الإسلام وسط في كل شيء، إذ الوسطية إحدى الخصائص الأساسية للأمة الإسلامية، التي ماز الله بها المسلمين عن غيرهم من الأمم ليكونوا شهداء عليهم: {و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} (البقرة 143).
و لذلك فالنصوص الشرعية تدعوا إلى الاعتدال، و تحذر من الغلو و التنطع، و من ذلك:
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال لي رسول الله – صلى الله عليه و سلم – غداة العقبة، و هو على راحلته: "القط لي حصى".
فالتقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف، فقال "أمثال هؤلاء فارموا".
ثم قال: "يا أيها الناس إياكم و الغلو في الدين؛ فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين".(1)
و من كان قبلنا هم أهل الكتاب و بخاصة النصارى الذين وصفهم القرآن بالغلو، و خاطبهم الله تعالى بقوله: {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق و لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل و أضلوا كثيرا و ضلوا عن سواء السبيل} (المائدة 77).
و قال: {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم و لا تقولوا على الله إلا الحق} (النساء 171).
و سبب ورود حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – ينبه على أمر هام؛ و هو أن الغلو يبدأ بالأمر الصغير، و الشيء الحقير، و لن يلبث إلا الوقت اليسير حتى يتسع خطره، و يتطاير شرره، حتى يقول الغلاة على الله غير الحق، فضلوا و أضلوا، فمن الغلو تأتي جميع الانحرافات، فحق عليهم القول؛ فأهلكهم الله.
و لذلك حذرنا رسول الله – صلى الله عليه و سلم – من إتباع سنن النصارى مبينا أن الغلو مناف لحقيقة العبودية، فقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله و رسوله". (2)
و لقد بين الرسول – صلى الله عليه و سلم – أن عاقبة الغلو و التنطع و التشدد في العبودية الهلاك، قال – صلى الله عليه و سلم -: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا. (3)
و لقد قاوم الرسول – صلى الله عليه و سلم –كل اتجاه إلى الغلو في العبودية، و أنكر على من أراد أن يحرّم على نفسه النوم بالليل، و آخر الأكل بالنهار، و آخر إتيان النساء، و آخر أكل اللحم، و بعضهم همّ بالاختصاء مبالغة في التعبد، و زيادة في التزهد، و في أمثالهم قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "من رغب عن سنتي فليس مني" (4)
و رحم الله شيخ الإسلام القائل: "دين الله وسط بين الغالي فيه و الجافي عنه" (5)
- - - - - - - - - -
(1): صحيح أخرجه النسائي (5/268)، و ابن ماجه (3029)، و أحمد (1/215)،و أبو يعلى (2427، 2472) ، و ابن الجارود في "المتقى" (473)، و الطبراني في "الكبير" (12747)، و الحاكم (1/466) من طرق ابن عوف بن أبي جميلة عن زياد بن الحصين ثنا أبو العالية عن ابن عباس (و ذكره).
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين: و وافقه الذهبي.
و إنما هو على شرط مسلم؛ لأن زياد بن حصين أخرج له مسلم فقط، فهو على شرطه، و كذلك صححه النووي و ابن تيمية و شيخنا – رحمه الله – في "الصحيحة" (1283).
تنبيهات:
1- وقع عند أحمد "عون" و هو تصحيف صوابه "عوف" و هو ابن أبي جميلة الأعرابي.
2- أخرجه احمد (1/347)، و ابن خزيمة (2868) من طريقين عن عوف حدثني زياد بن حصين عن أبي العالية الرياحي عن ابن عباس و ذكره.
قال يحيى أحد رواته: لا يدري عوف: عبد الله أو الفضل.
قلت: أخرجه الطبراني (18/243/742)، و البيهقي (5/127) من طريقين عن عبد الرزاق أن جعفر بن سليمان عن زياد بن حصين عن ابي العالية عن ابن عباس عن أخيه الفضل قال: و ذكره.
قال الطبراني: و روى هذا الحديث جماعة عن عوف منهم سفيان الثوري، فلم يقل أحد عن ابن عباس عن أخيه إلا جعفر بن سليمان، و لا رواه عن جعفر إلا عبد الرزاق.
قلت: إسناده جيد.
(2): أخرجه البخاري (6/478 – فتح) من حديث عمر بن الخطاب –رضي الله عنه.
(3): أخرجه مسلم (2670) من حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه.
(4): أخرجه البخاري (9/104 – فتح)، و مسلم (9/175-176 – نووي) من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه.
(5): و قد بين – رحمه الله – أن الإسلام وسط في كل شيء، و أن أهل السنة و الجماعة وسط بين الفرق في "الوصية الكبرى" فانظره؛ فإنه نفيس.
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
المصدر: "مدارج العبودية من هدي خير البرية" / للشيخ سليم الهلالي.