إن كتاب "القول المفيد" للعلامة الشيخ أبي عبد الله محمد بن صالح بن عثيمين ـ رحمه الله ـ (ت: 1421هـ) يعد من أفضل شروح "كتاب التوحيد"، وحرصا على إفادة الطلاب، والاستفادة منهم، أحببت أن أضع بين أيديهم مختصرا (بل هو معتصر) لهذا الكتاب القيم، وأركز فيه على معنى الآية، والشاهد منها للتوحيد، أما الفوائد الأخرى فمكانها في الأصل، وقد أذكر بعض المسائل المهمة التي ذكرها الشيخ ـ رحمه الله ـ، وخاصة التي لها علاقة بقضايا العصر، وقد أزيد فيه أشياء مفيدة.
أسأل الله تعالى التوفيق والسداد.
وسيكون موعد الدرس كل يوم ثلاثاء، يعني أنقل شرح باب واحد في كل أسبوع.
كِتَابُ التَّوحِيدِ
لم يُذكر في النُّسخ الَّتي بأيدينا خطبةٌ للكتاب من المؤلِّف؛ فإمَّا أن تكون سقطت من النُّسَّاخ، وإمَّا أن يكون المؤلِّف اكتفى بالتَّرجمة لأنَّها عنوانٌ على موضوع الكتاب وهو التَّوحيد.
[تَعرِيفُ التَّوحِيد]
التَّوحيد: إِفرَادُ اللهِ ـ سبحانه ـ بِمَا يَختَصُّ بِهِ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالأُلُوهِيَّةِ وَالأَسمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
أَقسَامُهُ:
ينقسم التَّوحيد إلى ثلاثة أقسام:
وقد اجتمعت في قوله تعالى: "رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا" [مريم: 65].
1 ـ توحيد الرُّبوبيَّة:
"هو إفراد الله ـ عزَّ وجلَّ ـ بالخَلق، والمُلك، والتَّدبير".
وهذا القسم من التَّوحيد أقره المشركون؛ قال تعالى: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ" [الزخرف: 9].
وأنكره فرعون ـ على سبيل التَّعطيل ـ مكابَرَةً؛ "فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى" [النازعات: 24]، "مَا عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيرِي" [القصص: 38]، ولكن كما قال تعالى: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا" [النمل: 14].
وأنكره ـ على سبيل التَّشريك ـ المجوسُ؛ حيث قالوا: إنَّ للعالَم خالِقَين هما الظُّلمَة والنُّور.
2 ـ تَوحِيدُ الأُلُوهِيَّة:
"وهو إفراد الله ـ عز وجل ـ بالعبادة".
ويسمى (توحيد الألوهيَّة) باعتبار إضافته إلى الله، و(توحيد العِبادَة) باعتبار إضافته إلى الخلق.
فالله هو المستحِقُّ للعِبادة، قال تعالى: "ذِلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ البَاطِلُ" [لقمان: 30].
3 ـ توحيد الأسماء والصفات:
"إِفرَاد الله ـ عز وجل ـ بما لَه من الأسماء والصِّفات".
ويتضمَّن شيئين:
ـ الإثبات؛ بأن نُثبِت لله ـ عز وجل ـ جميع أسمائِه وصفاتِه الَّتي أثبتَها في كتابه، أو سنَّةِ نبيِّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، من غير تحريف، ولا تمثيل، ولا تعطيل، ولا تكييف.
ـ نفي المُماثَلَة؛ بأن لا نَجعل له مَثِيلاً في أسمائِه وصفاتِه؛ كما قال تعالى: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ" [الشورى: 11].
فمن لم يثبِت ما أثبتَه الله لنفسه؛ فهو معطِّلٌ، وتعطيله هذا يشبِه تعطيلَ فرعون.
ومن أثبَتها مع التَّشبيه صار مشابهًا للمشركِين الَّذين عَبَدُوا مع الله غيرَه.
ومن أثبتَها بدون مماثَلَة صار مِن المُوحِّدِين.
وهذا القِسم هو الَّذي ضَلَّت فيه بعضُ الأمَّة الإسلاميَّة وانقَسموا فيه إلى فِرقٍ كثيرة.
قوله تعالى: "إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" ليوحِّدونِ.
واللام للتَّعليل، وهي عِلَّة غائيَّةٌ؛ لبَيَان الغايَةِ والمقصودِ من الفِعل، وقد تقَعُ، وقد لا تقَعُ.
فهذه هي الحكمة من خلق الجنِّ والإنس، ولهذا أعطى اللهُ ـ عز وجل ـ البَشرَ عقولاً، وأرسل إليهم رُسُلاً، وأنزل عليهم كُتبًا، ولو كان الغَرض من خلقهم كالغَرض من خَلْق البَهائِم؛ لضَاعَت الحكمة من إِرسال الرُّسل، وإِنزال الكُتب.
فدلالة الآية على التوحيد: أنه الحكمة العظمى من إيجاد الخلق.
قوله تعالى: "بَعَثنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ": أَرسَلْنا في كلِّ طائِفة من النَّاس.
فكلُّ أمَّةٍ بُعث فيها رسولٌ؛ مِن عهد نوحٍ؛ إلى عهد نبيِّنا محمَّدٍ ـ صلى الله عليهم أجمعين ـ.
قوله: "أَنِ اعْبُدُوا اللهَ" أي: تذلَّلوا له بالعِبادة.
قوله: "وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" أي: ابتَعِدوا عنه، وأجمعُ ما قِيل في تعريفه هو ما ذكره ابنُ القَيِّم ـ رحمه الله ـ بأنَّه: "مَا تجاوَز به العَبدُ حدَّهُ؛ مِن مَتبُوعٍ، أو مَعبُودٍ، أو مُطاعٍ".
فالمَتبُوع مثل: الكُهَّان، والسَّحرَة، وعُلمَاء السُّوءِ.
والمَعبُود مثل: الأَصنَام.
والمُطَاع مثل: الأُمَرَاء الخَارِجِين عن طَاعَة اللهِ.
والتَّوحِيد لا يَتِمُّ إِلاَّ برُكنَين، هما:
1 ـ الإثبات.
2 ـ النَّفي.
إذ النَّفي المَحضُ تعطِيلٌ مَحضٌ، والإِثبَات المَحضُ لا يَمنَعُ المُشارَكَة.
ودِلالَة الآية عَلَى التَّوحِيد: أنَّ الأَصنَام مِن الطَّواغِيت الَّتِي تُعبَدُ مِن دُون اللهِ، وأنَّ الرُّسل أجمعوا على الدَّعوةِ إلى التَّوحيد.
قوله تعالى: "قَضَى رَبُّكَ": قضاءً شرعيًّا؛ يجوزُ وقوعُه مِن المقضِيِّ عليه وعدمُه، ولا يكون هذا إلاَّ فيما يحبُّه الله.
قوله: "أَن لاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ": أي : ألا تفردوا أحدًا بالعبادة سواه.
ودلالة الآية على التوحيد: أن الله ـ عز وجل ـ قضى بالتوحيد ووصى به.
قوله تعالى: "وَلاَ تُشْرِكُوا" في مقابل (لا إله)؛ لأنَّها نفيٌ.
وقوله: "وَاعْبُدُوا اللهَ" في مقابل (إلاَّ اللهُ)؛ لأنَّها إثباتٌ.
وقوله: "شَيْئًا" تعُمُّ كلَّ شيءٍ: لا نبيًّا، ولا مَلَكًا، ولا ولِيًّا، بل ولا أمرًا من أمور الدُّنيا.
قوله تعالى: "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ": أي أَقبِلُوا، وهَلُمُّوا أقصُّ عليكم "مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ"، ثم ذكر هذه المحرمات.
قوله: "أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا" أي لا تُشرِكوا به أيَّ شيءٍ؛ فيَعُمُّ كلَّ ما يُشرَك بِه، ومن لازِمه أن يَعبُد الله ـ عز وجل ـ وحده.
ودلالة الآية على التوحيد: أن التوحيد من الوصايا التي أمر بها الله ـ عز وجل ـ، ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
قَولُهُ: قَالَ ابنُ مَسْعُودٍ ـ رضي الله عنه ـ: "مَنْ أَرَادَ يَنظُر إلىَ وصِيَّةِ محمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَليَقرَأ" إلخ
الاستفهام هنا للحثِّ والتَّشويق.
قوله: "وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ الَّتِي عَلَيْهَا خَاتَمُهُ"، لم يوص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشيء، وإنما هذا من فقه ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ؛ إذ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بالتوحيد ودعا إليه أمته في حياته كلها.
وَعَن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ ـ رضي الله عنه ـ؛ قَال: "كُنتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى حِمَارٍ، فَقَالَ لِي: "يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ؟". قُلتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَال: "حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أَن يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ أَن لاَّ يُعِذِّبَ مَن لاَّ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا". قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَال: "لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا". أخرجاه في "الصَّحيحين"
قوله: "مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ؟"، أي: ما أوجَبَه علَيهم.
قوله: "وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ؟"، أي: ما أوجب الله ـ عز وجل ـ على نفسه في مُعاملَة العِباد.
قوله: "قُلت: اللهُ ورَسُولُه أَعلَمُ": أي: أعلَمُ مِن غيرهما، وأعلمُ منِّي أيضًا.
قوله: "يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا"وهذا هو التَّوحيد الذي جاءت به الرسل.
قوله: "أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ"، أي: أَأَسكُت فلاَ أُبشِّر النَّاس؟ والبِشارَة: هي الإِخبار بما يَسر، وقد تستعمل في الإخبار بما يَضُرُّ، ومنه قوله تعالى: "فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" [الانشقاق: 24]، لكنَّ الأكثر الأوَّل.
قوله: "لا تُبَشِّرْهُم"، أي: لا تُخبِرهم.
ودلالة الحديث على التوحيد: فضِيلة التَّوحيد، وأنَّه مانِعٌ مِن عَذابِ الله.
كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه وعن والديه ـ.
بوركتم لكن لو مهدتم لاختصاركم المبارك هذا بمقدمة على كتاب التوحيد نفسه مثلا: منهج الكتاب, مكان تأليفه, درجة أحاديثه ,ثناء اللعماء عليه.
ولعلي أساهم في هذا العمل وللعلم فإن هناك كتابا جامعا قد تكلم على كتاب التوحيد للشيخ محمد رحمه الله بإسهاب وهو كتاب " كتب أثنى عليها العلماء " للأخ عبد الإله الشايع - أثابه الله -. ولعلي أنقل منه بعض ما سطر فيه.
مكان تألفيه:
فقد اختلفوا في مكان تأليفه على قولين:
1- أنه ألفه في حريملاء ورجح هذا القول ابن غنام في تاريخه.
2- أنه ألفه في البصرة ورحجه الشيخ عبد الرحمن بن حسن. وذكر صالح العبود أنه يمكن الترجيح بينهما فيقال:
أن ابن غنام كان أول علمه بهذا الكتاب لما قراه على الشيخ محمد في حريملاء ولأنه انتشر منها في البلاد وقول الشيخ عبد الرحمن فقد قال بما علم من جمع الشيخ للكتاب من الكتب التي بمكاتب ومدارس البصرة ولعل الشيخ أكمل تأليفه وترتيبه وتهذيبه في حريملاء فلا منافاة. أهـ ثناء العلماء على الكتاب:
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب(ت1233) ـ رحمه الله ـ عن «كتاب التوحيد » فـي « تيسير العزيز الحميد » (ص24): « هو كتاب فرد فـي معناه، لم يسبقه إليه سابق، ولا لحقه فيه لاحق ». وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (ت1285) - رحمه الله -: « جمع على اختصاره خيراً كثيراً، وضمّنه من أدلة التوحيد ما يكفي من وفقه الله، وبيَّن فيه الأدلة فـي بيان الشرك الذي لا يغفره الله ». وقال العلامة المؤرخ ابن بشر (ت1290) ـ رحمه الله ـ فـي «عنوان المجد »: « ما وضع المصنفون فـي فنه أحسن منه، فإنه أحسن فيه وأجاد، وبلغ الغاية والمراد ». وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ت1293) ـ رحمه الله ـ في « الدرر السنية » (1/377): « صنف كتابه المشهور فـي التوحيد، وأعلن بالدعوة إلى صراط العزيز الحميد، وقرئ عليه هذا الكتاب المفيد، وسمعه كثير ممن لديه من طالب ومستفيد، وشاعت نسخه فـي البلاد، وطار ذكرها فـي الغور والأنجاد، وفاز بصحبته واستفاد، من جرّد القصد وسلم من الأشر والبغي والفساد، وكثر بحمد الله محبوه وجنده ... ». انتهى وقد كان العلماء يوصون بحفظ « كتاب التوحيد » منهم الشيخ عبد الرحمن السعدي (ت1376) ـ رحمه الله ـ كما فـي « الفتاوى السعدية » (ص38): وممن كان يوصي بتدريسه وتعليمه للناس الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (ت1389) ـ رحمه الله ـ يقول فـي رسالة لـه إلى أحد القضاة في « مجموع فتاويه » (13/205): « عليك ـ بصفتك مسؤولاً عن ما ولاك الله عليه ـ أن تعين وقتاً من أوقاتك تجلس فيه فـي السوق يقرأ عليك في « كتاب التوحيد » وتتكلم بما تيسر ... » انتهى. وقال الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم (ت1392) ـ رحمه الله ـ في « حاشيته على كتاب التوحيد » (ص7) : « كتاب التوحيد الذي ألفه شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ أجزل الله له الأجر والثواب ـ ليس له نظير فـي الوجود، قد وضّح فيه التوحيد الذي أوجبه الله على عباده وخلقهم لأجله، ولأجله أرسله رسله، وأنزل كتبه، وذكر ما ينافيه من الشرك الأكبر أو ينافي كماله الواجب من الشرك الأصغر والبدع وما يقرب من ذلك أو يوصل إليه، فصار بديعاً فـي معناه لم يسبق إليه، علماً للموحدين، وحجة على الملحدين، واشتهر أي اشتهار، وعكف عليه الطلبة، وصار الغالب يحفظه عن ظهر قلب، وعمَّ النفع به ... ». انتهى . وقال الشيخ سليمان بن حمدان (ت1397) فـي مقدمته فـي كتابه « الدر النضيد شرح كتاب التوحيد » (ص5): « كتاب التوحيد بديع الوضع، عظيم النفع، لم أرَ من سبقه إلى مثاله أو نسج فـي تأليفه على منواله، فكل باب منه قاعدة من القواعد يبني عليه كثير من الفوائد، وأكثر أهل زمانه قد وقعوا فـي الشرك الأكبر والأصغر، واعتقدوه ديناً، فلا يتاب منه ولا يستغفر، فألّفه عن خبرة ومشاهدة للواقع، فكان لذاك الداء كالدواء النافع ». انتهى وقال الشيخ عبد الرحمن الجطيلي (ت1404) - رحمه الله - : « كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد من أكبر الكتب نفعاً فـي معرفة التوحيد وأقسامه ، والتحذير من الشرك وأنواعه ، وسد الذرائع الموصلة إليه، وبيان شوائبه وما يقرب منه ». وقال الشيخ عبد الله الدويش (ت1409) - رحمه الله -: « كتاب التوحيد الذي ألفه الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ أجزل الله له الأجر والثواب ـ قد جاء بديعاً فـي معناه من بيان التوحيد، وما ينافيه من الشرك والتنديد ». وقال الشيخ عبد الله الجار الله (ت1414) ـ رحمه الله ـ فـي « الجامع الفريد » (ص6): « ألف عدة مؤلفات قيمة ـ يعني الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ ومن أهمها: هذا الكتاب القيم الذي هو من أهم الكتب المصنفة فـي التوحيد ». وحث سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (ت1420) ـ رحمه الله ـ على حفظه والعناية به ، حيث يقول : « أوصي إخواني طلبة العلم مع العناية بالقرآن والسنة بالعناية التامة بكتب العقيدة وحفظ ما تيسر منها؛ لأنها الأساس والخلاصة من علوم الكتاب والسنة مثل «كتاب التوحيد » لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ ». وقال الشيخ عبد الله البسام (ت1423) ـ رحمه الله ـ فـي « علماء نجد » (1/149) عن «كتاب التوحيد »: « هو من أنفس الكتب ولم يصنف على منواله ». وقال الشيخ صالح الفوزان ـ حفظه الله ـ فـي كتابه « إعانة المستفيد شرح كتاب التوحيد » (1/18): «هذا الكتاب من أنفس الكتب المؤلفة فـي باب التوحيد؛ لأنه مبني على الكتاب والسنة ... ». وقال الشيخ مقبل الوادعي (ت1422) - رحمه الله - فـي كتابه « المقترح فـي أجوبة بعض أسئلة المصطلح » (ص138): « ومن الكتب القيمة التي لا يستغني عنها مسلم، كتاب « فتح المجيد شرح كتاب التوحيد »، «كتاب التوحيد » للشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله تعالى ـ »، وقال أيضاً فـي المرجع السابق (1/12): « هو من أعظم مؤلفات الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ».أهـ بتصرف من الكتاب المذكور.
جزاك الله خيرا، وجعل الله ما نقلت في ميزان حسناتك.
وأما منهج الشيخ ـ رحمه الله ـ؛ فللشيخ العلامة عبد المحسن العباد ـ حفظه الله ـ رسالة في بيان منهج التأليف عند شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ، راجعها فلن تعدم فائدة.
قوله: "لَم يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ"، أي: يخلِطوه بظُلمٍ، فالظُّلم هُنا يُقابِل الإِيمانَ، وهُو الشِّرك.
ولمـَّا نزلَت هذِه الآيةُ شَقَّ ذلِك على الصَّحابَة، وقَالوا: أيُّنَا لم يَظلِم نَفسَه؟ فقَالَ النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لَيسَ الأَمرُ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا المُرَادُ بِهِ الشِّركُ، أَلَم تَسمَعُوا إِلَى قَولِ الرَّجُلِ الصَّالِح ِـ يَعنِي لُقمَانَ ـ: "إِنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ"" [البخاري].
والظُّلم أَنواعٌ:
1 ـ أَظلَمُ الظُّلم: وهُوَ الشِّركُ فِي حَقِّ اللهِ.
2 ـ ظُلمُ الإِنسَانِ نَفسَه؛ بالمعاصي.
3 ـ ظُلمُ الإِنسانِ غَيرَه؛ بالتَّعدِّي عليه.
وإذَا انتَفى الظُّلمُ، حصَلَ الأَمنُ؛ فإِن كانَ الإِيمانُ:
ـ الإيمان المطلق: أي كامِلا لم يُخالِطه مَعصيةٌ؛ كان له الأَمن المُطلَقٌ (الكامِلٌ).
ـ مُطلقَ الإيمان: أي غير كامِل؛ فَلَهُ مُطلَقُ الأَمن (غير كامل).
قولُهُ: "عِتبَان": هو عِتبَانُ بنُ مَالِك الأَنصَارِي ـ رضي الله عنه ـ، كَان يُصلِّي بقَومِه، فضَعُف بَصَرُه، وشَقَّ علَيه الذَّهابُ إِلَيهِم، فطَلَب مِن النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَن يَخرُج إِلَيه، وَأَن يُصلِّي فِي مَكانٍ مِن بَيتِه ليَتَّخِذه مُصَلًّى، فخَرَج إِلَيه النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَمعَه طائِفَةٌ مِن أَصحابِه، مِنهم أَبو بَكرٍ وعُمَر ـ رضي الله عنهما ـ، فلمَّا دَخَل البَيت، قالَ: "أَينَ تُرِيدُ أَن أُصَلِّي؟". قال: صَلِّ هَا هُنَا، وأَشَار إِلى نَاحيَةٍ مِن البَيتِ، فصَلَّى بِهِم النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رَكعَتين، ثمَّ جَلَس علَى طَعامٍ صَنَعُوه لَه، فجَعَلُوا يَتذَاكَرُون، فذَكَرُوا رَجُلا يُقالُ لَه: مَالِكُ بنُ الدُّخْشُن، فقَال بَعضُهم: هُو مُنافِقٌ. فقَال رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا تَقُل هَكَذَا؛ أَلَيسَ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجهَ اللهِ؟!". ثمَّ قالَ: "فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ" الحَدِيث.
فنَهاهُم أَن يَقُولوا هذَا؛ لأَنَّهم لا يَدرُون مَا فِي قَلبِه؛ لأنَّه يَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَالرَّسُول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَم يُبرِّئ الرَّجُل، ونَهَى أَن نُطلِق أَلسِنَتَنا فِيمَن ظَاهِرُهم الصَّلاحُ، ولِهذَا قَال العُلَماء: يَحرُم ظَنُّ السُّوءِ بمُسلِمٍ ظاهِرُه العَدَالَةُ.
قوله: "السَّموَاتِ السَّبعَ": هذا منصوص عليه في الكتاب والسنة، وورد في السنة سمكها، والمسافة ما بينها، وما يعتقده بعض الناس أن السماء الأولى هي السماء الدنيا التي نراها ليس عليه دليل.
قوله: "وَالأَرَضِينَ السَّبعَ": الوارد في الكتاب: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ" [الطلاق: 12]؛ فالمثليَّة بالكيفيَّة غير مُرادة، لظهور الفرق بين السَّماء والأرض في الهيئة، والكيفيَّة، والارتفاع، والحسن، فبقيت المثليَّة في العدد.
أما السنَّة فقد صرَّحت في غير ما حدِيث بالعَدد.
قوله: "قَالَ اللهُ تَعَالَى" إلخ: هذا من الأحاديث القدسية.
قوله: "بِقُرَابِ الأَرضِ"، أي: ما يُقارِبها؛ إمَّا مِلئًا، أو ثِقلاً، أو حَجماً.
قوله: "خَطَايَا"، جمع خطِيئة، وهي الذَّنب ـ ولَو كانَت صغِيرةً ـ؛ لقوله تعالى: "بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَت بِهِ خَطِيئَتُهُ" [البقرة: 81].
قوله: "لاَ تُشرِكُ بِي شَيئًا"، أي: لقيتَني في حالٍ لا تُشرِكُ بي شيئًا؛ لا شركًا أصغَرَ ولاَ شركًا أكبَرَ.
وهذا قَيدٌ عظِيمٌ قد يتَهاونُ به الإنسَانُ، ويقول: أنا غيرُ مشرِكٍ، وهو لا يَدرِي؛ فحُبُّ المالِ مثلاً بحيث يُلهِي عَن طاعَة الله مِن الإِشراك، قالَ النَّبِيُّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ: "تَعِسَ عبدُ الدِّينارِ، تَعِسَ عَبدُ الدِّرهَمِ، تَعِسَ عَبدُ الخَمِيصَةِ، تَعِسَ عَبدُ الخَمِيلَةِ" الحديث، فسمَّى النبيُّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ مَن كانَ هذا همَّه: (عبداً له).
قوله: "لأتيتك بقُرَابها مَغفِرَة"، أي: أنَّ حسنَة التَّوحيد عظيمة تُكَفِّر الخطايا الكبيرةَ؛ إذا لقيَ اللهَ وهو لا يُشرِكُ به شَيئًا.
مناسبَة الحديث للتَّرجمة: أنَّ في هذا الحديث فضلَ التَّوحيد، وأنَّه سببٌ لتكفِير الذُّنوب؛ فهو مُطابِقٌ لقوله في التَّرجمة: "وما يكفِّر من الذنوب".
كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.
قولُه تعَالى: "إِنَّ إِبرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً"، أي: إمامًا، وهذا ثَناءٌ مِن اللهِ ـ سُبحانَه وتعَالى ـ علَى إبراهِيم ـ عليه السَّلام ـ بأنّه إمامٌ متبوعٌ؛ لأنَّه أحدُ الرُّسل الكِرام مِن أُولي العزم، ثمَّ إنَّه ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ قُدوةٌ في أَعمالِه وأفعالِه وجِهاده.
قوله: "قَانِتًا"، القُنوت: دوَامُ الطَّاعة؛ فهو مُطِيع لله.
قوله: "حَنِيفًا"، أي: مائلاً عن الشِّرك، مجانِبًا لكُلِّ ما يُخالِف الطَّاعة، فوُصِفَ بالإثبات والنَّفي.
قوله: "وَلَم يَكُ مِنَ المُشرِكِينَ"، أي: لَم يكُن مُشركًا طُول حيَاتِه؛ فقَد كانَ ـ علَيه الصَّلاة والسَّلام ـ معصُومًا عَن الشِّرك، مع أنَّ قومَه كانُوا مُشرِكِينَ، فوَصفَهُ اللهُ بامتِناعه عَن الشِّرك استِمرارًا، وابتِداءً، والدَّليل على ذلِك: أنَّ اللهَ جعلَهُ إمامًا، ولا يَجعَلُ اللهُ للنَّاس إِمامًا مَن لَم يحقِّق التَّوحيد أبَدًا.
وثنَاءُ الله علَى أحدٍ يُقصد مِنه أَمران هامَّان:
الأوَّل: محبَّتُه، فنُحِبُّ إبراهِيم ـ علَيه السَّلام ـ.
الثَّاني: أن نَقتدِي بِه فِي هذِه الصِّفات الَّتي أثنَى اللهُ بها علَيه؛ ولنَا من الثَّناء بقَدر ما اقتَدينا بِه فِيها، قال تعَالى: "لَقَد كَانَ فِي قَصَصِهِم عِبرَةٌ لأُِولِي الأَلبَابِ" [يوسف: 111]، وقال تعَالى: "قَد كَانَت لَكُم أُسوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ" [الممتحنة: 4].
وهذِه مَسألَةٌ مهِمَّة؛ لأَنَّ الحُبَّ في اللهِ، والبُغضَ في اللهِ مِن أَوثَقِ عُرَى الإِيمان.
مناسبة الآية: أنَّ إبراهيم ـ علَيه السَّلام ـ إِمامُ المحقِّقين للتَّوحيد، بِصفاتِه المذكورَة في الآيَة.
قوله: "أَمَا إِنِّي لَم أَكُن فِي صَلاةٍ"، أي: حقًّا لم أَكُن في صلاَةٍ.
وحُصَين ـ رحمه الله ـ قالَ هذا لِئلاَّ يُظَنَّ أنَّه قائِم يُصلي؛ فيُحمَدُ بما لم يَفعَل، وهذا خِلاف ما عَليه بعضُهم؛ يَفرَحُ أنَّ النَّاس يَتوهَّمُون أنَّه يَقُوم يُصَلِّي، وهذَا مِن نَقص التَّوحِيد.
قوله: "لُدِغتُ"، أي: لَدَغَته عَقرَب أو غَيرُها، والظَّاهرُ أنها شدِيدة؛ لأنَّه لَم ينَم مِنها.
قوله: "اِرتَقَيتُ" أي: طلَبت الرُّقية.
قوله: "لاَ رُقيَةَ إِلاَّ مِن عَينٍ أَو حُمَةٍ"، أي: لا قراءة أو لا استرقاء على مريض أو مصاب، والعين: نظرة من حاسد، نَفسُه خَبِيثَةٌ، تَتَكَيَّفُ بِكَيفِيَّةٍ خَاصَّةٍ، فينبَعِثُ مِنها ما يُؤَثِّر عَلى المُصَاب، ويُسمِّيها العَامَّة الآن: "التَّابْعَة"، و"حُمَة" ـ بضم الحاء وفتح الميم وتخفيفها ـ لَدغَةُ ذواتِ السُّمُوم.
وهذا يدلُّ على أنَّ الرُّقية من العين أو الحُمَة مُفِيدَةٌ، وهذا أمرٌ وَاقِعٌ؛ ويدلُّ عليه قصَّة اللَّديغ.
قوله: "عُرِضَت عليَّ الأُمَم"، أي: أُمَمُ الرُّسُلِ، وهذا العَرض في المنام فيما يظهر.
قوله: "إذ رُفِعَ لي سَوَادٌ عَظِيمٌ"، أي: أشخاص عَظِيمة كانوا من كثرتهم سوادًا.
قوله: "بِغَير حِسَابٍ ولاَ عذَابٍ"، أي: لا يُعَذَّبون ولا يُحَاسَبُون كَرَامةً لهم، وظاهرُه أنه لا في قُبُورِهم، ولا بَعدَ قِيَام السَّاعة.
قوله: "لا يَستَرقُون" أي: لا يَطلُبون مِن أَحدٍ أَن يَقرأَ علَيهم، لما يلِي:
1. لقُوَّة اعتِمادهم علَى الله.
2. لعِزَّة نفُوسِهم عن التَّذلُّل لغَير الله.
3. ولما في ذلِك مِن التَّعلُّق بغَير الله.
قوله: "وَلاَ يَكتَوُونَ"، أي: لا يَطلُبون مِن أحدٍ أَن يَكوِيَهم.
قوله: "وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ"، مأخُوذ مِن الطَّير، والطِّيَرة اسم المَصدر، وأصله: التَّشاؤُم بالطَّير، ولكنَّه أعمُّ من ذلك؛ فهو التَّشاؤم بمرئِيٍّ، أو مَسمُوع، أَو زَمانٍ، أَو مَكانٍ.
وسيَأتي الكلاَمُ علَيها فِي بابِها ـ إِن شاءَ اللهُ ـ.
قَوله: "وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوكَّلُونَ": فكَون الإِنسان لاَ يُبالِي بهذِه الأُمور، هذَا هُو التَّوكُّل علَى الله، ولهذَا ختَمَ المسأَلة بذلك، فانتفاء هذه الأمور عَنهم يدُلُّ علَى قُوَّة تَوكُّلِهم.
كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.
سلمت يمينُكَ أخي الغالي؛ صاحب القدر العالي؛
ونفعَ اللهُ بكَ إخوانكَ ومُحِبِّيكَ في هته الشَّبكةِ المُباركة؛
وحفظَ اللهُ سائرَ المشائخ والإخوة؛
كشيخنا الفاضل: أبي عبد الله لزهر سنيقرة،
وشيخنا ووالدنا: أبي عبد الرحمن عبد المجيد جمعة،
وأخينا: أبي نعيم إحسان؛
وأخينا: أبي مُعاذ محمد مرابط؛
وسائر إخواننا الطيبين النَّافعين -بإذن المولى تبارك وتعالى-...
أخوكُم ومُحبُّكُم: ضياء...
لما ذكر المؤلف رحمه الله فضل التَّوحيد؛ العام والخاص، ذكَر هذا البَاب؛ لأنَّ الإنسان يرَى أنَّه قد حقَّق التَّوحيد وهو لم يحقِّقه، وقَلَّ من يكون غرضُه الآخرةَ في كل عمَله.
قوله: "إِنَّ اللهَ لاَ يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ" أي: لا يغفِر إشراكًا به، فالشِّرك لا يغفِرُه الله أبدًا؛ لأنَّه جِناية على حقِّ الله الخاص، وهو التَّوحيد.
فالمعاصي؛ قَد يكُون للإِنسان فيهَا حظُّ نَفس بمَا نالَ مِن شَهوةٍ، أمَّا الشرك، فلَيس له فيه حظُّ نفسٍ، وليس شهوَةً يُرِيد الإنسانُ أن ينَال مرادَهُ، ولكنَّه ظلم.
قوله: "وَاجنُبنِي وَبَنِيَّ أَن نَعبُدَ الأَصنَامَ" أي: اجعَلني في جانِبٍ والأصنَامَ في جانِبٍ.
فإِبراهيمُ ـ علَيه السَّلام ـ يخَافُ الشِّرك علَى نَفسِه، وهُو خلِيلُ الرَّحمَن وإِمامُ الحُنَفاء، فما بالُك بنا نحن إذًا؟
وقوله: "الأَصنَامَ": جمع صَنَم، وهُو كلُّ ما عُبِد من دُون الله وكانَ علَى صُورة إنسانٍ أو غيرِه، والوَثَن: ما عُبِدَ من دُون الله علَى أيِّ وجهٍ كانَ، وفي الحدِيث: "لاَ تَجعَل قَبرِي وَثَنًا يُعبَدُ".
ولا شكَّ أنَّ إِبراهِيمَ ـ علَيه السَّلام ـ سأَل ربَّه الثَّباتَ علَى التَّوحيد، لأنَّه إذا جنَّبه عبادَة الأصنَام كانَ باقيًا على التَّوحِيد.
قوله: "يَدعُو مِن دُونِ اللهِ نِدًّا"، أي: يتَّخِذ لله ندًّا، سواءً دُعاءَ عِبَادَةٍ أم دُعاءَ مَسألةٍ، لأنَّ الدُّعاءَ قِسمان:
ـ دُعاءُ عِبَادَةٍ: كالصّوم، والصّلاة، وغير ذلِك من العِبادات، فإذَا صلَّى الإنسان أو صام، فقد دعَا ربَّه بلِسان حالِه أن يَغفِر لَه، وأن يُجِيرَهُ من عَذَابِه، وأن يُعطِيَه من نَوَالِه، قال تعالى: "وَقَالَ رَبُّكُم ادعُونِي أَستَجِبْ لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" [غافر: 60]، فجَعَل الدُّعاء عبادَةً.
وهذا القسم كلُّه مَن صَرَف منهُ شيئًا من أنواع العبادة لغير الله فقد كَفَر كُفرًا مُخرِجًا له عن الملَّة.
ـ دُعاءُ مَسأَلَةٍ: فهذَا ليس كلُّه شِركًا، بل فيه تَفصِيل، فإن كانَ المخلُوق قادرًا على ذلِك، فليسَ بشِركٍ، كقوله: اسقِني ماءً لمن يستطِيعُ ذلِك، وقد قال ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ: "مَن دَعَاكُم فَأَجِيبُوهُ"، وأمَّا إن دعَا المخلُوق بمَا لا يقدِر علَيه إلا الله، فإِنَّ دعوتَه شِرك مخرِج عن الملَّة، كأن يَدعو إنسانًا أن يُنزِّل الغيثَ مُعتقِدًا أنه قَادِرٌ على ذلك.
والمراد بقَوله ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ: "مَن مَاتَ وَهُوَ يَدعُو مِن دُونِ اللهِ نِدًّا": النِّدُّ في العبادة، أمَّا النِّدُّ في المسألة، ففِيه تفصِيل.
قوله: "دَخَلَ النَّارَ"، أي: خالدًا، مع أنَّ اللَّفظ لا يَدلُّ عليه، لأنَّ دَخَلَ فعلٌ، والفِعلُ يَدُلُّ على الإطلاق، وقال الله تعالى: "إِنَّهُ مَن يُشرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن أَنصَارٍ" [المائدة: 72]، وإذا حرِّمت الجنَّةُ، لَزِمَ أن يكون خالدًا في النّار أبدًا.
فيَجِب أن نخافَ مِن الشِّرك ما دامَت هذِه عُقوبتُه؛ فالمشرِك خَسر الآخرةَ؛ لأنَّه في النَّار خَالِدٌ، وخَسِرَ الدُّنيا أيضًا، لأنَّه لم يَستفِد مِنها شيئًا، وقامت عليه الحجَّةُ، وجاءهُ النَّذيرُ، قال تعالى: "أَوَلَم نُعَمِّرْكُم مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ" [فاطر: 37]، وقال الله ـ عزَّ وجلَّ ـ: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعبُدُ اللهَ عَلَى حَرفٍ فَإِن أَصَابَهُ خَيرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِن أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ * يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ البَعِيدُ * يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَفْعِهِ لَبِئْسَ المَوْلَى وَلَبِئْسَ العَشِيرُ" [الحج: 11-13]، وقال تعالى: "قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَومَ الْقِيَامَةِ" [الزمر: 15]، فَخَسِرَ نفسَه، لأنَّه لم يستَفِد منها شيئًا، وخَسِرَ أهلَه؛ لأنهم إن كانوا من المؤمنين فهُم في الجنّة، فلا يتمتع بهم في الآخرة، وإن كانوا في النار فكذلك، لأنه كلّما دخلت أُمَّةٌ لعنت أختَها.
والشِّرك خَفِيٌّ جدًّا، فقَد يكُون في الإِنسان وهُو لا يَشعُر إِلاَّ بَعد المحاسَبَة الدَّقِيقة، ولهذَا قالَ بعضُ السَّلف: "مَا جاهَدت نفسِي علَى شيءٍ ما جاهَدتُها علَى الإِخلاص".
فالشِّرك أمرُه صعبٌ جدًّا ليس بالهيِّن، ولكن يُيَسِّر اللهُ الإخلاصَ على العبد، وذلِك بأن يجعَلَه اللهُ نصبَ عَينَيهِ، فَيقصِد بعمله وجهَ الله لا يقصد مدحَ النَّاس أو ذمَّهم أو ثناءَهم عَليه.
قوله: "دَخَلَ الجَنَّةَ": وهذَا الدُّخُول لا ينافي أن يُعَذَّبَ بِقَدرِ ذُنوبه ـ إِن كانَت علَيه ذُنوبٌ ـ، لِدِلالَةِ نُصُوصِ الوَعِيدِ على ذلِك، وهذا إذا لم يَغفِر اللهُ له، لأنَّه دَاخلٌ تحتَ المشيئَة.
قوله: "لاَ يُشرِكُ بِهِ شَيئًا": نكِرة في سيَاق الشَّرط، فيعمُّ أيَّ شِرك، حتَّى ولو أَشرك معَ الله أشرفَ الخلقِ؛ محمّدًا ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ دخَل النَّار، فكيفَ بمن يجعَل الرَّسولَ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ أعظَمَ مِنَ الله؛ فيَلجَأ إلَيه عِند الشَّدائِد، ولا يَلجَأ إلى الله؟!
مسألة: هَل يَلزم مِن دُخول النَّار الخُلُود لمَن أَشرَك؟ هذا بحسَب الشِّرك:
إِن كانَ الشِّرك أَصغَر؛ فإنَّه لا يَلزَم مِن ذلِك الخُلودُ في النَّار.
وإن كانَ أكبر؛ فإنَّه يَلزم مِنه الخُلودُ في النَّار.
لكن لو حمَلنا الحديثَ علَى الشِّرك الأكبَر في المَوضِعين في قوله: "مَن مَاتَ لاَ يُشرِكُ بِالله شَيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ"، وفي
قوله: "وَمَن لَقِيَ اللهَ يُشرِكُ بِهِ شَيئًا دَخَلَ النَّارَ"، وقُلنا: من لقِي اللهَ لا يشرِك به شركًا أكبَر دخَل الجنَّة، وإن عُذِّب قبل الدُّخول في النَّار بما يستحِقُّ، فيَكون مآلُه إلى الجنَّة، ومَن لقِيه يُشرِك به شركاً أكبر دخَل النَّار مخلَّدًا فِيها لم نحتَج إلى هذا التَّفصيل.
هذا التَّرتيب الَّذِي ذكرَه المؤلِّف من أحسَن ما يَكون؛ لأنَّه لما ذكَر توحِيدَ الإِنسان بنَفسِه ذكَر دَعوَة غَيرِه إلى ذلِك، لأنَّه لا يتمُّ الإيمانُ إلا إذا دعَا إلى التَّوحيد، قال تعالى: "وَالْعَصرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبرِ" [سورة العصر]، فالدّعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله من تمام التَّوحيد.
قوله: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي"، المُشار إليه ما جاء بِه النَّبيُّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ مِن الشَّرع عِبادةً ودَعوةً إلى الله، والسَّبِيل: الطَّريقُ.
قولُه: "أَدعُو إِلىَ اللهِ": الدُّعاة إلى الله قسمان:
1. داعٍ إلى الله: هو المخلِصُ الَّذِي يريد أن يوصِل النَّاس إلى الله تعالى.
2. داعٍ إلى غيره: قد يكون داعيًا إلى نفسِه، يدعو إلى الحقِّ لأجل أن يعظَّم بين النَّاس ويُحتَرم، ولهذا تجدُه يَغضَبُ إذا لم يَفعلِ النّاس ما أَمَرَ بِهِ، ولا يَغضَبُ إذَا ارتَكَبُوا نهيًا أعظمَ مِنه، لكن لم يَدعُ إلى تركه.
وقد يكون داعيًا إلى رَئِيسِهِ؛ كما يوجد في كثير مِنَ الدُّوَل من علماءِ الضَّلال من عُلَماء الدُّول، لا عُلماء المِلَلِ.
ومَن دَعا إلى الله ثم رأى النَّاس فارِّينَ منه، فلا يَيأَس ويَترُكِ الدَّعوة، فإنَّ الرَّسول ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ قال لعلي: "فَوَاللهِ، لأَن يَهدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيرٌ لَكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ"، فإذا دعا إلى الله ولم يُجَب، فليكن غضبه من أجل أنَّ الحقَّ لم يُتَّبَع، لا لأنَّه لم يُجَب، فإذا كان يغضَب لهذا، فمعناه أنَّه يدعو إلى الله، فإذا استجابَ واحدٌ كَفَى، وَإِذَا لم يَستَجِب أَحَدٌ، فقد أبرأ ذمَّتَه أيضًا، وفي الحديث: "وَالنَّبِيَّ وَلَيسَ مَعَهُ أَحَدٌ".
ثم إنَّه يكفي من الدَّعوة إلى الحقِّ والتَّحذير من الباطل أن يتبيَّن للنَّاس أن هذا حقٌّ وهذا باطلٌ، لأنَّ النَّاس إذا سكتوا عن بيان الحقِّ، وأُقِرَّ الباطلُ مع طول الزَّمن، ينقلب الحقُّ باطلاً، والباطلُ حقًّا.
قوله: "عَلَى بَصِيرَةً"، أي: عِلمٍ، فتضمَّنت هذه الدَّعوة الإخلاصَ والعِلمَ، لأنَّ أكثر ما يُفسِدها عدمُ الإِخلاص، أو عدمُ العِلم.
والمقصود بالعلم هُنا العِلمُ بالشَّرع، والعِلمُ بحالِ المَدعُوِّ، والعِلمُ بالسَّبِيل المُوصِل إلى المَقصُود، وهو الحِكمة.
فالجاهل لا يصلُح للدَّعوة، وليس محمودًا، وليسَت طريقَتُه طريقةَ الرَّسول ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ لأنَّ الجاهِل يُفسِد أكثَر ممَّا يُصلِح.
قوله: "أَنَا وَمَن اتَّبَعَنِي" أي: أنا ومن اتَّبعني على بصِيرةٍ، في عِبادَتي ودَعوَتي.
مُناسَبة الآيَة للبَاب: أنَّ الدَّعوة إلى شهادَة أن لا إِله إلاَّ اللهُ هِي سبِيلُ النَّبِيِّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ.
قولُه: "بَعَثَ مُعَاذًا" وكان ذلك ـ على المشهور ـ في ربيع الأول سنة عشرٍ من الهجرة، أرسله إلى أهل صَنعاء وما حولها معلِّمًا وحاكمًا وداعيًا.
وبعث أبا موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ إلى عدن وما حولها، وأمرَهما: "أَنِ اجتَمِعَا وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَفتَرِقَا، وَيَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَذَكِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا" [البخاري].
قولُه: "إِنَّكَ تَأتِي قَومًا مِن أَهلِ الكِتَابٍ": قال ذلك مُرشِدًا له؛ بأن يكون بصِيرًا بأحوال من يَدعُو، وأن يكون مستعِدًّا لهم، لأنَّ لهُم عِلمًا.
والمُراد بأهل الكِتاب اليهودُ والنَّصارى، وهم أكثَرُ أهلِ اليَمن في ذلِك الوَقت، وإن كان في اليَمن مُشرِكون، لكن الأكثر اليهود والنصارى.
قوله: "فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدعُوهُم إِلَيهِ شَهَادَةَ": الظَّاهر أنَّه يرِيدُ أن يبَيِّن أنَّ أوَّل ما يَكون هي الشَّهادَة، فيَكون "أَوَّلُ" مَرفوعًا على أنَّه اسم "يَكُن".
والشَّهادةُ هنَا من العِلم، قال تعَالى: "إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُم يَعلَمُونَ" [الزخرف: 86]، فالشَّهادة هنَا العِلمُ والنُّطق باللِّسان، لأنَّ الشَّاهِد مُخبِرٌ عن عِلمٍ، وهذَا المَقام لا يَكفِي فِيه مجرَّد الإِخبار، بل لا بُدَّ من عِلمٍ وإِخبارٍ وقَبولٍ وإِقرارٍ وإِذعانٍ (انقِيادٍ)، فلَو اعتَقد بقلبِه، ولم يقُل بلِسانه: أشهدُ أن لاَّ إِله إلاَّ اللهُ، فقد قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمِيَّة ـ رحمهُ اللهُ ـ: "إنَّه ليسَ بمسلِمٍ بالإِجماع حتَّى ينطِقَ بِهَا، لأنَّ كلِمة أَشهَدُ تَدلُّ علَى الإِخبار، والإِخبارُ متَضمِّنٌ للنُّطق، فلا بُدَّ مِن النُّطق، فالنِّية فقَط لا تُجزِئ، ولا تَنفَعُه عِند اللهِ حتَّى يَنطِق، والنَّبِيُّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ قالَ لعمِّه أبِي طالِبٍ: "قُل"، ولم يقُل: اعتَقِد أن لاَّ إلَه إلاَّ اللهُ".
قوله: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ": لا معبود بحقٍّ إلا الله، فـ(إِلَه) بمعنى (مَألُوه)، فهو (فِعَالٌ) بمعنىَ (مَفعُول)، وعندَ المتكلِّمين، بمعنى (آلِه)، فهو اسم فاعل، ومعناه (لاَ آلِهَ) أي: (لاَ قادِرَ علَى الاِختِراع)، وهذا باطل، ولو قيل بهذا؛ لكان المشرِكون الَّذِين قاتَلهم النَّبِيُّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ موحِّدِينَ لأنَّهم يُقرُّونَ بِه، قال تعَالى: "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَن خَلَقَهُم لَيَقُولُنَّ اللهُ" [الزخرف: 87]، وقال تعَالى: "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَن خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ" [الزمر: 38]. فإن قيل: كيف يُقَال: لاَ مَعبُود إلاَّ اللهُ، والمُشرِكون يَعبدُون أصنَامَهُم؟!
أُجِيب: بأنَّهم يعبُدونها بغَير حقٍّ، فهُم وإِن سَمَّوها آلِهة، فأُلوهِيَّتُها باطِلةٌ، وليسَت معبوداتٍ بحَقٍّ، ولذلِك إذا مسَّهُم الضُّرُّ، لَجؤُوا إلى الله تعَالى، وأخلَصُوا له الدِّين، وعلَى هذَا لا تَستحِقُّ أن تُسمَّى آلِهَة، فهُم يعبُدونَها ويعتَرِفون بأنَّهم لا يعبُدونها إِلاَّ لأَجل أن تُقرِّبهم إلى اللهِ فقَط، فجَعلُوها وسِيلَةً وذرِيعَةً، وبهذا التَّقدِير لا يرِدُ علَينا إِشكالٌ فِي قولِ الرُّسُل لقَومِهم "اُعبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِن إِلَهٍ غَيرُهُ" [الأعراف: 59]؛ لأنَّ هذه المعبوداتِ لا تستَحِقُّ أن تُعبَد، بل الإِلَهُ المَعبودُ حقًّا هُو اللهُ سُبحانَه وتعَالى.
وفى قوله: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" نفيُ الأُلوهيَّة لغير الله، وإثباتُه لله، ولهذَا جاءَت بطرِيق الحَصر.
مُناسَبَةُ الحدِيث للبَابِ: أنَّ النَّبِيَّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ بعثَ معاذًا داعِيًا إلى شهادَة أن لاَ إِلَه إلاَّ اللهُ.
قوله: "لأُعطِيَنَّ الرَّايَة": وهي العَلَم، وسمِّي رايةً؛ لأنَّه يُرى، وهو ما يتَّخذه أميرُ الجيش للعلاَمة على مَكانِه.
واللِّواء، قيل: إنَّه الرَّاية، وقيل ما لُوِي أعلاهُ، أو لُوِي كلُّه، فيكون الفَرق بينَهما، أنَّ الرَّاية مَفلُولةٌ لا تُطوَى، واللِّواء يُطوَى إمَّا أعلاهُ أو كلُّه، والمقصود منهما الدِّلالة، ولهذا يسمَّى علَمًا.
قوله: "يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ": أثبَت المحبَّة لله من الجانِبَين، وهذا من مَناقب أمير المؤمنين علِيِّ بن أبي طالِب ـ رضي اللهُ عنه ـ.
قوله: "يَفتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيهِ"، أي يفتَح خيبَر على يديه، وفي ذلك بِشارة بالنَّصر.
قوله: "يَشتَكِي عَينَيهِ"، أي: يتألَّم منهما.
قوله: "فَأُتِيَ بِهِ"، كأنَّه ـ رضي الله عنه ـ قد عُمِّم على عينيه.
وقوله: "فَبَرَأَ كَأَن لَم يَكُن بِهِ وَجَعٌ"، وهذا من آيات الله الدَّالة على قُدرته وصِدق رسوله ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ.
قوله: "حَتَّى تَنزِلَ بِسَاحَتِهِم"، أي: ما يَقرُب مِنهم وما حَولهم، والنَّبِيُّ ـ صلَّى الله علَيه وسلَّم ـ يقول: "إِنَّا إِذَا نَزَلنَا بِسَاحَةِ قَومٍ فَسَاءَ صَبَاحُ المُنذَرِينَ" [البخاري، ومسلم].
وهذا إذا كنَّا على الوَصف الَّذي عليه الرَّسول ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ وأصحابُه، أمَّا إذا كنَّا على وَصف القَوميَّة؛ فإنَّنا لو نزَلنا في أحضانِهم، فمِن المُمكِن أن يقُوموا ونكُونَ فِي الأَسفَل.
قوله: "ثُمَّ ادعُهُم إِلىَ الإِسلاَمِ وَأَخبِرهُم بِمَا يَجِبُ عَلَيهِم"، أي: فلا تكفِي الدَّعوة إلى الإسلام فقَط، بل يُخبِرهم بما يجِب عليهم فيه حتَّى يقتَنِعوا به ويلتَزِموا.
[مسألة] هل يخبِرُهم بما يجِب عليهم من حقِّ الله في الإسلام قبل أن يُسلِموا أو بعدَه؟
فإذا نظَرنا إلى ظاهِر حديث مُعاذٍ وحديث سَهلٍ هذا، فإنَّنا نقول: الأَولى أن تَدعُوَه للإسلام، وإذَا أسلَم تُخبِره.
وإذا نظَرنا إلى واقِع النَّاس الآن، وأنَّهم لا يُسلِمون عن اقتِناعٍ، فقَد يُسلِم، وإذا أخبَرته ربَّما يرجِع، قُلنا: يُخبَرون أَوَّلاً بما يجِب علَيهم من حقِّ الله فيه، لئلا يرتدُّوا عن الإسلام بعد إِخبارهم بما يجِب عليهم، وحينَئذٍ يجِب قتلُهم لأنَّهم مُرتدُّون.
ويحتَمل أن يُقال: تُترَك هذه المسأَلة للواقِع، وما تقتضِيه المصلحةُ من تقديم هذَا أو هذَا.
قوله: "لأَن يَهدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا" ولم يقُل: تهدي، لأنَّ الَّذي يهدِي هو الله.
والمُراد بالهِداية هُنا هدايَةُ التَّوفيق والدَّلالة.
[مسألة] هَل المراد الهِداية من الكُفر إلى الإِسلام، أو يعُمَّ كلَّ هدايةٍ؟
نقول: هو موَجَّهٌ إلى قَومٍ يدعُوهم إلى الإسلام، وهل نقُول: إنَّ القرِينة الحالِية تقتضي التَّخصيص، وأنَّ من اهتَدى على يدَيه رجلٌ في مسألةٍ فرعِيَّةٍ من مسائِل الدِّين لا يحصُل له هذَا الثَّواب بقرِينة المَقام، لأنَّ علِيًّا مُوجَّهٌ إلى قومٍ كفَّارٍ يدعُوهم إلى الإسلام، والله أعلَم.
خَيرٌ لَكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ" جمع أَحمَر.
وحُمْر النَّعَم: هي الإِبل الحَمراء، وهي مَرغوبةٌ عند العَرب؛ لأنَّها مِن أنفَس الإِبل.
مُناسبَةُ الحدِيث للبَاب: أنَّ النَّبِيَّ ـ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ـ بعثَ علِيًّا داعِيًا إلى شهادَة أن لاَ إِلَه إلاَّ اللهُ.
كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.
بابُ تَفسِير التَّوحِيد وشَهادَةِ أن لاَّ إِلهَ إلاَّ اللهُ
بابُ تَفسِير التَّوحِيد وشَهادَةِ أن لاَّ إِلهَ إلاَّ اللهُ
العطف هنا من باب عطف المترادِفين؛ لأنَّ التَّوحيد حقيقة هو شهادة أن لا إله إلا الله.
وهذا الباب مهمٌّ؛ لأنَّه لما سبق الكلام على التَّوحيد وفضله والدَّعوة إليه، كأنَّ النفس الآن اشرأَبَّت إلى بيان ما هو هذا التَّوحيد الَّذي بوَّب له هذه الأبواب (وجوبه، وفضله، والدعوة إليه)؟
فيجاب بهذا الباب.
قوله: "الوَسِيلَةَ"، أي: الشَّيء الَّذي يوصِلُهم إلى الله.
فهؤلاء الَّذين يدعُوهم هؤلاء هُم أنفسُهم يبتَغون إلى ربِّهم الوسيلَةَ أيُّهم أقرَبُ، فكيف تدعُونهم وهم محتاجُون مفتَقِرون؟!
فهذا سفَهٌ في الحقيقة، وهذا ينطبق على كلِّ من دُعِي وهو داعٍ، كعيسى بن مريم، والملائكة، والأولياء، والصَّالحين، وأمَّا الشَّجر والحَجَر، فلا يدخُل في الآية.
فهؤلاء الَّذين زعمتم أنَّهم أولياء من دون الله لا يملِكون كشفَ الضُّر ولا تحويلَه، وقد قال تعالى مبيِّنًا حالهم: "وَالَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَملِكُونَ مِن قِطمِيرٍ * إِن تَدعُوهُم لاَ يَسمَعُوا دُعَاءَكُم وَلَو سَمِعُوا مَا استَجَابُوا لَكُم وَيَومَ القِيَامَةِ يَكفُرُونَ بِشِركِكِم وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثلُ خَبِيرٍ" [فاطر: 13، 14].
وجه مناسبة الآية للباب:
أنَّ التَّوحيد يتضمَّن البراءة من الشِّرك؛ فلا يدعو مع الله أحدًا؛ لا ملَكًا مقرَّبًا، ولا نبيًّا مرسلاً، وهؤلاء الَّذين يدعون الأنبياء والملائكة لم يتبرَّؤوا من الشِّرك، بل هم واقِعون فيه، ومن العجَب أنَّهم يدعون من هُم في حاجةٍ إلى ما يقرِّبهم إلى الله تعالى، فهم غير مستَغنِينَ عن الله بأنفسهم، فكيف يُغنُون غيرَهم؟!
قوله: "بَرَاءٌ مِمَّا تَعبُدُونَ"، أي: إنَّني مُتخَلٍّ غاية التَّخلِّي عمَّا تعبدون.
وهذا يقابل النَّفي في (لا إله إلا الله).
قوله: "إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي": يقابل الإثبات في (لا إله إلا الله).
فالتَّوحيد لا يتِمُّ إلاَّ بالكفر بما سوى الله والإيمان بالله وحده؛ "فَمَن يَكفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤمِن بِاللهِ فَقَدِ استَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقَى" [البقرة: 256]، وهؤلاء يعبُدون اللهَ ويعبُدون غيرَه، لأنَّه قال: "إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي"، والأصل في الاستِثناء الاتِّصال إلاَّ بدليلٍ، ومع ذلِك تبرَّأ مِنهُم.
[مَسأَلةٌ مهِمَّةٌ]
يوجَد في بعض البُلدان الإسلاميَّة من يصلِّي ويزكِّي ويصُوم ويحُجُّ، ومع ذلك يذهبُون إلى القُبور يسجُدون لها ويركَعون، فهم كفَّارٌ غيرُ موَحِّدين، ولا يُقبَل منهم أي عمَلٍ، وهذا من أخطر ما يكون على الشُّعوب الإسلاميَّة؛ لأنَّ الكُفر بما سوى الله عندَهم ليس بشيءٍ، وهذا جهلٌ مِنهم، وتفريطٌ من عُلمائِهم، لأنَّ العامِيَّ لا يأخُذ إلاَّ من عالمه، لكنَّ بعض النَّاس ـ والعِياذُ بالله ـ عالِم دولَةٍ لا عالِم مِلَّةٍ.
مُناسبَة الآية للبَاب: أنَّ التَّوحيد لا يحصُل بعبادة الله مع غيرِه، بل لا بُدَّ من إِخلاصه لله، والنَّاس في هذا المقام ثلاثَة أقسام:
قسمٌ يعبُد الله وحدَه.
وقسمٌ يعبُد غيرَه فقَط.
وقسمٌ يعبُد الله وغيرَه.
والأوَّل فقَط هو الموحِّد.
قوله: "أَحبَارَهُم وَرُهبَانَهُم": جمعٌ حَبر، وهو العالِم، ويقال للعالم أيضًا (بَحرٌ) لكثرة علمه.
والرُّهبان جمع راهِب، وهو العابِد.
وقوله: "أَربَابًا مِن دُونِ اللهِ": جمع ربٍّ، أي جعَلُوا الأَحبَار أربابًا؛ لأنَّهم يطيعُونَهم في معصية الله، وجعَلُوا الرُّهبانَ أربابًا باتِّخاذهم أوليَاءَ يعبُدونَهم من دون الله.
مُناسبَة الآيَة للبَابِ: أنَّ الله أنكَر علَيهم اتِّخاذ الأحبَار والرُّهبان أربابًا من دون الله، فجعَلُوا الأحبَار شُرَكاء في الطَّاعة، كلَّما أمَرُوا بشيءٍ أطاعُوهم، سواءٌ وافَق أمرَ الله أم لا.
فتفسِير التَّوحيد أيضًا بلا إله إلا الله يستَلزم أن تكُون طاعَتُك لله وحدَه، ولهذا علَى الرُّغم من تأكيد النَّبِيِّ ـ صلَّى الله علَيه وسلَّم ـ لطاعة وُلاة الأمر، قال: "إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعرُوفِ" [البخاري، ومسلم].
وقوله: "أَندَادًا": جمع نِدٍّ، وهو الشَّبيه والنَّظير.
وقوله: "يُحِبُّونَهُم كَحُبِّ اللهِ": هذا وجه المُشابَهة، أي: النِّدِّيَّة في المحبَّة.
واختَلف المفسِّرون في قوله: "كَحُبِّ اللهِ":
فقِيل: يجعَلُون محبَّة الأَصنَام مساوِيةً لمحبَّة الله، فيكُون في قلُوبهم محبَّةٌ لله ومحبَّةٌ للأَصنَام.
وقِيل: يحبُّون هذِه الأصنَام كمحَبَّة المؤمِنين لله.
وسِياق هذِه الآيَة يؤيِّد القَول الأوَّل.
وقوله: "وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ":
على الرَّأي الأوَّل يكُون معنَاها: والَّذين آمنُوا أشدُّ حبًّا لله مِن هؤُلاءِ لله، لأنَّ محبَّة المُؤمِنين خالِصة، ومحبَّة هؤلاء فيهَا شِركٌ بين الله وبين أصنَامهم.
وعلى الرَّأي الثَّاني معنَاها: والَّذين آمَنُوا أشدُّ حبًّا لله مِن هؤُلاءِ لأصنَامهم، لأنَّ محبَّة المُؤمِنين ثابِتةٌ في السَّراء والضَّراء على بُرهانٍ صحيحٍ، بخلاف المُشركِين، فإنَّ محبَّتهم لأصنامِهم تتضَاءل إذا مسَّهُم الضُّر.
فما بالُك برجلٍ يحِبُّ غير الله أكثَر من محبَّته لله؟!
وما بالُك برجل يحِبُّ غيرَ الله ولا يحِبُّ الله؟!
فهذا أقبَح وأعظَم، وهذا مَوجودٌ في كثِيرٍ مِن المُنتسِبِين للإسلام اليَوم؛ فإنَّهم يحِبُّون أولِياءَهم أكثَر ممَّا يحِبُّون الله، ولهذا لو قِيل له: احلِف بالله، حَلَف صادِقًا أو كاذِبًا، أمَّا الولِيِّ، فلا يحلِف به إلاَّ صادِقًا.
والمحبَّة أنواعٌ:
الأوَّل: المحبَّة لله:
وهذه لا تنافِي التَّوحيد، بل هي من كمَاله، فأوثَق عُرَى الإيمان: الحبُّ في الله، والبُغض في الله.
الثَّاني: المحبَّة الطَّبيعِيَّة الَّتي لا يُؤثِرها المرءُ علَى محبَّة الله:
فهذه لا تنافي محبَّة الله؛ كمحبَّة الزَّوجة، والولَد، والطَّعام والشَّراب واللِّباس، والمَال، ولهذا لما سُئِل النَّبِيُّ ـ صلَّى الله علَيه وسلَّم ـ: "مَن أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيكَ؟ قالَ: "عَائِشَةُ". قِيل: فمِن الرِّجَالِ؟ قَالَ: "أَبُوهَا"(1).
الثَّالث: المحبَّة مع الله:
فهذِه تُنافِي محبَّة الله، وهي أن تكون محبَّة غيرِ الله كمحبَّة اللهِ أو أكثَر من محبَّة الله، بحيث إذا تعارَضَت محبَّة الله ومحبَّة غيرِه قدَّم محبَّةَ غير الله، وذلك إذا جعَل هذه المحبَّة ندًّا لمحبَّة الله يقدِّمها على محبَّة الله أو يساوِيها بها.
مُناسبَة الآيَة للبَاب: أنَّ الله جعَل هؤُلاءِ الَّذِين ساوَوا محبَّة الله بمَحبَّة غيرِه مُشرِكين جاعِلين لله أندادًا.
قوله: "مَن قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" أي: لاَ مَعبُودَ حَقٌّ إِلاَّ اللهُ، فلفظ "الله" بدَلٌ مِن الضَّمير المُستَتِر في الخبَر، ومن يرى أن "لا" تعمَل في المَعرِفة يقُول: هو الخبر.
قوله: "وَكَفَرَ بِمَا يُعبَدُ مِن دُونِ اللهِ"، أي: بعِبادة من يُعبَد من دون الله.
وفيه دليلٌ على أنَّه لا يكفِي مجرَّد التَّلفُّظ بـ(لا إله إلا الله)، بل لا بُدَّ أن تَكفُر بعبادة من يُعبَد من دون الله، بل وتَكفُر أيضًا بكلِّ كُفرٍ؛ فمَن يقول (لا إله إلا الله) ويرى أنَّ النَّصارى واليَهود اليَوم على دِينٍ صحيحٍ، فليس بمُسلِمٍ، ومن يرَى الأَديان أفكارًا يختَارُ منها ما يُرِيد، فليس بمُسلِمٍ، ولهذا لا يُقَال: (الفِكرُ الإسلامِي)، بل يُقَال: (الدِّينُ الإِسلامِي) أو (العقِيدةُ الإسلامِيَّة)، ولا بأس بقَول: (المُفكِّرُ الإِسلامِي)؛ لأنَّه وصفٌ للشَّخص نفسِه، لا للدِّين الَّذي هُو علَيه.
مُناسبَةُ الحدِيث للبَاب:
أنَّ مِن تفسير التَّوحيد الكُفرَ بمَا يُعبَد مِن دُونِ الله.
[طَرِيقُ العِلم بأنَّ الشَّيءَ سبَبٌ]
ـ إمَّا عن طرِيق الشَّرع: كالعَسَل؛ قال اللهُ تعالى: "فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ" [النحل: 69]، وقِراءَة القُرآن، قالَ اللهُ تعالى: "وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنِينَ" [الإسراء: 82].
ـ إمَّا عن طرِيق القَدَر: كمَا إذا جرَّبنَا هذا الشَّيء فوجَدنَاهُ نافِعًا في هذَا الأَلَم أو المَرَض، ولكِن لا بُدَّ أن يكُونَ أثَرُه ظاهِرًا مُباشِرًا؛ كمَن اكتَوى بالنَّار فبَرِئَ، فهَذا سبَبٌ ظاهِرٌ بيِّنٌ.
وإنَّما قُلنا هذَا لئَلاَّ يقُول قائِلٌ: أنَا جرَّبتُ هذَا وانتَفعتُ بِه، وهو لَم يكُن مباشِرًا، كالحَلقة، فقَد يَلبَسُها إِنسانٌ وهُوَ يعتَقِدُ أنَّها نافِعَةٌ، فيَنتَفِعُ؛ لأنَّ للاِنفعَال النَّفسِي للشَّيء أثَرًا بيِّنًا، فقَد يقرَأُ إنسانٌ على مرِيضٍ فلا يَرتَاحُ لَه، ثمَّ يأتِي آخَر يعتَقِدُ أنَّ قراءَته نافِعَةٌ، فيَقرَأُ علَيه الآيةَ نفسَها فيَرتاحُ لَه، ويَشعُر بخِفَّةِ الأَلَم، كذلِك الَّذِين يلبَسُون الحِلَق، ويَربِطون الخُيُوط، قَد يحِسُّون بخِفَّة الأَلَم، أو اندِفاعِه، أو ارتِفاعِه بناءً على اعتِقادِهم نَفعَها.
وخِفَّةُ الأَلَم لمَن اعتَقَد نفعَ تِلك الحَلقَة مجرَّدُ شُعورٍ نفسِيٍّ، والشُّعور النَّفسِيُّ ليس طرِيقًا شرعِيًّا لإِثبات الأَسبَاب، كما أنَّ الإِلهام ليسَ طرِيقًا للتَّشرِيع.
قوله: "لُبسُ الحَلْقَة والخَيط ونَحوِهِما" هذِه أشيَاء مَعروفَةٌ، ولَم يذكُرها المصنِّفُ ـ رحمه الله ـ على سبِيل الحَصر، فهيَ تختَلِف بحسَب الزَّمان والمَكان.
قوله: "لِرَفعِ البَلاَءِ، أَو دَفعِهِ" والرَّفع بعدَ نُزولِ البَلاء، والدَّفع قبلَ نُزولِهِ.
وشيخُ الإسلام محمَّدُ بن عبدِ الوهَّاب ـ رحمه الله ـ لا يُنكِر السَّبب الصَّحيح للرَّفع أو الدَّفع، وإنَّما يُنكِر السَّبَب غيرَ الصَّحِيح.
قوله: "إِن أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَل هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ"، فاللهُ سُبحانَه إذا أرَاد بعَبدِه ضُرًّا لا تستَطيع الأَصنَامُ أن تَكشِفه، بدَفعِه أو رَفعِه، وإِن أرادَه برَحمةٍ لا تستَطيعُ أن تُمسِكهَا عَنه، فهِي لا تكشِف الضَّرَر، ولا تَمنَع النَّفع، فلماذَا تُعبَدُ؟!
وقوله: "وَمَا يُؤمِنُ أَكثَرُهُم بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُشرِكُونَ"، أي: المشرِكون الَّذين يُؤمِنون بتوحِيد الرُّبوبِيَّة، ويَكفُرون بتوحِيد الأُلوهِيَّة.
وكلام حُذَيفة ـ رضي الله عنه ـ في رجُلٍ مسلِمٍ لبِسَ خيطًا لتبرِيد الحُمَّى، وفيه دلِيلٌ على أنَّ الإنسانَ قد يجتَمِع فيه إِيمانٌ وشِركٌ، ولكنَّه أصغَرُ؛ لأنَّ الأكبَر لا يجتَمِع مع الإِيمان.
مُناسبَة الأثَر للبَاب: استِدلالُ حُذَيفة ـ رضِي اللهُ عنه ـ بمَا نزَل فِي الشِّرك الأكبَرِ علَى الشِّرك الأَصغَر.
كتبه أبو عبد الله حسن بن داود بوقليل ـ عفا الله عنه ـ.