والخطابُ للنَّبي صلى الله عليه وسلم قصداً، ثم من اتَّبعه تبعاً، ومن سبيلِه صلى الله عليه وسلم: سلوكُ طريقِه في نصرةِ الحقِّ وسنَّتِه صلى الله عليه وسلم.
إذ ليس كلُّ من رفع لواءَ الدفاع عن الحقِّ والسنَّة كان صادقاً في دعواه، فبعضُ الناس -إن لم نقل هم كُثر- أدعياءُ، يُظهر هذا ابتداءً ليبتزَّ ويُكَتِّل حولَه.
لذا وجب الحذر والتَّفطن لـ: أمثال هؤلاء الأدعياء؛ الذين هم: في الحقيقة حربٌ على الدعوة وبالأخصِّ الدعوة السَّلفية، فلسانُ قالِهم؛ قال الله قال رسولُه صلى الله عليه وسلم، ولسان حالِهم؛ هدمُ الدعوة السَّلفية أو تخريبُ عقول وأفكارِ ومناهج أهلِها، وتربيتُهم وتنشئتُهم نشأةً غيرَ مرضيَّةٍ ولا سَوِيَّةٍ! وذلك بسلوك طرق ملتوية في تفهيم مسائل الدِّين، وتَلْقين توجيهاتِه، أو حتى شرح أهدافِه ومقاصدِه.
فانظر -بارك الله فيك- إلى هذا الوصف من الربِّ -جلَّ وعلا- للقوم، فبحسب المظهر هم: أهل نضارةٍ، وبحسب المنطق فهم: أهل استماع لهم، لأن كلامَهم يأخذُ باللُّبِّ والقلبِ، كما كان الحال مع رؤوس البدع كالجهم بن صفوان وأضرابِه؛ كان مهذاراً -أي: كثير الكلام مما لا طائل تحته-، إذا تكلَّم أَسْمَع، لكن هم: في الجوهرِ والباطنِ: لا منفعةَ فيهم، ولا ينالُ منهم إلا الضَّرر، فهم: «مناظر بلا مخابر، وصور بلا معاني» (2) لذا قال تعالى فيهم:
ï´؟هُمُ الْعَدُوُّï´¾ «على الحقيقة، لأنَّ العدوَّ البارزَ المتميزَ، أهونُ من العدوِّ الذي لا يشعر به، وهو مخادعٌ ماكرٌ، يزعمُ أنه وليٌّ، وهو العدوُّ المبين» ï´؟فَاحْذَرْهُمْï´¾.
والآية الكريمة وإن كانت في المنافقين؛ فمَن ركب شعبةً من شعب نفاقهم كان فيه خصلةٌ من خصالهم وسهمٌ من سهامهم، والله أعلم.
ولأجل هذه الغايات الفاسدة سلَك أئمة السلف مسلَك الحذر والوقاية، وسدِّ الذريعة في هذا الباب؛ «بابِ التَّلَقِّي والأخذِ»، حفظاً للدِّين والفَهْم لمسائلِه.
بل جاء التشديد منهم رضي الله عنهم في هذا الباب وأيما تشديد، والأثار عنهم في هذا لا تكاد تحصى كثرةً؛ وهذا نزرٌ منها:
فَنَزَعَ ابْنُ سِنَانٍ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَمِعَ مِنْكُمْ بِالدَّجَّالِ، فَلْيَنْأَ عَنْهُ - قَالَهَا ثَلَاثًا - فَإِنَّ الرَّجُلَ يَأْتِيهِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَاذِبٌ، فَيَتْبَعُهُ لِمَا يَرَى مِنَ الشُّبُهَاتِ» (5).
ثم خرَّج الحافظ الإمام أبو عبدالله بن بطة العكبري رحمه الله بسنده الحديث؛ ثم قال:
«هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، فالله الله معشر المسلمين، لا يَحْمِلَنَّ أحداً منكم حسْن ظنِّه بنفسِه، وما عهدَه من معرفتِه بصحَّة مذهبِه على المخاطرة بدينِه في مجالسةِ بعض أهل هذه الأهواءِ، فيقول:
أداخلُه لأناظرَه، أو لأستخرجَ منه مذهبَه، فإنَّهم أشدُّ فتنةً من الدَّجال، وكلامُهم ألصقُ من الجَرَب، وأحرَق للقلوب من اللَّهب، ولقد رأيتُ جماعةً من الناس كانوا يلعنُونهم، ويسبُّونهم، فجالسُوهم على سبيل الإنكارِ، والردِّ عليهم، فما زالتْ بهم المُبَاسَطَةُ وخَفْيُ المَكْرِ، ودقيقُ الكفر حتَّى صَبَوْا إليهم» اهـ (6). أي: مالوا، نسأل الله السلامة والعافية.
o وعن سفيان بن دينار النمار، قال: سمعت مصعب بن سعد يقول: «لا تجالس مفتوناً فإنَّه لن يخطئَك منه إحدى اثنتين: إما أنْ يفتنَك فتتابعَه، وإما أنْ يؤذيَك قبل أن تفارقَه» (7).
o وعن عمر بنِ قيس المُلَائِي، قال: «كان يقال: لا تجالس صاحبَ زيغ فيزيغَ قلبُك» (8).
o وعن حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قال: قال لَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: «لَا يُمَكِّنْ أَحَدُكُمْ سَمْعَهُ مِنْ ذِي هَوًى»، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: «لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَقُومُ مِنْ عِنْدِهِمْ كَمَا جَلَسَ لَمْ أُبَالِ» (9).
المهم الآثار في هذا الباب كثيرة، وليس المقصود هو: تشبيهُ أقوام أو تنزيلُهم منازلَ هؤلاء والحكمُ عليهم -حتى لا نفهم خطأ-، ولكن المقصودَ هو: الحذرُ وأخذُ الحيطةِ، وهذا مسلكٌ سلفيٌّ مطروق ومتبع، والقلب -بارك الله فيكم- ضعيفٌ، والشُّبه خطَّافة، والمسلم لا يَملك قلبَه، بل هو: بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف شاء -سبحانه-، كما جاء في الأثر (10).
وفي الأثر عن ابن عون -عبدالله-، عن محمَّد -ابن سيرين-: أنَّ رجلًا، أتاه فسأله عن القَدر، فقال محمَّد:
فأعاد عليه الكلام، فوضع محمَّد يدَيه في أُذُنَيْه قال: «لَيَخْرُجَنَّ عنِّي، أو لأَخْرُجَنَّ عنه»، قال: فخرج الرجل، فقال محمَّد: «إنَّ قَلْبِي لَيْسَ بِيَدِي، وإِنِّي لَا آَمَنُ مِنْ أَنْ َيبْعَثَ في قَلْبِي شَيْئًا، لَا أَقْدِرُ أنْ أُخْرِجَه منه، وكان أحبُّ إليَّ أنْ لَا أَسْمَعَ كلامَه» (11).
أقول -بارك الله فيكم-:
هذا هو: المنهج الأسلم؛ أنْ تَبتعد بنفسِك وعقلِك وقلبِك عن كلِّ ما به ضررُك.
وهذا هو: منهج علمائِنا وكبرائِنا وأئمتِنا في هذا العصر؛ طلب السَّلامة للدِّين. ومن علمائنا الأحياء الذين يدندنون حول هذا المسلك الشرعي في الوقاية: الشيخ ربيع بن هادي، والشيخ صالح بن فوزان الفوزان، والشيخ عبيد الجابري، والشيخ صالح اللُّحيدان، حفظهم المولى تعالى، وأكثرهم في ذلك تنبيهاً وتحذيراً من خلْطة تلك السُّموم هو: الشيخ ربيع بن هادي -حفظه الله ورعاه-.
فكم قرأنا له، فيما طبع من كتبه، أو استفرغ من مجالسه ثم طبع تحذيراً من ذاك الصنف من الناس؛ ممَّن اندس في هذه الدعوة المباركة طمعاً في هدمها، وتدميرِ مسعاها، سواءً كان ذلك بقصدٍ أو بغير قصدٍ، لكن أكثر ما يُؤتى البعض -أي: منَّا- من جهلِه وسوءِ فهمِه لقواعدِ وأصول هذه الدعوة المباركة.
وخذوا من ذلك عيِّنة طيِّبة في تعليقِه على كتاب «الشريعة» لإمام أبي بكر محمد بن الحسين الآجري رحمه الله، وكذا في وصاياه وتوجيهاته لطلاب العلم، التي طبعت مؤخرا، كـ: «اللباب من مجموع نصائح وتوجيهات الشيخ ربيع للشباب»، وغيرها.
لأنه -حفظه الله- أدرك حقيقةَ هؤلاء الدعاة، وما هو مبتغاهم وهدفهم.
فكما يقول:
o محمد بن سيرين رحمه الله: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ» (12).
o وفي رواية: عن حماد بن زيد قال: دخلنا على ابن سيرين في مرضه فقال: «اتقوا الله يا معشر الشباب، وانظروا عمن تأخذون هذه الأحاديث، إنَّها دينُكم» (13).
o وإمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله: «إن هذا العلم هو لحمُك ودمُك، وعنه تُسْأَل يوم القيامة، فانظرْ عمَّن تأخذْه» (14).
اعلم أن الردَّ على أهل الزَّيغ والباطل والهوى يُشترط فيه: التَّمكُّن من سلطان العلم، وقوَّة الحجَّة والبيان؛ وإلا كان صاحبُه ممن لم يعطِ السنَّة حقَّها، ولا هو ممَّن وفَّى بموجب العلم والإيمان، ولا ممَّن حصلَ بكلامِه شفاءُ الصُّدور وطمأنينةِ النفوس.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
«كلّ من لم يُناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرَهم، لم يكن أعطَى الإسلام حقَّه، ولا وفَّى بموجب العلم والإيمانِ، ولا حصلَ بكلامِه شفاءُ الصدور وطمأنينةُ النُّفوس، ولا أفادَ كلامَه العلم واليقين» اهـ (16).
فهذا هو منهج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رده على خصومه، فهو: منهج قائم على العلم وقوَّة الحجَّة، وصدقِ اللَّهجة، وإخلاص النِّية في المجاهدةِ.
وهذا منهجٌ يستشفُّه كلُّ دارس لكتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله التي تناول فيها الردَّ على خصومِه في هذه الدعوة المباركة، منهجٌ يتسم بـ: العدل والحلم والعلم.
لذا فهو رحمه الله: يرى أنَّ من لم يسلك هذا المسلك:
1-لم يعط الإسلام حقَّه.
2-ولا وفَّى بموجب العلم والإيمان.
3-ولا حصل بكلامه شفاءُ الصدور وطمأنينة النفوس.
4-ولا أفاد كلامُه العلم واليقين.
والحمد لله أولا وآخرا، وصل الله وسلم على نبيه، وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.
وكتب: عبدالجيد تالي
ليلة الأربعاء لـ: 17-02-1441هـ
الموافق لـ: 16-10-2019مـ