليمنا وتدريسنا وفي دعوتنا وسائر أحوالنا؟

قال الإمام البخاريُّ: «قال ابن عبَّاس: «كونوا ربانيِّين»: حلماء فقهاء، ويقال: الرَّبانيُّ الَّذي يربِّي النَّاس بصغار العلم قبل كباره» [«صحيح البخاريِّ» (1/24)].

وعليه: ينحصر معناه على هذا التَّفسير السَّلفي في أمرين:

الأوَّل: متعلِّق بنفس المعلِّم وحاله.
الثَّاني: بمنهجه في تعليمه و دعوته.

وسأحاول بيان كلا المعنيين:

الأمر الأوَّل: يتضمَّن وصفين:

الوصف الأوَّل: أن يكون في نفسه حليمًا، متَّصفًا بصفة يحبُّها الرَّحمن، كما جاء في حديث أشجِّ عبد القيس الَّذي رواه مسلمٌ (17)، حيث قال له النَّبيُّ : «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالأَنَاةُ».
فالحليم اسمٌ من أسماء الله ، اشتقَّ لنفسه منه صفةَ الحِلْمِ، أي: الَّذي لا يعجل بالعقوبة والانتقام، والَّذي لا يحبس إنعامه عن عباده لأجل ذنوبهم، بل يرزق العاصي كما يرزق المطيع، وذو الصَّفح مع القدرة على العقاب.

أمَّا معناه في حقِّ العبد فهو المتسامح ذو الصَّفح، هذه الِّصفة الَّتي لا يسعد بها على الوجه المطلوب إلَّا من رزقه الله الصَّبر والاحتساب، وهما من أخصِّ صفات المرسلين.

الوصف الثَّاني: أن يكون مع هذا التَّحلِّي فقيهًا أي: عالمًا بأصول الشَّريعة وأحكامها، بل قيل: إنَّ الفقيه هو العالم الفطن، هذه الفطانة الَّتي تميِّز حسن استنباطه ونباهة تقديره للأمور والأحوال، حازمًا في شؤونه ثابتًا في مواقفه، لا يداهن ولا يتميَّع، شديدًا في تمسُّكه صلبًا في منهجه، على ما كان عليه الأوائل من سلف هذه الأمَّة الكرام.

وقد جاء في بيان فضل العلم وأهله نصوصٌ عظيمةٌ من الكتاب المنزَّل ومن أحاديث المصطفى الهادي صلَّى الله عليه وسلَّم، أهلُه الَّذين فتح الله تبارك وتعالى عليهم في هذا الباب، كما جاء في حديث معاوية بن أبي سفيان وأرضاه عن النَّبيِّ أنَّه قال : «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» [أخرجه البخاريُّ (71)، ومسلمٌ (1037)]، والفقه في دين الله تبارك وتعالى أساسه ومبناه على العلم بالله أوَّلًا، العلم بالله تبارك و تعالى بآلائه وأفعاله وصفاته وأسمائه، وهو أفضل العلوم على الإطلاق، لأنَّ شرف العلم بشرف المعلوم، وهو العلم الَّذي يُوَرِّث الخشية في القلوب، و لهذا كان أولى الناس بهذه المكرمة هم من فتح الله عليهم فيه ، لقول الله : «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ» [فاطر: 28]، فالعلم الصَّحيح المبنيُّ على كتاب الله وسنَّة رسوله عليه الصَّلاة والسَّلام والَّذي يسير فيه أهله على هدي سلف هذه الأمَّة الكرام ، يورث هذه الخصلة الطَّيِّبة الكريمة، ولهذا جمع بينهما النَّبيُّ بقوله: «ما بالُ أقوامٍ يتنزَّهون عن الشَّيء أصنعُه؟! فوالله إنِّي أعلمهم بالله وأشدُّهم له خشية» [أخرجه البخاريُّ (6101)، ومسلمٌ (2356)].
فهو أعلم الخلق بالله وأخشاهم له، جمع الله له بينهما، ونال الحظَّ الأكبر منهما، ومع هذا يأمره ربه بقوله: «وقل ربي زدني علمًا»، فما أُمر بطلب الاستزادة من شيءٍ إلَّا من هذا الخير.
كما كان من دعائه : «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلا مُتَقَبَّلًا» [«صحيح ابن ماجه» (753)].
هذا الدُّعاء المبارك الَّذي كان صلَّى الله عليه وسلَّم يستفتح به بعد صلاة الصُّبح كلَّ يوم في غاية المناسبة، لأنَّ الصُّبح هو بداية اليوم ومُفتَتَحُه، والمسلم ليس له مطمعٌ في يومه إلَّا تحصيل هذه الأهداف والمقاصد العظيمة والأهداف النَّبيلة في تحديد همَّته في أوَّل النَّهار، وهي:

1ـ العلم النَّافع.
2ـ الرِّزق الطَّيِّب.
3ـ العمل المتقبَّل.

وكأنَّه في افتتاحه ليومه بذكر هذه المقاصد الثَّلاثة دون غيرها يحدِّد أهدافه ومقاصده في يومه، ولا ريب أنَّ ذلك أجمع للقلب، وأضبط لسير العبد ومسلكه في هذه الحياة، وفيه استعانة وتضرُّع لربِّه في صباحه وأوَّل يومِه أن يمدَّ له العون والخير والتَّوفيق للسَّير على هذه الأهداف كلَّ يوم، فإنَّ هذه المقاصد الثَّلاث عليها مدار الفلاح في الدُّنيا والآخرة.
وتأمَّل كيف بدأ النَّبيُّ هذا الدُّعاء بسؤال اللَّه العلم النَّافع، قبل سؤاله الرِّزق الطَّيِّب، والعمل المتقبَّل، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ العلم النَّافع مقدَّم، وبه يُبدأ، قال اللَّه : «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات» [محمَّد: 19]، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، لأنَّه لا يمكن أن يكون العمل صحيحًا وموافقًا للكتاب والسُّنَّة دون علمٍ.

وفي البدء بالعلم النَّافع حكمةٌ ظاهرةٌ لا تخفى على المتأمِّل، ألا وهي أنَّ العلم النَّافع به يستطيع المرء أن يميِّز بين العمل الصَّالح وغير الصَّالح، ويستطيع أن يميِّز بين الرِّزق الطَّيِّب وغير الطَّيِّب [«فقه الأدعية والأذكار» (4/٤٠)].

فالرَّبَّانيُّ الموفَّق هو من فتح الله عليه في هذا الباب وأنعم عليه بالفقه والعلم بالكتاب، فنال به من هذه المقامات والآداب: من خشية ربِّه الوهاب، ومعرفة قدر النَّفس مع تواضعٍ جمٍّ لله وللعباد، كما كان أولئك الأئمَّة قديمًا وحديثًا في سيرهم وسيرتهم في هذا الباب.

ونذكر جميعًا ونتذكَّر في هذا المقام ما كنُّا نسمعه من أئمة هذا الزَّمان : الشَّيخ ابن باز والشَّيخ العثيمين والشَّيخ الألباني – رحمةُ الله جلَّ وعلا عليهم أجمعين -، كلُّ واحدٍ منهم يقول عن نفسه: «ما أنا إلَّا طالب علم »، ويقول الألباني: «ما أنا إلَّا طويلب علم»، أي: ما بلغت حتَّى منزلة الطَّالب، وهم الأئمَّة الأعلام الَّذين اجتمعت كلمة المسلمين من مخالفيهم وموافقيهم ومحبِّيهم ومناوئيهم على أنَّهم هم الأئمَّة، هذا كلامهم وهذه عقيدتهم وصفاتهم، رحمة الله تبارك و تعالى عليهم أجمعين.

وما هذا إلَّا لأنَّهم كانوا دائمًا وأبدًا يستحضرون كلام الله : «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ»، فيا من آتاك الله جلَّ وعلا من هذه الفضيلة! يا من وفِّقت لهذه النِّعمة ولهذا الخير الجسيم! اعلم أنَّ فوقك من هو أعلم منك، و الله تبارك و تعالى أعلم العالمين، وهو في هذا فوق العالمين جميعًا، يقول ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما عند هذه الآية الكريمة : «يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، والله فوق كلِّ عالِم» [«تفسير الطَّبري» (13/286)]، وقال الحسن البصريُّ - عليه رحمة الله - عند هذه الآية الكريمة: «ليس عالمٌ إلَّا فوقه عالمٌ، حتَّى ينتهي العلم إلى الله» [«تفسير الطَّبري» (13/270)]، و يقول الإمام السَّعدي عند تفسير هذه الآية: «فكلُّ عالمٍ فوقه من هو أعلم منه، حتَّى ينتهي العلم إلى عالم الغيب و الشَّهادة سبحانه » [«تيسير الكريم الرَّحمن» (ص: 402)].

أمَّا الأمر الثَّاني، وهو فيما يتعلَّق بعمله ونهجه، فالرَّبانيُّ هو الَّذي يبدأ بصغار العلم قبل كباره، أي: يبدأهم باليسير ليسهل عليهم الوصول، بمعنى أنَّه لا يتعجَّل في أمره وسيره، ثابتٌ في طريقه وعمله على خطى صلبة ومنهج رصين يجمع تربيةً مع تعليم، تحقيقًا لما قاله شيخ المفسِّرين وعميدهم ابن جرير الطَّبري، حيث قال: «وأولى الأقوال عندي بالصَّواب في الرَّبانيِّين أنَّهم جمعُ ربانيٍّ، وأنَّ الرَّبَّانيَّ المنسوب إلى الربَّان، الَّذي يربُّ النَّاس، وهو الَّذي يصلح أمورهم ويَرُبُّها ويقوم بها، ومنه قول علقمة بن عبدة:

 

وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي ... وقبلك ربَّتني، فضعت، ربوب

يعني بقوله: «ربَّتني»: ولي أمري والقيام به قبلك من يربه ويصلحه، فلم يصلحوه، ولكنَّهم أضاعوني فضعت.
يقال منه: ربَّ أمري فلان، فهو يربُّه ربا، وهو رابُّه، فإذا أريد به المبالغة في مدحه قيل: هو ربَّان، كما يقال: هو نعسان من قولهم: نعس ينعس، وأكثر ما يجيء من الأسماء على فعلان ما كان من الأفعال ماضيه على فَعِل، مثل قولهم: هو سكران، وعطشان، وريَّان، من: سكِر يسكَر، وعطِشَ يعطَشُ، ورَوِي يَرْوَى، وقد يجيء ممَّا كان ماضيه على: فعَلَ يفعَل، نحو ما قلنا من نعَس ينعَس، وربَّ يَرَبُّ.
فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا = وكان الربان ما ذكرنا، والرباني هو المنسوب إلى من كان بالصِّفة الَّتي وصفت = وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين، يرب أمور النَّاس، بتعليمه إيَّاهم الخير، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم = وكان كذلك الحكيم التَّقيُّ لله، والوالي الَّذي يلي أمور النَّاس على المنهاج الَّذي وليه المقسطون من المصلحين أمور الخلق، بالقيام فيهم بما فيه صلاح عاجلهم وآجلهم، وعائدة النَّفع عليهم في دينهم، ودنياهم = كانوا جميعًا يستحقُّون أن يكونوا ممَّن دخل في قوله عزَّ وجل: «ولكن كونوا ربانيِّين».
فالربَّانيُّون إذًا، هم عماد النَّاس في الفقه والعلم وأمور الدِّين والدُّنيا، ولذلك قال مجاهد: «وهم فوق الأحبار»، لأنَّ الأحبار هم العلماء، والرَّبَّانيُّ الجامع إلى العلم والفقه، البصرَ بالسِّياسة والتَّدبير والقيام بأمور الرَّعيَّة، وما يصلحهم في دنياهم ودينهم» [«تفسير الطَّبري» (5/529-531)].
ما أقوى هذا التَّفسير وأنفسَه، وكأن صاحبه أراد أن يكون ما ذكر يدلُّ على الذَّاكر، فرحمة الله عليه.
وقال ابن القيِّم: «الرَّبانيُّ الرَّفيع الدَّرجة في العلم، العالي المنزلة فيه» [«مفتاح دار السَّعادة» (1/124)].
وذكر ابن عاشور معنىً آخر له فقال عند تفسير الآية فقال: «جعلت مقالتهم مقتضية أنَّ عيسى أمرهم بأن يكونوا عبادًا له دون الله، والمعنى أنَّ الآمر بأن يكون النَّاس عبادًا له هو آمرٌ بانصرافهم عن عبادة الله، «ولكن كونوا ربانيِّين» أي: ولكن يقول: كونوا ربانيِّين أي: كونوا منسوبين للرَّبِّ، وهو الله تعالى، لأنَّ النَّسب إلى الشَّيء إنَّما يكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه، ومعنى ذلك أن يكونوا مخلصين لله دون غيره».
قال: «والرَّبانيُّ نسبةً إلى الرَّبِّ على غير قياس، كما يقال: اللحياني لعظيم اللِّحية، والشَّعراني لكثير الشَّعر».
قال: «وقوله: «بما كنتم تعلِّمون الكتاب» أي: لأنَّ علمكم الكتاب من شأنه أن يصدَّكم عن إشراك العبادة، فإنَّ فائدة العلم العمل» [«التَّحرير والتَّنوير» (3/295)].

وعليه فخلاصة قول الأئمَّة في هذا ما قاله الشَّيخ السَّعدي: «أي: علماء حكماء حلماء، معلِّمين للنَّاس ومربِّيهم بصغار العلم قبل كباره، عاملين بذلك، فهم يأمرون بالعلم والعمل والتَّعليم الَّتي هي مدار السَّعادة، وبفوات شيء منها يحصل النَّقص والخلل، والباء في قوله: «بما كنتم تعلمون» إلخ، باء السَّببيَّة، أي: بسبب تعليمكم لغيركم المتضمِّن لعلمكم ودرسكم لكتاب الله وسنَّة نبيِّه، الَّتي بدرسها يرسخ العلم ويبقى، تكونون ربانيِّين» اهـ [«تيسير الكريم الرَّحمن» (ص: 136)].

فالرَّبانيَّة فيها الاستجابة لله ولرسوله، فكانت بها الحياة، ولا حياة إلَّا بها، ولهذا فإنَّ الله تعالى جعل النَّاس في هذا قسمان لا ثالث لهما، ربانيٌّ أو شيطانيٌّ متَّبع لهواه، لقوله:﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [القصص: 50].

هناك حقٌّ وباطل، مستقيم ومنحرف، صادق وكاذب، محسن ومسيء، مستجيب ومعرض، صنفان إن لم تكن من أحدهما فأنت من الثَّاني حتمًا، وليس هناك وسط، لذا كانت حاجة النَّاس إلى عالمٍ ربانِيٍّ يرشدهم إلى طريق الحقِّ والهدى والرَّشاد أكثر من حاجتهم إلى من يدرب أبدانهم أو ينمِّي قدراتهم المهنيَّة أو المعرفيَّة، وخاصَّة في ظلِّ ما يعصف بالأمَّة اليوم من عظيم الفتن والرَّزايا والمحن، فنحن اليوم أحوج ما نكون إلى هذا النَّوع من العلماء الَّذين جعلهم الله تعالى أمنًا للأمَّة، وأمانًا لها من الشُّرور كلِّها والبلايا جميعها، فهم حَفَظَة العقيدة وحماة الشَّريعة، الَّذَيْنِ لا ينعم النَّاس بالأمن إلَّا في ظلِّهما لقوله : ﴿الَّذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون﴾ [الأنعام: 82].

والحقيقة الَّتي لا ينكرها إلَّا مكابر معاند جاهل بواقعه وحاله أنَّ من ذكرنا من أرباب هذه الخلال أندر من الكبريت الأحمر في عالم النَّاس اليوم، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.

فمن وُفِّق للقلَّة القليلة منهم فلا يفارقنَّ غرزهم ولا ينأينَّ عنهم، فإنَّهم الغنيمة الَّتي يسعد من ظفر بها، ومُتِّع بقربها.