إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
{يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
{يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا}
{يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاسديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاعظيما}
أمابعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع الفتن كما أخرج ذلك البخاري في "صحيحيه" (7081) فقال عليه الصلاة والسلام: (ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرَّف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأ أو معاذا فليعذ به).
فالفتن كائنة لا محالة ولكن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله وأخبر بأن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحدا قالوا: يا رسول الله ما هو؟ قال الهرم وأنه لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله – وهذه أحاديث صحيحة - وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه أن الجهل داء ودواؤه السؤال وبين النبي عليه الصلاة والسلام أدوية الفتن وسأنقل هنا إن شاء الله تعالى فصلا من كتاب "تمييز ذوي الفطن بين شرف الجهاد وسرف الفتن" للشيخ عبد المالك بن أحمد رمضاني تحدث فيه عن أدوية الفتن وذكر منها سبعة عشر دواء بعد أن ذكر بعض صور قتال الفتنة وسأذكر عناوينها هنا ولمن أراد التفصيل فليراجع الكتاب قال – حفظه الله -:
فإني أبين هنا بعض صور قتال الفتنة:
1.الخروج على ولي الأمر المسلم يعد من قتال الفتنة.
2.ومن صور الفتنة أن يضعف السلطان بسبب تمرد جيشه عليه.
3.وقريب من ذلك – أي ضعف السلطان –البيعة لخليفتين في إقليم واحد.
4.ومن صور الفتنة تمرد رئاسة الحكومة على رئاسة الدولة.
5.ومن الفتنة أن يغيب السلطان بموت أو غيره فتختلف رعيته من بعده في تولية واحد منهم.
6.ومن الفتنة المشاركة في قتال بين المسلمين لا يحسم خلافهم إلا بفساد أكبر.
7.ومن الفتنة قتال المعاهد والمستأمن من غير المسلمين.
8.ومن الفتنة قتال عامة الناس من غير تمييز بين مستحق وغير مستحق.
9.ومن الفتنة القتال بلا راية مسلمة.
10.ومن الفتنة القتال بغير إذن الإمام.
11.ومن الفتنة الخروج في مظاهرات أو اعتصامات في الساحات أو إضرابات عن العمل أو الطعام.
12.ومن الفتنة اليوم القيام بالغتيالات.
ثم بدأ – حفظه الله – بتبيين أدوية الفتن فقال:
هذه الحالات للفتنة التي مثلت ببعضها هي الحالات التي أمرنا فيها باعتزالها، لأن الدخول فيها لا يعالجها، بل يقوي حدتها، ويطيل عمرها، ولما كان أمرها من الخطورة بمكان فقد جاءت الشريعة الإسلامية بطرق للوقاية منها لم يعرفها تشريع بشري قط، وأخص هنا من هذه الطرق ما له علاقة بموضوعنا، فأذكر منها:
1.تقوى الله: وذلك لأن المتقي يحفظه الله ويجنبه أسباب سخطه، لا سيما إذا كان فيه تضرع إلى ربه وإخبات، فإذا حضرته فتنة لم يدعه ربه في حيرة، بل نوَّر بصيرته فيها وجعل له فرقانا يميز به بين الحق والباطل، لقول الله تعالى:{يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم}(الأنفال:29)، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في معرض ذكر اختلاف الأمة:(أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإنْ عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) رواه أبو داود(4607) والترمذي(2676)وابن ماجه(42) وهو صحيح، وبهذا أوصى طلق بن حبيب التابعي المعروف – رحمه الله – بكر بن عبد الله حين قال له: (صف لنا من التقوى شيئا يسيرا نحفظه، فقال طلق: (اعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، والتقوى ترك المعاصي، على نور من الله، مخافة عقاب الله عزوجل) رواه ابن المبارك في "الزهد"(1054) وابن أبي شيبة في "الإيمان"(99) وأبو نعيم في "الحلية"(3/64) والبيهقي في "الزهد الكبير"(965) وغيرهم بإسناد صحيح، وفي رواية ابن المبارك والبيهقي أن هذا كان جوابا بمناسبة فتنة خروجٍ على السلطان، ولفظها عن بكر بن عبد الله قال:(لما كانت فتنة ابن الأشعث قال طلق: اتقوها بالتقوى، قال بكر: أجمل لنا التقوى...) فأجابه بما سبق، فكان هذا الأثر أنسب شيء للباب، ولذلك أورده ابن تيمية تحت هذا المعنى في "منهاج السنة"(4/529) وكذا تلميذه الذهبي في "المنتقى من منهاج الاعتدال"(ص286)، وروى الفسوي قي "المعرفة والتاريخ"(1/231) والخطيب في "تاريخ بغداد"(10/4) بإسناد صحيح عن هلال الوزَّان قال:(حدثنا شيخنا القديم عبد الله بن عكيم – وكان قد أدرك الجاهلية – أنه أرسل إليه الحجاج بن يوسف، فقام فتوضأ ثم صلى ركعتين، ثم قال: اللهم إنك تعلم أني لم أزن قط،ولم أسرق قط، ولم آكل مال يتيم قط، ولم أقذف محصنة قط، إن كنت صادقا فادرأ عني شره) فتوسل – رحمه الله – إلى الله بتركه لهذه الكبائر طمعا في النجاة من فتنة الحجَّاج، وتلك هي نتيجة تقوى الله عزوجل، قال ابن حجر في " الفتح"(6/483): (صاحب الصدق مع الله لا تضره الفتن)، وقال: (الله يجعل لأوليائه عند ابتلائهم مخارج).
2.العلم: العلم دواء الفتن، لأن الفتنة تجيء من جهة الاشتباه، والشبهة يزيلها العلم، أي أن يعرف المرء الفتنة من غيرها، لأنه إذا اشتبه عليه أمرها لم يأمن التورط فيها، وما وقع شبابنا اليوم في دواهي النوازل إلا عدم تفريقهم بين لجهاد الشرعي والفتن، وكم ترى فيهم من حماسة لكن بغير علم، ومن أجل هذا كتبت هذا الكتاب، لعلهم يوفِّرون على أنفسهم تلك الحماسة ليوم الصادق، ودليل هذا الدواء حديث العرباض السابق، لأن فيه تقوى الله، ومر أن طلق بن حبيب فسر التقوى بأنها (العمل بطاعة الله، على نور من الله...)، وهذا النور هو العلم، وقوله: (من الله) يدل على أن العلم هو ما كان من الوحيين: الكتاب والسنة، فإن لم يعلم المرء وجه الفتنة فكيف يقدر أن يتقيها؟ كما قال أبو الدرداء – رضي الله عنه -: (لا تكون تقيا حتى تكون عالما) رواه أبو نعيم(1/213) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(2/7)، وقال هذا الأخير: (من قول أبي الدرداء هذا – والله أعلم – أخذ القائل قوله: كيف هو متق من لا يدري ما يتقي؟ !) وهذا القول نسبه الخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"(1065) للإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله -، ولفظه: (ليس يتقي من لا يدري ما يتقي) ونسبه ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(1/160) لبكر بن خنيس – رحمه الله -، ولفظه: ( كيف يكون متقيا من لا يدري ما يتقي)، فهؤلاء جميعا تناقلوه عن سلف لعظم شأنه، فإن لم يتبين المرء وجه الحق في الفتنة فعليه بــــــــــــــ:
3.الدعاء: فإنه الباب الأعظم بينه وبين ربه، والمؤمن يلجأ إلى مولاه في كل حين، لا سيما عند اختلاف الأمة واشتباه الأحوال، فقد أمر الله بذلك فقال:{قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون}(الزمر:46)، وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه هذا ، ففي "صحيح مسلم"(770) عن أبي أسامة قال:(سألت عائشة أم المؤمنين: بأي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، فإنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
وقد جاءت روايات كثيرة عن السلف تدل على شدة تمسكهم بهذا الأصل عند الفتن، من ذلك ما رواه أبو نعيم في "الحلية"(1/178-179) بسند حسن عن عبد الله بن عامر بن ربيعة يذكر عن أبيه الصحابي (أنه قام يصلي من الليل حين نشب الناس في الفتنة، ثم نام، فأري في المنام فقيل له:قم فسل الله أن يعيذك من الفتنة التي أعاذ منها صالح عباده، فقام يصلي، ثم اشتكى – يعني مرض -، فما خرج إلا جنازة)، والمقصود بالفتنة هنا الخروج على الخليفة الراشد عثمان – رضي الله عنه -، فقد روى بعد هذا وكذا الحاكم (3/158) بسند صحيح عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: ( لما نشب الناس في الطعن على عثمان - رضي الله تعالى عنه – قام أبي يصلي من الليل، وقال: اللهم قني من الفتنة بما وقيت به الصالحين من عبادك، قال: فما خرج إلا جنازة).
وعن حسين بن خارجة قال: ( لما جاءت الفتنة الأولى أشكلت عليَّ، فقلت: اللهم أرني من الحق أمرا أتمسَّك به، فأريت فيما يرى النائم الدنيا والآخرة، وكان بينهما حائط غير طويل، وإذا أنا تحته، فقلت: لو تسلقت هذا الحائط حتى أنظر إلى قتلى أشجع فيخبروني، قال: نحن الملائكة، فأُهبطت بأرضٍ ذات شجر، فإذا نفر جلوس، فقلت: أنتم الشهداء، قالوا: نحن الملائكة، قلت: فأين الشهداء؟ قالوا: تقدَّم إلى الدرجات، فارتفعت درجة الله أعلم بها من الحسن والسَّعة، فإذا أنا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإذا إبراهيم شيخ، وهو يقول لإبراهيم: استغفر لأمتي، وإبراهيم يقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك: أهراقوا الدماء وقتلوا إمامهم، فهلاَّ فعلوا كما فعل سعد خليلي، فقلت: والله ! لقد رأيت رؤيا لعل الله ينفعني بها، أذهب فأنظر مكان سعد فأكون معه، فأتيت سعدا فقصصت عليه القصة، قال: فما أكثر بها فرحا ! وقال: لقد خاب من لم يكن إبراهيم خليله، قلت: مع أي الطائفتين أنت؟ قال: ما أنا مع واحدة منهما، قال: قلت: فما تأمرني؟ قال:ألك غنم؟ قلت: لا ! قال: فاشتر شاء فكن فيها حتى تنجلي)، رواه ابن شبة في "أخبار الدينة"(4/1251) والحاكم(4/452)، وقد ضعِّفت رواية الحاكم بسعيد بن هبيرة عن عبد الوارث بن سعيد في النسخة التي حققها العلامة مقبل الوادعي – رحمه الله –(4/619)، لكن رواه الحاكم في موضع آخر(3/501) من طريق موسى بن عمران القزَّاز عنه بدلا من سعيد هذا، وموسى صدوق كما في "التقريب" لابن حجر، كما رواه أبو نعيم من طريقه وساق الذهبي في "السير"(1/120) إسناده إليه فأغنانا – جزاه الله خيرا – عن تتبع بقية الإسناد عند الحاكم، كما أشار البخاري في "التاريخ الكبير"(2/382) إلى أنه رواه عن عبد الوارث أيضا أبو معمر المنقري وهو ثقة، فهذا إسناد صحيح.
وفي هذه القصة العجيبة فوائد:
منها أن أمر الفتن شديد، لأن حسين بن خارجة – رحمه الله، على فضله – احتاج إلى ما يبصِّره بوجهها.
ومنها أن ما كان عليه سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه – من الاعتزال هو الحق.
ومنها أن سعدا لم يكترث كثيرا بالرؤيا ولا غرَّه منها تأييدها له، كما قال في الرواية: ( فما أكثر بها فرحا)، فهل ترى الشيطان يطمع فيه من جهتها كما يطمع فيمن يفتنون بالرؤى؟ ! وإنما لم يكثر فرحه بها لأنه استغنى بما لديه من علم الكتاب والسنة عن أن يستشهد لهما بالرؤى، لكنَّ غيرَ الجازم قد يجعل الله له في رؤياه الصادقة أُنسا يقوّي به ما ليه من علم، لا كما هو شأن المغرورين بالرؤى الذين يؤسِّسُون استدلالهم عليها، والتاريخ حافل بأوهام من أزاغته أو أزاغه عوامل أخرى لا علاقة لها بطرق الاستدلال الصحيحة، كمن تراءى له في المنام أنه المهدي المنتظر وتواطأت له الشهادات على ذلك من ذوي البصائر الضعيفة، فقام إلى دماء الناس يريقها بسيف (المهدي !) مع أن ما بينه وبين أوصاف المهدي مفاوز !
وكمن قام وسط أحزاب سياسية يدعي أنه حزب الله المختار، وأن تأييده وحده تأييد لدين الواحد القهار !فقال لقومه: سآتيكم بالبرهان، فنظر نظرة في سحاب، وتخيل قطره رقما في كتاب، يؤيده ويذم سائر الأحزاب، فأراه الشيطان وأتباعه كلمة (الله أكبر) في السماء، يقرؤها أنصاره وكل من نسي ذكر الصبح والمساء، فازداد الناس افتنانا به، واستمساكا بحزبه !فقام يوعد غيره بالنار، حتى تلا قوله تعالى:{ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده}(هود:17)، نسأل الله العافية.
أو كمن زعم أن القرأن قد أخبر قبل خمسة عشر قرنا بسقوط برجَي أمريكا في (11 سبتمبر)، وذلك في الآيتين(109-110) من سورة التوبة وهي قوله عزوجل:{أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين (109) لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم (110)}، فربط له الشيطان بين رقم (9) الذي في الآية الأولى وبين كون شهر سبتمبر هو الشهر التاسع من السنة الشمسية، ورقم (11) الذي في الآية الثانية وبين كون الهدم وقع في اليوم الحادي عشر منه، إلى غير ذلك من التُّرَّهات التي لا أذكرها الآن.
هذه سخافات كان علينا أن نترفع عن ذكرها، لكن ولوع الناس بها اليوم مع انحطاط المستوى دفعني إلى تدوينها هنا لتكون تنبيها للقارئ على أن يعرف طرق الاستدلال ويعرف للوحيين قدرهما.
4.السمع والطاعة لولي الأمر ولزوم الجماعة: ودليله حديث العرباض بن سارية السابق، وأكثر الفتن في تاريخ المسلمين سببها من الإخلال بهذا الأصل العظيم، ولذلك كان الرؤوف الرحيم بأمته صلى الله عليه وسلم يبدئ فيه ويعيد، ومن نظر في الأحاديث الكثيرة التي جاءت في الباب عرف هذا، وفي القصة الأخيرة جعل القتل السلطان في الرؤيا إحدى علامات الفتنة، ومن أدلته أيضا حديث حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه –المشهور الذي وصف فيه النبي صلى الله عليه وسلم زمنا يخالطه دخن ويكون في أمرائه ظلم في أخذ الأموال بغير حق وضرب الأبرياء، فقال في المخرج منه:( تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) رواه البخاري(7084) ومسلم(1848)، وقد بوب له النووي في "شرح صحيح مسلم" (12/237) بقوله:( باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة)، وقال: (وفي حديث حذيفة هذا لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ووجوب طاعته وإن فسق وعمل المعاصي من أخذ الأموال وغير ذلك، فتجب طاعته في غير معصية).
5.التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين: ودليله حديث العرباض أيضا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنذر بوقوع الفتن والاختلاف بين أمته، وذكر الحلَّ الذي نحن بصدده، وصاحب السنة لتجرده للسنة وتجرده عن كل هوى ناج – إن شاء الله –في مواطن الفتن، لأنه عوَّد نفسه ألا يأتمَّ إلا بالمتبوع بحقٍّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم تكلم كثيرا عن الفتن وما قصَّر في التبليغ، ولذلك فما من كتاب من كتب السنة الشاملة إلا وفيه بابٌ للفتن، فصاحب السنة يرجع إليها ويسلم لها تسليما، والمحروم من السنة يرجع عند حلول الفتن إلى عقله وتجاربه وتحكيم عواطفه وتحكيم استنتاجات شيوخه ولو كانوا من أبخس الناس حظا في معرفة السنة، فالأول على السنة ثابت متثبت، والثاني في ظلمات فكره متخبط، ومن أدلته أيضا ما رواه أبو واقد الليثي – رضي الله عنه – قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ونحن جلوس على بساط: إنها ستكون فتنة، قالوا: كيف نفعل يا رسول الله؟ قال: فرد يده إلى البساط فأمسك به، قال: تفعلون هكذا، وذكر لهم رسول الله صلى الله عليه يوما أنها ستكون فتنة فلم يسمعه كثير من الناس، فقال معاذ: تسمعون ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: ما قال؟ قال: يقول: إنها ستكون فتنة، قالوا: فكيف لنا يا رسول الله أو كيف نصنع؟ قال: ترجعون إلى أمركم الأول) رواه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(3/221)والطبراني(3/181)وصححه الألباني في "السلسة الصحيحة"(3165)، وبوب له الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/303) بقوله: (باب ما يفعل في الفتنة).
ومن أروع الآثار السلفية في هذا الباب ما رواه معمر في "جامعه" المطبوع في آخر "مصنف عبد الرزاق"(11/453) وأبو نعيم(1/329) وابن بطة في "الإبانة/الإيمان"(237) واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد"(133) بإسناد صحيح عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: (قال معاوية: أنت على ملة علي؟ قلت: ولا على ملة عثمان، أنا على ملة محمد صلى الله عليه وسلم)، قال طاووس: (يعني: ملة محمد صلى الله عليه وسلم ليست لأحد).
هذا حصل بعد الخلاف الذي كان بين علي ومعاوية – رضي الله عنهما -، فلم يجد ابن عباس – رضي الله عنهما – غضاضة من أن يقصر مرجعه فيه على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف لو كان الأمر فيمن بعدهم؟ !
وفي ذكر سنة الخلفاء الراشدين مقرونةً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم تنبيه على ردِّ كلِّ مختلف فيه إلى ما كان عليه السلف الأول، وهذا الضابط يعدُّ من أهم الضوابط، لأنه يعصم من كثير من الخطأ في الاستدلال، كما يعصم من متابعة فرق الضلال، لأنه كلما استدل مستدل على مسألة مطروقة قيل له: من سلفك في هذا؟ فيقلُّ الخلاف، ويفتضح المتسلق المستخف بالأسلاف.
ملاحظة: ذكرت هاهنا دواءين للنجاة من الفتن متتابعين، وهما (السمع والطاعة لولي الأمر) و (التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء)، لأن اجتماع الناس يحصل من جهتين هما: اجتماع أديان واجتماع أبدان، فاجتماع الأديان أن يكونوا على طريقة واحدة في أصول دينهم، كما قال الله تعالى:{واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}(آل عمران:103)، واجتماع الأبدان هو أن يجتمعوا على أمير واحد ولا يتفرقوا عليه بأجسامهم بالسعي في الخروج عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) وقد مر، فالأول أخص بإصلاح دينهم، والثاني أخص بإصلاح معاشهم، ولذلك روى أبو عبد الرحمن السلمي في "آداب الصحبة"(41) وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(32/444) عن عبد الله بن المبارك قال: (من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته)، وقد جاءت الشريعة بأكمل نظام في هذين، ولذلك نهى الله عن التفرق في الأديان في غير ما آية، منها قوله تعالى:{إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء}(الأنعام:159)، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفرق بالأبدان فقال: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات مات ميتة جاهلية) رواه مسلم(1848)، وكثيرا ما يجتمعان في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية الذي مر: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين)، فجمع بين الوصية بأداء حق ولي الأمر والوصية بلزوم السنة، وقله صى الله عليه وسلم: (إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم) الحديث، رواه مسلم(1715) ومالك(1572) – واللفظ له – عن أبي هريرة، فذكر الاعتصام بحبل الله وهو الكتاب والسنة، وذكر مناصحة ولي الأمر، وجِماعها ترك الخروج عليه كما نص عليه غير واحد من أهل العلم، قال ابن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(2/693): (وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فحب طاعتهم ورشدهم وعدلهم وحب اجتماع الأمة كلهم، وكراهية افتراق الأمة عليهم، والتدين بطاعتهم في طاعة الله، والبغض لمن رأى الخروج عليهم، وحب إعزازهم في طاعة الله)، ووافقه عليه ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(1/80) والنووي في "شرحه على مسلم"(2/78).
وقد جعل أهل العلم قول النبي صلى الله عليه وسلم السابق: (ترجعون إلى أمركم الأول) ضابطا في هذين البابين: تفرق الأديان، وتفرق الأبدان، فقالوا:إذا اشتبه على المرء أمر فتنة نظر فيما كان عليه أمر الجماعة قبل حدوث الفتنة، لأن الفتنة تنوع الآراء ويدخل فيها المتكلفون فيشبهون الأمر على غيرهم، فينظر الموفق في الهدي الأول ويلغي ما عداه، وفي تطبيقه ما يأتي:
-عند ظهور فتنة التفرق إلى طوائف، فلو أنه كلما ظهرت فرقة نظر المرء في سيرة السابقين ووزن علمها وعملها بها ليتبين له وجهها، ولذلك كان الموفقون من المتقدمين من هذه الأمة يرجعون إلى الصحابة كلما ظهرت فتنة جماعة أحدثت في دين الله، فإما أن تموت البدعة في مهدها، وإما أن ينحسر نطاقها ويشار إليها ببنان الاتهام، كما حصل عند ظهور فرقةالقدرية في عهد بعض الصحابة، فقد روى مسلم(8) عن يحي بن يعمر قال: (كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحِميَري حاجَّين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد...)الحديث، وفيه أنهما سألاه عن تلك الفرقة وأجابهم – رضي الله عنه -، فشفوا وذهبت عنه الريب والحيرة، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاهم الله جملة وتفصيلا، ولذلك قال حذيفة – رضي الله عنه -: (كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعبَّدوها، فإن الأول لم يدع للآخِرِ مقالا، فاتقوا الله – يا معشر القراء !- وخذوا طريق من كان قبلكم) كما في"أصول الإيمان" للشيخ محمد ابن عبد الوهاب(ص138) و"حجة النبي صلى الله عليه وسلم" للشيخ الألباني(ص100) – رحمهما الله- .
-وأما فتنة الدماء، فإنه لما ظهرت أول فتنة وهي فتنة مقتل عثمان – رضي الله عنه – نظر الموفقون إلى ما كان عليه الناس قبل الفتنة فلَزِموه، ولما كانت فتنةالخروج على علي – رضي الله عنه – فكذلك، ولما كانت فتنة خروج ابن الأشعث فكذلك وهكذا...
وأما المخذولون: فحسنت ظنونهم بأنفسهم ولم يعبأوا بمن سبقهم من الأولين من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان، فانطلقوا يجرُّون أذيال الفتنة، حتى إذا انغمسوا فيها علموا أنهم كانوا يلهثون وراء سراب، ولنفاسة هذا الضابط عقدت فصلا في أواخر الكتاب في هدي الصحابة عند الفتن .
وهل يُظنُّ في الخوارج الأولين وقوعهم في فتنة تفريق الجماعة الأولى لو أنهم أخذوا بهذا التأصيل الذي أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل يظن في الحاقدين على أصحال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوعهم في مفارقة الجماعة لو أخذوا بهذا؟ ومن الغرائب أن هؤلاء وجميع الفرق التي فارقت الجماعة من أول يوم يدَّعون أنهم يجتهدون لجمع الأمة على كلمة سواء !! ولذلك يقال لهم: ارجعوا إلى الجماعة الأولى ولا تتفرقوا عنها ثم بعدها يُنظر في ادعائكم وحدة الأمة، فإن لم يستجيبوا ويرجعوا إلى هدي الصحابة فاعلموا أنما يتبعون أهوائهم،فهؤلاء وأشكالهم هم الذين فرقوا المسلمين وفارقوا أهل الحق منذ التاريخ الأول، فكل دعوة منهم للاجتماع فهي دعوة كاذبة يراد منها تمييع دعوة الحق.
وبهذا يعلم القارئ أن أهل السنة والجماعة أولى الناس بالاجتماع الصادق، وأحق الفرق باسم السنة، لأنهم منذ تفرق الناس وهم يناشدونهم: أن ارجعوا إلى الأمر الأول، وأحق الفرق باسم الجماعة، لأنهم منذ أن اخترع الشيطان للحريصين على الرئاسة الخروج على أولياء أمورهم وهم ينصحون لهم بالإعراض عن ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجماعة رحمة والفرقة عذاب) رواه أحمد(4/278) وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(667)، ولكن قليل هم الذين يتجردون للدليل ويصبرون بصدق على التقيد بأوامر الكتاب والسنة، لغلبة سلطان الحظوظ النفسية، فنعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
يتبع إن شاء الله تعالى