منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 08 Mar 2023, 10:05 PM
أبو معاذ محمد مرابط أبو معاذ محمد مرابط غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: May 2007
المشاركات: 360
افتراضي نَقْضُ التَّهْوِين وفضح «النهجِ الواسع» المَهِين (الحلقة الأولى)




نَقْضُ التَّهْوِين
وفضح «النهجِ الواسع» المَهِين

-الحلقة الأولى-
استغلالٌ ماكِر لمسألة:
«الدّاعية لبدعته وغير الدّاعية»!



قال أسد بن موسى -رحمه الله-
اعمَل على بصيرةٍ ونيّة وحِسْبةٍ فيردّ الله لك المبتدع المفتون الزائغ الحائر فتكون خلفًا من نبيّك صلى الله عليه وسلم فإنّك لن تلقى الله بعملٍ يُشبهُه، وإيّاك أن يكون لك من أهل البدع أخ أو جليس أو صاحب..وقد وقعت اللّعنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل البدع، وأنّ الله لا يقبل منهم صرفًا ولا عدلاً ولا فريضة ولا تطوعًا، وكلّما ازدادوا اجتهادًا وصومًا وصلاة، ازدادوا من الله بُعدًا، فَارْفُض مجَالسهم وأذِلهم وأبعِدهم كما أبعدَهم الله وأذلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمّة الهدى بعده
«البدع لابن وضّاح ص:28»



الحمد لله وصلّى الله وبارك على نبيّه وصفيّه محمد وعلى أهل بيته وصحابته أجمعين ومن تبعَهم بإحسان إلى يوم الدين أمّا بعد:
فهذه سلسلة جديدة أستهلّ بها –مستعينا بالله متوكّلا عليه- محاورات جادّة ووقفات صارمة مع دعاة المنهج الأفيح الواسع وشيوخ المسلك الضائع المائع أصحاب الطريق المغشوش الذي وَسِع كافّة الطوائف والملل ولم يسع أصحاب المنهج الأصيل ودعاة الحجة والدليل لأنّه في الأساس قد بُني على باطل وقَصدَ به مخترعوه نشر محدثاتهم وبدعهم! قطع الله دابرهم وردّ الله مكائدهم فما أقبحَ فِعالهم! {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].
وممّا يَزيد القلب وجَعًا وحسرة أنّ هؤلاء المُحْدِثين وعلى رأسهم جماعة الحلبي والرمضاني قد استغلّوا فتنة التفريق استغلالا رخيصًا بل كان بعضهم -كعبد المالك- وقود هذه الفتنة وجمرتها التي ألهبت ساحة الدعوة كما سيأتي بيانه -إن شاء الله- في مناسبات قريبة، فتأثّر بلدغاتهم المسمومة الخفية والمُعلنة فِئام من الشباب فانحرفوا، ولايزال إلى هذه اللحظة جماعة منهم تتخبّط في شبهات القوم فمنهم من حسم مصيره بالتوجه المباشر إلى الميدان الواسع! ومنهم من يراوح مكانه فلا يدري ما وجهته هل يبقى على سلفيته التي عرفها أم يلقي بنفسه في أحضان عصابة الخذلان؟! والله المستعان! {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}.
وإنّي في هذا المقام لا أبرّئ كثيرا من هؤلاء الشباب ولا أعتذر لهم بهذه الكلمات لأنّني عرفت منهم -وهو واقع ما له من دافع- من تمكَّن الهوى من قلبه وصارت له دربة في التنكّر لمنهج أصيل عرفه وفهمه بعدما تعب قلبه واهتزت نفسه من كثرة الكلام عن النقد والتجريج! ووقعت على فؤاده فتنة التفريق موقعا شديدا فأصبح أكبر همّه كيف يستريح من القيل والقال والكلام في الأعراض! وكيف يواصل حياته من غير أن يهتمّ له إخوانه أو يُوجَّه إليه النصح والإنكار! لأنّه في جبلّته صاحب نفس زاهية فكان يجاهدها ويعالجها فجاءت الفتنة فدمّرت ما بقي في نفسه من حبّ السنة وأهلها فقرّر الهجرة إلى منهج واسع لا يُظلم فيه أحد! وهذا التحوّل يحدث كثيرا بعد فتن الغلو كما وقع في الأمّة بعد فتنة الخوارج والتكفير فسئمت النفوس من هذه الشدة فأحدثوا فتنة الإرجاء ردّا للتكفير من أصله وقرروا أن يكون إيمان الناس سواء! ثم إنّ أسوء ما في هؤلاء المشار إليهم أنّهم اتخذوا قرار المغادرة بعدما رفع الله عنهم ظلم المفرقة بردود السلفيين، فأعطوا السلفية ظهورهم بعد انجلاء الغبار وصاروا يكتبون في العام والخاص عن مراجعاتهم وتراجعاتهم ولو أنّهم صدقوا لكان التوجّه إلى أهل العلم والفضل من شيوخهم وإخوانهم أولى خطواتهم فتُحلّ شبهاتهم حينها بالأجوبة العلمية والنقاشات الهادفة، لكنّه الهوى ومقاصد السوء! {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}.
نعم! هي جماعة موجودة هذا رسمُها وهذا شكلها ذكرتها حتى لا يختلط أمرها مع طائفة أخرى انحرفت في بداية الفتنة عرفنا منهم أهل صدق وإنصاف، جرفتهم شبه عبد المالك وشوشت عليهم مقالات سالم الطويل وتحقق عندهم صدق هؤلاء بما رأوه من مشاهد الدمّار كقولهم: «سيفضح بعضهم بعضا!» فكانت هذه الوساوس هي السبب الأوّل في ضياعهم! أسأل الله أن يردّهم ردّا جميلا.
وهناك صنف آخر: منهم دعاة وعوام هم مع السلفيين في الرسم والمظهر! فيهم من رواسب الحلبيين والرمضانيين ما الله به عليم! وممّا زاد في تغوّلهم جهل الكثير من شيوخ ودعاة السنة بحقيقة حالهم ووافق ذلك تصنّع فاحش يمارسه المعنيون مع من يخافون من سياطه أو يرجون مديحه! هذا من جهة، ومن جهة أخرى: الجماهير التي حصرت مفاهيم هذه الدعوة في شعارات لا قيمة لها إن هي اقتُطعت من مبادئ هذه الدعوة المباركة وأُفرغت من معانيها الحقيقية كشعار: «نحن مع الكبار!» فالدّاعية الذي رسخت في قلبه شبه المُشبّهين لن يستقيم حاله -إلا أن يشاء الله- إذا وجدَ في أتباعه وبطانته من يلتَهم كلّ مسموع فيبتلعه بلا مضغ ثم يقفز إلى منابر الفيس بوك والتويتر فيتقيّأ على الناس ما ابتلعه هنالك!
ثمّ برزَ من كمّلَ مهازل هؤلاء جميعا: فسكتَ ولم يُبيّن هذا العَطَب المنتشر في الساحة إمّا لجهله بمخالفة ما يُنشر لمنهج السلف، وإمّا لجُبنه وخوره وضعفه فلا يهمّه في دعوته إلا أن يُصان عرضه ويُحترم جنابه أمّا مواجهة المخطئين والصبر على الجاهلين وتحمّل أذاهم فهذا لا يدور في خلده، وليته يعترف بهذا ويكفّ لسانه عمّن وفقه الله لسدّ هذا الثغر العظيم ويستغل وقته في التوبة من الجرم الذي اقترفه في حق السلفية والسلفيين! يقول الأوزاعي -رحمه الله-: «إذا ظهرت البدع فلم ينكرها أهل العلم صارت سنة»(1) ويقول العلامة ربيع المدخلي –حفظه الله-: «ما ضاع شباب الأمة وما ضاع النّاس إلاّ بالسكوت على الباطل»(2).
قلت: نعم! هي حقيقة الحال للأسف ومختصر ما جرى ويجري! لهذا تَعيّن على كل غيور أن يصدع بالحق ولا يبالي بأقاويل القائلين وأن يقف موقفا يجد ثوابه عند الله وليكن شعاره وعنوان جهاده {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ}.
وفي ختام هذه المقدمة أقول: إنّ الغرض من هذه السلسلة والقصد الأول منها هو هداية كل من أشرت إليهم سواء كانوا من جماعة الحلبي والرمضاني وعموم دعاة المنهج الأفيح أو من تأثر بهم وحسَّنَ منهجَهم وكذا من سكتَ عنهم وأغفل خطرهم، وإذا كان من الأغراض الشرعية عند نقد وجهاد فرق الكفر هدايتهم وإرجاعهم للإسلام والسنة فكيف لا يكون هذا الغرض مع من هو دونهم! يقول ابن تيمية -رحمه الله- متحدّثًا عن النُصيريّة: «والمعاون على كفّ شرّهم وهدايتهم بحسب الإمكان له من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلاّ الله تعالى، فإنّ المقصود بالقصد الأوّل هو هدايتهم، كما قال تعالى {كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس}، قال أبو هريرة: «كنتم خير النّاس للناس تأتون بهم في القيود والسلاسل حتى تدخلوهم الإسلام» فالمقصود بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هداية العباد لمصالح المعاش والمعاد بحسب الإمكان فمن هداه الله سعد في الدنيا والآخرة ومن لم يهتد كفّ الله ضرره عن غيره»(3)!
قلت: رحم الله شيخ الإسلام فما أطيب كلماته وما أعذبها! جواهر جهل معانيها بعض السلفيين فتأخروا عن ركب المجاهدين بعدما خنقتهم معضلات الدنيا وأثرت في نفوسهم معارك الفتنة! فأسأل الله أن يلحقهم عاجلا غير آجل بصفوف الجهاد الأولى فهي مواقعهم التي تليق بهم! وعزائي أنّهم استشعروا هذا وحنّوا إليه، وكلّهم عزم صادق على الرجوع إلى عيش المغازي وما أعظمه من عيش.


وإلى البداية سائلا الله التوفيق والهداية

فإنّ قول القائل: «فلان لا يدعو إلى بدعته»:
1- في معرض الاعتذار عن مصاحبته للمخالف.
2- أو سكوته عنه.
3- أو ثنائه عليه.
4- أو التهوين من خطر بعض المغرضين.
5- أوالتزهيد في واجب التحذير من بعض المشبوهين.
يُعدّ من المزالق الخفيّة التي انطلت على الجماهير الغافلة عن مسالك الأوّلين حيال هذه القضايا، وهنا تكمن الضرورة الملحّة لمعرفة منهج السلف من مصادره الأصيلة، ولا ريب أنّ المصادر المقصودة هنا هي: الكتاب والسنة وإجماع السلف ومؤلفات أصحاب التحقيق كابن تيمية وابن القيم، أمّا اليوتيوب ووسائل التواصل فلم تكن يوما ولن تكون مصادر فهمٍ لدعوة السلف الصالح وإنّما هي وسائل مكمّلة ينتفع بها من فهم طرق العلماء -من غابر الأيام- في معالجة مسائل الدعوة وقضايا الأفراد والجماعات والتحذير من الأحزاب وسائر أصحاب الملل والنحل! أمّا المبتدئ والعامي فسيكون ضرر ولوجه لمعترك هذه الوسائل أكثر من نفعه! وكيف لا يكون كذلك وقد حذّر أئمة الإسلام ممّا هو أسهل وأهون من ذلك فشدّدوا في قضية الاكتفاء بالأخذ عن الكتب دون المشايخ وبيّنوا بكل جلاء أثر ذلك! كتب أبو جعفر الداودي لعلماء قيروان ينكر عليهم بقاءهم في مملكة بني عبيد الرافضية فأجابوه: «اسكت لا شيخ لك»! قال القاضي عياض -رحمه الله-: «يُشيرون أنّه لو كان له شيخ يُفقّهه حقيقة الفقه لَعَلمَ أنّ بقاءهم مع من هناك من عامة المسلمين تثبيت لهم على الإسلام»(4).
قلت: نعم هي حكمة تخفى على الجاهل بطرائق الأئمة والبعيد عن مسالكهم في معالجة قضايا الأمة! حكمة لن يظفر بها الراغب فيها في الكتب وما بالك في مستنقعات النت والفيس بوك واليوتيوب! وما هو قادم من هذه المقالة يكشف الأثر المشترك للإخلال بالمصادر الأصيلة في فهم الدعوة بين من أضلّ عباد الله بنشر الشُّبه والجّهالات وبَينَ المتلقّي لهذه الانحرافات المُضلّة.


وعودا على بدء


دونك أخي القارئ ملّخص الجواب عن تلك المقولة الباردة:
أرجو أن يجيبني صاحب هذه الشبهة: ما هو ضابط المسألة وما هو قيدها وكيف نميّز بين الداعي وغير الداعي؟! وكأنّي بك قد حصرتَ «دعوة الرجل» في الخطابة على المنابر والكتابة على الدفاتر! وكأنّي بك قد ألغيت -بقصد أو بغير قصد- جزئية: «خفاء البدعة وتَخفِّي المبتدع» التي شدّد السلف في التحذير والتنفير منها! يقول مفضل بن مهلهل -رحمه الله-: «لو كان صاحب البدعة إذا جلست إليه يحدّثك ببدعته حذرته وفررت منه، ولكنّه يحدث بأحاديث السنّة في بدوّ مجلسه ثم يدخل عليك بدعته فلعلّها تلزم قلبك فمتى تخرج من قلبك؟»(5).
وهنا تنبيه لطيف: فالبدعة لا تكون باطلا محضا! ففيها من الحق ما يجعل الناس تنخدع بها فتركبها! هذا في البدع الواضحة الظاهرة التي يجاهر بها أصحابها فكيف بغيرها؟! يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: «البدعة لا تكون حقاً محضاً موافقاً للسنة، إذا لو كانت كذلك لم تكن باطلاً، ولا تكون باطلاً محضاً لا حق فيه إذا لو كانت كذلك لم تخفَ على النّاس ولكن تشتمل على حق وباطل فيكون صاحبها قد لَبَس الحق بالباطل»(6).
قلت: هذا حال البدع الجليّة وحال أصحابها المجاهرين بها فكيف بمن تقصّد المكر وعمد إلى الكيد فجعله طريقا في دعوته؟! فهذا أولى بالتحذير والتحقير! يقول السجزي -رحمه الله- «والمعتزلة مع سوء مذهبهم أقلّ ضرراً على عوام أهل السنة من هؤلاء، لأنّ المعتزلة قد أظهرت مذهبها ولم تُمَوِّه...فعرفَ أكثر المسلمين مذهبهم وتجنّبُوهم وعدّوهم أعداء»(7).
نعم! من هذا المنطلق وبهذه النظرة المقاصديّة خاف السلف على أنفسهم فأقفلوا كل الأبواب وامتنعوا من سماع كلمة واحدة من المبتدع! فكيف يأتي اليوم من يقيم نفسه مقام التوجيه فيُليِّن القول في مثل هذه المسائل الخطيرة ويغامر بأفئدة الناشئة! ثم تراه بعد ذلك من أكثر الناس تعظيما لعرضه وتفخيما لمقامه إن هو عورض أو انتُقد في انحرافاته، فكيف لو حُذّر منه؟! حينها يتناسى كل عبثه وخلطه ويبقى يصرخ في الآفاق: حذروا منّي تكلموا في عرضي! ولو كان منصفا وجِلاً من ربّه محترما للعلم فاهما لحقيقة الدعوة لقارعَ الحجة بالحجة وبيَّن مقصده وأجاب برويّة وتَحمّل الظلم -إن هو وقع- ولم يتسخّط تسخط النسوان ثم يُكمِل مسيرته! وهذا هو قانون الدعوة الحقيقي الذي جهله هؤلاء المُتسخّطة!
ويقال كذلك: لو استشعر المتكلّم حقيقة مهمة لحظة إجابته السائلين وكتابته للقارئين وهي أنه يوجّه كلامه للجهلة من العوام وفي أحسن الأحوال للمبتدئين من طلبة العلم لكان هذا رادعا له ومُنبّها له على خطر إضلال هؤلاء! فليس العالم أو المتمكّن في العلم من سيأخذ مثل هذه التوجيهات حتى نضمن معه شرط التمييز ونطمئن على دينه! وإنّما هو جاهل يَسترشد ومُستفسر يسأل ليأخذ التوجيه ويعمل به! فمعيب بالمتكلّم أن يغفل هذا الأمر ويدفع بالنّاس إلى أودية الباطل فيقرر لهم كما في مبحثنا هذا بأنّ فلانا لا يدعو إلى بدعته وهو يعرف في قرارة نفسه بأن جهة التلقي لا تفرق بين الداعية وغير الداعية ولن تتفطّن ساعة المكيدة! وهو طريق مصادم لطريقة الأئمة الذين اجتهدوا في إنارة درب هذه الشريحة من الناس.
يقول ابن بطّة -رحمه الله- ذاكرا سبب تسميته لأهل البدع وتوصيفه لأحوالهم: «أَذكر طرفاً من أسمائهم وشيئاً من صفاتهم؛ لأنّ لهم كتباً قد انتشرت ومقالات قد ظهرت، لا يعرفها الغرّ من الناس ولا النشؤ من الأحداث تخفى معانيها على أكثر من يقرؤها فلعلّ الحدث يقع إليه الكتاب لرجل من أهل هذه المقالات قد ابتدأ الكتاب بحمد الله والثناء عليه والإطناب في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتبع ذلك بدقيق كفره وخفي اختراعه وشرّه فيظن الحدث الذي لا علم له والأعجمي والغمر من الناس أنّ الواضع لذلك الكتاب عالم من العلماء أو فقيه من الفقهاء ولعله يعتقد في هذه الأمة ما يراه فيها عبدة الأوثان ومن بارز الله ووالى الشيطان»(8).
ويقال كذلك: وكأنّي بصاحب هذه الشبهة يرمي إلى نسف تحذيرات السلف من تلوّن أهل البدع وتخفّيهم وتنبيهاتهم على الصفات والعلاّمات التي بها يعرف المبتدع المتخفي والمخالف الماكر! يقول الأوزاعي -رحمه الله-: «من ستر علينا بدعته لم تخف علينا ألفته»(9) ويقول الغلاّبي -رحمه الله-: «يتكاتم أهل الأهواء كل شيء إلاّ التآلف والصحبة»(10)، ويقول معاذ بن معاذ -رحمه الله-: «الرجل وإن كتمَ رأيه لم يخفَ ذاك في ابنه ولا صديقه ولا في جليسه»(11).
قلت: نعم! هي أقوال أنارت دروب النجاة لمتّبعي السلف! ففهموا من أئمة الهدى بأن صنوفا من المبتدعة يجتهدون في إخفاء دعوتهم من أجل هذا سطّر الأئمّة النَصَحة لأتباعهم أمارات بها يعرف المبتدع من المتّبع!
ثم انظر –هداك الله- في قولهم: «وإن كتمَ أمره» وأخبرني هل كنتَ أعلم منهم بمسألة «غير الداعية» أو كنت أحلم وأورع منهم فشرّحوا الكاتِم واعتذرتَ له؟! لا وربّ السماء لقد كانوا أعدل وأعلم منك وكنت أجهل وأجبن فلم تتحرك فيك حميّة الإسلام مثلما تحركت في القوم! واستثمرت في مسألة علمية اختلف فيها العلماء وجوهرها واضح جلي ألا وهو حكم قبول رواية المبتدع! أما التحذير من المبتدعة والتنفير من مسالكهم فهو تحذير واحد وإنما يشتد ويتأكد في فلان ويتغير الأمر في آخر على حسب المصلحة والمفسدة وليس مناط الحكم أن يكون داعية أو غير داعية فعلماء الأمة أذكى وأوسع فهما من أن يُخدعوا في أمّة النبي صلى الله عليه وسلم فيمتنعوا من التحذير من الرجل لا لشيء إلاّ لأنّه لم يظهر رأيه وباطله! فهذا أحمد شيخ المحنة وإمام أهل السنة سئل عن موسى بن عقبة الصوري(12) لما قدم بغداد فقال لهم: «انظروا على من نزل وإلى من يأوي»(13)! أتُراه يا رجل قد جهل ما علمتَه فظلم ابن عقبة وبحث عن حقيقته ولم يكتف بظاهر حاله ففتّش عن عيوبه؟! نعم لو ذكرت له رواية الرجل وعرضت عليه أسانيده فحينها ترى العدل والإنصاف وتقرير المسألة تقريرا علميا بعيدا عن كل عاطفة! أمّا وقد سئل عن مشبوه عنده فنظرته الثاقبة -رحمه الله- جعلته يتمسّك بأصل الحماية وقاعدة الوقاية فنصح ولم يغشّ السائل! وهذا موضع الخلط عندكم.
ويجدر التنبيه: إلى أنّني اكتفيت بعلامة واحدة ذكرها السلف تحذيرا من أهل البدع وأهملت -تركا للإطالة- علامات وأمارات أخرى حتى أثبت للخادع والمخدوع بأنّ السلف كان بوسعهم أن يجعلوها أمارة واحدة وينصّوا على شرط واحد وهو الدعوة إلى البدعة فمن كتم بدعته فتشرع معاشرته والأخذ عنه ويحرم التعرّض له! لكنهم لم يقرروا هذا بل اشترطوا فيمن ينبغي التغافل عنه ممّن لم يظهر شرا ألاّ يكون من أهل المكائد وألا يجاهر بصحبة المخالفين والثناء عليهم والتعريض بأهل السنة وغير هذا من الآفات الخفية التي تنطلي على عموم الناس.
إضافة: بعدما أنهيت كتابة المقالة وعند المراجعة وجدت أنني غفلت عن تعليق مهمّ لابن بطّة -رحمه الله- على قول أحمد السابق لما سئل عن الصوري وهو تعليق يؤكد ما ذكرته حول نظرة أحمد الثاقبة وخطورة إهمال هذا التأصيل.
قال ابن بطّة -رحمه الله-: «فقد فاض البحر العميق، فاستُغني عن هذا التمييز والنّظر والتدقيق، وفُقدت تلك الأعيان، وصارت الزندقة يَتفكّه بها الأحداث والشبان، ظاهرة في السوقة والعوام، وصار التعريض تصريحاً، والتمريض تصحيحاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، مسَّكَنا الله وإيّاكم بعروته الوثقى، وأعاذنا وإياكم من مضلات الهوى، ولا جعلنا ممن باع آخرته بالدنيا؛ إنه سميع قريب»(14).


لدغُ العقارِب!

وكذلك يقال له: كأنّك بذلك الجواب البارد تحاول أن تمحو فكرة «اللدغ حين التمكين» وهي مكيدة ضاربة في التاريخ تفطّن لها أئمة السنة وقضوا عليها في مهدها، ونبّهوا الأمّة على خطرها، يقول البربهاري -رحمه الله-: «مثل أصحاب البدع مَثَل العقارب يدفنون رؤوسهم وأبدانهم في التراب ويُخرجون أذنابهم فإذا تمكّنوا لدَغوا، وكذلك أهل البدع هم مختفون بين الناس فإذا تمكّنوا بلغوا ما يريدون»(15)
قلت: فلو كانت البدع ظاهرة وكان أهل البدع في وضوح من أول يوم لما تميّز أهل الحديث وأسود السنة عن غيرهم بفضيلة النقد! ولما احتاج العلماء إلى فرز وتفتيش الكتب! يقول البلقيني -رحمه الله-: «استخرجت من الكشّاف اعتزالا بالمناقيش» (16) بل قبل ذلك لما كانت فائدة من التحذير من البدعة والتشديد في المحدثات ولما اضطر الأئمة ابن سيرين وطاوس وأيوب إلى وضع أصابعهم في آذنهم! فكن على ذكر من كل هذا أخي القارئ.

وهنا ثلاث مسائل:
الأولى: وقد سبقت إجمالا: أنّ التفريق بين من يدعو إلى بدعته ومن لا يدعو تفريق سلفي عتيق له موضعه وله سياقه في أبواب قبول الرواية والشهادات وحتى لو ضمت إليها أحكام التعامل مع المخالف المتستر وهل يشرع هجره والتحذير منه وهي قضية لها ارتباط وثيق بمسألتنا، فكل هذا في جهة والحذر والتحذير من البدعة وأصحابها في جهة أخرى فهو من مبادئ الإسلام الأصيلة فلا ينبغي الخلط بين القضيتين فالأولى وقع فيها الخلاف أما الثانية فهي إجماع وكل مبحث له موضعه ولا يوجد أيّ تعارض! فعليك أن تفهم بأنّ الأئمة لم يكن قصدهم من إيراد بحث الداعية وغير الداعية التهوين من خطر المبتدع الذي لا يدعو إلى بدعته بل نصوا جميعا على وجوب الحذر منه وترك مصاحبته وتزويجه ويكفي أنهم قالوا عنه: مبتدع لا يدعو! فهو باق عندهم على صفة البدعة وما أشنعها من صفة! أما أنت يا من أقحمت هذه المسألة في هرائك فقد جعلت المبتدع سنيا سلفيا ولم تقل عنه مبتدع مخالف كما وصفه السلف!
الثانية: أنّ المُشبِّه أبردَ القضية وحشرها في المسألة الحديثية المشهورة كما ذكرت آنفا وهي التفريق بين الداعية وغير الداعية فألهى نفسه عن جوهر الموضوع وهو «المبتدع» الذي عليه مدار الخلاف! فلم يذكروا السنيّ الذي ظاهره الإسلام والسنة ولم يجاهر بخلافها وإنما تكلّموا عن المبتدع الذي تأكدت بدعته ثم اختلفوا هل يؤخذ عنه أو لا؟ فذهب الأكثرون إلى التفريق بين الداعية وغيره، يقول ابن حجر -رحمه الله-: «الأكثر على قبول غير الداعية إلاّ أن يروي ما يقوي بدعته فيرد على المذهب المختار»(17)!
قلت: انظر –رحمك الله- في قوله «ما يقوّي بدعته» لتعلم خطر هؤلاء المشبّهة وأنهم كعقارب الرمال حقّا وحقيقة، فمن أجاز الأخذ عن المبتدع غير الداعية لم يشترط فحسب ألا يدعو إلى بدعته بمعنى: ينشر بدعه الظاهرة بل اشترطوا ما هو أدقّ: ألا ينشر ما يقوّي بدعته ولو كان حقّا! كلّ هذا حماية منهم لجناب السنة!
وأصرح من قول الحافظ الأوّل قوله -رحمه الله-: «وينبغي أن يُقيَّدَ قولنا بقبول رواية المبتدع إذا كان صدوقاً ولم يكن داعية بشرط ألاّ يكون الحديث الذي يُحدِّث به مما يعضُد بدعته ويُشيْدها، فإنّا لا نأمَنُ حينئذٍ عليه غَلَبَةَ الهوى»(18).
انتبه -هدى الله قلبك- إلى قوله: «فإنّا لا نأمَنُ حينئذٍ عليه غَلَبَةَ الهوى» فهو تحفّظ علمي سلفي أصيل يلخص مبحثنا تلخيصا عجيبا ويصادم تهوينك في هذه القضية! ولو لا استخفافك بعقول الناس لتطرقت إلى هذا المبحث وذكرت فصوله ومسائله! وذكرت أولا هل هي مسألة خلافية أو هو إجماع ثابت كما نقله ابن حبّان على ردّ رواية الجميع سواء الداعية أو غير الداعية؟ وهل قيد تقوية البدعة على إطلاقه أم يشترط فيه مخالفة مذهب أهل السنة؟ وهل هذا المبتدع الداعية يشترط فيه الصدق أم لا؟ ومسائل أخرى الظاهرة منها والخفية! فهذا الذي أريده منك ومن كل متحذلق يلوك هذه المسائل نصرة لهواه.
وهنا أضرب مثالا عن تقوية البدعة يناسب موضوعنا: حيث تجد الداعية يكثر من ذكر نصوص الغيبة وتعظيم الأعراض وقصده التنفير من الجرح والتعديل! وإنّما يعرف هؤلاء ومقاصدهم العارف المتجرّد وحكمه مرتكز على الأدلة الظاهرة وقرائن الأحوال القوية وليس هو تحكّم بلا برهان أو حكم بالهوى! فمن اشتهر عنه هذا المسلك ولم يعرف بتمعّر وجه وانتفاضته لنصرة السنة وأهلها فهو في الغالب رجل سوء يخفي توجهه ويظهر بهذه الكلمات المسمومة حقيقة موقفه من منهج الجرح والتعديل وقد علم هذا بالتجارب والوقائع! وانظر ترى إلى ما آل إليه هؤلاء! فأول محطة عندهم: اتقوا الله في الأعراض وبعد زمن قد يطول أو يقصر تسمعهم: «مداخلة جماعة الجرح والتجريح والغلاة»! وأمامكم بوروبي الجديد المعروف بـ: الشيخ رشيد! الذي لم يخرج ما عنده إلا بعدما اشتهر بين العامة فصار يطعن في السلفيين ويستغل المنبر للنيل منهم!
أمّا المسألة الثالثة: فهي متفرّعة عن الأولى وراجعة إليها أقصد معاملة المخالف بعيدا عن باب الرواية وما ورد فيها عن الأئمة في التفريق بين الداعية وغير الداعية، وهي كذلك من مسائل العلم التي عبث بها من أقاموا أنفسهم بين الناس مقام المفتين والمنظّرين والموجّهين وهم دخلاء على العلم والدعوة.
يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «فأمَّا من كان مستترًا بمعصيةٍ أو مُسِرًّا لبدعةٍ غيرِ مكفِّرةٍ؛ فإنَّ هذا لا يُهْجَر، وإنما يُهْجَر الداعي إلى البدعة، إذ الهجر نوعٌ من العقوبة، وإنما يعاقب من أظهر المعصيةَ قولًا أو عملًا، وأمَّا من أظهر لنا خيرًا فإنَّا نقبل علانيتَه، ونَكِلُ سريرتَه إلى الله تعالى، فإنَّ غايته أن يكون بمنزلة المنافقين الذين كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقبل علانيّتهم وَيَكِلُ سرائرهم إلى الله»(19).
قلت: ثبِّت ناظرك في قوله: «فإنَّ غايته أن يكون بمنزلة المنافقين»، ثم أخبرني: كيف كان المنافقون في عهد النبوّة وكيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع من أظهر شرّه منهم؟! ألم يأمره ربّه سبحانه بجهادهم فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّم}؟! هل خالف ابن تيمية ومن قال بقوله هذا المطلب الربّاني؟! طبعا لم يخالفوا وحاشاهم وإنما هي مباحث العلم عندما تؤخذ بالصدق والإخلاص والخوف من الله! فمن أسرّ شرّه من المنافقين سُكت عنه بل حرّم الحكم عليه لأن النفاق من الأدواء الخفيّة أمّا من ظهر نفاقه بالأدلة والقرائن شُدّد عليه وحُذّر منه تحذيرا غليظا، وعليه: فمن يدافع عنهم صاحب هذا الجواب البارد أكثرهم لا يتحقق فيهم ما اشترطه الأئمة بل ما ذكر في هذه المسألة هي حالات نادرة شاذةّ فقلَّ في أهل البدع من لا يدعو إلى بدعه وإنّما مقلّ ومستكثر وجريء وجبان وغبيّ وماكر! فالتقرير النظري غير المعالجة التطبيقية! فاذكر لنا مبتدعا لا يقول كلمة نصرة لبدعته ولا يتحرك في الخفاء لإضلال الناس ثم أنا ضامن لك ألا نختلف في وجوب السكوت عنه!
لكن في مقابل هذا: علينا أن نتفق كذلك أيها الضعيف الكسلان على ضرورة دعوة من تدافع عنه وإرشاده والصبر عليه حتى نخلّصه من باطله ونكون سببا في هدايته! لأننا رأينا رأي العين جماعة الحلبي والرمضاني ومن لفّ لفهم من أكثر الناس تضييعا لهذا الواجب! فعندما تسمعهم يصرخون في الآفاق ويصيحون بوجوب دعوة المخالف والصبر عليه تعتقد عند أول وهلة بأنهم صادقون في دعواهم لكن كما قيل: من ثمارهم تعرفهم! فلا تسمع أنّ صوفيا أو رافضيا أو خارجيا وقبلهم نصرانيا أو يهوديا أو ملحدا اهتدى على أيديهم! ولا تجد لهم جهودا في الرد على هذه الطوائف وإنما هو تشويش فقط على السلفيين وتشغيب على أصل الجرح والتعديل أمّا غيرهم من المخالفين فهم أقرب إليهم لأنهم لا يشكلون أي خطر عليهم! وإنّما ينزعج هؤلاء البطّالون ممّن يقول لهم: أخطأتم وضللتم!
الحاصل: إثبات أنّ فلانا لا يدعو إلى بدعته أمر دقيق جدا لأنّ صاحب الهوى لا تبرد نفسه إلاّ بدعوة الناس وإن لم يجهر بدعوته! يقول الشاطبي -رحمه الله-: «وكلّ صاحب مخالفة فمن شأنه أن يدعو غيره إليها، ويحضّ سواه عليها، إذ التأسّي في الأفعال والمذاهب موضوع طلبه في الجِبِلّة وبسببه تقع من المخالف المخالفة، وتحصل من الموافق الموافقة، ومنه تنشأ العداوة والبغضاء بين المختلفين»(20).
قلت: هذا قول عارف قرّر في الاعتصام وحقّق في البدعة ومارس الدعوة في مجتمعه ممارسة المشفق الغيور فارحم نفسك وتأمل في كلماته واستحضر معانيها عندما توجّه السائلين والشباب لأناس لم يعرفوا بنصرة السنة ولا بالصدع بالحق لاسيما إذا سئلت عن شارح لبعض المتون أو متخصص في بعض الفنون فتدلّ عليهم دلالة المُتخلّص من السائل وكأنّ الله لن يسألك عنه! يقول الفضيل بن عياض -رحمه الله-: «من أتاه رجل فشاوره فدلّه على مبتدع فقد غشّ الإسلام»(21)
وهنا مثال تقريبي: أؤكد به ما تقرر سابقا وأعيده هنا ليرسخ في قلب صاحبنا ويستشعر خطره عندما يتكلم في دين الله ويوجه عباد الله: فكثير من الناس تلتبس عليه مسألة بأخرى فيعتقد بأن الداعية إلى بدعته هو فقط من يخطب في الناس ويكتب المقالات ويقرّر مخالفاته جهارا! وهو خطأ فاحش فأخطر أهل البدع من يمكر بالسامعين والقارئين ويبث باطله بطريقة ماكرة تنطلي على الناس! وهذا النوع من المخالفين لا يكاد يتفطّن لهم إلا مُوفّق!
وخذ هذا المثال: قال ابن يونس عن أيوب ابن إسحاق: «وكان في خُلقه دعارة» فكان الكوثري يذكر ابن إسحاق محتجّا بقول ابن يونس ويقول: «ذاك الدّاعر تكلّم فيه ابن يونس»! والحقيقة: أنه وقع تصحيف في «تاريخ بغداد» وأصل الكلام: «وكان في خلقه زعارة»بمعنى: شراسة، فجاء الكوثري وأقرّ التصحيف خبثا منه ولم ينبّه عليه لأنّه تقصدّ الوقيعة في ابن إسحاق كما بيّن المعلّمي -رحمه الله-(22).
فمن أجل هذا لا يحق لمجازفٍ أن يقفز على أسوار العلم وأن يقول على الله بلا علم هذا في حق المتكلم الذي لا يزن كلماته أما من يتقصّد تحريف مسار هذه المباحث خدمة لهواه فهذا خطبه جليل وهو مثال جليّ يكشف حقيقة ما ذكر في هذا المقال وصاحب هذا القول هو أنموذج للداعية الذي يدعو إلى منهجه بطرق ملتوية ولا يُكشف أمره بل يروّج له ويدافع عنه! ولا يستعظمن رجل هذه الحقيقة المرعبة وهي تقصد التحريف من أجل مصالح شخصية! يقول ابن تيمية -رحمه الله- عن مكائد الروافض: «ممّا احتالوا به أن استفتوا بعض المنتسبين إلى السنّة في ذكر الخلفاء في الخطبة: هل يجب؟ فأفتى من أفتى بأنّه لا يجب، إمّا جهلا بمقصودهم، وإمّا خوفًا منهم وتقيّةً لهم»(23)! رحم الله شيخ الإسلام ما أقوى بصيرته! مع أنّ جوابهم صحيح سليم لأن ذكر الخلفاء ليس واجبا في الخطبة مع ذلك انتقدهم بل تطرق لنيّة بعضهم المدخولة!
ملخّص القول وحاصله: أنّ الجزم بأنّ فلانا ليس داعية هي من أدق المسائل التي يحرم العبث فيها والتساهل في تقريرها وليس لكل أحد مهما بلغت منزلته أن يرسل لسانه وقلمه من غير ذكر لضوابط الباب وتجرد عن كل عاطفة ومصلحة! وعلى المتكلّم أن يستشعر أمانة الفتوى ومسؤولية التوجيه فالله سائله عن أمة النبي صلى الله عليه وسلم لاسيما وقد تقرر وتأكد وثبت أن زنادقة الأمة بل شياطينها من أحرص الخلق على إضلال المسلمين! يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «إن في البحر شياطين مسجونة، أوثقها سليمان، يوشك أن تخرج، فتقرأ على الناس قرآنا»(24)، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «الرافضة من أعظم الناس إظهاراً لمودة أهل السنة، ولا يُظهر أحدهم دينه، حتى إنّهم يحفظون من فضائل الصحابة والقصائد التي في مدحهم وهجاء الرافضة ما يتودّدون به إلى أهل السنة»(25).
قلت: فهذه النصوص والنّقول تؤكد خطر المتساهلين في هذه القضايا وأنّ بمقدورهم مدح الشياطين والنصح بالرافضة لا لشيء إلاّ لأنّهم أظهروا خيرا ولم يكونوا دعاة لكفرهم وبدعهم!
ثم ليعلم المتساهل: بأن علمه ومعرفته بالمسؤول أو المدافع عنه ليست هي الميزان الشرعي العادل! اللهم إلاّ إذا كانت معرفة مبنية على أدلة وتوثيق صادق وجزم لا يشوبه شك أمّا في غير هذا فلا يحق له أن يرسل الكلام إرسالا من غير أن يظهر جهله بالمسؤول عنه أو قلة علمه بحقيقته! فمثلا: عندما تُرشد إلى سعيد الكملي وتنصح به لا تبني توجيهك هذا على شيء من مقاطع الرجل شاهدتها في اليوتيوب أو محبة خفيّة وجدتها في نفسك سببها حسن كلامه! نعم ربما تبتلى بمودته ومحبة طريقه لكن لا تشهر له ولا تنصح به وأنت لا تعرف تاريخه ومنهجه ولم تستمع إلى أكثر دروسه ولم تنظر فيما انتقد فيه لاسيما وقد قامت عندك أخبار دعاة الفجأة وغزواتهم الآثمة في وسائل التواصل وكيف استحوذوا على عقول الشباب! ففي هذا الوقت لا يحل لك أن تمنح التزكيات من غير أن تدرسها.
وفي كل الأحوال: متى ظهر لك غلطك في تقويم الرجل فعليك أن تتراجع فورا وأن تكفر عن سيئتك بحسنة من جنسها وتحذر ممن سهّلت القول فيه وتشكر من نبّهك وأرشدك! ثم بعدها عليك أن تظهر الجلد كذلك في التحذير من الدعاة إلى بدعهم لأنها قرينة قوية تجعلنا نحسن الظن بك إن أنت أخطأت! فكما هوّنت في غير الداعية فعلك أن تشدد في الداعية وألاّ تظهرَ فقط في ضفة التهوين من غير أن تسجل حضورك في الضفة المقابلة! احذر فهو دليل ساطع على انحراف خفي وهذا الذي يجعل المنصف يدقق النظر في أجوبة هذا الصنف من الناس! فلو أن رجلا عرف بصلابته وردوده أو على الأقل بتأييده ومساندته ولم يكن مشغبا مشوشا ثم صدر منه جواب فيه ما تطرقنا إليه في هذا البحث ولما كان الواحد منا لينزعج أو يقلق وإنما هي أخطاء لا يسلم منها أحد وغاية ما يكون أن يتواصل مع المعني أو يكتب تنبيهًا لعموم الناس! لكن الأمر على خلاف هذا فغالب من يصدر منهم هذا الجنس من الأخطاء هم أصحاب هوى وتوجّه مخالف مفضوح لهذا تعين على كل منصف أن يعطي الموضوع حقه ومستحقه وأن يفتش تفتيش الصيارفة في كلام هؤلاء وأن يقف عند كل كلمة وحرف ونقطة فلا أمان معهم.
وهنا تنبيه: لا يفهم مما سبق تقريره أن الواجب دائما هو التحذير ممن لم يكن داعية إلى بدعته أو لم يظهر ما يستجلب الشكوك حوله فهذه مسألة خاضعة إلى قانون المصالح والمفاسد وإنما الغرض من كل هذه السطور هو حماية المسلمين وتوجيههم إلى الأخذ عن أهل العلم الموثوقين وإرشاد طلبة العلم إلى النّهل من مصادر الشريعة وتكوين أنفسهم تكوينا سلفيا أصيلا والاستعانة في فهم نصوص الوحيين بالموثوقين من الأئمة وهي وصية السلف لهم كابن سيرين والضحاك ومالك -رحمهم الله- حيث قالوا: «إن هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم»(26)، ولا ريب أن هذا التحرّس هو حماية سلفية أصيلة فلا هي من الوساوس ولا هي من التضخيم والتهويل لا سيما في وقت الفتن العاصفة! وقد أعمل السلف في زمانهم هذه الحماية إعمالا مدهشا فكيف لا نفعل هذا ونحن في زمان يعجز اللسان عن وصفه! يقول ابن سيرين -رحمه الله-: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سمّوا لنا رجالكم، فيُنْظَرُ إلى أهل السنة فيُؤْخذ حديثُهم، ويُنْظَر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم»(27)! رحمهم الله! كانت الفتن مصدر ثباتهم وتحريهم فلم يدققوا في القائلين حتى وقعت الفتنة أما اليوم فما من فتنة تمر بنا إلا وتأخذ منا ثباتنا واستقامتنا! لاسيما فتن الحدادية فما تنقضي مرحلة من مراحلها إلا وترى العجب العجاب من التهوين والتخذيل والتخلي عن أصول أهل السنة ومحاربة الجرح والتعديل والتهكم بأصل الرد على المخالف والاستغناء عنه استغناء فاحشا بعدما كان هو الدرع الواقي وكهف المظلومين! فصار الجميع يومها يتسابق إلى مركب الرد والبيان بعدما استشعروا ألم البغي وتجرعوا مرارة البهتان! لكن للأسف سرعان ما انكشفت عواصف التفريق فترك ضعاف النفوس ما ألفته نفوسهم ساعة العسرة! وكأنّ الجرح والتعديل -عند الكثير- شُرع فقط مع المفرقة أو عندما نحتاجه في الأحداث المتعاقبة، وكأنّ هذا العلم الجليل صالح صحيح فقط إذا استخدم في نصرة أنفسنا والدفاع عن أعراضنا وبمجرد أن نخرج من سياج الخصومة فلا يهمّنا شيء اسمه الجرح والتعديل ولو تعلق الأمر بطوائف الضلال المغلظة وملل الكفر الصريحة مع أننا متفقون على أن خطر البدع يزيد ولا ينقص وأن جهاد القلم يتأكد أكثر كلما انتشرت المحدثات! أسأل الله ألاّ يجعلنا ممّن كره عملهم فخذلهم ولم يوفقهم لتثبيت تلك الحسنة العظيمة حسنة الرد على المفرقة! {ولكن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}.
آخر ما أقوله لصاحب الجواب: احذر يا عبد الله أن تركن إلى هواك وتجتهد في تحقيق مصالحك على حساب دعوة المهاجرين والأنصار، وكن صادقا أمينا مخلصا في تقرير مسائل العلم وقضايا الدعوة، شجاعا صلبا جريئا في نصرة منهج الأوائل، وإن لم تقدر فاعترف بضعفك واجهر بجهلك هو خير لك ولإخوانك! وعوّد لسانك على مقولة النجاة وجواب الخلاص: «الله أعلم لا أدري»!
وختاما: أنصح نفسي ومن تبلغه كلمتي هذه بتوخّي الحذر والتحرّس من ألغام المُجيبين ومكائد المُوجِّهين! وأن يعرضوا كل مقالة على ميزان السنّة، وأن يتأمّلوا في كلمات النّاس بعين الاتباع لا التقليد وبقلب التجرّد لا التعصب مهما ارتقى المتكلّم في منازل العلم والدعوة لاسيما في هذه الأزمنة المتأخرة التي كثر فيها المُحدِثون وأصحاب الغرائب! عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيكون في آخر أمّتي أناس يُحدّثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيّاكم وإيّاهم» (28)، فإيّاكم وإيّاهم يا عباد الله!
والحمد لله رب العالمين.

كتبه:
أبو معاذ محمد مرابط
12 شعبان 1444 هـ
الموافق لـ 05 / مارس / 2023 نـ
الجزائر العاصمة



الهامش:
(1) «شرف أصحاب الحديث ص: 41».
(2) «المجموع 15 /437».
(3) «المجموع 18 /96-97».
(4) «ترتيب المدارك 2/228».

(5) «الإبانة لابن بطة 1 / 140».
(6) «درء التعارض1/288».
(7) «رسالته إلى أهل زبيد 177-178».
(8) «الإبانة الصغرى 372».
(9) «شرح أصول اعتقاد 3/136».
(10) «الإبانة الكبرى 510».
(11) نفس المصدر: «509».
(12) غير ابن أبي عياش إمام المغازي.
(13) «الإبانة الكبرى 514».

(14) «الإبانة الكبرى 514».
(15) «طبقات الحنابلة 2/37».
(16) نقله عنه السيوطي في «الإتقان ص:918».
(17) «النزهة ص:134».
(18) «لسان الميزان 1/104».
(19) «مجموع الفتوى 14/80».
(20) «الاعتصام 1 /11».
(21) «شرح أصول اعتقاد 3 /137»
(22) «التنكيل 1/44».
(23) «منهاج السنة 2/621».
(24) أورده مسلم في «مقدّمته».
(25) «منهاج السنّة 6/423».
(26)«الكفاية ص:113».
(27) «مقدّمة مسلم».
(28) أورده مسلم في «مقدمته».
رد مع اقتباس
 

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013