إنّ ممّا يحسن أن نتذاكره مع بداية العام الاجتماعيّ الجديد؛
لتكون بداية صحيحة وناجحة؛
فيكون عامنا هذا عاما نافعا، موفّقا ومباركا؛
ما رواه ثلاثة من الصحابة عن رَسُولِ اللهِ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- أنّه قال:
«إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ اْلأُمُورِ وأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا».
أي: إنّ الله يحبّ الأعمال والأحوال والأخلاق والصفات
عليّة القدر، وشريفة المقام...
ويكره الأمور والأحوال والأخلاق والصفات
حقيرة الشأن، ورديئة الوصف...
ومن معالي الأمور وأشرافها التي يحبّها الله تعالى:
علوّ الهمّة، وقوّة العزيمة، وشدّة الحزم...
وهذا يتحقّق بثلاثة أمور:
- أوّلا: أن يكون الإنسان طموحا
لتحقيق أحسن الأعمال، والتحلّي بأفضل الخصال،
وبلوغ الدرجات الأعالي، وتحقيق أغلى الغايات والأماني...
- ثانيا: أن يصحب هذا الطُّموحَ: الجدُّ والاجتهاد،
لا العجز والخمول؛
وأن يتحمّل معه المشاقّ والمتاعب،
فلا يخلد إلى الراحة والنوم؛
وأن تجرّع مرارة الصبر والألم...
فيَقْطَعُ طَمَعَهُ في التنعّم والترف...
- وثالث أركان علوّ الهمّة: الاستعانة بالله، والتوكّل عليه، والافتقار إليه، وتفويض الأمور إليه...
ويجمع ذلك كلَّه -في كلام مختصر ومبين-؛
قولُ نبيّ الإسلام -صلّى الله عليه وآله وسلّم-:
« احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجَزْ ».
إرشاد إلى علوّ الهمّة، وتعليم لمبادئها وأسسها...
« احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ »: ابحث واهتمّ واجتهد في تحقيق ما ينفعك...
« احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ »: اصرف نظرك عمّا يضرّك، واصرف -كذلك- نظرك عمّا لا ينفعك وإن كان لا يضرّك...
« احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ »: تحرّى الأمور الأكثر نفعا، وقدّمها على ما دونها...
« احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ »: فلا تحمّل نفسك ما لا تطيق، ولا تحلم ببلوغ ما لا يُبلَغ...
« وَاسْتَعِنْ بِاللهِ »: فلا حول للمرء ولا قوّة له إلّا بالله؛ وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن...
« وَلَا تَعْجَزْ »: لا تستسلم لضعف العزيمة والفشل...
ولا يصرفنّك عن المثابرة صعوبة، ولا خسارة في أثناء الطريق...
بل « اسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ »...
* * *
أحبّتي في الله...
لم يزل ربّ العزّة والجلال يربّي المسلمين على علوّ الهمّة؛
والتزم بذلك نبيّ الهدى والسلام -صلّى الله عليه وآله وسلّم- مع صحابته الكرام؛
حتّى صار علوّ الهمّة سجيّة فيهم وطبيعة لهم.
فهذا النّبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- يقول لربيعة بن كعب: «سَلْ»،
فقال ربيعة: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ !
قال: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ»؟!
قال ربيعة: هُوَ ذَاكَ !
فقَالَ -صلّى الله عليه وآله وسلّم-: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ».
عَلَتْ همّةُ ربيعةَ -رضي الله عنه-، فأمره النّبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- بالسعي والاجتهاد.
بل حتّى في أمور الدنيا كانت هممهم عالية، وعزيمتهم قويّة؛
حيث لَمَّا قَدِمُ المهاجرون إلى المَدِينَةِ،
آخَى رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ.
فاقترح سعد لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ نصف ماله، وإحدى زوجتيه.
فقَالَ عبد الرحمان بن عوف: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ.
أَيْنَ سُوقُكُمْ؟
فَدَلُّوهُ عَلَى سُوقِ؛ فلم يرجع منه إلّا وقد تاجر وربح؛
ثمّ صار من أغنى أهل المدينة، وقد بدأ بلا شيء...!
فهكذا ينبغي للمسلم أن يكون، خصوصا في هذا الزمان؛
الذي تكالب فيه عليهم الأعداء، كما تتكالب الضباء على الفريسة الجريحة...
فهل يليق بالمسلمين أن عزفوا عن المعالي، وأن يرضوا بسفاسف الأمور ووضيع الأحوال...؟!