وَكَذَلِكَ[شَاوَرَ عَلِيًّا وَأُسَامَةَ فِيمَا رَمَى بِهِ أَهْلُ الإفْكِ عَائِشَةَ فَسَمِعَ مِنْهُمَا حَتَى نَزَلَ القُرْآنُ، فَجَلَدَ الرَّامِينَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى تَنَازُعِهِمْ وَلَكِنْ حَكَمَ بِمَا أَمَرَهُ اللهُ] (25)، وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي غَزْوَةِ الفَتْحِ[حَيْثُ لَمْ يُعْلِنْ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا لأَصْحَابِهِ، بَلْ أَخْفَى خَبَرَهَا عَنْهُمْ جَمِيعًا، فَضْلاً عَنْ أَنْ يَسْتَشِيرَهُمْ فِي أَمْرِهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ أَمْرَ الغَزْوِ وَسَبَبَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ لأَنَّ اَلْمَوْقِفَ يَتَطَلَّبُ الكِتْمَانَ وَالتَّحَفُظَ الشَّدِيدَيْنِ، وَهَذَا مِنْ خُدَعِ الحَرْبِ '' الحَرْبُ خُدْعَةٌ''.
وَهَذَا اَلْمَوْقِفُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الذِّي قَبْلَهُ عَلَى أَنَّ الشُورَى لاَ يَجْرِيهَا وَلِيُّ الأَمْرِ فِي جَمِيعِ الأُمُورِ، بَلْ عِنْدَ الحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَعِنْدَمَا يَكُونُ اَلْمَوْقِفُ عَادِيًا، أَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الحَاجَةِ، أَوْ عِنْدَمَا يَكُونُ اَلْمَوْقِفُ حَرِجًا يَتَطَلَّبُ الكِتْمَانَ أَوْ البَتَّ دُونَ اسْتِشَارَةِ أَحَدٍ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَكَلَ عَلَى اللهِ، وَيَبُتُّ فِي الأَمْرِ؛ مُسْتَعِينًا بِاللهِ وَحْدَهُ](26).
قال ابن بطال رحمه الله: «أن للمستشير والحاكم أن يعزم من الحكم على غير ما قال به مشاوره إذا كان من أهل الرسوخ في العلم، وأن يأخذ بما يراه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة عائشة رضي الله عنها، فإنه شاور عليًا وأسامة، فأشار عليه أسامة رضي الله عنه بإمساكها، وأشار عليه علي رضي الله عنه بفراقها، فلم يأخذ بقول أحدهما وتركها عند أهلها حتى نزل القرآن فأخذ به...»(27).
مَوَاقِفُ الصِّدِيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
وكَذَلِكَ مَوَاقِفُ الصِّدِيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَعْرُوفَةٌ لاَ تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ حِينَ قَامَ بِتَنْفِيذِ جَيْشِ أُسَامَةَ، وَقَاتَلَ اَلْمُرْتَدِّينَ، وَمَانِعِي اَلْزَّكَاةَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ لِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي البِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ: «أشَارَ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ على الصِّدِّيقِ أنْ لا يُنْفِذَ جَيْشَ أسَامَةَ لاحْتِيَاجِهِ إلَيْهِ، فِيْمَا هُوَ أهُمُّ الآنَ مِمَّا جُهِّزَ بِسَبَبِهِ فِي حَالِ السَّلَامَةِ، وكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أشَارَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَامْتَنَعَ الصِّدِّيقُ مِنْ ذَلِكَ، وأبَى أشَدَّ الإبَاءِ إلَّا أنْ يُنْفِذَ جَيْشَ أسَامَةَ، وقَالَ : وَاللهِ لاَ أُحِلُّ عُقْدَةً عَقَدَهَا رَسُوْلُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّم، وَلَوْ أَنَّ الطَّيْرَ تَخَطَّفُنَا، وَالسِّبَاعُ مِنْ حَوْلِ اَلْمَدِينَةِ، وَلَوْ أَنَّ الكِلاَبَ جَرَّتْ بِأَرْجُلْ أُمَّهَاتِ اَلْمُؤْمِنِينَ، لَأُجَهِزَّنَ جَيْشَ أُسَامَةَ، فَجَهَزَّهُ وَأَمَرَ اَلْحَرَسَ يَكُونُونَ حَوْلَ اَلْمَدِينَةِ، فَكَانَ خُرُوجَهُ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ مِنْ أَكْبَرِ اَلْمَصَالِحِ وَاَلْحَالَةُ تِلْكَ، فَسَارُوا لاَ يَمُرُّونَ بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ إِلاَّ أَرْعَبُوا مِنْهُمْ، وَقَالُوا: مَا خَرَجَ هَؤُلاَءِ مِنْ قَوْمٍ إِلاَّ وَبِهِمْ مَنعَةٌ شَدِيدَةٌ، فَغَابُوا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَيُقَالُ: سَبْعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ آبُوا سَالِمِينَ غَانِمِينَ، ثُمَّ رَجَعُوا فَجَهَّزَهُمْ حِينَئِذٍ مَعَ الأَحْيَاءِ الذِّينَ أَخْرَجَهُمْ لِقِتَالِ اَلْمُرْتَدَّةِ وَمَانِعِي اَلْزَّكاةَ»(28).
وَرَوَى اَلْجَمَاعَةُ فِي كُتُبِهِمْ سِوَى ابْنُ مَاجَه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: «عَلاَمَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَى يَشْهَدُوا أَنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فِإِذَا قَالُوهَا عُصِمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا»، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عِنَاقًا، وَفِي رِوَايَةٍ: عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأُقَاتِلَّنَهُمْ عَلَى مَنْعِهَا، إِنَّ الزكَاةَ حَقُّ اَلْمَالِ، وَاللهِ لَأُقَاتِلَّنَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزكَاةِ. قَالَ عُمَرُ: فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ اللهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ للقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ»(29).
قال ابن بطال رحمه الله: «وكذلك فعل أبو بكر الصديق فإنه شاور أصحابه رضي الله عنهم في مقاتلة من منع الزكاة، وأخذ بخلاف ما أشاروا به عليه من ترك قتالهم لما كان عنده متضحًا من قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إلا بحقها»، وفهمه هذه النكتة مع ما يعضدها من قوله: من غير دينه فاقتلوه»(30).
فَالصِّدِيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمْ يُخَالِفْ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ بَلْ شَاوَر أَصْحَابَهُ تَطْبِيقًا لِهَذِهِ الآيَةِ وَأَخَذَ بِرَأْيِّهِ لَمَّا رَآهُ الأَصْوَبَ، وَفِي مِثْلِ هَذَا يَقُولُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ:«وَمِنْهَا: اسْتِحْبَابُ مَشُورَةِ الْإِمَامِ رَعِيّتَهُ وَجَيْشَهُ اسْتِخْرَاجًا لِوَجْهِ الرّأْيِ وَاسْتِطَابَةً لِنَفُوسِهِمْ وَأَمْنًا لِعَتَبِهِمْ وَتَعَرّفًا لِمَصْلَحَةٍ يَخْتَصّ بِعِلْمِهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَامْتِثَالًا لِأَمْرِ الرّبّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وشاوِرْهُمْ في الأَمْرِ﴾[آل عمران:159]، وَقَدْ مَدَحَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِبَادَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾[ الشورى: 38]»(31).
[وفقه الصحابة يدل على أن الشورى غير ملزمة، فلما جاء وفد بزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه يسألونه الصلح فخيرهم بين الحرب المجلية وبين السلم المخزية، عرض أبو بكر رضي الله عنه ما قال على القوم، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «قدر رأيت رأيا وسنشير عليك»(32).
قال العلامة ابن هبيرة رحمه الله: «فيه من الفقه أن من يذكر للإمام ما عنده من الرأي فإنه يذكره على سبيل المشورة لا على سبيل الحتم والقطه، فإن عمر رضي الله عنه قال: وسنشير عليك»](33).
(1) : تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص:407) ط. دار السلام.
(2) : رواه البخاري (3673) ومسلم (2541) من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه
(3) : حسَّنه الشيخ الألباني رحمه الله في الصَّحيحة ، برقم: (2340).
(4) : من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقد حسنه الألباني في الضعيفة (2/17) رقم (533) .
(5) : أخرجه البخاري (2652) ، (3651) ومسلم (6472) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(6) : صححه الشيخ الألباني رحمه الله في الصَّحيحة ، برقم: (1969).
(7) : صححه الشيخ الألباني رحمه الله في الصَّحيحة ، برقم: (3227).
(8) : رواه البخاري (2924).
(9) : فتح الباري. ط: طيبة ( 7/ 196 ).
(10) : الحديث دون لفظ : «وَكَانَ كَاتِبَهُ» أخرجه مسلم في صحيحه (2604) وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في الصَّحيحة ، برقم: (82).
(11) : مجموع الفتاوى (4 / 288).
(12) : من كلام الشيخ أمان الجامي رحمه الله تعالى، رسالة حقيقة الشورى في الإسلام (ص:32).
(13) : مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني : مادة : شَوَرَ.
(14) : السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ط. المجمع (ص:227).
(15) : من كلام الشيخ أمان الجامي رحمه الله تعالى، رسالة حقيقة الشورى في الإسلام (ص:41-42).
(16) : معالم التنزيل (تفسير البغوي) ط. دار طيبة (2/124).
(17): زاد المسير (1/489).
(18) :صحيح مسلم رقم : (1763).
(19) : إسناده صحيح، رواه الحاكم في المستدرك (3/74) وصححه ووافقه الذهبي.
(20) : صحيح مسلم رقم : (1779).
(21) : شرح صحيح مسلم (12/124).
(22) : البداية والنهاية .ت: التركي (6/253).
(23) : فتح الباري (ط.طيبة) (17/278).
(24) : فتح الباري (ط.طيبة) (17/275).
(25) : المصدر السابق.
(26) : من كلام الشيخ أمان الجامي رحمه الله تعالى، رسالة حقيقة الشورى في الإسلام (ص:43-44).
(27): جامع البيان: (6/191).
(28) : البداية والنهاية .ت: التركي (9/321-322).
(29) : أخرجه البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي و الترمذي و أحمد و انظر تخريجه في السلسلة الصحيحة للألباني رحمه الله (1 / 764-767-770) رقم (407- 408-409-410).
(30): جامع البيان: (6/191).
(31) : زاد المعاد في هدي خير العباد (ط.الرسالة) (3/268).
(32): البخاري (7221).
(33): فقه الشورى للشيخ حمد بن إبراهيم العثمان حفظه الله (ص:65).
(34) : أخرجه البخاري (7218) و مسلم (1823).
(35) : أخرجه مسلم (2387).
(36) : شرح العقيدة الطحاوية .ت: الأرنؤوط و التركي (ط: الرسالة)، (2/323-324).
(37) : الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء ت: الفقي : (ص:25).
(38) : الأحكام السلطانية للماوردي (ص:11).
(39): تاريخ دمشق (30/410).
(40): طبقات ابن سعد (3/199).
(41): انظر السير للذهبي (7/331-332).
(42) : الفِصَل في الملل والأهواء والنَّحَل (4 / 127).
التعديل الأخير تم بواسطة بلال بريغت ; 31 Dec 2015 الساعة 06:39 PM