حرمة العلماء والدعاة بين أخلاق السلف وواقع الخلف

المؤلف: 
أبو سهيل محمَّد القبي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيّنا محمّد، وعلى آله، وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:

فمن أعظم حقوق المسلم، صيانة عرضه ورعاية حرمته، إذ هو أصل شرعي متين، عُلم من دين الإسلام بالضرورة، وهو من الضروريات الخمس المأمور بحفظها.

خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مسمع يزيد عن مائة ألف نفس من صحابته الكرام رضي الله عنهم في حجة الوداع، فقال: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت. رواه مسلم وغيره.

 

 

حسن الخلق

لقد رفع الله عزوجل شأن حسن الخلق حين امتدح نبيّه محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله { وإنّك لعلى خلق عظيم } [القلم:4]، ونوّه صلى الله عليه وسلم بقدره حين قال: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" رواه أحمد وغيره.

وأمر الله سبحانه وتعالى بحسن الخلق مع الناس كافة، ولم يستثن، فقال عزّ من قائل { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً } قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في هذه الأية: يعني الناس كلهم. [شعب الإيمان للبيهقي: 5/288]، وقال طلحة بن عمر : قلت لعطاء إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل فيَّ حدّة فأقول لهم بعض القول الغليظ، فقال: لا تفعل! يقول الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}، فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي ؟ [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/16].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عند قول الله تعالى: { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المائدة:8]
" وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار وهو بغض مأمور به فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نهى صاحبه أن يظلم من أبغضه فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس فهو أحق أن لا يظلم بل يعدل عليه " [منهاج السنة النبوية لابن تيمية: 5/126]

 

 

تذكرةٌ تتناول أمرين

الأمر الأول: ـ عام ـ حسن الخلق مع المسلم، ورعاية حرمته، وصيانة عرضه من كل ما يشينه وبخاصة الغيبة التي شاعت وذاعت، وتساهل الناس فيها.

الأمر الثاني: ـ خاص ـ حفظ الأدب مع العلماء والدعاة إلى الله تعالى، وحفظ حرمتهم، ومعرفة قدرهم، والتنزه عن الوقيعة فيهم، والنيل من مراتبهم.

وفي الحقيقة أحببت التركيز على الأمر الثاني، باعتبار أن العلماء والدعاة لهم حقوق المسلمين العامة، ولهم حقوقهم الخاصة، لأن الله تعالى رفع المؤمنين على من سواهم، ثم رفع أهل العلم على سائر المؤمنين، قال سبحانه { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ المجادلة: 11]، وقال { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } [الزمر: 9]

 

 

الإثم يتضاعف

من المعلوم أنه لا يستوي ما حرمه الله عزوجل من جهة واحدة، وما حرمه من جهات متعددة، فالإثم يعظم بتعدد جهات الانتهاك، ويتضاعف العقاب:

فظلم النفس بالمعاصي حرام في كلّ زمان ومكان، لكنه أشد إذا وقع في الأشهر الحرم، ولذلك قال تعالى { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } [التوبة: 36].

ولهذا نظائر: قال صلى الله عليه وسلم: "لأن يزني الرجل بعشر نسوة خير له من أن يزني بامرأة جاره، و لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر له من أن يسرق من بيت جاره" [صحيح الجامع].

وعلى هذا:

فإن الإساءة إلى العلماء العاملين والدعاة المصلحين والطعن فيهم بغيا وعدوا من أخطر الأمور على دين المرء، لأن حرمتهم مضاعفة، وحقوقهم متعددة، فلهم كل ما ثبت من حقوق المسلم على أخيه المسلم، ولهم حقوق المسنين والأكابر، ولهم حقوق حملة القرآن، وحقوق الأولياء الصالحين.

إن الواقع الأليم الذي نعيشه اليوم أفرز كثيرا من الظواهر المَرَضية، من أخطرها تطاول الصغار على الكبار، والجهّال على العلماء، وطلبة العلم بعضهم على بعض.

 

 

إنما نحترمك ما احترمت الأئمة

قال الإمام الذهبي رحمه الله: قال الحافظ ابن عساكر: كان العبدري أحفظ شيخ لقيته، وكان فقيها داووديا، ...، وسمعته وقد ذكر مالك، فقال: جلف جاف، ضرب هشام بن عمار بالدّرّة، وقرأت عليه " الأموال " لأبي عبيد، فقال-وقد مرّ قول لأبي عبيد-: ما كان إلا حمارا مغفلا، لا يعرف الفقه.

وقيل لي عنه: إنه قال في إبراهيم النخعي: أعور سوء، فاجتمعنا يوما عند ابن السمرقندي في قراءة كتاب " الكامل " فجاء فيه: وقال السعدي كذا، فقال: يكذب ابن عدي، إنما ذا قول إبراهيم الجوزجاني، فقلت له: فهو السعدي، فإلى كم نحتمل منك سوء الأدب، تقول في إبراهيم كذا وكذا، وتقول في مالك جاف، وتقول في أبي عبيد ؟! فغضب وأخذته الرّعدة، وقال: كان ابن الخاضبة والبرداني وغيرهما يخافونني، فآل الأمر إلى أن تقول فيّ هذا ؟! فقال له ابن السمرقندي: هذا بذاك، فقلت: إنما نحترمك ما احترمت الأئمة .." [سير أعلام النبلاء للذهبي: 19/581]

 

 

حرمة العلماء والدعاة بين أخلاق السلف وواقع الخلف

لا يشك عاقل أن العلم درّة في تاج الشرع المطهر، ولا يصل إليه إلا المتحلي بآدابه، المتخلي عن آفاته، والتأدب مع حملة الشريعة الشريفة، تأدب مع الله عزوجل، وتعظيمهم تعظيمٌ لشعائر الله تعالى، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، قال الإمام ابن حزم (رحمه الله): "اتفقوا على توقير أهل القرآن والإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الخليفة والفاضل والعالم". [نقله عنه ابن مفلح في الأداب الشرعية]، وسلفنا الصالح ضرب لنا أروع الأمثلة في ذلك.

وهاك أخي القارئ أمثلة حيةً من مواقف سلفنا الصالح مع العلماء والدعاة المصلحين:

المثال الأول:

عن موسى بن يسار قال: "كان رجاء بن حيوة، وعدي بن عدي، ومكحول في المسجد، فسأل رجل مكحولا عن مسألة، فقال مكحول: سلوا شيخنا وسيدنا رجاء بن حيوة".[الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي]

المثال الثاني:

عن عبيد الله بن عمر قال: "كان يحيى بن سعيد يحدثنا، فإذا طلع ربيعة قطع يحيى حديثه إجلالا لربيعة وإعظاما له [الجامع للخطيب].

المثال الثالث:

قال أحمد بن حنبل: "قال لنا الشافعي: أنتم أعلم بالحديث مني، فإذا صح عندكم الحديث، فقولوا لنا حتى آخذ به" [تذكرة السامع والمتكلم].

المثال الرابع:

قيل لأبي وائل: "أيكما أكبر؟ أنت أم الربيع بن خيثم؟ قال: أنا أكبر منه سنا، وهو أكبر مني عقلا" [سير أعلام النبلاء].

المثال الخامس:
قال سفيان الثوري لسفيان بن عيينة: "ما لك لا تحدث؟ فقال: أمّا وأنت حيّ فلا" [الجامع للخطيب].

هذه ـ والله ـ جملٌ يسيرة من مواقف سلفنا الصالح، وكيف كانوا يراعون حرمة العلماء والدعاة، ويُنزلونهم المنزلة التي أنزلهم الله عزوجل إياها.

 

 

إطلالة على الواقع

وإذا أطللنا إطلالة على واقعنا المؤسف تمثلنا بقول القائل:

لا تعرضنّ بذكرهم مع ذكرنا ... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد

أصبحنا نرى أناسا انسلخوا من أخلاق السلف كما تنسلخ الحية من جلدها، لا يراعون لشيخ حرمة ولا ذمّة، أناسا لا للعلم انتسبوا وجدّوا واجتهدوا، ولا للحق نصروا، بل ديدنهم التعصب والانتصار لمشايخهم ولو على حساب الحق، والدفاع عنهم ولو بالسبّ والقذف والبهتان.

وهاك صورا من عدوانهم وتطاولهم:

ـ فهذا يعيّر العلماء والدعاة بأنهم يحبون الزعامة، ويطلبون المناصب الشرفية

ـ وآخر يرميهم بالجهل، وأنه لا يعرف كذا وكذا ...

ـ وثالث صنّف بعض العلماء والدعاة بأنهم جماعة حزبية، وأنهم دعاة مجلة

ـ ورابع اغتر بنفسه فأصبح يردّ على من هو أعلم منه، متهما إياه بأبشع التهم

ووالله ما بالقوم غيرة على الحق، وإنما هو الجهل العريض الذي يبدو لهم علما واسعا، وإنما هو الكبر، والتيه، وبطر الحق، وغمط الناس منازلهم.

 

 

العجب من بعض المنتديات

تجد أحدهم قد طوّعت له نفسه أن يُطلق لسانه بشتم بعض العلماء والدعاة، والإزراء بهم، فلا يراهم إلا من خلال منظار أسود، لا يرى حسنة إلا وقد اصطبغت بالسواد، وكأنه لم يبق عالم يملأ عينيه، أو يحترمه إلا الذي يتعصب له، مع أنه يتهور في إطلاق التهم، ويجازف في توزيع الأحكام : الغلاة، حزب كذا، ووو، ويندفع في تعميم أحكامه بصورة تنبيك عن غيض في القلب وإصابة في العقل، والأدهى والأمر أنه يحسب نفسه مدافعا عن الحق وأهله.

نسأل الله عزوجل أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يوفقنا للاهتداء بأخلاق سلفنا الصالح، وأن يحفظ علماءنا ودعاتنا السلفيين من كيد الكائدين وحقد الحاقدين.

 

 

كتبه أبو سهيل محمد