تَشْنيفُ الآذان بتقويم اللِّسان/ نجيب جلواح

المؤلف: 
نجيب جلواح

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على النَّبيِّ الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعدُ:
فقد اختصَّتِ اللُّغةُ العربيَّةُ بخصائصَ عديدةٍ، ولها مِيزاتٌ كثيرةٌ، وإنَّ مِن أعظمِ ما اختصَّـتْ به أنَّ اللهَ –تعالى– أنزلَ بها خيرَ كُتُبِهِ وأحسنَ شرائعِ دينِهِ، فهي لغةُ القرآنِ الكريمِ، قالَ اللهُ –تعالى–: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسـف: 2]، و قالَ أيضًا: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الزُّمر: 27- 28]، وقالَ: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [فُصِّلَت: 3]، وقالَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [الشُّورى: 7].
فارتباطُ الإسلامِ باللٌّغةِ العربيَّةِ ارتباطٌ متينٌ، لذا لا يمكنُ فصْلُ العربيَّةِ عن الدِّينِ، لأنَّ القرآنَ الكريمَ نزلَ بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ، وسنّةُ نبيِّ الإسلامِ ﷺ لا تُفْهَمُ ولا يُدركُ ما فيها مِن أحكامٍ إلاَّ باللُّغةِ العربيّةَِ. والإلمامُ باللُّغةِ العربيَّةِ وإتقانُها، والتَّعمُّق في معرفةِ معانيها، والتَّبحُّر في إدراكِ مبانيها وأساليبها مِن أبرزِ أسبابِ صِحَّةِ فهْم المسلمِ لدينِ اللهِ –تعالى– ؛ وذلك لأنَّ ممَّا يُتوصَّلُ به إلى إدراكِ معاني النُّصوصِ: فَهْمُ العِباراتِ على ما وُضِعتْ له في أصلِها اللُّغويِّ، لا بحسبِ ما يُمليهِ العقلُ وحدَهُ، ولذلك كانتْ معرفةُ اللُّغةِ العربيَّةِ مِن شروطِ الاجتهادِ، وكان الجهلُ بها سبباً للْهَلَكَةِ.
وإنَّ مِن العلومِ النَّافعةِ المتعدِّيةِ إلى غيرها: عِلْمَ النّحْوِ، فهو أُسُّ العُلومِ الشَّرعيَّةِ، وأصلٌ مِن أُصولها، فَبِهِ تُعرفُ مـدارِكُ الأحكامِ، وبِهِ يَستقيمُ اللِّسانُ والبَنانُ – ُطقًا وخطًّا–. لذا يَنبغي لمن يريدُ التَّفقُّهَ في الدِّيـنِ، أنْ يُقدِّمَ على ذلك تعلُّـمَ العلومِ العربيَّةِ وعلمِ النَّحوِ.
وللهِ درُّ القائلِ:

النَّحوُ يُصلِحُ مِنَ لِسانِ الألْكَنِ    والمـرءُ تُكـرِمُــهُ إذا لـمْ يَـلْـحَـنِ      
والنَّـحـوُ مِثـلُ المِلـحِ إنْ ألقيتَـهُ    في كلِّ ضدٍّ مِن طعامِكَ يحسُنِ      
وإذا طلـبـتَ مِنَ العُـلومِ أجلَّهـا    فأجلـُّـهـا مـنـها مُـقـيـمُ الألسُنِ    
وقدْ «هجمَ الفسادُ على اللِّسانِ، وخالطتِ الإساءةُ الإحسانَ، ودخلتْ لغةَ العربِ، فلم تَزلْ كلَّ يومٍ تنهدمُ أركانُهـا، وتموتُ فُرسانُهَا، حتَّى استُبيحَ حريمُهَا، وهَجُنَ صَميمُهَا، وعفَّتْ آثارُهَا، وطَفِئَتْ أنوارُهَا، وصارَ كثيرٌ مِن النَّاسِ يُخطِئُونَ وهم يَحسبونَ أنَّهم مُصيبونَ، وباتتِ الحاجةُ ماسَّةً إلى تحفيزِ الهِممِ إلى تقويمِ اللِّسانِ، وإصلاحِ اعوجاجِـهِ بِطلبِ العربيَّةِ، وفَهمِهَا وإتقانِهَا.»
إنَّنا نشكُو – في هذه الأيَّامِ، وأكثرَ مِن أيِّ وقتٍ مضَى –، منَ الضَّعفِ العامِّ في اللُّغةِ العربيَّةِ، ونتألَّمُ ألمًا شديدًا منَ الوضعِ المؤسفِ الَّذي وصلتْ إليه لغتُنا وعلى أيدي أبنائِها، ونتوجَّسُ خِيفةً من خطرِ هذا الضَّعفِ الذي يزدادُ مـع مرورِ الأيَّامِ، ولو استمرَّ هذا الضَّعفُ في اللُّغةِ العربيَّةِ مِن غيرِ عِلاجٍ لأدَّى إلى استفحالِه، ثمَّ ينتهي الأمرُ بموتِ اللُّغةِ والقضاءِ عليها.
وإذا أُصِبنا بضعفٍ في لغتنا ضَعُفَتْ صِلتُنا بديننا، لأنَّنا نكون – حينئذٍ – قد فقَدنا أداةَ الاغترافِ مِن معينِهِ الصَّافي، ولهذا فإنَّ تقصيرَنا في حقِّ هذه اللُّغةِ تفريطٌ منَّا نُسألُ عنه ونُدانُ به.
نَعَم، إنَّهُ لَمِنَ المُؤسِفِ جدًّا أنْ ترى – في هذا الزَّمانِ – بعضَ طلبةِ العلمِ حينمـا يتكلَّمُ أو يكتبُ، تَجِدُ عنده مِـن الخطإِ واللَّحنِ ما تكادُ تقولُ: إنَّهُ في أوَّلِ الدّراسةِ، مع أنَّهُ قد يكونُ ممَّن حازَ الشَّهاداتِ العاليةَ. كما قد تَسمعُ مِن بعضِهم خِطاباً في موضوعٍ ذِي أهميَّةٍ، لكنْ يُزهِّدُكَ فيه، ويَصرِفُكَ عن سماعهِ، والاستفادةِ منه ما شوّهه مِـنْ لحنٍ وتصحِيفٍ، فتسمعُه يرفعُ ما حقُّهُ النَّصبُ، ويجرُّ ما حقُّهُ الرَّفعُ، فتنقلبُ الأُمورُ على السَّامعِ، ويَفهمُ مِن كلامِهِ خِلافَ مُرادِه ؛ وهذه – واللهِ– مِحنةٌ. لهذا يَتعيَّنُ على الطَّلبةِ أنْ يَتعلَّمُوا النَّحـوَ، وأن يُمَرِّنُوا ألسنتَهُمْ وأقلامَهُمْ عليه حتَّى لا تَسُوءَ سُمعتُهمْ بين النِّاس، ويَسقطَ قدرُهم، ويُوصَفوا بالجهلِ.
قالَ عبدُ اللهِ بنُ المباركِ -رحمه الله-: «اللَّحنُ في الكلامِ أقبحُ مِن آثارِ الجُدَرِيِّ في الوجهِ.»
وما أحسنَ ما قيلَ:
 
ولا تَعْدُ إصـلاحَ اللِّـسانِ فإنَّـهُ    يُـخَـبـِّــر عـمـَّا عــنــده ويُــبــيِّـنُ      
ويُعجِبُنـي زَيُّ الفَـتى وجمـالُه    فيَسقُطُ مِن عَيْني ساعةَ يَلْحَنُ  
واللَّحنُ ضررُهُ وَخِيمٌ، وخَطْبُهُ جسيمٌ ؛ فقد يؤدِّي بِصاحبِه إلى الكذبِ على اللهِ –تعالى– ورسولِه ﷺ، والتَّقَوُّلِ عليهما ؛ وكفَى بذلك جُرماً عظيماً وإثماً مُبيناً ؛ روى أبُو حاتمِ محمَّدُ بنُ حِبَّانَ البُسْتي عن الأصْمَعي أنَّه قالَ: «إنَّ أخوفَ ما أخافُ علـى طالبِ العلمِ إذا لم يَعرفْ النَّحوَ أنْ يَدْخُلَ فيما قالَ النَّبيُّ ﷺ: «مَن كذبَ عليَّ مُتعمِّدًا فليتبوَّأْ مقعدَهُ منَ النَّارِ»، لأنَّهُ ﷺ لم يكنْ لحَّانًا، ولم يلحَنْ في حديثِهِ، فمهْمَا رَويتَ عنه ولحنتَ فيه، فقد كَذبتَ عليه.»
وصاحبُ اللَّحْنِ يُدخِلُ في الكتابِ و السُّنَّةِ ما ليسَ فيهما، ويُخرِجُ منهما ما هو فيهما، بخلافِ الفصيحِ، فإنَّه يقرأُ القرآنَ دون لحنٍ، فيُقِيمُ حُروفَهُ وحُدودَهُ، لذا كانَ أفضلَ حـالًا وأرْفعَ شأنًا ؛ فعنْ سَلْمِ بنِ قُتَيْبَةَ قـال: «كنتُ عندَ ابنِ هُبَيْرَةَ الأكبرِ فجرَى الحديثُ حتَّى جرَى ذِكرُ العربيَّةِ فقال: واللهِ ما استوَى رَجُلانِ دينهُما واحدٌ، و حَسَبُهما واحدٌ، ومُروءتُهما واحدةٌ، أحدُهما يَلْحنُ والآخرُ لا يَلْحنُ، إنَّ أفضلَهُما في الدُّنيا والآخرةِ الَّذي لا يَلْحـنُ، قُلتُ: أصلحَ اللهُ الأميرَ، هذا أفضلُ في الدُّنيا لِفضلِ فصاحتِهِ وعَربيَّتِهِ، أرأيتَ الآخرةَ ما بالُهُ فُضِّل فيها ؟ قـالَ: إنَّهُ يقـرأُ كتابَ اللهِ على ما أنزلَهُ اللهُ، وإنَّ الذي يَلْحنُ يحمِلُهُ لحنُهُ على أنْ يُدخِلَ في كتابِ اللهِ – تعالى – ما ليسَ فيه، ويُخرِجَ منه ما هو فيهِ. قالَ: قلتُ: صـدقَ الأميرُ وبرَّ.»
وأكثرُ مَن ضلَّ مِن أصحابِ الفِرقِ المنحرفةِ، ومَن زاغَ من المبتدعةِ وأهلِ الأهواءِ، إنَّما أُتوا من جهلِهـم باللُّغةِ العربيَّةِ ؛ ففسَّروا النُّصوصَ تبعًا لأهوائِهم، وفهمُوا القرآنَ على غيرِ مُراد الله، فضلُّوا وأضلُّوا ؛ قال الزُّهري: «إنَّما أخطأَ النَّاسُ في كثيرٍ من تأويلِ القرآنِ لجهلِهم بلغةِ العربِ «.؛ وقالَ أبُو عُبَيْدٍ: «سمعتُ الأصمعيَّ يقولُ: سمعتُ الخليلَ بنَ أحمدَ يقولُ: سمعتُ أبَا أيُّوبٍ السَّخْتِيَاني يقولُ: «عامَّةُ مَن تزندقَ بالعراقِ لقلَّةِ علمِهم بالعربيَّة.»
وقالَ الشَّاطبيّ -رحمه الله- – في معرضِ حديثِه عن استدلالاتِ أهـلِ البدعِ –: «ومنها: تخرُّصُهـم على الكلامِ في القرآنِ والسُّنَّةِ العَرَبِيَيْنِ مع العُزوفِ عن علمِ العربيَّةِ، الذي يُفهمُ به عن اللهِ ورسولِه، فيفتاتونَ على الشَّريعةِ بما فهمُوا، ويدينونَ به، ويُخالفُونَ الرَّاسخينَ في العلمِ.»
وقالَ ابنُ جِنِّي-رحمه الله-: «... وذلكَ أنَّ أكثرَ مَنْ ضلَّ مِن أهلِ الشَّريعةِ عنِ القصدِ فيها، وحادَ عن الطَّريقةِ المُثلى إليها، فإنَّما استهواهُ واستخفَّ حِلمَهُ ضُعفه في هذه اللُّغةِ الكريمةِ الشَّريفةِ التي خُوطِـبَ الكافّةُ بها... ولو كانَ لهم أُنسٌ بهذه اللُّغةِ الشَّريفةِ، أو تصرُّفٌ فيها، أو مُزاولةٌ لها، لحَمَتهم السَّعادةُ بها ما أصارتهم الشِّقْوَةُ إليه بالبُعد عنها.»
أمَّا علماءُ أهلِ السُّنَّةِ فقد أدركُوا علاقةَ الإسلامِ المتينةَ باللُّغة العربيَّة، فأتقنوها غايةَ الإتقانِ، فكان ذلك خيرَ وسيلـةٍ للفهمِ الصَّحيحِ لنُصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ، وخيرَ عونٍ لهم على استنباطِ الأحكام الشَّرعيَّةِ.
ولقدْ كانَ سلفُنا الصَّالحُ يحرِصونَ على تقويمِ ألسنتِهم، ويجتنبونَ اللَّحنَ في كلامِهم، ويعدُّون ذلك عَيْبًا ؛ لذا أَمرُوا بتعلُّمِ العربيَّة والتَّففه فيها، للبُعد عن معرَّةِ الخطأ، وشَيْنِ الخطلِ. ومِن التَّشبُّهِ بهم اجتنابُ اللَّحنِ، لأنَّهم ما كانوا يَلحَنونَ في نُطقِهم، ولا يُخطِئون في خطِّهم.
ولمَّا كانتِ اللُّغةُ العربيَّةُ بهذه المثابةِ وفي هذه المنزلةِ، وأنَّها طريقٌ إلى فهمِ نُصوصِ الوحيَيْنِ، ووسيلةٌ لحفظِ الشَّريعةِ ذهبَ كثيرٌ مِنْ أهلِ العلمِ إلى القولِ بوجوبِ تعلُّمِها، وحُسنِ استعمالِها، واعتبرُوا ذلكَ منَ الدِّينِ.
قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة -رحمه الله-: «واعلمْ أنَّ اعتيادَ اللُّغةِ يُؤثِّرُ في العقلِ والخُلُقِ والدِّينِ تَأثيرًا قويًّا بيِّنًا، ويُؤثِّر أيضًا في مُشابهةِ صدْرِ هذه الأمَّةِ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ. ومُشابهتُهمْ تزيدُ العقلَ والدِّينَ والخُلُقَ. و أيضًا فإنَّ نفسَ اللُّغـةِ العربيَّةِ مِن الدِّينِ، ومعرفتُها فرضٌ واجبٌ، فإنَّ فهمَ الكتابِ و السُّنَّةِ فرضٌ، ولا يُفهمُ إلاَّ بفهمِ اللُّغةِ العربيَّةِ، وما لا يتمُّ الواجبُ إلاَّ به فهوَ واجبٌ، ثمَّ منها ما هو واجبٌ على الأعيانِ، ومنها ما هو واجبٌ على الكِفايـةِ، و هذا معنى ما رواهُ أبو بَكرِ بنِ أبي شَيْبَةَ: حدَّثنَا عِيسى بنُ يُونُسَ عن ثَوْرٍ عنْ عُمَرَ بنِ يَزيدَ قالَ: «كتبَ عُمَرُ ﭬ إلى أبي مُوسى الأشعري ﭬ: أمَّا بعدُ، فتفقَّهُوا في السُّنَّةِ، و تفقَّهُوا في العربيَّةِ، وأَعْرِبوا القرآنَ فإنَّه عربيٌّ.» وفـي حديثٍ آخرَ عن عُمَرَ ﭬ أنَّه قالَ: «تعلَّمُوا العربيَّةَ فإنَّها مِن دينِكمْ، وتعلَّمُوا الفرائضَ فإنَّها مِن دينِكمْ.» وهذا الَّذي أَمَرَ به عُمَرُ ﭬ مِن فِقهِ العربيَّةِ، وفِقهُ الشَّريعةِ يَجمعُ ما يُحتاجُ إليهِ، لأنَّ الدِّينَ فيه فِقهُ أقوالٍ وأعمالٍ، ففِقهُ العربيَّةِ هو الطَّريقُ إلى فِقهِ أقوالِهِ، وفِقهُ السُّنَّةِ هو الطَّريقُ إلى فِقهِ أعمالِهِ.»
وقَالَ النَّووِي -رحمه الله-: «وعلى طالِبِ الحديثِ أنْ يتعلَّمَ مِنَ النَّحوِ واللُّغَةِ ما يَسلَمُ به منَ اللَّحْنِ والتَّصحيفِ.»
وقال ابنُ الصَّلاحِ -رحمه الله-: «فحقٌّ على طالبِ الحديثِ أنْ يتعلَّمَ مِنَ النَّحْوِ واللُّغَةِ ما يتخلَّصُ بهِ عنْ شَيْنِ اللَّحْـنِ، والتَّحريفِ، ومَعَرَّتِهمَا.»
وقال السَّخاوي -رحمه الله-: «وظاهرُه الوجوبُ، وبه صرَّحَ العزُّ بنُ عبدِ السّلامِ، حيثُ قال (في أواخرِ القواعدِ): ...فالواجبةُ: كالاشتغالِ بالنَّحوِ الذي نُقيمُ به كلامَ اللهِ تعالى ورسولِه ﷺ، لأنَّ حِفظَ الشَّريعةِ واجبٌ لا يتأتَّى إلَّا بذلك، فيكونُ مِنْ مُقدِّمةِ الواجبِ، ولذا قال الشَّعبي: «النَّحوُ في العلمِ كالملحِ في الطَّعامِ، لا يَستغني شيءٌ عنه.» وكذا صرَّحَ غيرُه بالوجوبِ أيضًا، لكنْ لا يجبُ التَّوغُّلُ فيه، بل يكفيهِ تحصيلُ مُقدِّمةٍ مُشيرةٍ لمقاصدِهِ بحيثُ يفهمُها ويميِّزُ بها حركـاتِ الألفاظِ وإعرابَها لئلَّا يلتبسَ فاعلٌ بمفعولٍ، أو خبرٌ بأمرٍ، أو نحو ذلك. وإنْ كان الخطيبُ قال في "جامعه": إنَّهُ ينبغـي للمُحدِّثِ أنْ يتَّقيَ اللَّحنَ في روايتِهِ، ولنْ يقدِرَ على ذلك إلَّا بَعْدَ دُرْبةِ النَّحوِ، ومُطالعتِهِ عِلمَ العربيَّةِ.»
وقال المُظَفَّرُ بنُ الفَضْلِ -رحمه الله-: «فأمَّا النَّحوُ فإنَّهُ مِن شرائطِ المُتَكَلِّمِ، سواءً كان ناظمًا أو ناثرًا، أو خطيبًا أو شاعرًا، ولا يمكنُ أنْ يَستغنيَ عنه إلَّا الأخْرسُ الَّذي لا يُفصحُ بحرفٍ واحدٍ. وكان بعضُ البُلغاءِ يقولُ: إنِّي لأجدُ لِلَّحنِ في فمـي سُهُوكَةً كَسُهُوكَةِ اللَّحمِ...» وهذا حثٌّ على تقويمِ اللِّسانِ وتأدُّبِ الإنسانِ. وقال عليٌّ ﭬ: «تعلِّمُوا النَّحوَ فإنَّ بني إسرائيلَ كفرُوا بحرفٍ واحدٍ كانَ في الإنجيلِ الكريمِ مَسْطُورًا وهو: "أَنَا وَلَّدْتُ عِيسَى" –بتشديدِ اللَّامِ– فخفَّفُـوه، فكفرُوا.»

وما قدْ وردَ في الحثِّ على تَعلُّمِ النَّحوِ، وفي شرفِ فضيلتِه وجلالةِ صِناعتِه، لو تعاطيْنا حِكايتَه لاحتجْنا فيه إلى كتابٍ مُفردٍ، إذْ بمعرفتِهِ يُعقَلُ عنِ اللهِ –عزَّ وجلَّ– كتابُه، وما استوعاهُ مِن حكمتِهِ، واستودعَهُ مِن آياتِه المُبِينَةِ، وحُجَجِـهِ المُنِيرةِ، وقُرآنِهِ الواضِحِ، ومواعظِـهِ الشَّافيةِ، وبه يُفهمُ عن النَّبيِّ ﷺ آثارُه المؤدِّيةُ لأمرِهِ ونهيِهِ وشرائعِهِ وسُننِهِ، وبـه يَتَّسِعُ المرءُ في مَنطقِهِ، فإذا قالَ أفْصحَ، وإذا احتجَّ أوْضحَ، وإذا كتبَ أبلغَ، وإذا خَطبَ أَعْجب.»
وقدْ ضُرِبَتْ أمثالٌ بليغةٌ فيمنْ أحسنَ ألوانًا منَ العلمِ، ولكنَّه لم يُتقنِ العربيَّةَ، ولم يُحسنْ ضبطَ ألفاظِها ؛ فقالَ شُعبـةُ: «مَن طلبَ الحديثَ ولم يُبصِرِ العربيَّةَ، فمَثَلُهٌ مَثَلُ رَجُلٍ عليه بُرْنُسٌ ليسَ له رأسٌ.» أو كما قالَ.
وقالَ حمَّادُ بنُ سَلَمَةَ: «مَثَلُ الَّذي يَطلبُ الحديثَ ولا يَعرِفُ النَّحوَ مَثَلُ الحِمارِ عليه مِخْلاَةٌ لا شَعيرَ فيها.»
وتَضيِيعُ اللِّسانِ أَشدُّ وأَضرُّ على النَّفسِ مِن تضيِيعِ المالِ والثَّروةِ، فقدْ قالَ الشَّافعيُّ $: «تعلِّمُوا النَّحوَ، فإنَّه –واللهِ– يُزْرِي بالرَّجُلِ أنْ لا يكونَ فَصيحًا، ولقدْ بَلغَني أنَّ رَجُلًا دخلَ على زِيَادٍ ابنِ أبيه فقالَ له: "أصلحَ اللهُ الأميرَ، إنَّ أَبِينَا هلكَ، وإنَّ أَخِينَا غَصَبَنا على ما خلَّفهُ لنا"، فقالَ له زِيَادٌ: "ما ضيَّعتَ مِن نفسكَ أكثرَ ممَّا ضاعَ مِنْ مالِكَ".»
وكثرةُ الاعتناءِ بجمعِ المالِ والحرصُ على ذلك مَشْغلةٌ عن تقويمِ اللِّسانِ ؛ فقد رَوَى البَيْهَقِيُّ عنْ ابنِ السَّائبِ قالَ: «شهدتُ الحسنَ، فأتاهُ رَجُلٌ، فقال: "يا أبو سعيدٍ !" قال: "كَسْبُ الدَّوانيقِ شغلكَ أنْ تقولَ: يا أبا سعيدٍ !"»
ومِن الآثارِ السَّيِّئةِ للَّحنِ أنَّه قد يكونُ مانِعًا مِنْ إجابةِ دُعاءِ الدَّاعينَ، ومَسألةِ السَّائِلينَ ؛ فقد رَوَى البَيْهَقِيُّ – أيضًا – عـنْ محمَّدِ بنِ الفَضْلِ: حدَّثني الرِّياشِيُّ قال: «مرَّ الأصْمَعيُّ برَجُلٍ يدعُو ويقولُ في دعائِه: "يا ذُو الجلالِ والإكرامِ !" فقالَ له الأصْمعيٌّ: "يا هذا ! ما اسمُكَ ؟ فقالَ: لَيْثٌ، فقالَ الأصْمَعيُّ:

يُـنـاجِي ربَّـهُ باللَّـحـنِ لَيـْـثٌ    لِــذاك إذا دعــاهُ لا يُـجِـيـبُ"»    
بعدَ أنْ عرفنا هذا كلَّه، كيفَ نرضى إذا تكلَّمنا أنْ تكونَ ألسنتُنا مُعوجَّةً، وأحدُنا لا يرضى أنْ يكونَ الحذاءُ الَّذي في رجلِه إلَّا في نهاية الحُسنِ والبهاءِ والجَمَالِ ؟ وأيُّ عُضوٍ أَولى بأنْ يُحفظَ من الزَّلل مِن اللِّسان الذي كرَّمهُ الله تعالى، إذْ أنطقَهُ بتوحيدِه ؟
والعَجبُ –الذي لا يكادُ ينقضِي– مِنْ أُناسٍ لا يَعلمُ أحدُهم مِن عِلمِ العربيَّةِ إلَّا اسمَه، ولا مِن النَّحوِ إلَّا رسمَ، بل إنَّه قد لا يَستطيعُ أنْ يُركِّبَ جملةً تركيبًا صحيحًا، ولا يقدرُ على ضبطِ الكلماتِ بالشَّكلِ على الصَّـوابِ، ثمّ يتسوَّرُ المَرَاقِـي، فيدَّعي العلمَ، ثمَّ تراهُ يُمطِرُ على كلِّ مَن خالفَهُ بوابلٍ من السِّبابِ والشَّتائمِ وهـو يحسبُ أنَّه يُحسنُ صُنعًا. وتأمَّلْ معي –رعاكَ اللهُ– في هذه الواقعةِ واعتبرْ، فعنِ العبَّاسِ بنِ المُغِيرةَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ عن أبيهِ قـالَ: «جاءَ عبدُ العزيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ في جماعةٍ إلى أَبي لِيعرضُوا عليه كتابًا، فقرأهُ لهم الدَّرَاوَرْدِيُّ –وكانَ رَديءَ اللّسانِ يَلْحَنُ لحنًا قبيحًا–، فقالَ أبي: "ويحكَ يا دَرَاوَرْدِيُّ ! أنتَ كنتَ إلى إصلاحِ لسانِكَ قبلَ النَّظرِ في هذا الشَّأنِ أحوجُ منكَ إلى غيرِ ذلك. "»
وأُنبِّهُ –في الخِتامِ– على أمـرٍ مُهمٍّ وهو أنَّ دراسةَ النَّحوِ ومَعرفةِ قواعدِه ليس مَطلوبًا لذاتِه، بل هو وَسيلةٌ لغايةِ كُبرى وهي تقويمُ اللِّسانِ، وضبط التَّعبيرِ. ومِن الخطإِ البيِّنِ أنْ نَقْصُرَ الاهتمامَ على دراسةِ النَّحوِ دونَ تطبيقٍ لقواعدِه، وضبطٍ للكلماتِ ضبطًا صحيحًا.
ولمَّا قلَّ أنْ يجتمِعَ في طالبِ العلمِ –اليومَ– تمكُّنٌ في النَّحوِ وفي العلومِ الشَّرعيَّةِ، فيَكْفِيه أنْ يأخذَ مِن اللُّغةِ العربيَّةِ ما يُقوِّمُ به لسانَه، ويَصونُه عن الخطإِ، وإنْ لم يَغُصْ في دقائقِها، ويتعمَّقْ في مسائلِها.
هذا، والعِلم عند الله، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.