منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 08 Jun 2017, 02:12 PM
فتحي إدريس
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي الثمر الداني من كلام عبد القاهر الجرجاني

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعد:
فإنَّ من نفائس الأعلاقِ الَّتي يحرص عليهَا طالبُ العِلمِ ما كان في غير مظنَّته؛ وهذا نقلٌ مشرقٌ عن شيخ العربيَّة عبد القاهر الجرجانيِّ -رحمه الله- ضمَّنه وأودعه كتابه النَّفيس "الأسرار" جامعٌ بين الاعتقادِ الصَّحيح في الصَّحابة رضوان الله عليهم والرَّدِّ على من ذمَّ الاستكثار من النَّحو وتوجيه كلامه.
فمع أنَّ الكتابَ في البلاغة ونقد الشِّعر، إلَّا أنَّ المعتقدَ الصَّحيحَ تظهر ثمارُه اليانعة في كلِّ فنٍّ من فنون العِلمِ، وتغلبُ سطوتُه الكاتبَ فيخرجُه في أمثلتِه وشواهده، ومن هُنَا حذَّر علماؤنا -رحمهم الله ورضي عنهم- من الحضور لأهل الأهواء والبدع حتَّى لو كان المجلس في غير علم الاعتقاد لهذا المأخذ ولعدم تكثير السَّواد وخشية أن يغترَّ الغير، فلحظوا هذا الملحظَ الدَّقيقَ -رحمهم الله- وغفلَ عنه من صبَّ همَّه وهمَّته على العلم ولم يبال من أين أخذه، والله المستعان.
وبعد الكلام الغضِّ النَّضير عن الصَّحابة الكرام رضي الله عنهم والمعانِي البديعة الَّتي ذكرها وقرَّبها الجرجاني -رحمه الله-، انتقلَ إلى الكلام عن النَّحو فتكلَّم بدررٍ يحسن التقاطها بيَّن من خلالها فائدة الإعراب الأصليَّة وأنَّ النَّحو لا يذمُّ الإكثار منه في الكلام وغير ذلك، وهذا يدلُّنا أنَّ العالم المتفنِّن في العلوم المتبحِّرَ فيها ينثر في ثنايا كتابِه من فوائد العلم وغرر المباحثِ الَّتي قد لا توجدُ في كتب الفنِّ والصَّنعة.
فالدَّاعي لإخراج كلامه -رحمه الله- كونه في غير مظنَّته، وكونه متعلِّقا بأفضل خلق الله عزَّ وجلَّ بعد الأنبياء وهم الصَّحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وكلامه على النَّحو وأنه ليس في إكثار في الإعراب ولا تقليل والرَّدُّ على من ذمَّ الإكثار منه وبيان ما يتوجَّه إليه الاعتراض، وكون الكلام جاء متَّسقا متواصلًا.

وقد كانَ كلام الجرجاني -رحمه الله- على ضروب الاستعارة وأساليبها ومسالكها، فذكر تأصيلًا لبعض أوجه قسمتها فجعلها ثلاثة أنواع:
1. أن يؤخذ الشَّبه من الأشياء المشاهدة والمدركة بالحواس على الجملة للمعاني المعقولة كاستعارة النُّور للبيا والحجَّة.
2. أن يؤخذ الشبه من الأشياء المحسوسة لمثلها إلا أنَّ الشبه مع ذلك عقليٌّ، ومثَّل لها بما يروى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إياكم وخضراء الدِّمن»[ضعيف جدًّا، انظر: "السلسلة الضعيفة" للألباني (1/ 69)] فالشبه للمرأة من النبات وكلاهما جسم محسوس، والقصد من الشبه عقليٌّ وهو حسن الظاهر في رأي العين مع فساد الباطن، وطيب الفرع مع خبث الأصل.
3. أن يؤخذ الشبه من المعقول للمعقول.
واستطردَ -رحمه الله- في الأصل الثَّاني إلى أصل آخرَ، وهو أنَّ الَّلفظة الواحدةَ تستعار على طريقين مختلفين، ويذهب بها في القياس والتشبيه مذهبين أحدهما يفضي إلى ما تناله العيون، والآخر يومئ إلى ما تمثِّله الظُّنون، ولما جعله أصلًا احتاجَ إلى التَّمثيل والاستشهادِ حتى يكون آنسَ لللقارئ، فقد قال -رحمه الله- في كتابه: «إذا جرى الشيء في الكلام هو دعوى في الجملة كان الآنس للقارئ أن يقترن به ما هو شاهد فيه فلم ير شيء أحسن من إيصال دعوى ببرهان»["أسرار البلاغة" (ص 52)] وهذا يدلُّ على احترامِه -رحمه الله- لعقول القرَّاء لا كما عليه كثير من الكتَّاب اليوم الَّذين يغرِّرون بالقارئ ويلبِّسون عليه، ولكم دعا محمود شاكر رحمه الله إلى احترام عقل القارئ -رحمه الله وغفر له-.

وهذا أوان إيراد كلام الجرجاني -رحمه الله- فلا تستطله أخي القارئ فإنَّه نافعٌ ممتعٌ مفيدٌ، فكلامه ببيانه وإفادته فسحةٌ للعَقْلٍ ونزهةٌ له، وقد جعلته قسمين حتى يأخذ القارئ نَفَسَه.


الصَّحابة رضي الله عنهم «نجوم الهدى» و«ملح الأنام»
يقول -رحمه الله- كما في "أسرار البلاغة" (ص 69- 74):
«ويظهر من هاهنا (أصل آخر) وهو أنّ اللفظة الواحدة تستعار على طريقين مختلفين، ويُذْهَب بها في القياس والتشبيه مذهبين، أحدهما يُفضِي إلى ما تناله العيون، والآخر يُومِئُ إلى ما تُمثِّله الظنون.
ومثال ذلك قولك: «نجوم الهُدَى» تعني: أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، فإنه استعارةٌ توجب شَبَهاً عقليًّا، لأنَّ المعنى أنّ الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتدوا بهم في الدين كما يهتدي السارون بالنجوم، وهذا الشبه باقٍ لهم إلى يوم القيامة، فبالرجوع إلى علومهم وآثارِهم وفِعالهم وهَدْيهم تُنال النجاة من الضلالة، ومن لم يطلب الهُدَى من جهتهم فقد حُرم الهدَى ووقع في الضلال، كما أنّ من لم ينظر إلى النجوم في ظلام اللّيل ولم يتلقَّ عنها دلالتها على المسالك التي تُفضي إلى العِمارة ومعادن السلامة وخالفَها، وقع في غير الطريق، وصار بَترْكِهِ الاهتداء بها إلى الضلال البعيد، والهُلْك المُبيد.
فالقياس على النجوم في هذا ليس على حدِّ تشبيه المصابيح بالنجوم، أو النيران في الأماكن المتفرقة، لأن الشَّبَه هناك من حيث الحسُ والمشاهدة، لأن القصد إلى نفس الضوء واللَّمعان، والشَّبه ها هنا من حيث العَقْل، لأن القصد إلى مقتضَى ضَوْء النجوم وحُكْمه وعائدته، ثم ما فيها من الدلالة على المنهاج، والأمن من الزيغ عنه والاعوجاج، والوصول بهذه الجُملة منها إلى دار القرار ومحل الكرامة نسأل الله تعالى أن يرزقنا ذلك، ويُديم توفيقنا للزوم ذلك الاهتداء، والتصرف في هذا الضياء، إنه عزّ وجلّ وليُّ ذلك والقادر عليه.

ومما لا يكون الشبه فيه إلا عقلياً، قولُنا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم «مِلْحُ الأنام» وهو مأخوذ من قوله عليه السلام: «مَثَلُ أصحابي كمثل الملح في الطَّعام، لا يصْلح الطَّعام إلا بالملح»[ضعيف، انظر: "السلسلة الضعيفة" للألباني (4/ 245)]، قالوا: فكان الحسن رحمة الله عليه يقول: «فقد ذهب مِلْحُنا، فكيف نصنع؟».
فأنت تعلم أنْ لا وجه ها هنا للتشبيه إلا من طريق الصُّورة العقلية، وهو أن الناس يصلُحُونَ بهم كما يصلُح الطعام بالملح، والشَّبهُ بين صلاح العامّة بالخاصّة وبين صلاح الطعام بالملح، لا يُتصوَّر أن يكون محسوساً، وينطوي هذا التشبيهُ على وجوب موالاةِ الصحابة رضي الله عنهم، وأن تُمْزَج محبَّتُهم بالقلوب والأرواح، كما يُمزَج الملح بالطعام، فباتِّحاده به ومداخلته لأجزائه يَطِيبُ طعمه، وتَذهب عنه وَخَامته، ويصير نافعًا مغذيًا، كذلك بمحبّة الصحابة رضي الله عنهم تصلح الاعتقادات، وتنتفى عنها الأوصاف المذمومة، وتطيب وتغذو القلوب، وتُنَمَّى حياتُها، وتُحفَظ صحتها وسلامتها، وتَقيها الزَّيغَ والضلالَ والشك والشبهة والحيرة، وما حُكْمُه في حال القلب من حيث العقل، حُكْمُ الفساد الذي يعرض لمزاج البدن من أكل الطعام الذي لم يُصْلح بالملح، ولم تنتفِ عنه المضار التي من شَأْنِ الملح أن يُزيلها، وعلى ذلك جاء في صفتهم أنّ: «حُبَّهم إيمان وبغضهم نفاقٍ». هذا، ولا معنى لصلاح الرجل بالرجل إلاّ صلاح نِيَّتهُ واعتقاده، ومحالٌ أن تصلُح نِيَّتك واعتقادك بصاحبك وأَنْتَ لا تراه مَعْدِن الخير ومَعَانَهْ، وموضع الرُّشد ومكانه، ومن علمتَه كذلك، مازَجَتْك محبّتُه لا محالة، وسِيط وُدُّه بلحمك ودمك، وهل تحصل من المحبّة إلاّ على الطاعة والموافقة في الإرادة والاعتقاد، قياسُه قِياس الممازجة بين الأجسام، ألا تراك تقول: فلانٌ قريبٌ من قلبي، تريد الوِفاق والمحبَّة».

قلت: ذكر السُّبكيُّ في "طبقات الشَّافعيَّة"(5/ 149) أنَّ العلَّامة عبد القاهر الجرجاني -رحمه الله- متكلِّم على مذهب الأشعريِّ، ووصفه بكونه أشعريًّا الحافظ الذَّهبيُّ -رحمه الله- في "السِّير"(18/ 433)، فالمقصودُ أوَّل المقال بكون الاعتقاد صحيحًا ما وردَ في هذا النَّقل بخصوصه من الثَّناء على الصَّحابة رضي الله عنهم وموالاتَهم ومحبَّتهم، والسَّير على طريقتهم والاهتداء بهديهم والأخذ بما كانوا عليه، وهذا معتقدٌ صحيحٌ لا غبارَ عليه فرحم الله عبد القاهر الجرجاني وغفر له وأجزل له المثوبة.

النحو في الكلام كالملح في الطَّعام

«وعلى هذه الطريقة جرى تمثيل النحو في قولهم: «النحو في الكلام، كالملح في الطعام»، إذ المعنى أن الكلام لا يستقيمُ ولا تحصل منافعه التي هي الدلالات على المقاصد، إلاّ بمراعاة
أحكام النحو فيه، من الإعراب والترتيب الخاصّ، كما لا يُجْدِي الطعامُ ولا تحصُلُ المنفعة المطلوبةُ منه، وهي التغذية، ما لم يُصْلح بالملح.
فأمَّا ما يتخيّلونه من أن معنى ذلك: أن القليلَ من النحو يُغني، وأن الكثيرَ منه يُفسد الكلام كما يُفسد الملحُ الطعامَ إذا كثر فيه، فتحريفٌ، وقولٌ بما لا يتحصَّل على البَحْث، وذلك أنه لا يُتَصَوّر الزيادةُ والنقصانُ في جريان أحكام النحو في الكلام. ألا ترَى أنه إذا كان من حكمه في قولنا: «كان زيدٌ ذاهبًا» أن يُرفَع الاسم ويُنصَب الخبر، لم يخلُ هذا الحكم من أن يوجد أو لا يوجد، فإن وُجد فقد حصل النحوُ في الكلام، وعَدَلَ مِزاجَهُ به، ونُفِي عنه الفسادُ، وأنْ يكون كالطعام الذي "لا" (كذا في المطبوع ولعل الصَّواب إسقاطها) يَغْذُو البدن وإن لم يوجد فيه فَهُو فاسدٌ كائن بمنزلة طعام لم يُصلح بالملح، فسامعه لا ينتفع به بل يستضرُّ، لوقوعه في عمياء وهجوم الوحشة عليه، كما يوجبه الكلام الفاسد العاري من الفائدة، وليس بين هاتين المنزلتين واسطةٌ يكون استعمالُ النحو فيها مذمومًا.
وهكذا القول في كلِّ كلام، وذلك أن إصلاح الكلامِ الأول بإجرائه عل حكم النحو، لا يُغْني عنه في الكلام الثاني والثالث، حتى يُتوَّهم أن حصولَ النحوِ في جملة واحدة من قصيدة أو رسالة يُصلح سائر الجمل، وحتى يكون إفراد كل جُملة بحكمها منه تكريرًا له وتكثيرًا لأجزائه، فيكون مَثَلُهُ مَثَل زيادة أجزَاء الملح على قدر الكفاية.
وكذلك لا يُتصور في قولنا: «كان زيد منطلقًا» أن يتكرَّرَ هذا الحكم ويتكثّر على هذا الكلام، فيصير النحو كذلك موصوفاً بأن لَهُ كثيراً هو مذمومٌ، وأن المحمودَ منه القليلُ، وإنما وَزَانه في الكلام وِزَانُ وقوف لسان الميزان حتى يُنبئ عن مساواة ما في إحدى الكفتين ما في الأخرى، فكما لا يُتصور في تلك الصفة زيادةٌ ونقصان، حتى يكون كثيرُها مذموماً وقليلها محموداً، كذلك الحكم في الصِّفة التي تحصل للكلام
بإجرائه على حكم النحو ووَزْنِهِ بميزان، فقول أبي بكر الخوارزمي:

"والبُغْضُ عِنْدِي كثرةُ الإعراب"

كلامٌ لا يُحصَل منه على طائل، لأنّ الإعراب لا يقع فيه قلة وكثرة، إن اعتبرنا الكلام الواحد والجملة الواحدة، وإن اعتبرنا الجُمُل الكثيرةَ وجعلنا إعراب هذه الجملة مضموماً إلى إعراب تلك، فهي الكثرة التي لا بدّ منها، ولا صلاح مع تركها، والخليقُ بالبُغْض مَنْ ذَمَّها وإن كان أراد نحو قول الفرزدق:

وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه
وما كان من الكلام معقَّداً موضوعاً على التأويلات المتكلَّفة، فليس ذلك بكثرةٍ وزيادة في الإعراب، بل هو بأن يكون نَقْصاً له ونقضاً أولى، لأن «الإعراب» هو أن يُعرب المتكلم عما في نفسهُ ويبيّنه ويوضِّح الغرض ويكشفَ اللَّبْسَ، والواضعُ كلامه على المجازفة في التقديم والتأخير زائلٌ عن الإعراب، زائغٌ عن الصواب، متعرّض للتلبيس والتعمية. فكيف يكون ذلك كثرةً في الإعراب؟ إنما هو كثرة عناءٍ على من رام أن يردَّه إلى الإعراب، لا كثرة الإعراب.
وهذا هو كالاعتراض على طريق شجون الحديث، ويُحتاج إليه في أصل كبير، وهو أن من حق العاقل أن لا يتعدَّى بالتشبيه الجهةَ المقصودةَ، ولا سيما في العقليات، وأرجع إلى النَّسَق» اهـ.

هذا آخر الفسحة، فأرجو أن يكون إخوانِي رجعوا بالثِّمار اليانعة؛ أسأل الله أن يوفقنا لما فيه رضاه وأن يهدينا سواء السَّبيل.


فتحي إدريس
13/ رمضان/ 1438


التعديل الأخير تم بواسطة فتحي إدريس ; 08 Jun 2017 الساعة 08:42 PM
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09 Jun 2017, 03:08 PM
أحمد زروق أحمد زروق غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2016
المشاركات: 16
افتراضي

بارك الله فيك أخي فتحي وجزاك الله خيرا
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 11 Jun 2017, 09:44 AM
عبد الباسط لهويمل عبد الباسط لهويمل غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: May 2017
الدولة: الجزائر
المشاركات: 96
افتراضي

كتابه الآنف اسرار البلاغة من الكتب العمد في بابها فلم يؤلف قبل كتاب الأسرار في البلاغة بمفهومها الراسخ اليوم إلا على يد عبد القاهر الجرجاني ، وجاء من بعده السكاكي واختصره القزويني
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013