إن كنت في عافية مع أهلك فاحمد الله،وإن وقع التنافر وحلت الخصومة بينكما فاسأل الله.

[أبو الحسن نسيم]

الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على أشرف المرسلين،وعلى آله وصحبه أجمعين،أما بعد:

فإن الزواج من عظيم نعمة الله على عباده،وقد امتن الله بذلك عليهم، فقال:( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )الروم(21)
قال البغوي في تفسيره 3،/575،من الشاملة:( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً، مِنْ جِنْسِكُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَقِيلَ: خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ، لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، جَعَلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ الْمَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ فَهُمَا يَتَوَادَّانِ وَيَتَرَاحَمَانِ وَمَا شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ رَحِمٍ بَيْنَهُمَا، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، فِي عَظَمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ).

قال ابن كثير-رحمه الله-3/2226:( {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أَيْ: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ جِنْسِكُمْ إِنَاثًا يَكُنَّ لَكُمْ أَزْوَاجًا، {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الْأَعْرَافِ: 189] يَعْنِي بِذَلِكَ: حَوَّاءَ، خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ آدَمَ مِنْ ضِلَعه الْأَقْصَرِ الْأَيْسَرِ. وَلَوْ أَنَّهُ جَعَلَ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ ذُكُورًا وَجَعَلَ إِنَاثَهُمْ مَنْ جِنْسٍ آخَرَ [مِنْ غَيْرِهِمْ] إِمَّا مِنْ جَانٍّ أَوْ حَيَوَانٍ، لَمَا حَصَلَ هَذَا الِائْتِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَزْوَاجِ، بَلْ كَانَتْ تَحْصُلُ نَفْرَة لَوْ كَانَتِ الْأَزْوَاجُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. ثُمَّ مِنْ تَمَامِ رَحْمَتِهِ بِبَنِي آدَمَ أَنْ جَعَلَ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَجَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ مَوَدَّةً: وَهِيَ الْمَحَبَّةُ، وَرَحْمَةً: وَهِيَ الرَّأْفَةُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يُمْسِكُ الْمَرْأَةَ إِمَّا لِمَحَبَّتِهِ لَهَا، أَوْ لِرَحْمَةٍ بِهَا، بِأَنْ يَكُونَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ، أَوْ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ فِي الْإِنْفَاقِ، أَوْ لِلْأُلْفَةِ بَيْنَهُمَا،وغير ذلك)

ولا شك أن الزواج من عظيم الآيات الدالة على قدرة الله وحكمته ورحمته بعباده يقول الطاهر بن عاشور في بيان بعض تلك الآيات:

- 21/71،من الشاملة:( وَهِيَ آيَةٌ تَنْطَوِي عَلَى عِدَّةِ آيَاتٍ مِنْهَا: أَنْ جُعِلَ لِلْإِنْسَانِ نَامُوسُ التَّنَاسُلِ، وَأَنْ جُعِلَ تَنَاسُلُهُ بِالتَّزَاوُجِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ كَتَنَاسُلِ النَّبَاتِ مِنْ نَفْسِهِ.

وَأَنْ جَعَلَ أَزْوَاجَ الْإِنْسَانِ مِنْ صِنْفِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهَا مِنْ صِنْفٍ آخَرَ لِأَنَّ التَّآنُسَ لَا يَحْصُلُ بِصِنْفٍ مُخَالِفٍ. وَأَنْ جَعَلَ فِي ذَلِكَ التَّزَاوُجِ أُنْسًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ تَزَاوُجًا عَنِيفًا أَوْ مُهْلِكًا كَتَزَاوُجِ الضَّفَادِعِ.
وَأَنْ جَعَلَ بَيْنَ كُلِّ زَوْجَيْنِ مَوَدَّةً وَمُحَبَّةً فَالزَّوْجَانِ يَكُونَانِ مِنْ قبل التزاوج مُتَجَاهِلَيْنِ فَيُصْبِحَانِ بعد التزاوج مُتَحَابَّيْنِ.

وَأَنْ جَعَلَ بَيْنَهُمَا رَحْمَةً فَهُمَا قَبْلَ التِّزَاوُجِ لَا عَاطِفَةَ بَينهمَا فيصبحان بعد التزاوج متحابين، وَأَن جعل بَينهمَا رَحْمَة فهما قبل التزاوج لَا عاطفة بَيْنَهُمَا فَيُصْبِحَانِ بَعْدَهُ مُتَرَاحِمَيْنِ كَرَحْمَةِ الْأُبُوَّةِ وَالْأُمُومَةِ.
وَلِأَجَلِّ مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ هَذَا الدَّلِيلُ وَيَتْبَعَهُ مِنَ النِّعَمِ وَالدَّلَائِلِ جُعِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آيَاتٍ عِدَّةً فِي قَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ كَائِنَةٌ فِي خَلْقِ جَوْهَرِ الصِّنْفَيْنِ مِنَ الْإِنْسَانِ: صِنْفُ الذَّكَرِ، وصنف الْأُنْثَى، وإبداع نِظَامِ الْإِقْبَالِ بَيْنَهُمَا فِي جِبِلَّتِهِمَا. وَذَلِكَ مِنَ الذَّاتِيَّاتِ النِّسْبِيَّةِ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ. وَقَدْ أُدْمِجَ فِي الِاعْتِبَارِ بِهَذِهِ الْآيَةِ امْتِنَانٌ بِنِعْمَةٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ لَكُمْ أَيْ لِأَجْلِ نَفْعِكُمْ)

وبعد هذا التقرير ينبغي الاستفادة من هذا التذكير الرباني لهذه النعمة وذلك:

-استحضار هذه النعمة والثناء بها على الله ومعرفة قدرها وشكر الله عليها بالعمل الصالح.

-من حصلت له هذه المودة فليحمد الله على فضله وليعلم أنها من عند مولاه الذي تفضل بها عليه،فيعرف موضع النعمة ويخاف أن تسلب بتقصيره وتفريطه وذنوبه ومعاصيه.

-من وقعت له نفرة بينه وبين أهله أو مشكلة عكرت صفو هذا الزواج،فليتأمل في كون الله هو وحده يصرف القلوب ويجعل بينهما المودة والمحبة،فأول خطوة يسعى إليها تكمن في دعاء الله والتضرع إليه وسؤاله تبارك وتعالى أن ينزل المودة بينه وبين أهله،وأن يبعد التنافر والشحناء والبغضاء،مستسلما لإرادة ربه،في كونه تبارك وتعالى قد يحدث مثل هذه الأحوال من تنافر لحكم يعلمها ومن ورائها المصالح والمنافع،بل يجعل قلبه مطمئنا لحكم ربه فيما لو قدر الفراق بينهما،مع سعيه في الإصلاح وإبقاء أهله معه،وإنك لترى تغافلا عن هذه المعاني من كثير من المتدينين فضلا عن غيرهم،حيث يحصل تنوع في معالجة المشاكل بين الزوجين –وإن كانت شرعية-مع الغفلة التامة عن الدعاء والتضرع لله تبارك وتعالى.

-ثم ليتأمل في كلام الحافظ ابن كثير-رحمه الله- في قوله:( وَرَحْمَةً: وَهِيَ الرَّأْفَةُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يُمْسِكُ الْمَرْأَةَ إِمَّا لِمَحَبَّتِهِ لَهَا، أَوْ لِرَحْمَةٍ بِهَا، بِأَنْ يَكُونَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ، أَوْ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ فِي الْإِنْفَاقِ)فإن من مقاصد الزواج العظيمة حصول الولد،وتكوين الأسرة المسلمة الصالحة التي تكون لبنة في بناء المجتمع المسلم،وقد يبتلى الزوجان بهذا التنافر والكراهة،لكن لا بد من مراعاة حال الأولاد في بقائهما تحت كنفي الأم والأب الذي يحقق لهم الاستقرار والراحة بدل من التشتت والفرقة التي قد تورث جفاء في الطباع وتمردا عن القيم بسبب عدم وجود سلطة الأب والأم بسبب الفراق الذي يكون بينهما.فلا بد من تفكير وتروي ونظر وتأمل واحتمال هذا الضرر الحاصل بينهما لجلب المصالح الكبيرة،والله ولي التوفيق وأسأل الله تعالى أن يصلح الأحوال ويوفق إخواننا وأخواتنا لما يحبه ويرضى،ويمكن لهم الحياة السعيدة.