منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم مشاركات اليوم Right Nav

Left Container Right Container
 

العودة   منتديات التصفية و التربية السلفية » القــــــــسم العــــــــام » الــمــــنــــــــتـــــــدى الـــــــــعــــــــام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 05 May 2008, 06:29 AM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي نقل لكتاب تخليص العباد من وحشية أبي القتاد للشيخ عبد المالك رمضاني / متجدد

سأحاول - إن شاء الله - نقل الكتاب بأكمله، مجزأً، و ذلك بمشاركة يومية.
يُرجى عدم إضافة ردود؛ لضمان تسلسل عناصر الكتاب.
و من وجد خطأ فليبلغ أحد المشرفين لتصحيحه.
و الله - وحده - الموفق لخير العمل.


--------------------------------------------------------------------------------------------------------

تخليص العباد من وحشية أبي القتاد الداعي إلى قتل النسوان و فَلَذات الأكباد
ردّ على أبي قتادة الفلسطيني في استباحة دماء الأطفال و النساء من المسلمين و غيرهم و بيان أن الإسلام بريء من ذلك



بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله – عز و جل –: {و إذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم و لا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم و أنتم تشهدون}.
و قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم -: "من خرج على أمتي يضرب برها و فاجرها، و لا يتحاشى من مؤمنها، و لا يفي لذي عهد عهده، فليس مني و لست منه" رواه مسلم.

و عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال: {دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة، و الناس مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه، فقال: كنا مع رسول الله – صلى الله عليه و سلم – في سفر، فنزلنا منزلا، فمنا من يصلح خِباءه(1) ، و منا من ينتضل(2) ، و منا من هو في جشره(3) ، إذ نادى منادي رسول الله – صلى الله عليه و سلم -: الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، فقال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، و ينذرهم شر ما يعلمه لهم، و إن أمتكم هذه جُعل عافيتها في أولها، و سيصيب آخرها بلاء و أمور تنكرونها، و تجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا، و تجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه !! فمن أحب أن يُزحزح عن النار و يُدخل الجنة فلتأته منيته و هو يؤمن بالله و اليوم الآخر، و ليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، و من بايع إماما فأعطاه صفقة يده و ثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر".
فدنوت منه فقلت له: أنشدك الله ! آنت سمعت هذا من رسول الله – صلى الله عليه و سلم –؟ فأهوى إلى أذنيه و قلبه بيديه، و قال: سمعته أذناي و وعاه قلبي... رواه مسلم [1844].

وقال بن مسعود – رضي الله عنه –: (إنها ستكون أمور مشتبهات، فعليكم بالتُّؤدة؛ فإنك أن تكون تابعا في الخير خير من أن تكون رأسا في الشر).

و قال العلامة ناصر الدين الألباني – رحمه الله –: [و اليوم و التاريخ يعيد نفسه كما يقولون، فقد نبتت نابتة من الشباب المسلم، لم يتفقهوا في الدين إلا قليلا، و رأوا أن الحكام لا يحكمون بما أنزل الله إلا قليلا، فرأوا الخروج عليهم دون أن يستشيروا أهل العلم و الفقه و الحكمة منهم، بل ركبوا رؤوسهم، و أثاروا فتنا عمياء، و سفكوا الدماء في مصر، و سوريا، و الجزائر.]

و قال الحافظ بن كثير – رحمه الله –: [و هذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوع خلقه كما أراد !!].

المقدمة

إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، و من يضلل فلا هادي له، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله.
أما بعد، فإنني لا أكتب للجزائر و إن كنت لأكتب للجزائر، بعد هذه الجراحات التي طال أمدها، فعسر اندمالها، و لولا غور الجرح لما أجريت فيه قلما؛ لما فيه من تجديد ثياب العار و الشنار، و لكن قوما أرغمتهم محنة الجزائر على طأطأة الرؤوس عند معاينة الهزيمة بعد الجريمة، فمدوا أعناقهم إلى غيرها من البلاد الإسلامية؛ ظنا منهم أنهم قادرون أن يتحاشوا أخطاء من سبقهم ليحققوا ما أخفق فيه أولئك !

و السعيد من وُعظ بغيره و لم يتعظ به الناس، و أنى لهؤلاء ذلك و هم لا يزالون يحسبون السراب ما بقيعة، بعد كدر الصنيعة، و الله يقول: {إن الله لا يصلح عمل المفسدين} [يونس 81] ؟ !

و لقد كان يسعني أن أستروح إلى التحليلات السياسية لدى الأحزاب الإسلامية اليوم، فأرمي بثقل تلك الجرائم على عاتق المخابرات؛ لأبرئ ساحات من باشرها على مرأى منا و مسمع، فأحظى بعدها بتزكية الحركات الإسلامية، التي لا يعنيها أن تصدق و تطهر بواطنها، بقدر ما يعنيها أن تستر كل من عاند السلطان و تُزَيّن ظواهرها، و لكن:
كتبت و قد أيقنت يوم كتابتي [][][][] بأن يدي تفنى و يبقى كتابها
فإن عملتْ خيرا ستجزى بمثله [][][][] و إن عملتْ شرّا عليّ حسابها

و لا يزال الحق يُمتحن بالباطل، و يُبتلى الخير بالشر، كما قال الله – تعالى –: {كذلك يضرب الله الحق و الباطل} [الرعد 17]، و أبطل الباطل قسمان:
أحدهما: الكفر،
وثانيهما: البدعة.

و قد أخبرنا الله – عز و جل – أن الكفر كلما قوي أهله لم يراعوا لأهل الحق قرابة و لا عهدا، فقال: {كيف و إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ و لا ذمّة يرضونكم بأفواههم و تأبى قلوبهم و أكثرهم فاسقون} [التوبة 8].

وكذلك شأن أهل البدع، فكم امتُحن الإسلام بهم و شُوّهت صورته الجميلة بما حرّفوا من نصوصه، و كم عانى المسلمون منهم، و ذاقوا مرّ كيدهم للسنة و أهلها !

و لو ترك أهل الحق أهل الباطل من الكفار يعربدون لذهبت معالم الإسلام، و لما فرّق الناس بين توحيد و شرك، قال الله – تعالى –: {و لولا دفعُ الله الناسَ بعضهم ببعض لهُدّمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} [الحج 40].

و لو ترك أهل الحق أهل الباطل من المبتدعة يعربدون لذهبت معالم السنة، و لما فرّق الناس بين عبادة الرسول – صلى الله عليه و سلم – و عبادة معاندِ الرسول – صلى الله عليه و سلم –، قال الله – عز و جل –: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور 63].

قال الفضيل بن عياض – رحمه الله –: [كيف بك إذا بقيت إلى زمان شاهدت فيه ناسا لا يفرقون بين الحق و الباطل، و لا بين المؤمن و الكافر، و لا بين الأمين و الخائن، و لا بين الجاهل و العالم، و لا يعرفون معروفا و لا ينكرون منكرا]. رواه بن بطة في 'الإبانة / الإيمان' (24).

أما شبهات الكفر و أهله فقد دحضها الله في كتابه و على لسان رسوله – صلى الله عليه و سلم –، و اقتدى بذاك علماء الإسلام فلم يتركوا لهم حجة إلا فنّدوها، قال الله – تعالى –: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق و لكم الويل مما تصفون} [الأنبياء 18].

و أما شبهات البدعة و أهلها فقد دحضها عصبة رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، و ذبوا عن حياض السنة بما حمدهم عليه من طابت أفئدتهم بالسنة، قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "لا تزال طائفة من أمتي قائمةً بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم و لا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله و هم ظاهرون على الناس" متفق عليه من حديث معاوية – رضي الله عنه.
و عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم و لا آباؤكم، فإياكم و إياهم !" رواه مسلم.

و من هؤلاء الذين تضرر بهم المسلمون اليوم و صاروا محنة على الإسلام: الخوارج، و هم و إن كان تاريخهم قديما، بل هم أقدم من ضل من فرق المسلمين، [فمازال الفكر التكفيري يمضي بقوة في أوساط شباب الأمة، منذ أن اختلقته الخوارج الحرورية، لا يرعوي إلا في فترات بزوغ منهج أهل السنة و تألق عقيدة سلف الأمة، و لا أكون مبالغا في القول: إنه سبب كَثرةٍ كاثرة من البلايا و الرزايا التي مُنيت بها الأمة في ماضي الزمان و حاضره، و ما هذه التفجيرات المدمرة و السيارات المفخخة و الاغتيالات الغاشمة و المذابح الماكرة للمصلين، بل للشيوخ و الأئمة، ما هذا كله و غيره من فواجع أضرمت القلب، و أمرت العيش إلا ثمرة بشعة من ثمرات الفكر التكفيري و عواقبه و لواحقه.

و مما يأخذ بالمرء في شعاب الهموم و أودية الأحزان ما نراه من بعض المنتسبين لمعاقل أهل السنة من تسرب بعض مسائل هذا الفكر إليهم، بل صاروا يؤلفون فيه و يدعون إليه، و يقذفون بالإرجاء و التعطيل و العلمنة من لم يتبدل فكره بفعل العواطف و المتغيرات، و لم يثنه عن أصول أهل السنة الحماسةُ و السياسات] من قلم الدكتور خالد العنبري في كتابه 'هزيمة الفكر التكفيري' (ص 6).

و لا ريب أن هذا الوصف هو الذي نعيشه اليوم، و بين الحين و الآخر تخرج إلينا جماعة من جماعات التكفير، و تدخل في صراع مع حكوماتها، بل و مع شعوبها، ثم يتفرق عنها جماعات، و كلما خرجت أمة لعنت أختها، و بادلتها تُهم التكفير، و ربما أدّى الأمر إلى إعمال الأيدي فيما بينها، و كلها من مشتقات الخوارج !

قال الإمام الشوكاني – رحمه الله – في 'السيل الجرّار' (4 / 584 – 585): [و ها هنا تُسكب العبرات، و يناح على الإسلام و أهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر، لا لسنة و لا لقرآن، و لا لبيان من الله و لا لبرهان، بل لما غلت به مراجل العصبية في الدين، و تمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين، لقّنهم إلزامات بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء، و السراب بقيعة، فيا لله و للمسلمين من هذه الفاقرة التي هي من أعظم فواقر الدين، و الرزية التي ما رُزي بمثلها سبيل المؤمنين... !
و الأدلة الدالة على وجوب صيانة عِرض المسلم و احترامه يدل بفحوى الخطاب على تجنب القدح في دينه بأي قادح، فكيف إخراجه عن الملة الإسلامية إلى الملة الكفرية ؟ ! فإن هذه جناية لا تعدلها جناية، و جرأة لا تماثلها جرأة، و أين هذا المجترئ على تكفير أخيه من قول رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "المسلم أخو المسلم، لا يظلهم و لا يُسلمه"، و قوله – صلى الله عليه و سلم –: "سِباب المسلم فسوق، و قتاله كفر"، و قوله – صلى الله عليه و سلم –: "إن دماءكم و أموالكم و أعراضكم عليكم حرام"].
و صدق – رحمه الله –؛ فهذه الجزائر منذ فشت فيها هذه المقالة، و هي في خراب و اضطراب، بدؤوا بالحكام، ثم تدحرجوا إلى سائر الأنام، متقربين إلى الله بتكفيرهم سرّا و علانية؛ يرجون تجارة لن تبور!

لقد بدأت هذه السلسلة من الفتن عن طريق الخطب السياسية المحرضة، التي سب الحكّام فيها كتسبيح الطرائق الصوفية لا يحصيه العادّ، فإذا نهاهم الناصحون من أهل العلم عن هذا الأسلوب، لم يكن لديهم من الأخلاق ما يمنعهم من اتهامهم بأنهم أذناب سلطان، أو أنهم مجادلون عن الطواغيت !
و الذي مد في أجَل هذا الفكر و بسط سلطانه في ديار أهل السنة هو تهاون الغافلين عن التصدي له، و قد توهّموا – بمكر من متغافلين ! – أن منطق هذا الخطاب لا يتجاوز منطق القواعد من النساء، فإذا بالأمر يمتد إلى تكتيل الناس على أفكار كانت من إفرازات التهييج السياسي، و من لم يجمع قلبه على هذه الأفكار – التي غالبا ما تكون من نتاج بشري – أعملوا فيه معاول الولاء و البراء بفقه حزبي أعمى، فإذا تصدى لهم الناصحون بالنهي عن هذا التحزب رموهم بالعشوائية في العمل الإسلامي، و اتهموهم بتحريم العمل الجماعي تدليسا، و نفّقوا تحزبهم بتسميته (عملا جماعيا) تلبيسا !

ثم امتد الأمر إلى تقديم بيعة، و لو كانت في بلد مسلم عليه أمير مسلم !
فإذا وُوجِهوا بنهي الشريعة عن بيعة تحت بيعة، قالوا: لا يفقهون واقع الطواغيت !

ثم امتد الأمر إلى المطالبة السياسية في البرلمان أو المجالس النيابية، و هنا باب من يلجه لا يخرج منه إلا ضاربا أو مضروبا؛ لأن طبيعة المطالبة تدل على المغالبة !

و عندها يرخص كل شيء في سبيل الوصول إلى السلطان، يرخص الدم و العِرض و المال، بل و الدين؛ لأننا وجدنا أهله مستعدين لبذل ما يُطلب منهم من دين، عِوضا عما يُمَنَّون به من الوصول إلى رتبة السلاطين !

و هنا تنغمر الأمة الضعيفة في بحر من الفتن لا ساحل له، و تهيج النفوس، و تسكُر أشد من سُكر الكؤوس، إنّه سُكر حب السلطان، و يبغي بعضهم على بعض حتى يقتتل ذوو الأرحام...

و تتقطّع الأمة إلى شيع، عددها كما قيل: (إسراف في أطراف)، و شرّها للناس هم أهل التكفير باعتساف، ظاهرهم الغيرة على الدين، و باطنهم الكيد للمسلمين، بزعم ارتدادهم، و من ثَم استحقاقهم السيف !

و لعل القارئ لا يدري أننا نعالج فتنة قوم بدأ مرضهم بحرب كلام، و انتهى إلى استحلال المال الحرام؛ إذ قالوا بحِلّ اختلاس أموال الكفار، بل و بحِلّ دماء المسلمين الأبرار منهم و الفجّار !

و زادوا في الشطط، فدعوا إلى الخروج على السلاطين، حتى انتهى بهم الضلال إلى حمل السلاح في وجوه جميع من لم يلحق بهم من المسلمين، بل غزوا قراهم غزوا جماعيا، لا يرحمون امرأة و لا صغيرا و لا كبيرا فانيا !!

و الأغرب منه هو بروز هذه الجرائم في صورة فتاوى شرعية، تلك هي فتاوى أبي قتادة الفلسطيني !
فمن ذا الذي يُطيق السكوت على ذا ؟ !
و من ذا الذي يرغب في هذا الإسلام؟ !
فتاوى سخيفة، و عبث بالأرواح الضعيفة، فلأقولنّ له قريبا مما قيل:
أَوْسَعْتَنا يا نحسُ سُخفا و عبثْ [][][][][][] لأَنْفِيَنّك كما يُنفى الخبثْ

و قد كنت من أول يوم – قبل هجرتي من الجزائر و قبل أن يحصل هذا – أسمّي هؤلاء بالتسمية الشرعية اللائقة بهم، فأقول: (إنهم خوارج)، فكان المتظاهرون بالاعتدال و معهم طائفة من الجهّال يستعظمون علينا ذلك، و يرونه غلوّا، حتى رأوا من يتقرب إلى الله بدم أبيه و أمّه، و من ذبح من عائلته أربعة عشر نفسا لـ (وجه الله !!) فهَِم الخطاب القديم، و لقد أجاد من قال:
بَذَلتُ لهم نُصحي بمُنعرج اللّوى [][][][][][] فلم يَسْتَبينوا الرشد إلا ضحى الغدِ
و قال البخاري في 'صحيحه' (13 / 47 – الفتح): وقال ابن عيينة عن خلف بن حوشب: كانوا يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن، قال امرؤ القيس:
الحـرب أول ما تـكون فـَتـيّـة [][][][][] تسعى بـزينتها لـكـل جهـولِ
حتى إذا اشتعلت و شبّ ضِرامها [][][][][] ولت عجوزا غير ذات حليلِ
شـمـطـاء يـنـكـر لونها و تغيـرت [][][][][] مكـروهـة للـشـم و التقـبـيـلِ

و آخرون لم يفهموا الخطاب إلى الآن، استفظعوا هذه الأمور أن يقوم بمثلها مسلم، فيتكلمون بالظنون، و يتهمون من لا يعرفون، مع أنهم لو ألقوا نظرة خاطفة على تاريخ الخوارج ما تحيروا و لا تخرّصوا، لقد قاتل علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – الخوارج الأُول، و كان معه أبو أيوب الأنصاري – رضي الله عنه – و غيره من الصحابة، قال بن كثير في 'البداية و النهاية' (10 / 588): [قال أبو أيوب: وطعنت رجلا من الخوارج بالرمح فأنفذته من ظهره، و قلت له: أبشر – يا عدو الله – بالنار، فقال: ستعلم أيّنا أولى بها صِلِيا !!)، و انظر 'تاريخ الطبري' (3 / 122).

و أورد ابن سعد في 'الطبقات الكبرى' (3 / 39-40) قصة عبد الرحمن بن ملجم الخارجي الذي قتل عليّا – رضي الله عنه – و ذكر (أن عبد الله بن جعفر قطع يديه و رجليه فلم يجزع و لم يتكلم، فكحّل عينيه بمسمار محمّى فلم يجزع، و جعل يقول: إنك لتكحّل عيني عمِّك بمُلمُول مضٍّ(4)، و جعل يقول: {اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق}، حتى أتى على آخر السورة كلّها و إن عينيه لتسيلان، ثم أمر به فعولج عن لسانه ليقطعه فجزَع، فقيل له: قطعنا يديك و رجليك و سملنا عينيك – يا عدو الله – فلم تجزع، فلما صرنا إلى لسانك جزعت؟ !
فقال: ما ذاك مني من جزع، إلا أني أكره أن أكون في الدنيا فُوَاقاً لا أذكر الله !).
و الفُواق هنا هو على معنى الزمن الذي بين فتح يدك و قبضها على الضَّرْع، كما في 'القاموس المحيط' للفيروزآبادي مادة فوق، و معناه أن هذا المجرم الذي قتل عليّا – رضي الله عنه – جزع من أن تمر عليه اللحظة القصيرة و لا يذكر فيها الله !

و قد كانوا لا يتورّعون من عدّ أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم – المبشرين بالجنة من أئمة الكفر؛ ففي 'فتح الباري' لابن حجر (8 / 426) قال: [و قد روى ابن مَرْدويه من طريق أبي عوْن عن مصعب، قال: نظر رجل من الخوارج إلى سعد (أي ابن أبي وقاص – رضي الله عنه –)، فقال: هذا من أئمة الكفر !! فقال له سعد: كذبت ! أنا قاتلت أئمة الكفر، فقال له آخر: هذا من الأخسرين أعمالا !! فقال له سعد: كذبت ! {أولئك الذين كفروا بآيات ربهم} (الكهف 105) الآية].

و صدق الإمام ابن كثير إذ يقول في 'البداية و النهاية' (10 / 580): [و هذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوّع خلقه كما أراد، و سبق في قدره ذلك، و ما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج: إنهم المذكورون في قوله – تعالى –: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا (103) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (104) أولئك الذين كفروا بآيات ربهم و لقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} (الكهف 103-105) !
و المقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال، و الأشقياء في الأقوال و الأفعال، اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين...]

و قد ذكر هذا – رحمه الله – بعد أن ساق بعض الحكايات الغريبة عنه، و لا بأس من سوق شيء منها لينظر القارئ التشابه بين المتقدمين و المتأخرين، و منها ما رواه عبد الملك بن أبي حرّة [أن عليّا لما بعث أبا موسى لإنفاذ الحكومة، اجتمع الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فخطبهم خطبة بليغة، زهدهم في هذه الحياة الدنيا،و رغبهم في الآخرة و الجنة، و حثهم على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ثم قال: فاخرجوا بنا – إخواننا – من هذه القرية الظالم أهلها إلى جانب هذا السواد، إلى بعض كوَر الجبال، أو بعض هذه المدائن منكرين لهذه الحكام الجائرة، ثم قام حرقوس بن زهير، فقال بعد حمد الله و لثناء عليه: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، و إن الفراق لها وشيك، فلا تدعونّكم زينتها و بهجتها إلى المقام بها، و لا تلفتنّكم عن طلب الحق و إنكار الظلم؛ فإن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون، فقال سنان بن حمزة الأسدي: يا قوم ! إن الرأي ما رأيتم، و إن الحق ما ذكرتم، فولّوا أمركم رجلا منكم، فإنه لا بد لكم من عماد و سناد، و من راية تحفون بها و ترجعون إليها، فبعثوا إلى زيد بن حصن الطائي و كان من رؤوسهم، فعرضوا عليه الإمارة عليهم فأبى، ثم عرضوها على حرقوص بن زهير فأبى، ثم عرضوها على حمزة بن سنان فأبى، ثم عرضوها على شريح بن أبي أوفى العبسيّ فأبى، ثم عرضوها على على عبد الله بن وهب الراسبيّ فقبلها، أمّا – و الله !– لا أقبلها رغبة في الدنيا و لا أدعها فَرَقًا من الموت.
و اجتمعوا أيضا في بيت زيد بن حصن الطائي السنبسيّ، فخطبهم و حثهم على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و تلا عليهم آيات من القرآن، منها قوله – تعالى –: {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق و لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} الآية (سورة ص 26)، و قوله: {و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (المائدة 44)، و التي بعدها و بعدها {الظالمون} (45)، {الفاسقون} (47)، ثم قال: فأشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى و نبذوا حكم الكتاب، و جاروا في القول و الأعمال، و أن جهادهم حق على المؤمنين، فبكى رجل منهم يُقال له عبد الله بن شجرة السُّلمي، ثم حرّض أولئك على الخروج على الناس، و قال في كلامه: اضربوا وجوههم و جباههم بالسيوف حتى يُطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم و أُطيع الله كما أردتم آتاكم الله ثواب المطيعين له العاملين بأمره، و إن قتلتم فأي شيء أفضل من الصبر و المصير إلى الله و رضوانه و جنته؟ !!].
لا ريب أن هذه القصة تذكّر من عرف الخوارج اليوم كثيرا من نقاط التشابه بينهم و بين أولئك، مع ملاحظة ما أوتوا – من إعانة إبليس لهم – من أساليب خطابية ملهبة لمشاعر من قل صبره على السنة، و من الله وحده العصمة و له المنة.

و قد تصدّيتُ لهذه الكتابة لقلة المتصدين لها على الرغم من اشتداد البلاء بهذه الجماعات، و انتشار سُمّها في جسد الأمة، مع كثرة المنخدعين بها، و كذا المدافعين عنها من خارجها، أو الساكتين عنها: أولئك النافخون في كير الفتنة.
و قد قرأت لبعض الغيورين كتابات دعوية عظيمة، دعموها بفتاوى الأئمة الكبار؛لدحض حجج أولئك الأغرار، فكان لها الأثر الطيب في ذلك، و اشتهر عند الناس رأي أولئك: الألباني و ابن باز و ابن عثيمين – رحمهم الله –، واغتاظ التكفيريّون بها أشد الغيظ، و هم يرون أنه قد اتحدت كلمتها و اشتد عودها، و أشد ما غاظهم فيها أن يجتمع سواد الأمة على الرجوع إلى هؤلاء الجبال الثلاثة و من معهم من أهل العلم، فكادوا لهم، و حركوا غيرهم هنا و هناك، بعد أن كاد يُقطع نسل هذه الجماعة !
و في الوقت الذي يشيّع الناس جنازتها، و يهيلون التراب على جدثها، كتب أقوام من الأحداث كتبا في اتهام المجاهدين لها – من أهل السنة بل من أئمة السنة – بالإرجاء، فذرّت قرنها، و رفعت عقيرتها، و قد رأت أن صار لها مراجع... !
من أجل هذا جرّدت قلمي، و أنا راج من الله أن يكتبني في المجاهدين، كما قال ابن القيّم – رحمه الله – في 'التبيان في أقسام القرآن' (ص 132): [القلم الجامع هو قلم الرد على المبطلين و رفع سنّة المحقين و كشف أباطيل المبطلين، على اختلاف أنواعها و أجناسهاّ، و بيان تناقضهم و تهافتهم، و خروجهم عن الحق، و دخولهم في الباطل، و هذا القلم في الأقلام نظير الملوك في الأنام، و أصحابه أهل الحجة الناصرون لما جاءت به الرسل، المحاربون لأعدائهم، و هم الداعون إلى الله بالحكمة و الموعظة الحسنة، المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال، و أصحاب هذا القلم حرب لكل مبطل، و عدو لكل مخالف للرسل، فهم في شأن، و غيرهم من أصحاب الأقلام في شأن].

هذا و لم أتوسع في مراجع الرجل، و إنما اعتمدت في نقل أغلب كلامه على ثلاثة:
الأول: مقالاته التي ينشرها في مجلة الأنصار الصادرة في لندن، و قد أحيلُ أحيانا إلى كتبه 'الجهاد و الاجتهاد' الذي جُمع فيه جلّ أبحاث مجلته هذه.
الثاني: خطبة جمعة له في لندن، في حكم ما قامت جماعة في الجزائر من قتل للنساء و الأطفال، و هي مشهورة متداولة.
الثالث: حوار أجرته معه جريدة 'الحياة'، العدد (13219)، في (ص 6)، بتاريخ: (الثلاثاء 3 صفر 1420 هـ)، و الموافق لـ (18 أيار مايو 1999 م).
و قد صورت جميع الوثائق التي استقيت منها المعلومات بحسب الإمكان، و جعلتها في أماكنها من الكتاب حتى تكون قريبة من عين القارئ، فبلغت أكثر من ثلاثين وثيقة.

و لا بأس من تذكير القارئ الكريم بأنني كتبت في الموضوع ثلاثة كتب:
الأول: 'مدارك النظر في السياسة بين التطبيقات الشرعية و الانفعالات الحماسية'، و قد جعلته خاصا بباب السياسة.
الثاني: 'فتاوى العلماء الأكابر فيما أُهدر من دماء في الجزائر'، و قد جعلته خاصا بباب الدماء، و كلاهما قد طبع و الحمد لله.
و الثالث: هو هذا، و هو في موضوعه تابع لسابقه، ثم لمّا طال الكتاب، جعلته قسمين: قسم هو هذا، جعلته خاصا بالدماء، و قسم خاص بالأعراض و الأموال، سمّيته 'تنبيه النبيه على لصّ بسمت فقيه'.

و أتقدم بالشكر الجزيل لجميع الإخوة الذين أمدوني بمراجع القوم، و أسال الله لهم السداد في القول و العمل، و الثبات على الإسلام و السنة، و أن يلحقنا و إياهم بالصالحين.
و أسأله – تعالى – أن يحقن دماء إخواني، و أن يحشرنا إليه إخوانا على سرر متقابلين، و أن يكتب لي القبول عنده فيما أكتب؛ فإن الله إن رضي عن عبده هانت عليه مساخط غيره، إنه نِعم المولى و نعم النصير.

المدينة في 29 ربيع الأول 1422 هـ.


----------------------------------------------------

(1) أحد بيوتات العرب، يكون من وبر أو صوف، وقيل من شعر أيضا.
(2) من المناضلة: و هي المراماة بالنّشّاب.
(3) هي الدواب التي ترعى و تبيت مكانها.
(4) أسند الحربيّ بعض هذه القصة في 'غريب الحديث' (1 / 331)، و قال في (1 / 337): [هو الميل الذي يُكتحل به]، و في 'لسان العرب' لابن منظور عند مادة مض: (و كحلَه بملمول مضٍّ، أي حار).
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 06 May 2008, 07:45 AM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

مدخل

فيه ثلاثة أصول:
الأول: وجوب العمل بالشريعة الإسلامية.
الثاني: التحذير من تكفير المسلم.
الثالث: حرمة دم المسلم.

وجوب العمل بالشريعة الإسلامية

المسلم الذي يؤمن بالله و رسوله لا يتردّد في العمل بأمر الله – عز و جل – و أمر رسوله – صلى الله عليه و سلم –؛ لأن ذلك من مقتضى إيمانه، قال الله – تعالى –: {إنما كان قولَ المؤمنين إذا دُعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا و أطعنا و أولئك هم المفلحون (51) و من يطع الله و رسوله و يخش الله و يتّقْه فأولئك هم الفائزون} (النور 51-52)، و الناس في تشريعاتهم يختارون لأنفسهم الأصلح في ظنهم، و لا أصلح مما اختاره الله لهم في شريعته حيث يقول: {أفحكم الجاهلية يبغون و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} (المائدة 50)، و كل شريعة غير شريعة الله فنحن منهيّون عن اتباعها؛ لأن الله قد قال – و لا قول مع قول الله –: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها و لا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18) إنهم لن يُغنوا عنك من الله شيئا و إن الظالمين بعضهم أولياء بعض و الله ولي المتقين (19)} (الجاثية).

و لهذا فإنه يستحيل أن يختار المسلم لنفسه حكما غير الله ذي الحكمة و العدل، و هو يقرأ قول الله – عز و جل –: {أفغير الله أبتغي حكما و هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا و الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين} (الأنعام 114)؛ و ذلك لأن كلام الله إما خبر و إما حكم، فخبره – عز و جل – صدق، و حكمه عدل، و لذلك قال عقِب هذه الآية: { و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته و هو السميع العليم} (الأنعام 115).

عن هانئ بن زيد – رضي الله عنه –: أنه لما وفد إلى رسول الله – صلى الله عليه و سلم – مع قومه سمعهم يكنّونه بأبي الحَكَم، فدعاه رسول الله – صلى الله عليه و سلم – فقال: "إن الله هو الحكم و إليه الحكم، فلم تكنّى بأبي الحكم؟" فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، فقال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟" فقال: لي شريح و مسلم و عبد الله، قال: "فمن أكبرهم؟" قال: شُريح، قال: "فأنت أبو شريح". رواه أبو داود (4955)، و النسائي (8 / 226-227) بإسناد صحيح.

و كيف لا يكون الأمر كذلك، و قد أعطى الله – تعالى – الحقوق لأهلها من غير حيف و لا نسيان، كما قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه" الحديث، أخرجه الترمذي، و صححه الألباني في 'صحيح الجامع' (1720).

فما كان من خبر القرآن و السنة صدّق به المؤمن، و أيقن به قلبه و لو لم يبلغه عقله، قال الله – تعالى –: {و منأصدق من الله قيلا} (النساء 122).

و ما كان من حكم القرآن و السنة تحاكم إليه المؤمن منشرح الصدر، و لو كان فيه ذهاب شيء من حظه العاجل، قال الله – تعالى –: {فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما} (النساء 65).

ذكر ابن القيم – رحمه الله – في 'مدارج السالكين' (2 / 171-172) الحديث الذي رواه مسلم (34) بلفظ: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، و بالإسلام دينا، و بمحمد رسولا"، و الحديث الذي رواه مسلم أيض (386) بلفظ: "من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله ربا، و بالإسلام دينا، و بمحمد رسولا، غُفرت له ذنوبه"، ثم قال: [و هذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين، و إليهما ينتهي، و قد تضمنّا الرضا بربوبيته سبحانه و ألوهيته، و الرضا برسوله و الانقياد له، و الرضا بدينه و التسليم له، و من اجتمعت له هذه الأربعة فهو الصديق حقا، و هي سهلة بالدعوى و اللسان، و هي من أصعب الأمور عند حقيقة الامتحان، و لا سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس و مرادها، من ذلك تبين أن الرضا كان لسانه به ناطقا، فهو على لسانه لا على حاله...

و أما الرضا بنبيه رسولا: فيتضمن كمال الانقياد و التسليم المطلق إليهن بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، و لا يحاكِم إلا إليه، و لا يحكّم عليه غيره، و لا يرضى بحكم غيره البتة، لا في شيء من أسماء الرب و صفاته و أفعاله، و لا في شيء من أذواق حقائق الإيمان و مقاماته، و لا في شيء من أحكام ظاهره و باطنه، لا يرضى في ذلك بحكم غيره، و لا يرضى إلا بحكمه، فإن عجز عنه كان تحكيمُه غيرَه من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة و الدم، و أحسن أحواله أن يكون من باب التراب الذي إنما يُتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور.

و أما الرضا بدينه: فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى، رضي كل الرضا، و لم يبق في قلبه حرج من حكمه، و سلّم له تسليما، و لو كان مخالفا لمراد نفسه أو هواها، أو قول مقلده و شيخه و طائفته.
و ههنا يوحشك الناس كلهم إلا الغرباء في العالم، فإياك أن تستوحش من الاغتراب و التفرد، فإنه – و الله! – عين العزة و الصحبة مع الله و رسوله، و روح الأنس به، و الرضا به ربا و بمحمد – صلى الله عليه و سلم – رسولا و بالإسلام دينا.

بل الصادق كلما وجد مسّ الاغتراب، و ذاق حلاوته، و تنسم روحه قال: اللهم زدني اغترابا و وحشة من العالم و أنسا بك، و كلما ذاق حلاوة هذا الاغتراب و هذا التفرد، رأى الوحشة عين الأنس بالناس، و الذل عين العز بهم، و الجهل عين الوقوف مع آرائهم و زبالة أذهانهم، و الانقطاع عين التقيد برسومهم و أوضاعهم، فلم يؤثر بنصيبه من الله أحدا من الخلق، و لم يبع حظه من الله بموافقتهم فيما لا يُجدي عليه إلا الحرمان.

و غايته مودة بينهم في الحياة الدنيا، فإذا انقطعت الأسباب، و حقت الحقائق، و بعثر ما في القبور، و حصل ما في الصدور، و بليت السرائر، لم يجد من دون موالاة الحق من قوة و لا ناصر، تبين له حينئذ مواقع الربح و الخسران، و ما الذي يخف أو يرجح به الميزان، و الله المستعان و عليه التكلان".
و من صفات المنافقين إرادة التحاكم إلى غير شريعة رب العالمين، قال الله – تعالى –: {أم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت و قد أمروا أن يكفروا به و يريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا (60) و إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله و إلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا (61)} (النساء 60-61).

فاحذر من الإعراض عما أنزله الله من حكم في كتابه و على قلب رسوله – صلى الله عليه و سلم –، فقد يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفرا، فتخرج من ملة الإسلام، و تخسر الدنيا و الآخرة، فلا تسعد في الدنيا بالحكم البشري الذي اخترته على حكم الله و فضلته عليه أو ساويته به؛ إذ لا سعادة إلا في ظل ما أنزل الله، و لا تسعد في الآخرة؛ إذ كنت في عِداد أعداء الله الذين قال فيهم: {و الذين كفروا فتعسا لهم و أضل أعمالهم (8) ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم (9)} (محمد 8-9).

و لا تزال الأمم في معيشة ضنك ما أعرضت عن الوحي، قال الله – تعالى –: {و من أعرض عن ذكري فإن به معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى (124) قال رب لم حشرتني أعمى و قد كنت بصيرا (125) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها و كذلك اليوم تُنسى (126)} (طه 124-126).

و ما نراه في مجتمعات المسلمين من اختلاف الرأي و تفكك الأواصر و لعن بعضهم بعضا هو نتيجة حتمية لبعد الناس عن العمل بالكتاب و السنة، أخبرنا بذلك رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، فقد أخرج بن ماجه (4019)، و الحاكم (4/540)، و صححه الألباني في 'الصحيحة' (106) عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: أقبل علبنا رسول الله – صلى الله عليه و سلم – بوجهه، فقال: "يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن، و أعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، و لم ينقصوا المكيال و الميزان إلا أُخذوا بالسنين و شدة المؤنة و جَوْر السلطان عليهم، و لم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، فلولا البهائم لم يُمطروا، و لم ينقضوا عهد الله و عهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، و ما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، و يتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله باسهم بينهم"

قال ابن تيمية عقب إيراده موضع الشاهد من هذا الحديث: [وهذا من أعظم أسباب تغيير الدول، كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة، في زماننا و غير زماننا، و من أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره، فيسلك مسلك من أيده الله و نصره، و يتجنب مسلك من خذله الله و أهانه] من 'مجموع فتاواه' (35/388).

فهيهات هيهات أن يعز قوم ولّوا شريعة ربهم ظهورهم، أخرج أحمد في 'الزهد' (ص 142) و أبو نعيم في 'الحلية' (1 / 216-217) بسند صحيح عن جبير بن نفير قال: (لمّا فُتحت قبرص فُرّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام و أهله؟ فقال: ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله – عز و جل – إذا أضاعوا أمره؛ بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى!).

و على هذه الحال جرت سنة الله في دول الإسلام، قال الشيخ إسماعيل الحسيني في كتابه 'تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن' (ص 84-85): [و كذلك الشام، كان أهله في أول الإسلام في سعادة الدنيا و الدين، ثم جرت فتن، و خرج الملك من أيديهم، ثم سُلّط عليهم المنافقون الملاحدة و النصارى بذنوبهم، و استولوا على بيت المقدس و قبلا الخليل، وفتحوا البناء الذي كان عليه و جعلوه كنيسة، ثم صلح دينهم فأعزهم الله و نصرهم على عدوهم لمّا أطاعوا الله و رسوله و اتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم.

و كذلك أهل الأندلس كانوا رقودا في ظلال الأمن و خفض العيش و الدعة، فغمطوا النعمة، و قابلوها بالأشر و البطر، فاشتغلوا بمعاصي الله – تعالى –، و أكبّوا على لهوهم و لم يتقوا مواقع سخط ربهم و مقته، ففعل الله بهم ما لا يحصره قلم كاتب، و لا يحصيه حساب حاسب، بتسليط عدوهم عليهم حتى مزقهم الله كل ممزق، و فرقهم أيادي سبا، و ارتد بعضهم على عقبه؛ ركونا إلى الدنيا الفانية و الحظوظ العاجلة، و من قرأ تاريخهم علم ما كان القوم عليه، و ما صاروا إليه، و في التاريخ أكبر عبرة لمن اعتبر].

و مقابلة سريعة بين ما وصل إليه أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم – من العز مع القلّة، و ما وصل إليه غيرهم من الذلة مع الكثرة، تنبيك بالفارق الكبير بين صاحب الطاعة و صاحب المعصية، قال الشيخ اسماعيل الحسيني في كتابه السابق (ص 79): [ألا ترى أن الصحابة – رضي الله عنهم – بعد وفاة نبيهم – صلى الله عليه و آله و سلم – فتحوا ما فتحوا من الأقاليم و البلدان، و نشروا الإسلام و الإيمان و القرآن في مدة نحو مائة سنة، مع قلة عدد المسلمين و عُدَدهم و ضيق ذات يدهم، نحن مع كثرة عددنا و وفرة عُدَدنا و هائل ثروتنا و طائل قوتنا، لا نزداد إلا ضعفا و تقهقرا إلى وراء، و ذلة و حقارة في عيون الأعداء].

هذا ما تيسر جمعه، و إنما أردت تنبيه المسلمين جميعا إلى سبب ما حل بديارهم من محن، و لم أرد به تخصيص الأمراء بالأمر بإقامة الدين؛ لأن الخلق كلهم مأمورون بإقامة دين الله.
و من أراد تخصيص الأمراء بهذا، ففي عرينهم، و بلين القول لهم، مع مراعاة حكمة الشرع في ذلك، كما قال الله – تعالى – لموسى و هارون – صلى الله عليهما و سلم –: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى (43) فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (44)}.

التحذير من تكفير المسلم

البلاء موكول بالمنطق، و اللسان مركب خطر من مراكب العَطَب، و قد حذرنا اللهم من شره ف آيات كثيرة جدا من كتابه؛ لأن المرء مسؤول يوم القيامة عما قاله في الدنيا، قال الله – عز و جل –: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} (ق 18).
و من الآفات اللسانية التي يسال عنها: تكفير المسلم بغير حق، كاتباع الظن أو المبالغة في رد عدوانه إلى حد تكفيره بلا مسوّغ، أو جعل كبائره نواقضَ لإيمانه، قال الله – تعالى –: {و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا} (النساء 94).
و في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "إذا قال الرجل لأخيه: (يا كافر!) فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال و إلا رجعت عليه".
و فيهما عن أبي ذر أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه و سلم – يقول: "من دعا رجلا بالكفر أو قال: (عدو الله!) و ليس كذلك إلا حار عليه".
و قال – صلى الله عليه و سلم –: "من رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله" رواه الطبراني من حديث هشام بن عامر، و صححه الألباني في 'صحيح الجامع الصغير' (6269).

و على هذا فينبغي للناصح لنفسه أن يتجنب أعراض المسلمين، ففي الصحيحين أن رسول الله – صلى الله عليه و سلم – قال: "سباب المسلم فسوق و قتاله كفر".

و إنما كان إثم التكفير عائدا على صاحبه إذا لم يكن المُكَفَّر أهلا لذلك؛ لأن الجزاء من جنس العمل، و قد ذكر بن رجب في 'النصيحة' (ص 21) أنه لمّا ركب ابن سيرين الدَّيْن و حٌبِس به، قال: (إني أعرف الذنب الذي أصابني هذا؛ عيرت رجلا منذ أربعين سنة، فقلت له يا مفلس!).
هذه كلمة قالها صاحبها منذ أربعين سنة فلم ينسها؛ لأن السلف لم يكونوا عن أنفسهم غافلين، فكيف إذا كان المرء يَلُوك كلمة (يا كافر!) – التي هي شر من (يا مفلس!) – صباح مساء؟!
و عن أبي سفيان قال: (سألت جابرا و هو مجاور بمكة، و كان نازلا في بني فهر، فسأله رجل: هل كنتم تزعمون أحدا من أهل القبلة مشركا؟ فقال: معاذ الله! و فزع لذلك، فقال: هل كنتم تدعون أحدا منهم كافرا؟ قال: لا) رواه ابو يعلى (2317)، و أحمد (3 / 389 – مختصرا) و أبو نعيم 'صفة النفاق' (137 – بنحوه) و الطبراني كما في 'مجمع الزوائد' (1 / 107)،و صححه ابن حجر في 'المطالب العالية' (3294).

و عن حذيفة – رضي الله عنه – قال:قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "إن أخوف ما أخاف عليكم رجل قرأ القرآن، حتى إذا رُئِيت بهجته عليه و كان ردءا للإسلام، انسلخ منه و نبذه و راء ظهره، و سعى على جاره بلسيف، و رماه بالشرك، قلت: يا نبي الله! أيهما أولى بالشرك: الرامي أو المرمي؟ قال بل الرامي" رواه البخاري في 'التاريخ' (2907) و ابن حبان (81)، و حسنه الألباني في'الصحيحة' (3201).


حرمة دم المسلم

قال الله – تعالى –: {و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} (الأنعلم 151)، و قال – تعالى –: {و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاءه جهنم خالدا فيها و غضب الله عليه و لعنه و أعد له عذابا عظيما} (النساء 93).
و لعظم شان الدماء كان قتل نفس واحدة كقتل أنفس، و إحياء نفس واحدة كإحياء ـنفس، قال الله – تعالى –:{ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا و لقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون} (المائدة 32)، قال مجاهد – رحمه الله –: (و من أحياها و لم يقتل أحدا فقد حيَّ الناس منه) رواه ابن أبي شيبة (9 / 363) و ابن جرير في 'تفسيره' (10 / 11784-11785).

و بهذا المعنى فهم الآية عثمان بن عفان – رضي الله عنه –، فقد آثر أن يموت وحده يوم الدار حيت اجتمع الثوار لقتله؛حقنا لدماء المسلمين و إحياء لهم، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: (دخلت على عثمان – رضي الله عنه – يوم الدار، فقلت: يا أمير المؤمنين طاب الضرب، جئت أقاتل معك، فقال: يا أبا هريرة! أيسُرُّك أن تقتل الناس جميعا و إياي معهم؟ قال: قلت: لا، قال: فإنك – و الله! – لئن قتلت رجلا واحدا لكأنما قتلت الناس جميعا، قال: فرجعت و لم أقاتل) رواه سعيد بن منصور في 'سننه' (2937) و نُعيم بن حماد في 'الفتن' (437) و ابن سعد في 'الطبقات' (3 / 70) و الخطيب في 'الكفاية' (ص 183)، و هو صحيح.

قلت: هذا نفَس من نفس طيبة، جاد بدمه لحفظ غيره، مع أنه أحق الناس بالنصرة، و الانتصار لعثمان ذي النورين – رضي الله عنه – انتصار لحق محقق، مع ذلك فقد آثر أن يموت هو ليحيا غيره، فكيف عمي أهل التكفير عن هذا؟!
بلى! إنه يبصره الراسخون، و يعمى عنه الماسخون؛ لأن الله يقول: {قل هل يستوي الذي يعلمون و الذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} (الزمر 9).

أم كيف عمي عنه رجل يزعم أن له يدا على الأفغان؛ بسبب ما قدم لجهادهم من أموال، ثم لمّا دار الأمر بين أن يُسجن أو يُقتل و بين أن يُقتل الشعب الأفغاني، شحّت نفسه بما جادت به نفس ذي النورين المخلصة، حتى قُتل من أجله أمة عظيمة من هذا الشعب المسلم من قبل عدو غاشم يفرحه عناد مطلوبه؛ ليصل إلى مرغوبه؟!!
أيُعقل أن يُفدى رجل بشعب، ثم يُنسب هذا المفدّى إلى الغيرة على الإسلام و المسلمين؟!
و لئن كن بالأمس قد حمى هذا الشعب من استعمار الروس الغاصبين، فلقد قدمه اليوم لقمة سائغة لأعداء عِطاش إلىدماء المسلمين!!

إن عثمان خليفة حقا، و راشد بكل معاني الرشد صدقا، و متزوج من بيت النبوة مرتين، و من أهل الجنة بلا مَين، و مظلوم بإجماع أهل السنة، و الخارجون عليه كلاب النار بلا ريب، على الرغم من ذلك لم تطِب نفسه بأن تُفدى بغير دمه، رضي الله عن هذه النفس الطيبة المخلصة.

و كيف خفي هذا عن أصحاب الحركة الذين يرون ضرورة (حرق جيل مسلم) من أجل الدفاع عن دعاة لا عزاء فيهم؟! بل هم كما قيل:
فإن تصبك من الأيام جائحة [][][][] لا نبك منك على دنيا و لا دين

و من الأصول التي كان رسول الله – صلى الله عليه و سلم – يحرص على تقريرها ما رواه مسلم (2564) و ابن ماجه (3933) عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه و ماله و عِرضه".

و كان رسول الله – صلى الله عليه و سلم – يجتهد في ذلك بقطع أسبابه و حسم مادته من أولها، فعن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال: "الملائكة تلعن أحدكم إذا أشار إلى أخيه بحديدة، و إن كان أخاه لأبيه و أمه" أخرجه مسلم (2616).

و عن أبي بكرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال: "إذا أشار الرجل على أخيه بالسلاح فهما على جرف جهنم، فإذا قتله وقعا فيها جميعا" أخرجه مسلم (2888) و أبو داود الطيالسي (925) و اللفظ له، و النسائي (4127) و ابن ماجه (3965).

و معنى "جرف": شِق الوادي، أي طرفه.
و عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال: "لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزَغ في يده فيقع في حفرة من النار" أخرجه البخاري (7072) و مسلم (126).

و أبْلغُ منه في حسم مادته ما أخرجه أحمد (5 / 362) و أبو داود (5004) و غيرهما بإسناد صححه الألباني في 'غاية المرام' (447)، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (حدثنا أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم – أنهم كانوا يسيرون مع رسول الله – صلى الله عليه و سلم – في مسير، فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى نبل معه فأخذها، فلما استيقظ الرجل فزع، فضحك القوم، فقال: "ما يضحككم؟" فقالوا: لا، إلا أنا أخذنا نبل هذا ففرع، فقال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "لا يحل لمسلم أن يروّع مسلما".

قال المناوي – رحمه الله – في 'فيض القدير' (6 / 447): [لا يحل لمسلم أن يروع مسلما و إن كان هازلا، كإشارة بسيف أو حديدة أو أفعى أو أخذ متاعه فيفزع لفقده؛ لما فيه من إدخال الأذى و الضرر عليه، و المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده].

و من أخلاق المؤمن أنه إن قتل قتل بالحق، و في رفق و إحسان؛ فعن ابن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه و سلم – أنه قال: "أعَفّ الناس قِتْلة أهل الإيمان" رواه أحمد (1 /393) و أبو داود (2666) و ابن ماجه (2682)، و هو حسن.

قال المناوي في 'فيض القدير' (2 / 7): [أي هم أرحم الناس بخلق الله و أشدهم تحريا عن التمثيل و التشويه بالمقتول و إطالة تعذيبه؛ إجلالا لخالقهم، و امتثالا لما صدر عن صدْر النبوة من قوله: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، و إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة"،بخلاف أهل الكفر و بعض أهل الفسوق، ممن لم تذق قلوبهم حلاوة الإيمان، و اكتفوا من مسماه بقلقلة اللسان، و أُشربوا القسوة، حتى أُبعدوا عن الرحمن، و أبعد القلوب من الله القلب القاسي، و من لا يَرحم لا يُرحَم].

و عن عقبة بن عامر – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال: "من لقي الله لا يُشرك به شيئا، لم يتندّ بدم حرام، دخل الجنة" أخرجه أحمد (4/152) و ابن ماجه (2618)، و هو صحيح.

قال السيوطي: [لم يتندّ: أي لم يصب منه شيئا، أو لم ينله منه شيء، كأنه نال نداوة الدم]، من حاشية 'سنن ابن ماجه'.
قال أبو بكر بن العربي – رحمه الله –: [ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق و الوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي، فكيف بالمسلم، فكيف بالتقي الصالح؟!]، من 'فتح الباري' لابن حجر (12 / 196).

عن جندب بن عبد الله – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال: "من استطاع منكم أن لا يحول بينه و بين الجنة – و هو يرى بابها – ملء كف من دم امرئ مسلم يقول: لا إله إلا الله، يهريقه بغير حلِّه كأنما يذبح به دجاجة، كلما تعرض لباب من أبواب الجنة حال بينه و بين المقتول ينازع قاتله إلى ربّ العالمين" رواه عبد الرزاق (10 / 26 – ببعضه) و ابن أبي عاصم في 'الديات' (ص 8) و الطبراني في 'الأوسط' (8 / 233) و في 'الكبير' (2 / 159 – ببعضه، و 160) و البيهقي في 'الشعب' (5350)، و هو صحيح.

و عند بعض هؤلاء بلفظ: عن الحسن البصري قال: (جلست إلى جندب في إمارة مصعب، فقال: إن هؤلاء القوم قد ولغوا في دمائهم و تحالفوا على الدنيا، تعلمون أني سمعت رسول الله – صلى الله عليه و سلم – يقول...) فذكره.

قال ابن حجر عقِبه في 'الفتح' (13 / 130): [و هو وعيد شديد لقتل المسلم بغير حق].

فبان أن هذه الأحاديث كانت تحجزهم عن مشاركة الناس فيما يُزعم أنه إصلاح للولاة، و لو تدبرها هؤلاء الوالغون في دماء الناس باسم (الجهاد لإقامة دولة الإسلام) لما تجرؤوا على ذلك؛ إذ هؤلاء أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، و هم أولى الناس بإمارة الناس، مع ذلك فقد كان من ورعهم ما رأيتَه.

و منه ما صح من رواية الإمام أحمد (5 / 367، 373، 376) و الطبراني (2 / 164) و البيهقي (8 / 191) عن أبي عمران الجني قال: (قلت لجند بن عبد الله: إني بايعت ابن الزبير على أن أقاتل أهل الشام، قال: لعلك تقول أفتاني جندب و أقتدي؟ قال: قلت: ما أريد ذلك، و لكني أستفتيك لتفتيني، (و في رواية إنهم يريدون أن أخرج معهم إلى الشام؟ فقال: أمسك عليك، فقلت: إنهم يأبَون)، قال: افتد بمالك، قلت: لا يُقبل مني، قال جندب: كنت على عهد رسول الله – صلى الله عليه و سلم – غلاما حَزوَّراً(1)، و إن فلانا أخبرني أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: يجيء المقتول يوم القيامة بقاتله، متعلق به، فيقول: يا رب! سله فيم قتلني؟ فيقول الله عز و جل –: فيم قتلتم هذا؟ فيقول في ملك فلان، قال جندب: فاتق لا تكون ذلك الرجل!).

فانظر إلى ورع القوم و اتقائهم الدماء، على الرغم من أن ابن الزبير – رضي الله عنه – هو الذي بويع له قبل خصمه، و هو صحابي، بل هو بن حواري النبي – صلى الله عليه و سلم – و ابن عمته!

ثم انظر إلى استدلال جندب – رضي الله عنه – بهذا الحديث الخاص بالقتال من أجل ملك الغير على قتال ابن الزبير – رضي الله عنه –، و لم يقل أحد منهم: إن هذا خذلان لأهل الحق الساعين لإقامة الدولة الإسلامية؛ و إنما شأن الدماء عظيم!

فتأمل توظيفهم لهذا الحديث و ما سبق من الأحاديث في هذا المقام، مع أن جهادهم – رضي الله عنهم – هو أصدق جهاد، و دولتهم هي أنظف دولة، و أما حديثنا عن الجهاد لتحقيق دولة الإسلام فـ {إن نظن إلا ظنا و ما نحن بمستيقنين}.

عظم شأن كلمة التوحيد و الكف عن أهلها

عن أوس بن أبي أوس الثقفي – رضي الله عنه – قال: أتيت رسول الله – صلى الله عليه و سلم – في وفد ثقيف، فكنا في قبة، فقام من كان فيها غيري و غير رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، فجاء رجل فساره، فقال: "اذهب فاقتله"، ثم قال: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟" قال: بلى! و لكنه يقولها تعوذا، فقال: رُدّه، ثم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها حَرمت علي دماؤهم و أموالهم إلا بحقها" رواه أحمد (4 / 8) و النسائي (7 / 80-81) وابن ماجه (3929)، و هو صحيح.

الكف عن أهل الصلاة

عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلا من الأنصار حدثه: أتى رسول الله – صلى الله عليه و سلم – و هو في مجلس، فساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فجهر رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، فقال: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى – يا رسول الله! – و لا شهادة له، قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "أليس يشهدان محمدا رسول الله؟ قال: بلى – يا رسول الله! – و لا شهادة له، قال: "أليس يصلي؟" قال: بلى – يا رسول الله! – و لا صلاة له، فقال النبي – صلى الله عليه و سلم –: "أولئك الذين نهاني الله عنهم" أخرجه أحمد (5 / 432 – 433) بإسناد صحيح.

قال ابن عبد البر في 'التمهيد' (10 / 153): [و في قول رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "أولئك الذين نهاني الله عنهم" رد لقول صاحبه القائل له: (بلى! و لا صلاة له، بلى! و لا شهادة له)؛ لأن رسول الله – صلى الله عليه و سلم – قد أثبت له الشهادة و الصلاة، ثم أخبر أن الله نهاه عن قتلهم، يعني عن قتل من أقر ظاهرا، و صلى ظاهرا].


-----------------------------
(1) الحزوّر: إذا قارب البلوغ، كذا في 'غريب الحديث' لابن قُتَيبة (3 / 758).

التعديل الأخير تم بواسطة أبو البراء إلياس الباتني ; 09 May 2008 الساعة 04:02 PM سبب آخر: تصحيح آية
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 06 May 2008, 04:51 PM
ابو عبد الله غريب الاثري ابو عبد الله غريب الاثري غير متواجد حالياً
وفقه الله
 
تاريخ التسجيل: Sep 2007
الدولة: الجزائر
المشاركات: 173
افتراضي

...

التعديل الأخير تم بواسطة ابو عبد الله غريب الاثري ; 06 May 2008 الساعة 04:55 PM
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 07 May 2008, 12:51 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

تعريف ببعض المسميات و أصحابها

تعريف ببعض الجماعات

ستجد هنا ذكرا لأسماء بعض الجماعات، فهذا تعريفها المختصر:
الجماعة الإسلامية المسلحة: هي جماعة الغلاة من التكفيريين في الجزائر، و هم الذين يرجعون إلى أبي قتادة الفلسطيني في فتاواه.

الجبهة الإسلامية للإنقاذ: حزب سياسي قام في الجزائر في حدود سنة (1409 هـ) أو قبلها بقليل، كان يترأسه الدكتور عباسي مدني، و ينوب عنه لسان الحزب علي بن حاج، تحول إلى الجيش الإسلامي للإنقاذ بعد أن أقصي من البرلمان في بداية سنة (1412 هـ).

الجماعة السلفية للدعوة و القتال: هي جماعة متأخرة الميلاد عن سابقتيها، و ليس لها من السلفية إلا الاسم؛ و إنما ظهرت لمنافسة السلفيين الحقيقيين؛ حتى تصرف الناس إليها، لا سيّما في بلاد الجزائر؛حيث أحب أهلها هذا الاسم بسبب دعوة العلامة الألباني – رحمه الله – خاصة، و غيره من أهل العلم عامة.

و قد أرادت هذه الجماعة أن تفرض وجودها في ساحة أهل السنة السلفيين و لم تفلح؛ لأن أرضها قفر من العلماء، و إنما نجحت الدعوة السلفية الحقّة لارتباطها بالعلماء، و قد قيل:
إن الأمور إذا الأحداثُ دبّروها [][][][] دون الشيوخ ترى في سيرها الخلل

و ما قيل فيها، يقال في جماعة: حماة السلفية!!

و هؤلاء و إن لم يكونوا في الوحشية مثل الجماعة الأولى، فإن ظهورهم جميعا مُثقلة بالدماء، نسأل الله العافية، و بينهم جميعا و بين الخوارج اشتقاق، و إن كانوا في عزة و شِقاق.

كما أنها ترجع في فتاواها إلى أبي قتادة الفلسطيني، و يبدو أنها لم تقنع به فهرعت إلى أبي بصير عبد المنعم مصطفى حليمة!!

روى أبو نُعيم في 'الحلية' (4 / 225) بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي قال: (كانوا يقولون و يرجون: إذا لقي الله الرجل المسلم و هو نقي الكفّ من الدم أن يتجاوز عنه و يغفر له ما سوى ذلك من ذنوبه).

من هو أبو قتادة؟

هو عمر بن محمود أبو عمر الأردني، يدعى أبا قتادة الفلسطيني؛ بالنظر إلى أصله، و هو بريطاني المهجر؛ بالنظر إلى البلاد التي اختارها الآن لنفسه، بعد هجره بلادَ المسلمين.

له في أكثر الدماء التي تُراق في العالم الإسلامي – و الإسلامي فقط! – يد، و لكنها يد دون يد؛ لأنه يحسّن لكل مبتغي دم – باسم الدين – عمله، ويزين لكل مفتون بالثورات – باسم الجهاد – (جهادَه!)، و لكنه لا يباشر شيئا من ذلك!

أدرك القتال الأفغاني في إدباره، فلَحَس ما بقي من تكفير على مائدته، حتى إذا غص بسمّه، التجأ إلى لندن عاصمة الاستعمار، و وجد عندها الظل الظليل، و الملجأ و المقيل، فتكفف منها اللجوء السياسي، وعندها وجد ضالته و بدأت المآسي!

آوته بريطانيا هو و أشكاله من الفارين من بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر، و أعتدت لكل واحد منهم متكأ، فمن ظلها و ظلالها جعل ينفث في كل البلاد الإسلامية سم التكفير، بل منها يحرك أوباشه الذين في بلاد الإسلام نحو القتل و التفجير!!

وهؤلاء لا يقاتلون إلا الأمة الإسلامية، فهي الغرض المنصوب لسهامهم، و العِرض المحبوب طعنه لأقلامهم!

لم يبقوا منها لحما إلا تعرَّقوه، و لا عظما إلا هشموه!

تلك هي سيرتهم في جهادهم: أما مع المسلمين، فضرب الهام، و أما مع الكفار فحرب كلام، و لا يغرنّكم مضاء ألسنتهم في أعراض الكفار، و لاغلَيان أفكارهم بها و إن كانت كغَلي القُدور، فليس أكثر من تحريش ربات الخدور.

و لذلك كان من مصائبه تقديم مجاهدة الدول المسلمة على مجاهدة الدول الكافرة؛ بزعم ارتدادها فقد قال في حواره مع جريدة 'الحياة'،العدد (13219)، في (ص 6)، بتاريخ: (3 صفر 1420 هـ): “نحن لا نريد أن نقاتل أمريكا إلا إذا صالت علينا، و كانت هي من بدأ بالقتال، هذا بخلاف قتال الأنظمة المرتدة في بلادنا، الذي يعتبر جهادها فرض عين على كل مسلم!!“.

قلت: هذا هو مذهب الخوارج تماما، قال فيهم رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "يقتلون أهل الإسلام، و يدَعون أهل الأوثان" متفق عليه.

و من تأمل هذه الجماعات الثائرة على دولها هنا و هناك، يجدها لا تكاد تقاتل أمة كافرة، و لو كانت ألدّ الأعداء كاليهود، بل هم – طول عمرهم – يثيرون الفتن في البلدان المسلمة، و يريقون دماء أهلها، و عدوهم الكافر آمن، بل جاثم على ديار المسلمين لا يهيّجه أحد، و لذلك لمّا خرج من بلادهم لحقوه، بل يلعنون الكفار، و لا يكاد يهنأْ لهم عيش إلا في بلاد الكفار!

فانظر إلى رؤوس التكفير اليوم، فلن تجدهم إلا في بلاد الكفر، قال الله – تعالى –: {و من يهن الله فما له من مكرم} (الحج 18).

و تمضي عليهم السنوات، و هم هكذا حتى ينقرض جيلهم و يأتي آخر ليعيد الكرة، و هم في كل مرة يُمنُّون أنفسهم و المسلمين بتحرير فلسطين و غيرها و لكن ذلك لا يجاوز ساحة ألسنتهم!

و إنما يتباكون على فلسطين و مثيلاتها ليحظوا بتزكية الناس لهم!

و الأمة الإسلامية لا تكاد تستريح من كيد جيرانها الكفار الذين رموها عن قوس واحدة، حتى يتألب عليها من بني جلدتها من يَشغلها عن معالي أمورها، فكيف تستقر بلاد الإسلام و هي بين جار محارب، و شريك في الدار مشاغب؟!

صورة الحوار السابق

[ ]

هذا، و قد كان من فتاوى هذا المشاغب إعلان جواز اختلاس أموال الكفار؛ كي يعيش حيث يعيش، بل جواز اختلاس أموال المسلمين في بلاد المسلمين؛ كي لا يحتج عليه من أوباشه مَن هناك يعيش، ممن لم (يُكرم بالهجرة إلى مثل بلاده تلك!)، فما عجب أم يطرب لهذه الفتوى أقوام بعد مسِّ اللُّغوب، و خفة الجيوب!

و كان من فتاواه أيضا – و الرجل لا يهاب الفتوى – جواز قتل النساء و الصبيان من المسلمين، كما سيأتي!

و هذه غصّة يعسر ابتلاعها، و مأساة يلين لها الجماد بمجرد سماعها، ظلم و ظلام، و فتاوى مقنعات بقناع نصرة الإسلام، قد تبعه فيها هوام، أفزعوا العباد، و أرعبوا البلاد، و غرّقوا أرضها بالدماء، و صيّروا أهلها قطعا من الأشلاء، و يُتِّم من بقي من الولدان، و أُرمل من حفظ الله من النسوان، و قُطعت سُبل أرض شاسعة آمنة، حتى ضاقت بأهلها...!!!
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ [][][][] إن كان في القلب إسلام و إيمانُ

تلك هي أرض الجزائر اليوم: عرض مغصوب، و مال منهوب، و دم مسكوب، فأين أهل الغيرة؟!

و الرجل واسع الخَطو في دماء المسلمين، سريع العدو في أعراضهم، من أجل ذلك كنّيته في عنوان الكتاب بـ (أبي القتاد) بدلا من (أبي قتادة)، لأنه اللائق به، إذ القتاد شجر صلب له شوك كالإبر، كما في 'القاموس المحيط'، و هذا هو الذي جنته الأمة منه، و في 'مجمع بحار الأنوار' (4 /209) قال محمد طاهر الفتني: [و قد قيل: لا يجتنى من القتاد إلا الشوك، و هو شجرة لها شوك، شُبّه به، و إنه لا يصلح إلا للنار، تلميح إلى أن المشبَّه لا يصلح إلا لها].

و كيف لا يكون هذا الرجل كذلك؛ و هو نكرة ما عرّفت إلا بالمضاف و المضاف إليه؟ فيقال: مختلس أموال، سفّاك الدماء، فبها عُرف، و به عُرفت!!

و لذلك كان العلامة الناقد الألباني – رحمه الله – يشك في إسلام هذا لصنف من الناس، حيث قال حين سُئل عنهم: [و لذلك فأنا في الحقيقة في شك كبير من أمرين اثنين:
- من إسلام هؤلاء حقيقة، أي أخشى أن يكونوا من أعداء الإسلام تلبسوا بثياب المسلمين،
- و إن كانت الأخرى، و هي أنهم مسلمون فعلا، و لكنهم جاهلون في منتهى الجهالة...
إلى أن قال: [أنا أستبعد أن يكون هؤلاء مسلمين، و إنما هم من المتزيّنين بزي الإسلام، و يريدون أن يشوّهوا نصاعة الإسلام و بياضه و نقاوته، بأن ينسبوا إليه أفعالا، الإسلام و المسلمون حقا هم برآء (أبرياء) مما ينسب إليهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب]، أنظر نص الفتوى إن شئت في كتابي 'فتاوى العلماء الأكابر فيما أهدر من دماء في الجزائر' (ص 90 – 100).

من أجل هذا فإني أنعت هذا الرجل في كتابي بـ 'المشبوه'.

ثم إنني لا أكتب لهذا المشبوه بقدر من يحسِّنون الظن به، ممن استهوتهم خطبه العاطفية، و قلمه النابض بالجِراحات، و قد اتصل بي منهم جمع، من إيطاليا و بريطانيا و فرنسا و إسبانيا و الجزائر و غيرها، ممن كانوا فرائس لهذه الأخلاط القاتلة، و كلهم حسرة على ما فعلوا، و أسىً على ما عملوا، و سألني بعضهم عن حكم الأموال التي اختلسوها في بلاد الكفر، و نبتت منها لحومهم، و سكنوا بها الدور، و منهم من بنى بها شاهق القصور، و منهم.. و منهم.. و إلى الله تُرجع الأمور.

لهؤلاء خاصة أكتب هذا الكتاب؛ لعلهم يفطمون أنفسهم من مراضع الفتن، و هم الذين نرجو لهم الإفاقة من غفوتهم، و النهوض من كبوتهم، بعد أن وجدوا أنفسهم يتبعون سرابا يخدع الظامئ و لا يرويه.

كما أكتب لأولئك الذين لم يدركوا بعد خطورة هذه المسالك، و يتصورون أن تطهير سبيل المؤمنين من هؤلاء المعرقلين للدعوة الإسلامية إنما هو خدمة للطواغيت فحسب!!

و لولا هذا و ذاك ما أطلت البحث؛ فإن الرجل لا يستحق الالتفات إليه، و لا النظر فيما لديه.

فتاوى أبي قتادة في إهدار دماء المسلمين


مبدأ الضلال و منتهاه

إن الضلال يبدأ واحدة واحدة، و هذه تجر إلى تلك، حتى يصبح صرحا من الانحراف، قد لا يشعر صاحبه كيف اُستدرج من أول دركاته إلى منحدر ليس بعده منحدر، و لذلك كان التحذير من اتباع خطوات الشيطان في القرآن الكريم كالتحذير من الشيطان نفسه؛ لأن من استهان بخطواته أوشك أن يرتع في حظيرته، قال الله – عز و جل –: {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان و من يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء و المنكر} (النور 21).

لقد بدأ هذا الفكر بالتركيز على العمل السياسي و ملاحقة ولاة الأمور في أخطائهم و كشفها للناس؛ باسم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ثم جرهم ذلك الصراع السياسي إلى تكفير الحكام قاطبة؛ انطلاقا من المركز الذي يحومون حوله، و القبة التي يدورون بفلكها منذ أن تعرف عليهم الضلال، ألا و هو عروش الحكم، التي يستترون للوصول إليها بمسألة الحكم بما أنزل الله، و سأبين هنا أن البداية هي تكفير الحكام، ثم حاشيتهم من شرطة و جند و عساكر، ثم الحاشية الأخرى التي يحملون عليها حنقا شديدا، ألا و هي زهرة أهل العلم، ثم استباحة دماء المسلمين جميعا، من الذين لم يوافقوا أهواءهم و لم ينضموا إلى تجمعاتهم (التحزبات) و لم يخاطبوا الحكام بلهجاتهم، إما بحجة أن حكم هؤلاء هو حكم رؤوسهم؛ لأنهم لا يزالون مختلطين بهم، أو بحجة سيد قطب في أن إطاعة الكبراء في معصية الله يخرجهم من الإسلام، و لو في جزئية من الجزئيات، كما صرح بذلك في 'ظلاله' (3 / 1197) حين قال: “إن من أطاع بشرا في شريعة من عند نفسه – و لو في جزئية صغيرة! – فإنما هو مشرك، و إن كان في الأصل مسلما ثم فعلها، فإنما خرج بها من الإسلام إلى الشرك أيضا...!! مهما بقي بعد ذلك يقول: أشهد أن لا إله إلا الله بلسانه، بينما هو يتلقى من غير الله و يطيع غير الله، و حين ننظر إلى وجه الأرض اليوم في ضوء هذه التقريرات الحاسمة، فإننا نرى الجاهلية و الشرك، و لا شيء غير الجاهلية و الشرك إلا من الله!! فأنكر على الأرباب الأرضية ما تدعيه من خصائص الألوهية، و لم يقبل منها شرعا و لا حكما... إلا في حدود الإكراه!“.

بدأ هؤلاء بالزهد في أهل العلم، ثم التزهيد في حضور دروسهم، ثم التفتوا بأنفسهم إلى مواجهة السلطان بثلب سياسته، فالتف حولهم الجماهير الطامعة، و دلوهم بغرور، ففرحوا بتلك الأعداد التي تؤم مجالسهم، و وجدوا الفرصة سانحة للتخلص من العلماء و فصل الناس عنهم؛ ليكفروا السلطان متمكنين، فإذا لم يسايرهم أهل العلم على ذلك، نسبوهم في الغيرة على الدين إلى الفتور، و في فقه الواقع إلى القصور، فإذا وجدوا منهم مضايقة رموهم ببدعة الإرجاء، فإن لم يفِ ذلك بحاجتهم كفروهم جملة و تفصيلا؛ و قالوا: من لم يكفر الكافر فهو كافر!!

ثم تكتّلوا عسكريا، و لم يشكوا أنهم – بارتجال خطبة تحريضية – قادرون على التخلص من السلطان، فإذا خرجوا خرجت الأمور من أيديهم، و بان سوء تدبيرهم، كان منقذ يفكرون فيه حينئذ هو اللياذ بالفرار إلى البلاد الكافرة، فإذا وصلوا هناك بدأت المخالفات الصريحة لما أنزل الله: من تغيير الأسماء، و تزوير الهويات، بل و تغيير الجنسيات، من مسلمة إلى (كافرة!)، و تهاطلت الفتاوى الجريئة على ذلك ورع غائب و علم كليل، فإذا مشى الحال على هذا التزوير، و إلا فغنهم مستعدون للخروج من واقع الذل إلى خيال جهاد الكفار؛ ليفتوا أنفسهم بحِل ما حَل بأيديهم، فالاختلاس حلال، و السرقة حلال؛ لأن ذلك كله متخيٍّل (فيئا!!)، و الأعراض أيضا حلال، لأنها (سبي!!)، فانظر من أين بدؤوا، و أين انتهوا!!
أرى فتنة هاجت و باضت و فرّخت [][][][] و لو تركت طارت إليها فراخها

و إذا كان الأمر كذلك، فهذا أوان الشروع في بيان ترسم هذه الطائفة الغريبة من التكفيريين خطوات الشيطان، ثم الوقوع في شِراكه.
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 08 May 2008, 07:20 AM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

فتوى أبي القتاد بتكفير جميع الحكام

نظرت في مجلة 'الأنصار' التي يكتب فيها المشبوه، فوجدته قد كفر جميع الدول المسلمة، و ذلك في العدد (119)، في (ص 10)، بتاريخ (الخميس 24 جمادى الأولى 1412 هـ)، من دولة الجزائر و المغرب و ليبيا و فلسطين و الأردن و السعودية، فكان من ضمن ما قاله في معتقد جماعته أنها: “لا ترى فرقا بين زروال الجزائري (أي الرئيس) المرتد و حكمه و نظامه، و بين الحسن الثاني المغربي المرتد، فكلاهما في الدين الله تعالى مرتد كافر، و أن حكمهما في القتل و القتال سواء... و معمر القذافي المرتد جبارا متسلط!!“.

و قال أيضا في مدح جماعته بأنها “لا ترى فرقا بين شرطة عرفات تحت راية و قيادة عرفات، و بين الجيش اليهودي و شرطة اليهود، إلا شرطا واحدا، و هو أن عرفات و حكومته أشد كفرا، فهم أشد حكما من اليهود، لكن كلاهما له القتل و القتال... و أن الملك حين مرتد في الأولى، و مرتد في الثانية، و ليس له إلا القتل و القتال، هو و شرطته وجهاز مخابراته!!“.

و قال عن جماعته مادحا لها دائما؛ لأنها “لا ترى فرقا حكومة السعوديين (آل سعود) المرتدين...!!“، و زاد دولة الكويت في العدد (134) في (ص 5)، بتاريخ: (12 رمضان 1416 هـ)، ثم في غيرها من أعداد أخرى.

إنني لا أريد أن أناقش المشبوه في التكفير؛ لأنني لا أرضى أن يتحول البحث إلى مناقشات معلومة الطول، و لكنني أريد إطلاع القرّاء على معتقد القوم؛ لما يتلوه من بحوث.

صورة المقال السابق

[ ]

صورة المقال الذي بعده

[ ]

تكفير أبي قتادة لكل عسكري في الجزائر!

بعد أن نقلت كلام المشبوه في تكفير الدول المسلمة، و أشرت إلى بعضه، أنقل هنا سحبه ذيل التكفير لعساكر هذه الدول، فأقول:
يزعم بعض من يحسِّن ظنه في ثوّار الجزائر أن هؤلاء لا يقاتلون العساكر الجزائريين على أساس تكفيرهم، و لكنهم ينطلقون من مبدأ الدفاع عن النفس، و مع أن هذا غير صحيح بهذا الإطلاق؛ لأن العساكر لم يقاتلوا هؤلاء – قتالا رسميا – إلا بعد حملهم السلاح، سواء رجعت إلى عهد المدعو (مصطفى بويعلى)، أو رجعت إلى ما بعده، عقب الإضراب العام الذي نظمته جبهة الإنقاذ في ساحة أول ماي، فيما عُرف بإضراب سنة (1991 م) فقد دُعي إلى الاغتيالات قبل الاعتقالات، و في الساحة نفسها ضُربت الأعناق قبل سجن الآفاق، أقول هذا على أساس جواز حمل السلاح في وجده السلطان؛ مقابلة له بالمثل؛ و إلا فالذي عليه أهل السنة و الجماعة أن السلطان لا يقاتَل و لو قتل؛ لأن القتل ليس كفرا، و قد علّق الرسول جواز الخروج على كفر السلطان، فقال: "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان" متفق عليه، و قد بينت هذا في كتاب 'فتاوى العلماء الأكابر'، فلا أعيده.

ذكرت هذا لبيان أن ما سُمي جهادا في الجزائر قد اختلف أصحابه في تعليله:
- فمن قائل: إنهم لجؤوا إليه؛ لإلغاء الدولة نتائج الانتخابات.
- و من قائل: إنهم لجؤوا إليه؛ للدفاع عن النفس.
- و من قائل: إن داعي القتال كان قائما من قبل هذا كله؛ لأن الدولة كافرة من أول يوم.

و لا ريب أن تضارب هذه التعليقات يدل على هشاشة البنيان، واضطراب الأركان، و ما دام كلامي منصبّا على جماعة معينة فإنني أتجاوز هذا كله لأفسح المجال لأبي قتادة مفتي الجماعة نفسه ليعبر عن ذلك؛ فقد صرح بأن سبب قتال الثوار لأولئك العساكر إنما هو كفر العساكر، فقال في خطبته المشار إليها: “الآن على أرض الجزائر، اسألوا الناس: الجبهة للإنقاذ أقامت البلاغ أنها تريد (كذا)، كل جندي و كل إنسان في الجزائر – عن طريق جبة الإنقاذ – علم أن هذه الدولة ليست بإسلامية، و أن من (كلمة غير مسموعة جيدا) من جبهة الإنقاذ ثم غيرها إنما قاموا ليحكّموا الإسلام، بل إن غالب الجند الآن علموا أنهم يقاتلون (كذا) مسلمين، و يقاتلون مجاهدين، بخلاف كثير من الدول، فعلى هذا عذر الجهل لا وجود له، فكل جندي على أرض الجزائر مع الدولة و طائفتها و حكمها هو كافر بالله مشرك، خالد في جهنم!!! هو حلال الدم و حلال العرض...!!!“

ثم حاول أن يصطنع استدراكا على نفسه، ثم قال: “تبقى قضية سبايا المرتدين، هذا خلاف بين العلماء قديما و حديثا، و نحن نتحدث الآن عن طائفة ممتنعة ذات قوة، و مع ذلك فهذه طائفة كفر و ردة، بغض النظر عن أعيان أفرادها، فمن قال بكفر أعيانها فدليله قوي خاصة في الجزائر، و من قال بعدم كفر أعيانها، فكذلك يحترم قوله على أرض الجزائر، و إنما الإجماع منعقد أن الطائفة بكل من فيها تعامل كل فرد فيها معاملة الفرد الواحد أو معاملة الجماعة!!“.

قلت: فهل يبقى بعد هذا للمتصَوْلحين عذر في اصطناع ظنون حسنة للقوم، و هم يقرؤون شهادة القوم على أنفسهم؟!

تنبيه: لقد أحببت للقارئ أن ينتبه هنا لاستدلال المشبوه بجبهة الإنقاذ من جهة، و دفاعه عن 'الجماعة الإسلامية المسلحة' التي تمثل 'غلاة التكفير' في الجزائر من جهة أخرى، مع أن 'الجماعة الإسلامية' تكفر 'جبهة الإنقاذ'، و بينهما حروب طاحنة معروفة!

و ها هو الدليل بين يديك على أن الرجل يعير مرة إلى هؤلاء، و مرة إلى هؤلاء، قال في العدد (119) السابق تصويره من مجلة الأنصار: “في الجزائر تزعم جماعتان الجهاد، (أو لِنقُل بتغييب بعض الحقائق كالشمس: إعلاميا):
- جماعة اسمها (الجماعة الإسلامية المسلحة).
- و جماعة أخرى اسمها (الجيش الإسلامي للإنقاذ).
فكيف يستطيع المرء أني فرق بين جهاد الموحدين و جهاد المبتدعة الوصوليين؟
الجماعة الإسلامية المسلحة: نحن نقاتل حتى نعيد الحق إلى نصابه، و أن نرجع الضائع إلى أصحابه، و الحق هو حكم الله –تعالى...
والجماعة الأخرى المزعومة إعلاميا تقول: نحن نقاتل حتى نعيد خيار الشعب، و نعيد الناس إلى المسار الانتخابي، فقتالنا لمن سرق خيار الشعب.
{فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون (81) الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون (82) (الأنعام)“.

و بهذا يدرك القراء أن المشبوه قد قسم ولاءه على الجميع؛ ليحظى بالزلفى من الجميع، كصنيع السياسيين اليوم، و هو مسلك معلوم لديهم، كم أنه طبع مركوز في دعوة المشبوه، و لذلك كان من غريب الموافقات أن كل جماعة من هذه الجماعات الخارجة تستدل به، مع أنكل واحدة منها تلعن أختها!!

و فيما يأتي ترى طعن أبي قتادة على الدعوة السلفية التي يتظاهر لقوم بالاعتزاز إليها؛ و ذلك في تمهيده لصرف الناس عنها، حتى يكون هو المرجع الوحيد لهم!

و بعد أن نقلت لك تكفير المشبوه للدولة، ثم تكفيره لعساكرها، فأنقل الآن إليك طعنه على أهل العلم، بدءا بصفوتهم: علماء الدعوة السلفية!!

و قبل هذا كله أنقل إليك تقعيده الخطير في التنفير من الرجوع إلى العلماء المعاصرين، بل و من الرجوع إلى العلماء المتقدمين، الذين جاؤوا بعد القرن الثالث!!

التعديل الأخير تم بواسطة أبو البراء إلياس الباتني ; 08 May 2008 الساعة 07:21 AM سبب آخر: خطأ في كلمة
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 09 May 2008, 04:08 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

أبو قتادة ينفر من العلماء

لقد أمر الله في كتابه بالرجوع إلى أهل العلم عند الجهل بالمسائل المتباحث فيها، فقال: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (النحل 43)، كما أمر النبي – صلى الله عليه و سلم – بذلك، فروى أبو داود (336) و غيره عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – قال: أصاب رجلا جرح في عهد رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، ثم احتلم، فأُمر بالاغتسال فاغتسل فمات، فبلغ ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، فقال: "قتلوه قتلهم الله؛ ألم يكن شفاء العي السؤال"، و صححه الألباني في المصدر المذكور.

هذا فيمن تسبب في قتل رجل واحد، و هو بعيد عن جمهور أهل العلم؛ لأن ذلك في غزوة، فكيف بمن قتل أمة بفتاوى ارتجلها، و العلماء متوافرون، و هم بفتاواهم متظاهرون؟!

و هذه المسائل التي نحن بصددها هي أصعب بكثير من مسألة صاحب الجُرح؛ لأنها من مسائل النوازل، و قد أمرنا الله بردها إلى العلماء الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، فقال: {و إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم و لولا فضل الله عليكم و رحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} (النساء 83)، و هذا الطراز من أهل العلم لا يخلو منه زمان؛ لأن الرسول – صلى الله عليه و سلم – قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" رواه أبو داود (4291) و الحاكم (4 / 522)، و صححه الألباني في "الصحيحة" (599).

و قد حسم ابن القيم – رحمه الله – الكلام في صفة هذا العالم، فقال في 'إعلام الموقعين' (4 / 212): [العالم بكتاب الله و سنة رسوله و أقوال الصحابة فهو مجتهد في النوازل، فهذا النوع الذي يسوغ لهم الإفتاء، و يسوغ استفتاؤهم، و يتأدى بهم فرض الاجتهاد]، ثم ذكر الحديث السابق.

إذاً خرج بهذا التعريف صنفان من المتسلقين:
الأول: المقلدة، و هم الذين يملؤون الساحة اليوم بالحديث عن دولة الإسلام، و ليسوا على ثغر الاجتهاد كما ترى، و دولة الإسلام بحاجة إلى مجتهدين.

الثاني: المتفلّتون من أمثال المشبوه؛ فإنهم لا يعرجون على التعرف على خلاف العلماء، بل يهجمون على الكتب من غير التفات إلى مجتهدي عصرهم، بل لا يرجعون إليهم إلا إذا وافقوهم، على أنهم يعتمدون أحيانا على الخلاف، أو يتعمدون اختراعه إذا وجدوا فيه تسليكا لشذوذاتهم!

ثم هذا العالم يعرف عن طريق علماء عصره؛ لأن العلماء لا ينقرض وجودهم؛ لقوله – صلى الله عليه و سلم –: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين" متفق عليه، و قد اتفقت كلمة السلف على أنهم أهل العلم، فالله زكى رسله فقال – سبحانه –: {الله يصطفي من الملائكة رسلا و من الناس إن الله سميع بصير} (الحج 75)، و هؤلاء الرسل يزكون حوارييهم، و هؤلاء يزكون تلاميذهم، ثم هؤلاء يزكون من بعدهم، فهي سلسلة لا تنفصم عراها، و هي أمان من الدخلاء كأمثال المشبوه، فإذا حاولوا التسرب في صف هؤلاء الصفوة، قيل لهم: (سموا لنا رجالكم!)، و لذلك نقل صاحب 'عون المعبود شرح سنن أبي داود' (11 / 263) قول بعض أهل العلم الآتي: [و لا يُعْلم ذلك المجدد إلا بغلبة الظن ممن عاصره من العلماء بقرائن أحواله و الانتفاع بعلمه؛ إذ المجدد للدين لا بد أن يكون عالما بالعلوم الدينية الظاهرة و الباطنة، ناصرا للسنة، قامعة للبدعة، و أن يعم علمه أهل زمانه].

و ذكر الذهبي في 'تذكرة الحفاظ' (4 / 1332) عن ابن عساكر – رحمه الله – أنه قال: [لمّا عزمت على التحديث و الله المطلع أني ما حملني على ذلك حب الرياسة و التقدم، بل قلت: متى أروي كل ما سمعت؟ و أي فائدة في كوني أخلِّفه صحائف؟ فاستخرت الله، و استأذنت أعيان شيوخي و رؤساء البلد، و طفت عليهم، فكلهم قالوا: من أحق بهذا منك؟ فشرعت في ذلك منذ ثلاث و ثلاثين و خمس مائة].

هذا هو التقعيد الصحيح الذي يعرفه العقلاء، و يسلكه العلماء، و به تحفظ الأمة في الكليات الخمس، إلا أن المشبوه لم يرض به، بل قعّد تقعيدا غريبا لهدمه،و ذم من يأخذ العلم من أفواه أهله، و مدح من يكتفي بأخذه من الصحف، فقال في (ص 248 – 249) من 'الجهاد و الاجتهاد': “قولهم: إن العلماء على الدوام رفضوا اسم العلم أن يلتصق بفرد أو جماعة أخذت علمها من مصدر البيان مباشرة، بل لا بد من أفواه العلماء، و الجلوس على الركب أمامهم، و هذا دليل على أن تواصل العلم عن طريق الرجال مشافهة، و لا شيء غير ذلك.

و قولهم لا يعدو أن يكون حيدة عن موضوع البحث، لأن هذا القول هو في البداية حجة تراثية، و الخصومة حولها و عليها، و الاختلاف يدور حول حجية التراث و التاريخ، و الأمر الآخر هو أن هذا – الذي قيل – وُجِد في السنة ما ينقضه و يبدده، خاصة حين يصبح و يصير لكل طائفة رجالا (كذا)، تتخذهم والطائفة قدوة و أئمة، و تزعم أن مجرى الهدى على محياهم، و منبع النور من أفواههم، فلا بد من قطع علائق الفتن بالعودة إلى الأصل و هو: البيان مضافا إلى النموذج الأول“.

قلت: يقصد بكلامه الأخير الاستغناء عن الرجوع إلى العلماء المعاصرين بالاكتفاء بالرجوع إلى النصوص و النموذج الأول، الذي هو العصر الأول!

و انطلاقا من التقعيد الأخير ذهب من لا يحسن يتهجى، ببُرد أهل العلم يتسجى، و حصل من هذه الاستقلالية شر كبير، منه ذلك الزخم من الجثث المسلمة البريئة التي سقطت في أرض الجزائر، بعد أن أفتى المشبوه و جماعته بحل دمائها، غير عابئين بمخالفة جبال أهل العلم!

ثم جعل يستدل لهذا الضلال منطلقا من استقلالية دائما، فقال وبعد فقرته الأخيرة: “و السنة التي مدحت العودة إلى الورق دون النظر إلى الشخوص و المثل هي القاطعة لحجة هذا الفريق، هذه السنة هي قوله – صلى الله عليه و سلم – لأصحابه يوما: "أي الخَلق أعجب إليكم إيمانا؟ قالوا الملائكة، قال: و كيف لا يؤمنون و هم يأتيهم الوحي؟! قالوا: نحن، فقال: و كيف لا تؤمنون و أنا بين أظهركم؟! قالوا فمن يا رسول الله؟ قال: قوم يأتون من بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بها"، و في بعض ألفاظه "بل قوم من بعدكم، يأتيهم كتاب بين لوحين فيؤمنون به، و يعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرا"، و في لفظ آخر "يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا"، انظر 'الباعث الحثيث' بتعليق أحمد شاكر، هامش ص 125، فالحديث بوضوحه يمدح أخذ العلم عن طريق الورق المعلّق، بل جعل هؤلاء القوم هم أعظم الناس أجرا، و أفضل أهل الإيمان إيمانا، و هذا يدل على أن العصمة عند اختلاف الزمان و سقوط النماذج الفاسدة الحاملة لاسم العلم و العلماء زورا و بهتانا، هو العودة إلى الورق، و لن يضر هؤلاء المتمرِّدون (كذا) قول فلان و علان!!!“.

النقد

1- هذا الحديث الذي – استدل به المشبوه على تقعيده الفاسد ذاك – قال فيه الحافظ ابن حجر في 'الفتح' (7 / 6): [إسناده ضعيف فلا حجة فيه]، و ضعفه الألباني بجميع رواياته في 'السلسلة الضعيفة' (647 – 649)، لكن جاء من روايات كثيرة، أذكر منها ما يأتي:
أ- رواية عمر بن الخطاب – رضي الله عنه –: رواها الطيالسي في 'مسنده' كما في 'التمهيد' لابن عبد البر (20 / 248)، و إسحاق بن راهويه كما في 'المطالب العليا' لابن حجر (3210)، و أبو يعلى (1 / 147 – دار المأمون) و البزار (288 – 289) و الحاكم (4 / 85-86) و العقيلي في 'الضعفاء' (4 / 238) و ابن عبد البر في المصدر السابق و الخطيب البغدادي في 'شرف أصحاب الحديث' (62) و بيي بنت عبد الصمد في 'جزئها' (104) و الهروي في 'ذم الكلام' (1486) و ابن حجر في 'الأمالي المطلقة' (ص 37)، كلهم من طريق محمد بن أبي حميد، و محمد هذا ضعيف، و قال ابن حجر بعد روايته للحديث: [هذا الحديث غريب].
ب- رواية أبي جمعة – رضي الله عنه –: رواها البخاري في 'خلق أفعال العباد' (ص 88) و في 'التاريخ الكبير' (2 / 310-311) و ابن أبي عاصم في 'الآحاد و المثاني' (4 / 152) و الرّوياني في 'مسنده' (2 / 513) و ابن قانع في 'معجم الصحابة' (1 / 177 – 178) و الطبراني (4 / 23) من طريقين، و ابن مردويه في 'تفسيره' كما في 'تفسير ابن كثير' (1 / 69)، و الهروي في 'ذم الكلام' (1485) و المزي في 'تهذيب الكمال' (13 / 26-27) و الذهبي في 'ميزان الاعتدال' (2 / 291) و ابن حجر في 'الأمالي المطلقة' (ص 40)، و قال: [هذا حديث حسن] و كذلك قال في (ص 43)، وابن القيسراني في 'تذكرة الحفاظ' (1 / 390-391)، و قال: [هذا حديث صالح الإسناد و غريب].
ج- رواية أنس – رضي الله عنه –: رواها البزار، كما في كشف الأستار (3/318) و قال: [غريب من حديث أنس]، و أعله الهيثمي في 'المجمع' (10 / 65) بسعيد بن بشير، و هو ضعيف كما في 'التقريب'.
د- رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أي رواية عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما –: رواها بن عرَفة في 'جزئه' (19)، و من طريقه قوام السنة في 'الترغيب و الترهيب' (48)، و الخطيب في 'شرف أصحاب الحديث' (61) و البيهقي في 'دلائل النبوة' (6 / 538)، و ابن حجر في المصدر السابق (ص 38 – 39)، و زاد العلامة الألباني في 'الضعيفة' (2 / 102) إسماعيل الصفار في 'جزئه' و طراد أبا الفوارس في 'ما أملاه يوم الجمعة يوم 14 شعبان'، و فيها المغيرة بن قيس البصري، قال فيه أبو حاتم: [هو منكر الحديث]، كما في 'الجرح و التعديل' لابنه (8 / 228)، و قد رواها إسماعيل بن عيّاش، و روايته عن غير الشاميين ضعيفة، كما هو الشأن هنا.
هـ - رواية أبي هريرة – رضي الله عنه –: رواها أبو نُعيم في 'ذكر أخبار أصبهان' (1 / 308-309) و السهمي في 'تاريخ جرجان' (687) و ابن عساكر كما ذكر العلامة الألباني، لكن فيها خالد بن يزيد العمري، و هو كذّاب، و في طريق ابن عساكر أحمد بن نبيط، قال فيه الذهبي في 'الميزان' (1 / 83): [لا يحل الاحتجاج به؛ فإنه كذاب]، و الراوي عنه أحمد بن القاسم بن الريان، تكلموا فيه، انظر 'الميزان' (1 / 128).

و بعد هذا العرض يتبين أن طرق الحديث لا تخلو من مقال، و إن كان لا يبعد أن يتقوى الحديث بها، و لعله من أجل ذلك صححه السخاوي في 'فتح المغيث' (3 / 28)، الله أعلم.

2- و على افتراض صحة الحديث كما يبدو، فإنه لا يعلم من أهل العلم من ذهب به إلى مذهب المشبوه، الذي قال في خضم حربه للعلماء: “فالحديث بوضوحه يمدح أخذ العلم عن طريق الورق المعلق، بل جعل هؤلاء القوم أعظم الناس أجرا!!“.

هذا من غرائب الاستدلال؛ لأنه أضحى أخذ العلم عن الكتب أعظم أجرا ممن يأخذه من أفواه أهله!!

و لو أنه رضي لنفسه بالتعلم على أيدي العلماء لتجنب الوقوع في مثل هذا الشذوذ، و لعلم أن شرّاح الحديث أدرجوه تحت بابين:
الأول: فضل من آمن بالرسول – صلى الله عليه و سلم – و لم يره، أي في باب الإيمان بالغيب، كم فعل البيهقي في 'الدلائل' (6 / 537)، حيث بوّب للحديث بقوله: [باب ما جاء في إخباره بقوم لم يروه فيؤمنون به فكان كما أخبر]، و كذلك فعل الهيثمي في 'المجمع'، حيث بوّب له بقوله (10 / 65): [باب ما جاء فيمن آمن بالنبي – صلى الله عليه و سلم – و لم يره]، و في معناه أيضا ابن عبد البر في 'التمهيد' (20 / 248)، و كذا ابن حجر في 'المطالب العليا' (3210) حيث بوّب [باب فضل من يؤمن بالغيب]، و كذا البوصيري في 'إتحاف الخيرة' (1 / 106)، و قال ابن حجر في 'الأمالي' (ص 43):[و المراد الترغيب في الإيمان بالغيب، و الله أعلم]، و قال المُناوي في 'فيض القدير' (4 / 279): [و ذلك لأن الله مدحهم بإيمانهم بالغيب و كان إيمان الصدر الأول غيبا و شهودا؛ فإنهم آمنوا بالله و اليوم الآخر غيبا، و آمنوا بالنبي – صلى الله عليه و سلم – شهودا؛ لما أنهم رأوا الآيات و شاهدوا المعجزات، و آخر هذه الأمة آمنوا غيبا بما آمن به أولها شهودا، لفذا أثنى عليهم النبي – صلى الله عليه و سلم –]، و في هذا المعنى نقل ابن عبد البر في كتابه السابق تفسيره عن بعض السلف فقال: [و كان سفيان ابن عيينة يقول: تفسير هذا الحديث و ما كان مثله بيّن في كتاب الله، و هو قوله: {و كيف تكفرون و أنتم تتلى عليكم آيات الله و فيكم رسوله} (آل عمران 101)]، كما فسر ابن كثير بهذا الحديث قول الله – عز و جل –: {الذين يؤمنون بالغيب} (البقرة 3).

الثاني: جعل العلماء هذا الحديث دليلا على رواية الحديث بالوِجادة، قال ابن كثير في الموضع السابق: [و هذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث، كما قررته في أول شرح البخاري؛ لأنه مدحهم على ذلك، و ذكر أنهم أعظم أجرا من هذه الحيثية، و قال السيوطي في 'تدريب الراوي' (2 / 64): قال البلقيني: و احتج بعضهم للعمل بالوجادة بحديث "أي الخَلق أعجب إيمانا؟ قالوا الملائكة، قال: و كيف لا يؤمنون و هم عند ربهم؟! قالوا: الأنبياء، قال: و كيف لا يؤمنون و هم يأتيهم الوحي؟! قالوا: نحن، قال: و كيف لا تؤمنون و أنا بين أظهركم؟! قالوا فمن يا رسول الله؟ قال: قوم يأتون من بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها"، قال البلقيني: و هذا اسنباط حسن، قلت: المحتج بذلك هو الحافظ عماد الدين ابن كثير، ذكر ذلك في أوائل تفسيره، و الحديث رواه الحسن ين عرفة في جزئه من طريق عمرو بن شعيب عن أبه عن جده، و له طرق كثيرة أوردتها في الأمالي، و بعض ألفاظه: "بل قوم من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به، و يعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرا" أخرجه أحمد و الدارمي و الحاكم من حديث أبي جمعة الأنصاري، و في لفظ للحاكم من حديث عمر: "يجدون الورق المعلق (في الأصل: المعلم) فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا"].

قلت: رواية أحمد هذه و من ذكر معه ليس فيها محل الشاهد من الحديث، و إنما هو سهو من السيوطي كما نبه عليه الألباني – رحمه الله – في 'الضعيفة' (2 / 105)، من أجل هذا لم أذكرها هنا.

الخلاصة من هذا البحث أنه لا يوجد عند أهل العلم من سبق إلى هذا الاستدلال الغريب للاستقلالية التي يدعيها لنفسه و لهوام العوام من أتباعه، و هذه نظير ما ادعاه قريبه في المذهب: أبو محمد المقدسي من أن التكفير الذي يشدو به فؤاده هو نتيجة لقراءته المتفحصة الكاملة لكتب أئمة دعوة التوحيد كما في الاستجواب الصحفي مع 'نداء الإسلام': “لقاء من خلف القضبان“، المنشور عبر الانترنت!!

فنقول لهذا و ذاك كما قال عبد الله بن المبارك – رحمه الله – لمن اتهمه بالإرجاء: [ما أحوجك إلى أن تأخذ سبورة فتجالس العلماء!] رواه إسحاق بن راهويه في 'مسنده' (3 / 671).
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 10 May 2008, 06:40 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

3- لقد وقع المشبوه في مصيبة عظيمة؛ إذ جعل الذين يجدون الصحف المعلقة أفضل من غيرهم، مع أنه لم ينتبه إلى أنه جاء في الحديث ذكر الأنبياء و الملائكة، فتكون نتيجة هذا (الاجتهاد المبتكَر!) أن متأخري المسلمين أفضل من الأنبياء؛ و لذلك ذكر ابن تيمية هذا الحديث ثم قال كما في 'مجموع فتاواه' (11 / 371-372): [هو يدل على أن إيمانهم عجب، أعجب من إيمان غيرهم، و لا يدل على أنهم أفضل؛ فإن في الحديث أنهم ذكروا الملائكة و الأنبياء، و معلوم أن الأنبياء أفضل من هؤلاء الذين يؤمنون بالورق المعلق]، و قال ابن حجر في 'المالي المطلقة' (ص 39-40): [المراد بالأفضلية: التي قبله، و أنها ليست على الإطلاق... و الأفضلية محمولة على ما تقدم من تفضيل الإيمان بالغيب].

فانظر إلى نتائج الانطلاق في تفسير النصوص من غير مبالاة بآراء الفقهاء!!

لقد كان السلف الأول يرى الزهد في علم العالم حتى يموت علامة هلاك؛ قال سلمان الفارسي – رضي الله عنه –: (لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم أو يعلم الآخِر؛ فإن هلك الأول قبل أن يعلم أو يتعلم الآخر هلك الناس) رواه الدارمي (1 / 78 و 79) من طريقين، ومن إحداهما ابن بطة في 'الإبانة / الإيمان' (42)، و في كل منهما عطاء بن السائب، و هو صدوق اختلط، و حديثه القديم صحيح، و الراويان عنه هنا ممن روى عنه في حال الاختلاط، لكن تابعهما سفيان الثوري عند عمر النَّسفي في 'القند في ذكر علماء سمرقند' (ص 445)، و به يصح الأثر؛ فإن سماع سفيان من عطاء قديم، كما في 'الجرح و التعديل' لابن أبي حاتم (6 / 334).

إن العلماء اليوم متوافرون و الحمد لله، و المشبوه يريد منا أن نسعى في هلكتنا كما فعل هو بنفسه و بجماعته؛ إذ توفي جمع كبير من أهل العلم في وقت متقارب، و لم تحظ ركبه بمزاحمة واحد منهم، بل هو دائب التنفير منهم، و هذا الذي أراد تقريره هنا – من الاستغناء بالكتاب عن فهم أهل العلم – قد حذر منه ابن مسعود – رضي الله عنه –، فقال: (عليكم بالعلم قبل أن يقبض، و قبضه أن يُذهب بأصحابه، عليكم بالعلم؛ فإن أحدكم لا يدري متى يُفتقر إليه أو يُفتقر إلى ماعنده، إنكم ستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله و قد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم و إياكم و التبدّع، و إياكم و التنطع، و إياكم و التعمق، و عليكم بالعتيق)، رواه معمر في 'جامعه' المطبوع في آخر 'مصنف عبد الرزاق' (11 / 252) و الدارمي (1/66) و ابن نصر في 'السنة' (85) و غيرهم، كلهم من طريق قلابة عن ابن مسعود، و هو لم يسمع منه كما في 'مجمع الزوائد' (1/126)، لكن رواه موصولا البيهقي في 'المدخل' (388) من رواية أبي إدريس الخولاني عنه.

و الشاهد من هذا الأثر القوي؛ فإن ابن مسعود أكد أن العلم يؤخذ من العلماء الأحياء، كما أنه حذر من قوم يدعون إلى خير كتاب، ألا وهو كتاب الله، على الرغم من ذلك فإنه لم يشفع لهم في الكفاية العلمية، بل حذّر معه من البدع؛ لأن البدع تحيا بهذه الذريعة، فلله درّه – رضي الله عنه –، فكأنه قد خُرِقت له الحجب!

4- [عِش رجبا ترى عجبا]! لقد أسقط المشبوه أصح طريق للعلم، ألا و هي التعلم على أيدي أهل العلم، و زعم انه لا حاجة إلى الرجوع إلى العلماء بعد الجيل الأول، على الرغم من إجماع السلف على ضرورة الرحلة للطلب، و ما من مصنف في أدب الطلب إلا و هو يذكر ذلك، بل أفرد بعضهم لذلك مصنفا خاصا، كالخطيب البغدادي 'الرحلة في طلب الحديث'، و كيف يخلد الإنسان إلى الكتب و قد كان السلف يرون أن من أخذ العلم من علماء بدله و لم يرحل، يرونه محروما؟! روى الخطيب في كتابه المذكور (14)عن يحيى بن معين قال: [أربعة لا تؤنِس منهم رشدا: حارس الدرب، و منادي القاضي، و ابن المحدث، و رجل يكتب في بلده و لا يرحل في طلب الحديث'؟!

هذا فيمن أخذ العلم عن العلماء و لم يرحل، فكيف بمن لا يرى مجالستهم من أصول الطلب؟!

روى حنبل بن إسحاق في 'جزئه' (39) و ابن أبي شيبة في (13/ 496) و أبو نعيم (2 / 283) أن أبا قلابة قال: [مثل العلماء كمثل النجوم و الأعلام التي يقتدي بها الناس، فإذا توارت ترددوا في الحيرة].

إن كليم الله موسى – صلى الله عليه و سلم – سمع بوجود علم عند رجل يقال له الخَضِر، فما برح حتى رحل ليأخذ العلم على يديه، مع أنه كان يأتيه الوحي من الله – عز و جل –، بل كلمه ربه بلا واسطة، كما قال الله – عز و جل –: {و كلم الله موسى تكليما} (النساء 164)، بل أخبر الله – عز و جل – أنه بلغ الحرص به على ذلك إلى الاستهانة بكل ما يكلفه في سبيل الوصول إلى هذه الغاية النبيلة، و لو أداه إلى سفر ذي حُقُب طويلة، كما قال الله – عز و جل –: {و إذ قال موسى لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا} (الكهف 60).

و روى أبو داود (2750) بسند صحيح عن مكحول أنه قال: (كنت عبدا بمصر لامرأة من بني هذيل فأعتقتني، فما خرجت من مصر و بها علم إلا حويت عليه فيما أُرى، ثم أتيت الحجاز، فما خرجت منها و بها علم إلا حويت عليه فيما أُرى، و ثم أتيت العراق، فما خرجت منها و بها علم إلا حويت عليه فيما أُرى، ثم أتيت الشام، فغربلتها...).

و لذلك تجد العلماء إذا ترجموا للأعلام ذكروا شيوخهم و تلاميذهم، بل كانوا يرون أن نبوغ الرجل يُعلم من كثرة شيوخه، و لاسيّما إذا كان الشيوخ من الحذّاق، فقد جاء في 'تهذيب الكمال' (32 / 333) أن يعقوب ابن سفيان الفسوي – رحمه الله – قال: [كتبت عن ألف شيخ و كَسْر، كلهم ثقات]، و قال الذهبي في 'تذكرة الحفاظ' (3 / 1032) في ترجمة ابن مَندَه _ رحمه الله تعالى –: [و عدة شيوخه الذين سمع و أخذ عنهم ألف و سبع مائة شيخ... و ما بلغنا أن أحدا من هذه الأمة سمع ما سمع، و لا جمع ما جمع!].

و اعلم أن أخذ العلم من الكتب حسن، و لكن في الاقتصار عليه قصور ظاهر، و المأثور عن السف هو التحذير من طلب العلم على من بضاعته العلمية مقصورة على المرقوم في الصحف، فقد روى بن عبد البر في 'التمهيد' (1 / 46) عن سليمان بن موسى أنه قال: [لا يُؤخذ العلم عن صُحُفِيّ](1)، و روى ابن أبي حاتم في 'الجرح و التعديل' (3 / 402)، بإسناده إلى أيوب السَّختياني أنه قال: (لا ترو عن خلاس؛ فإنه صحفي)، بل كانوا يخوّفون من أخذ القرآن نفسه ممن لم يأخذه من أفواه القرّاء، مع أنه الكتاب الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، فروى أبو أحمد العسكري في 'أخبار المصحِّفين' (ص 32) بإسناده إلى سعيد بن عبد العزيز التنوخي يقول: [كان يُقال: لا تحملوا العلم عن صحفي، و لا تأخذوا القرآن عن مصحفي].

و سبب ذلك أن فهمك للكتاب قد يقر بك عن مراد صاحبه، كما أنه يقصر بك عن أدب صاحبه، بل الحق أنك ما سيرت طرفك في دعوات بعض الرجال الذين عُرفوا بالغلو في الاستقلالية و الإقذاع في أعراض أهل العلم إلا وجدت منشأ غلطهم من الزهد في مجالس العلماء، و من تحسين الظن بالنفس.

أما أن ذلك قد يكون سببا في سوء الفهم فواضح، و لذلك ارتبطت كثرة أخطاء المخطئين بالصحفيين، كما في 'ميزان الاعتدال' للذهبي (2 / 652)، حيث قال في ترجمة عبد الملك بن حبيب: [أحد الأئمة، و مصنف الواضحة، كثير الوهم صحفي].

و أما أن صاحبه يُحرم أدب العلم؛ فلأن من العلم ما لا يُفهم على حقيقته إلا بالمثال الحي كما يُقال، و لذلك روى الخطيب في 'الجامع لأخلاق الراوي و السامع' (10) عن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد أنه قال: [قال لي أبي: يا بني! إيت الفقهاء و العلماء، و تعلم منهم، و خذ من أدبهم و أخلاقهم و هديهم؛ فإن ذاك أحب إلي من كثير من الحديث]؛ و ذلك لأن المرء قد يحدوه الاستكثار من العلم و استعجال تحصيله إلى ترك مجالسة العلماء، فيتوهم أن انقطاعه عن أهله يغزر عليه منه.

و أما أنه سبب في الزهو بالنفس و التيه و الغرور؛ فلأن هذه الأدواء يكسرها التواضع، و التواضع لا يؤتاه من لم يعرف الفضل لأهله و لم يثن ركبتيه بين أيديهم، و قد قال ابن حجر في 'لسان الميزان' (4 / 326) عند ترجمة عمرو بن محمد بن إسحاق العطار: [... لا يعده أحد شيئا و لا يُكترث به؛ لإعجابه بنفسه، و كان أكبر من يذكر له الحفاظ يقول: صحفي!].

و في تعرفه قال المُنَاوي في 'التوقيف على مهمات التعاريف' (ص 449): [و الصحيفة قطعة من الجلد أو قرطاس كتب فيه، و إذا نسب إليها قيل: صَحَفي بفتحتين، و معناه يأخذ العلم منها دون المشايخ]، و قال العسكري في 'تصحيفات المحدثين' (1 / 24): [و أما معنى التصحيف و قولهم (صحفي)، فقد قال الخليل بن أحمد: الصحفي الذي يروي الخطأ على قراءة الصحف باشتباه الحروف، و قال غيره: أصل هذا أن قوما كانوا أخذوا العلم من الصحف من غير أن يلقوا فيه العلماء، فكان يقع فيما يروونه التغيير، فيقال عندها: قد صحفوا، أي قد رووه عن الصحف، فهو مصحّف، و مصدره التصحيف].
و لذلك أنشد بعضهم:
لنا صاحب مولع بالخلاف [][][] كثير الخَطاء قليل الصواب
ألجُّ لُجاجا من الخنفساء و أز [][][] رَبَا حسدًا و رماه بعاب
إذا ذكروا عنده عالما [][][] كثير الخَطاء قليل الصواب
و ليس من العلم في كفه [][][] إذا ذُكر العلم غر التراب
أحاديث ألفها شَوْكَر [][][] و أخرى مؤلفة لابن داب
فلو كان ما قد روى عنهما [][][] سماعا و لكنه من كتاب
رأى أحرفا شُبّهت بالهجاء [][][] سواء إذا عدّها في الحساب


---------------------------
1: هذه النسبة على الحكاية، و إلا فقد خطّأ بعضهم ذلك؛ و قالوا لأن النسبة هنا أخذت من الصحف جمع صحيفة، و الأصل النسبة تؤخذ أن من المفرد، فيقال: صَحَفِيّ، كَحَنَفِي، نسبة إلى حنيفة، انظر 'تدريب الراوي' (2 / 208).

التعديل الأخير تم بواسطة أبو البراء إلياس الباتني ; 10 May 2008 الساعة 09:36 PM
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013