منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #16  
قديم 17 Sep 2019, 01:09 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي





قال الله تعالى:
"الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ۚ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ۖ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (87) ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ۚ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ (90)"


في هذه الآيات البيّنات، وصف الله عزّوجلّ، الأنبياء والمرسلين،عليهم الصّلاة وأزكى التّسليم، بـالمهتدين، وقد هيّأهم لذلك، ليكونوا قدوةً للعالمين، يبلّغونهم رسالة توحيد ربّ السّماوات والأراضين.
وقد كرّر الله سبحانه، في ذكرهم، بأوصاف الهداية، لأنّها من توفيق ربّ العالمين. ومَن وفّقه الله للطّريق المستقيم، عجز عن ردّه وإضلاله، أبرع دعاة إلى جهنّم من الإنس والشياطين.
اللّهمّ وفّقنا للمنهج القويمّ، واجعلنا من أهل الاستقامة الرّاشدين.

قال الله تعالى:"وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ۖ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"
يقول الإمام الطبري رحمه الله في تفسير الآية:
{...قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضًا من آباء هؤلاء الّذين سماهم تعالى ذكره =" ذريّاتهم وإخوانهم "، آخرين سواهم، لم يسمّهم، للحق والدّين الخالص الذي لا شِرْك فيه, فوفّقناهم له ="وَاجْتَبَيْنَاهُمْ"، يقول: واخترناهم لديننا وبلاغ رسالتنا إلى مَن أرسلناهم إليه, كالّذي اخترنا ممّن سمَّينا.

* * *
يقال منه: " اجتبى فلان لنفسه كذا "، إذا اختاره واصطفاه،" يجتبيه اجتباء ". (55)
* * *
وكان مجاهد يقول في ذلك ما:-
13516- حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: " واجتبيناهم "، قال: أخلصناهم.
.......
=" وهديناهم إلى صراط مستقيم "، يقول: وسدّدناهم فأرشدناهم إلى طريق غير معوجّ, وذلك دين الله الذي لا عِوَج فيه, وهو الإسلام الذي ارتضاه الله ربُّنا لأنبيائه, وأمر به عباده. (56)......} انتهـ.
-----------------------------
(55) انظر تفسير"اجتبى" فيما سلف 7: 427.
(56) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 10: 146 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.

وقال الله عزّوجلّ:"أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ"
قال الإمام القرطبي رحمه اله في تفسير الآية:
{....فبهداهم اقتده الاقتداء طلب موافقة الغير في فعله . فقيل : المعنى اصبر كما صبروا...}، ثم قال:{...إن هو أي القرآن .
إلا ذكرى للعالمين أي هو موعظة للخلق . وأضاف الهداية إليهم فقال : " فبهداهم اقتده " لوقوع الهداية بهم . وقال : ذلك هدى الله لأنه الخالق للهداية .} انتهـ.

وقال الإمام الطبري رحمه الله:
{...القول في تأويل قوله : (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: " أولئك "، هؤلاء القوم الذين وكّلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين, هم الّذين هداهم الله لدينه الحق, وحفظ ما وكّلوا بحفظه من آيات كتابه، والقيام بحدوده، واتّباع حلاله وحرامه، والعمل بما فيه من أمر الله، والانتهاء عمّا فيه من نهيه, فوفّقهم جلّ ثناؤه لذلك =" فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ "، يقول تعالى ذكره: فَبِـالعمل الذي عملوا، والمنهاج الذي سلكوا، وبـالهدى الذي هديناهم، والتّوفيق الذي وفّقناهم ="اقْتَدِهِ"، يا محمد، أي: فاعمل، وخُذ به واسلكه, فإنّه عمل لله فيه رضًا، ومنهاجٌ، مَن سلكه اهتدى.}، ثم قال في أهمّ ما قال: {... - حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: ثم قال في الأنبياء الذين سماهم في هذه الآية: " فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ".
* * *
ومعنى: " الاقتداء " في كلام العرب، بالرّجل: اتّباع أثره، والأخذ بهديه. يُقال: " فلان يقدو فلانًا "، إذا نحا نحوه، واتّبع أثره," قِدَة، وقُدوة وقِدوة وقِدْيَة ". (64)...}، ثم قال في تفسير الآية الأخيرة: " قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ". قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: " قُلْ " لهؤلاء الذين أمرتك أن تذكّرهم بآياتي، أن تبسَل نفس بما كسبت، من مشركي قومك يا محمد: " لا أسألكم "، على تذكيري إيّاكم، والهدى الذي أدعوكم إليه، والقرآن الذي جئتكم به, عوضًا أعتاضه منكم عليه، وأجرًا آخذه منكم, (65) وما ذلك منّي إلا ّتذكير لكم، ولكل مَن كان مثلكم ممّن هو مقيم على باطل، بَأسَ الله أن يَحُلّ بكم، وسَخَطه أن ينـزل بكم على شرككم به وكفركم = وإنذارٌ لجميعكم بين يدي عذاب شديد, لتذكروا وتنـزجروا. (66)
----------------------------------
(64) في المطبوعة: "كتب مكان"وقدية""وقدوة" ، وهو خطأ صرف ، خالف ما في المخطوطة وهو الصواب.
(65) انظر تفسير"الأجر فيما سلف من فهارس اللغة (أجر).
(66) انظر تفسير"ذكرى" فيما سلف ص: 439.} انتهـ النقل.

وقال الشيخ السعدي رحمه الله، في تفسير الآية: "أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ"
{ أُولَئِكَ } المذكورون { الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } أي: امش -أيها الرسول الكريم- خلف هؤلاء الأنبياء الأخيار، واتبع ملتهم وقد امتثل صلى الله عليه وسلم، فاهتدى بهدي الرسل قبله، وجمع كل كمال فيهم. فاجتمعت لديه فضائل وخصائص، فاق بها جميع العالمين، وكان سيد المرسلين، وإمام المتقين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وبهذا الملحظ، استدل بهذه مَن استدل من الصحابة، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفضل الرسل كلهم.
{ قُلْ } للذين أعرضوا عن دعوتك: { لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } أي: لا أطلب منكم مغرما ومالا، جزاء عن إبلاغي إياكم، ودعوتي لكم فيكون من أسباب امتناعكم، إن أجري إلا على الله. { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } يتذكرون به ما ينفعهم، فيفعلونه، وما يضرهم، فيذرونه، ويتذكرون به معرفة ربّهم بأسمائه وأوصافه. ويتذكرون به الأخلاق الحميدة، والطرق الموصلة إليها، والأخلاق الرذيلة، والطرق المفضية إليها، فإذا كان ذكرى للعالمين، كان أعظم نعمة أنعم الله بها عليهم، فعليهم قبولها والشكر عليها.} انتهـ.





الصور المصغرة للصور المرفقة
اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	أولئك الذين هدى الله.png‏
المشاهدات:	3278
الحجـــم:	173.7 كيلوبايت
الرقم:	7218   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	فبهداهم اقتده.jpg‏
المشاهدات:	3845
الحجـــم:	42.0 كيلوبايت
الرقم:	7219  
رد مع اقتباس
  #17  
قديم 17 Sep 2019, 09:20 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي





قال الله تعالى:
"وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)"

قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير الآية:

( { ومن صلاحهم، أنّه جعلهم أئمّة يهدون بأمره، وهذا من أكبر نعم الله على عبده أن يكون إماما يهتدي به المهتدون، ويمشي خلفه السالكون، وذلك لمّا صبروا، وكانوا بآيات الله يوقنون.

وقوله: { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ْ} أي: يهدون الناس بديننا، لا يأمرون بأهواء أنفسهم، بل بأمر الله ودينه، واتباع مرضاته، ولا يكون العبد إماما حتى يدعو إلى أمر الله.
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ْ} يفعلونها ويدعون الناس إليها، وهذا شامل لجميع الخيرات كلها، من حقوق الله، وحقوق العباد.
{ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ْ} هذا من باب عطف الخاص على العام، لشرف هاتين العبادتين وفضلهما، ولأنّ مَن كمّلهما كما أمر، كان قائما بدينه، ومَن ضيعهما، كان لما سواهما أضيع، ولأنّ الصلاة أفضل الأعمال، التي فيها حقّه، والزكاة أفضل الأعمال، التي فيها الإحسان لخلقه.

{ وَكَانُوا لَنَا ْ} أي: لا لغيرنا { عَابِدِينَ ْ} أي: مديمين على العبادات القلبية والقولية والبدنية في أكثر أوقاتهم، فاستحقّوا أن تكون العبادة وصفهم، فاتّصفوا بما أمر الله به الخلق، وخلقهم لأجله.) انتهـ



قال الله تعالى:"وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ ۖ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)"

يقول الإمام الطبري رحمه الله في تفسير الآية: "وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ ۖ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ"

( يقول تعالى ذكره: ولقد آتينا موسى التوراة، كما آتيناك الفرقان يا محمد ( فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ ) يقول: فلا تكن في شكّ من لقائه، فكان قتادة يقول: معنى ذلك: فلا تكن في شكّ من أنّك لقيته، أو تلقاه ليلة أُسري بك، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة عن أبي العالية الرياحي، قال: حدثنا ابن عمّ نبيكم -يعني: ابن عباس- قال: قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: " أُرِيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى بنَ عِمْرَانَ رَجُلا آدَمَ طِوَالا جَعْدًا، كأنَّهُ مِنْ رجالِ شَنُوءَةَ، ورأيْتُ عِيسَى رَجُلا مَربُوعَ الخَلْقِ إلى الحُمْرَةِ والبياضِ، سَبْطَ الرأسِ ورأيْتُ مالِكا خازِنَ النَّارِ، والدَّجَّالَ" فِي آياتٍ أرَاهنَّ اللهُ إيَّاهُ، ( فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ ) أنّه قد رأى موسى، ولقى موسى ليلة أُسري به.
وقوله: ( وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ) يقول تعالى ذكره: وجعلنا موسى هدى لبني إسرائيل، يعنى: رشادا لهم، يرشدون باتّباعه، ويصيبون الحقّ بالاقتداء به، والائتمام بقوله.

وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) قال: جعل الله موسى هدى لبني إسرائيل.

وقوله: (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أئمَّةً) يقول تعالى ذكره: وجعلنا من بني إسرائيل، أئمّة، وهي جمع إمام، والإمام الذي يُؤْتَمّ به في خير أو شرّ، وأريد بذلك في هذا الموضع أنّه جعل منهم قادة في الخير، يؤتمّ بهم، ويُهْتَدى بهديهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أئمَّةً يَهدُونَ بأمْرِنا) قال: رؤساء في الخير. وقوله: (يَهْدُونَ بأمْرِنا) يقول تعالى ذكره: يهدون أتباعهم وأهل القبول منهم بإذننا لهم بذلك، وتقويتنا إياهم عليه.

وقوله: (لَمَّا صَبرُوا) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة، وبعض أهل الكوفة (لَمَّا صَبرُوا) بفتح اللام وتشديد الميم، بمعنى: إذ صبروا، وحين صبروا، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة (لِمَا) بكسر اللام وتخفيف الميم بمعنى: لِـصبرهم عن الدنيا وشهواتها، واجتهادهم في طاعتنا، والعمل بأمرنا، وذُكر أنّ ذلك فى قراءة ابن مسعود (بِمَا صَبَرُوا) وما إذا كسرت اللام من (لِمَا) في موضع خفض، وإذا فتحت اللام وشدّدت الميم، فلا موضع لها، لأنّها حينئذ أداة.

والقول عندي في ذلك أنّهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، قد قرأ بكل واحدة منهما عامّة من القراء فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب. وتأويل الكلام إذا قُرئ ذلك بفتح اللام وتشديد الميم، وجعلنا منهم أئمّة يهدون أتباعهم بإذننا إيّاهم، وتقويتنا إيّاهم على الهداية، إذ صبروا على طاعتنا، وعزفوا أنفسهم عن لذّات الدنيا وشهواتها. وإذا قرئ بكسر اللام (1) على ما قد وصفنا.

وقد حدثنا ابن وكيع، قال: قال أبي، سمعنا في (وَجَعَلْنا مْنِهُمْ أئمَّةً يهدون بأمْرِنا لَمَّا صَبروا) قال: عن الدنيا.
وقوله: (وكانُوا بآياتِنا يُوقِنُونَ) يقول: وكانوا أهل يقين بما دلّهم عليه حججنا، وأهل تصديق بما تبيّن لهم من الحقّ، وإيمان برسلنا، وآيات كتابنا وتنـزيلنا.
-------------------
الهوامش :
(1) لعله فيكون على ... إلخ .) انتهـ.



وفسّر الآيتين، الشيخ السعدي رحمه الله على النحو التّالي: "وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ ۖ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)"

{ لمّا ذكر تعالى، آياته التي ذكر بها عباده، وهو: القرآن، الذي أنزله على محمد صلى اللّه عليه وسلم، ذكر أنّه ليس ببدع من الكتب، ولا مَن جاء به، بغريب من الرسل، فقد آتى الله موسى الكتاب الذي هو التوراة المصدقة للقرآن، التي قد صدقها القرآن، فتطابق حقّهما، وثبت برهانهما، { فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ } لأنّه قد تواردت أدلّة الحقّ وبيناته، فلم يبق للشك والمرية، محلّ.
{ وَجَعَلْنَاهُ } أي: الكتاب الذي آتيناه موسى { هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } يهتدون به في أصول دينهم، وفروعه وشرائعه موافقة لذلك الزمان، في بني إسرائيل.
وأمّا هذا القرآن الكريم، فجعله اللّه هداية للناس كلّهم، لأنّه هداية للخلق، في أمر دينهم ودنياهم، إلى يوم القيامة، وذلك لكماله وعلوه { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }

ثمّ قال رحمه الله

{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ } أي: من بني إسرائيل { أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } أي: علماء بالشرع، وطرق الهداية، مهتدين في أنفسهم، يهدون غيرهم بذلك الهدى، فـالكتاب الذي أنزل إليهم، هدى، والمؤمنون به منهم، على قسمين: أئمّة يهدون بأمر اللّه، وأتباع مهتدون بهم.

والقسم الأول: أرفع الدرجات بعد درجة النبوّة والرسالة، وهي درجة الصدّيقين، وإنّما نالوا هذه الدرجة العالية بالصّبر على التّعلم والتّعليم، والدعوة إلى اللّه، والأذى في سبيله، وكفّوا أنفسهم عن جماحها في المعاصي، واسترسالها في الشهوات.
{ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } أي: وصلوا في الإيمان بآيات اللّه، إلى درجة اليقين، وهو العلم التام، الموجب للعمل، وإنما وصلوا إلى درجة اليقين، لأنهم تعلموا تعلمًا صحيحًا، وأخذوا المسائل عن أدلتها المفيدة لليقين.
فما زالوا يتعلمون المسائل، ويستدلون عليها بكثرة الدلائل، حتى وصلوا لذاك، فبالصبر واليقين، تُنَالُ الإمامة في الدين.} انتهـ


الصور المصغرة للصور المرفقة
اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	وجعلناهم أئمة.png‏
المشاهدات:	4565
الحجـــم:	354.7 كيلوبايت
الرقم:	7220   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	وجعلنا منهم أئمة.jpg‏
المشاهدات:	3442
الحجـــم:	44.7 كيلوبايت
الرقم:	7221   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	الصبر واليقين.png‏
المشاهدات:	3428
الحجـــم:	748.9 كيلوبايت
الرقم:	7222  
رد مع اقتباس
  #18  
قديم 23 Sep 2019, 01:04 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي





الدعوة إلى الله وأخلاق الدّعاة

ولتحقيق هداية التوفيق إلى سواء الطّريق، أعان الله سبحانه، عباده، بإرسال الرُّسُل، ليبيّنوا لهم ما نُزِّلَ إليهم من كتبٍ فيها الحياة والسّعادة والنّجاة.

وبـإرسال الرًّسل كما أسلفنا، تتمّ هداية الدّلالة والبيان، والتّوجيه، والدّعوة إلى الله، التي اصطفى لها ربّنا عزّوجلّ، أحسن عباده، خَلْقًا وخُلُقًا. فهيّأهم لتبليغ رسالة التّوحيد، فكان الإخلاص والصّبر والحِلم والحكمة، قائد الصّفات التي حملها أنبياء الله ورسله. حتّى يتمكّنوا من مواجهة، الّذين يبلّغونهم، بحزمٍ وقوّة وثبات. (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
وقد بيّن الله سبحانه، في كتابه القرآن، صفات الأنبياء والرُّسل عليهم الصّلاة والسّلام، وأثنى عليهم أبلغ الثناء، حتّى يقتدي بهم، مَن تبعوا سبيلهم، واهتدوا بهديهم، لتكون دعوتهم إلى الله على بصيرة وعلم وحكمة وصبر وثبات.
ولقد عدّد الشيخ عبدالعزيز بن باز، جملة من صفات الدّعاة إلى الله وأخلاقهم. حيث قال رحمه الله، في موضوع عنوانه: "الدّعوة إلى الله وأخلاق الدّعاة":
{.....أمّا أخلاق الدعاة وصفاتهم التي ينبغي أن يكونوا عليها، فقد أوضحها الله جلّ وعلا في آيات كثيرة، في أماكن متعددة من كتابه الكريم.
-أولاً منها: الإخلاص، فيجب على الداعية أن يكون مخلصا لله عزّ وجل، لا يريد رياء ولا سمعة، ولا ثناء الناس ولا حمدهم، إنّما يدعو إلى الله يريد وجهه عز وجل، كما قال سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف:108] وقال عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت:33] فعليك أن تخلص لله عز وجل، هذا أهمّ الأخلاق، هذا أعظم الصّفات أن تكون في دعوتك، تريد وجه الله والدار الآخرة.
-ثانيا: أن تكون على بيّنة في دعوتك أي على علم، لا تكن جاهلا بما تدعو إليه: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ" [يوسف:108] فلا بد من العلم، فالعلم فريضة، فإيّاك أن تدعو على جهالة، وإيّاك أن تتكلّم فيما لا تعلم، فالجاهل يهدّم ولا يبني، ويفسد ولا يصلح، فاتّق الله يا عبد الله، إيّاك أن تقول على الله بغير علم، لا تدعو إلى شيء إلاّ بعد العلم به، والبصيرة بما قاله الله ورسوله، فلا بدّ من بصيرة وهي العلم، فعلى طالب العلم وعلى الداعية، أن يتبصّر فيما يدعو إليه، وأن ينظر فيما يدعو إليه ودليله، فإن ظهر له الحقّ وعرفه دعا إلى ذلك، سواء كان ذلك فعلاً أو تركاً، فيدعو إلى الفعل إذا كان طاعة لله ورسوله، ويدعو إلى ترك ما نهى الله عنه ورسوله على بيّنة وبصيرة.
-ثالثا: من الأخلاق التي ينبغي لك أن تكون عليها أيّها الداعية، أن تكون حليماً في دعوتك، رفيقاً فيها، متحمّلاً صبورًا، كما فعل الرسل عليهم الصلاة والسلام، إيّاك والعجلة، إيّاك والعنف والشدّة، عليك بالصبر، عليك بالحلم، عليك بالرِّفق في دعوتك، وقد سبق لك بعض الدليل على ذلك كقوله جل وعلا: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] وقوله سبحانه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159] الآية وقوله جل وعلا في قصة موسى وهارون: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] وفي الحديث الصحيح يقول النبي ﷺ: "اللّهمّ مَن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به ومَن ولي من أمر أمتي شيئا فشقّ عليهم فاشقق عليه" خرجه مسلم في الصحيح،
فعليك يا عبد الله أن ترفق في دعوتك، ولا تشق على الناس، ولا تنفّرهم من الدّين، ولا تنفّرهم بغلظتك ولا بجهلك، ولا بأسلوبك العنيف المؤذي الضار، عليك أن تكون حليماً صبورًا، سلس القياد، ليّن الكلام، طيّب الكلام، حتى تؤثّر في قلب أخيك، وحتّى تؤثر في قلب المدعو، وحتى يأنس لدعوتك ويلين لها، ويتأثر بها، ويثني عليك بها ويشكرك عليها، أما العنف فهو منفّر لا مقرّب، ومفرّق لا جامع.
-ومن الأخلاق والأوصاف التي ينبغي، بل يجب أن يكون عليها الداعية، العمل بدعوته، وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه، ليس مَن يدعو إلى شيء ثم يتركه، أو ينهى عنه ثم يرتكبه، هذه حال الخاسرين نعوذ بالله من ذلك، أمّا المؤمنون الرّابحون فهم دعاة الحق يعملون به وينشطون فيه ويسارعون إليه، ويبتعدون عمّا ينهون عنه، قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3] وقال سبحانه موبّخا اليهود على أمرهم الناس بالبر ونسيان أنفسهم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة:44]. وصحّ عن النبي ﷺ أنّه قال: "يؤتى بالرجل يومم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون له يا فلان ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه". هذه حال من دعا إلى الله وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ثم خالف قوله فعله وفعله قوله، نعوذ بالله من ذلك.
فمن أهمّ الأخلاق ومن أعظمها في حق الداعية، أن يعمل بما يدعو إليه، وأن ينتهي عما ينهى عنه، وأن يكون ذا خلق فاضل، وسيرة حميدة، وصبر ومصابرة، وإخلاص في دعوته، واجتهاد فيما يوصل الخير إلى الناس، وفيما يبعدهم من الباطل، ومع ذلك يدعو لهم بالهداية، هذا من الأخلاق الفاضلة، أن يدعو لهم بالهداية ويقول للمدعو: هداك الله، وفّقك الله لقبول الحق، أعانك الله على قبول الحق، تدعوه وترشده وتصبر على الأذى، ومع ذلك تدعو له بالهداية، قال النبي عليه الصلاة والسلام لمّا قيل عن (دوس) إنّهم عصوا، قال: اللّهمّ اهْدِ دوسا وأتِ بهم.
تدعو له بالهداية والتوفيق لقبول الحق، وتصبر وتصابر في ذلك، ولا تقنط ولا تيأس ولا تقل إلا خيراً، لا تعنف ولا تقل كلاماً سيّئاً ينفّر من الحق، ولكن مَن ظلم وتعدّى له شأن آخر، كما قال الله جلّ وعلا: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46]
فالظالم الذي يقابل الدعوة بالشر والعناد والأذى، له حكم آخر، في الإمكان تأديبه على ذلك بالسجن أو غيره، ويكون تأديبه على ذلك على حسب مراتب الظلم، لكن ما دام كافاً عن الأذى، فعليك أن تصبر عليه، وتحتسب وتجادله بالتي هي أحسن، وتصفح عمّا يتعلق بشخصك من بعض الأذى، كما صبر الرسل وأتباعهم بإحسان.
وأسأل الله عز وجل أن يوفّقنا جميعاً لحسن الدّعوة إليه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه، والثبات عليه، ويجعلنا من الهداة المهتدين، والصالحين المصلحين، إنّه جلّ وعلا جواد كريم،
وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبيّنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدّين[1]. ..
--------------------------------
[1] - هذا الموضوع نشر في رسالة برقم ٤٨ عام ١٤٠٢هـ عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وقد نشر في مجلة البحوث الإسلامية العدد الرابع الصادر من محرم إلى جمادى الآخرة عام ١٣٩٨ هـ، (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 1/ 324).

المصدر



و قبل تطرّق الشيخ ابن باز رحمه الله لـصفات الدّعاة وأخلاقهم، قد ذكر الدّعوة إلى الله و أهميّتها وفضلها، ثمّ ذكر:

كيفية أدائها وأساليبها:

أمّا كيفية الدعوة وأسلوبها فقد بينها الله عز وجل في كتابه الكريم، وفيما جاء في سُنّة نبيّه عليه الصلاة والسلام، ومن أوضح ذلك قوله جلّ وعلا: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] فأوضح سبحانه الكيفية التي ينبغي أن يتّصف بها الداعية ويسلكها يبدأ أولا بـالحكمة، والمراد بها الأدلة المقنعة الواضحة الكاشفة للحق، والداحضة للباطل، ولهذا قال بعض المفسرين المعنى بـ القرآن، لأنّه الحكمة العظيمة، لأنّ فيه البيان والإيضاح للحق بأكمل وجه، وقال بعضهم معناه بـالأدلة من الكتاب والسُّنَّة، وبكل حال، فـالحكمة كلمة عظيمة، معناها الدّعوة إلى الله بالعلم والبصيرة، والأدلة الواضحة المقنعة الكاشفة للحق، والمبيّنة له، وهي كلمة مشتركة تطلق على معان كثيرة، تطلق على النبوة وعلى العلم والفقه في الدين وعلى العقل، وعلى الورع وعلى أشياء أخرى، وهي في الأصل كما قال الشوكاني رحمه الله: الأمر الذي يمنع عن السفه، هذه هي الحكمة، والمعنى: أنّ كل كلمة وكلّ مقالة تردعك عن السّفه، وتزجرك عن الباطل فهي حكمة، وهكذا كلّ مقال واضح صريح، صحيح في نفسه، فهو حكمة، فـالآيات القرآنية أولى بأن تسمّى حكمة، وهكذا السُّنَّة الصحيحة أولى بأن تسمى حكمة بعد كتاب الله، وقد سمّاها الله حكمة في كتابه العظيم، كما في قوله جل وعلا: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129] يعني السُّنَّة، وكما في قوله سبحانه: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269] الآية، فالأدلة الواضحة تسمّى حكمة، والكلام الواضح المصيب للحق، يسمى حكمة كما تقدم، ومن ذلك الحكمة التي تكون في فم الفرس: وهي بفتح الحاء والكاف سميت بذلك، لأنها تمنع الفرس من المضي في السير، إذا جذبها صاحبها بهذه الحكمة.
فالحكمة كلمة تمنع مَن سمعها من المضي في الباطل، وتدعوه إلى الأخذ بالحق والتأثر به، والوقوف عند الحدّ الذي حدّه الله عزّ وجل، فعلى الداعية إلى الله عز وجل أن يدعو بالحكمة، ويبدأ بها ويعنى بها، فإذا كان المدعو عنده بعض الجفا والاعتراض، دعوته بالموعظة الحسنة بالآيات والأحاديث التي فيها الوعظ والترغيب، فإن كان عنده شبهة جادلته بالتي هي أحسن، ولا تغلظ عليه، بل تصبر عليه ولا تعجل ولا تعنف، بل تجتهد في كشف الشبهة، وإيضاح الأدلة بالأسلوب الحسن، وهكذا ينبغي لك أيها الداعية، أن تتحمّل وتصبر ولا تشدد، لأنّ هذا أقرب إلى الانتفاع بالحق وقبوله وتأثر المدعو، وصبره على المجادلة والمناقشة، وقد أمر الله جل وعلا موسى وهارون لمّا بعثهما إلى فرعون أن يقولا له قولا لينا وهو أطغى الطغاة، قال الله جل وعلا في أمره لموسى وهارون: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] وقال الله سبحانه في نبيّه محمد عليه الصلاة السلام: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] الآية، فعلم بذلك أن الأسلوب الحكيم والطريق المستقيم في الدعوة أن يكون الداعي حكيما في الدعوة، بصيرا بأسلوبها، لا يعجل ولا يعنف، بل يدعو بالحكمة، وهي المقال الواضح المصيب للحق من الآيات والأحاديث، وبـالموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن هذا هو الأسلوب الذي ينبغي لك في الدعوة إلى الله عز وجل، أمّا الدعوة بالجهل فهذا يضر ولا ينفع، كما يأتي بيان ذلك إن شاء الله عند ذكر أخلاق الدعاة، لأنّ الدعوة مع الجهل بالأدلة، قول على الله بغير علم، وهكذا الدعوة بالعنف والشدّة ضررها أكثر، وإنّما الواجب والمشروع هو الأخذ بما بيّنه الله عز وجل في سورة النحل وهو قوله سبحانه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النحل:125] الآية، إلاّ إذا ظهر من المدعو العناد والظلم، فلا مانع من الإغلاظ عليه كما قال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التحريم:9] الآية، وقال تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46]



وقد شرح رسالة الشيخ ابن باز رحمه الله:"الدعوة إلى الله وأخلاق الدّعاة"، فضيلة الشيخ عبدالله البخاري حفظه الله ورعاه.
فإليكموها:

المصدر

الصور المصغرة للصور المرفقة
اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	الدعوة بالحكمة.png‏
المشاهدات:	1881
الحجـــم:	596.3 كيلوبايت
الرقم:	7248   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	ادع إلى سبيل ربّك.png‏
المشاهدات:	2077
الحجـــم:	205.7 كيلوبايت
الرقم:	7249   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	أخلاق الدعاة.png‏
المشاهدات:	1909
الحجـــم:	490.6 كيلوبايت
الرقم:	7252  
رد مع اقتباس
  #19  
قديم 29 Sep 2019, 09:10 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي





فالله قد هدى أنبياءه ورسله (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، ويهدي مَن يشاء إلى طريق مستقيم.

قال الله تعالى: "وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا".

فقد وصف الله نفسه أنّه هاديٌ إلى الطريق المستقيم، ولولا منّة الله بالهداية، مااهتدى أحد.
سئل الشيخ العثيمين رحمه الله: هل من أسماء الله عز وجل:...ثمّ ذكر السائل: "الهادي".
فأجاب رحمه الله، عن السؤال:"....أمّا: "الهادي" فبعض العلماء أثبته من أسماء الله، وبعضهم قال: بل هذا من أوصاف الله وليس إسماً....." انتهـ. (1)

فـالهادي هو الله، والمعين هو الله، المسدّد إلى الطّريق المستقيم.

قال الله تعالى: "وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25)"

قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية:

{ وقوله : (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ) الآية : لمّا ذكر تعالى الدنيا وسرعة [ عطبها و ] زوالها ، رغّب في الجنّة ودعا إليها ، وسمّاها دار السلام أي : من الآفات ، والنقائص والنكبات ، فقال: ( وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) .
قال أيوب عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قيل لي: لِتنَم عينك ، ولْيَعْقِل قلبك ، ولْتَسْمَع أذنك. فنامت عيني ، وعقل قلبي ، وسمعت أذني . ثم قيل : سيّد بنى دارا، ثم صنع مأدبة، وأرسل داعيًا، فمَن أجاب الدّاعي دخل الدار، وأكل من المأدبة، ورضي عنه السيّد، ومَن لم يجب الدّاعي لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة، ولم يرضَ عنه السيّد. فالله السيد، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة، والدّاعي محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذا حديث مرسل، وقد جاء متّصلا من حديث الليث، عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: "إنّي رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا . فقال: اسمع سمعت أذنك، واعقل عقل قلبك، إنّما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتّخذ دارا، ثم بنى فيها بيتا، ثم جعل فيها مأدبة، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم مَن أجاب الرسول، ومنهم مَن تركه، فالله الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنّة، وأنت يا محمد الرسول، فمَن أجابك دخل الإسلام، ومَن دخل الإسلام دخل الجنّة ، ومَن دخل الجنّة أكل منها" رواه ابن جرير .
وقال قتادة: حدثني خليد العصري، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم طلعت فيه شمسه إلاّ وبجنبتيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلّهم إلاّ الثّقلين: يا أيّها الناس، هلمّوا إلى ربّكم، إنّ ما قلّ وكفى، خير ممّا كثر وألهى". قال: وأنزل ذلك في القرآن، في قوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير .} انتهـ.


قال العلاَّمة ابن قيِّم الجوزية عليه رحمة الله، في كتاب: (إعلام الموقعين عن رب العالمين):

(( الفائدة الحادية والستون:

حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح:

"اللهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيل وَمِيكائِيلَ وَإسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّماوَاتِ وَالأرْض، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة، أَنْتَ تَحْكُمْ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإذْنِكَ، إنّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم"


وكان شيخُنا كثيرَ الدعاء بذلك، وكان إذا اشكلت عليه المسائل يقول: "يا معلم إبراهيم علّمني"، ويكثر الاستغاثة بذلك اقتداءً بمعاذ بن جبل رضى الله عنه حيث قال لمالك بن يخامر السكسكي عند موته، - وقد رآه يبكي - فقال: والله ما أبكي على دنيا كنت أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللّذين كنت أتعلّمهما منك. فقال معاذ بن جبل رضى الله عنه: "إنّ العلم والايمان مكانهما مَن ابتغاهما وجدهما، اطلب العلم عند أربعة عند عويمر أبي الدرداء، وعند عبد الله بن مسعود، وابي موسى الاشعري، وذكر الرابع فإن عجز عنه هؤلاء فسائر أهل الأرض عنه أعجز فعليك بمعلّم إبراهيم صلوات الله عليه".

وكان بعض السلف يقول عند الافتاء: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمً}، وكان مكحول يقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"، وكان مالك يقول: "ما شاء الله لا قوة إلا بالله العلي العظيم"، وكان بعضهم يقول: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِيً}، وكان بعضهم يقول: "اللّهمّ وفّقني واهدني وسدّدني واجمع لي بين الصواب والثواب واعذني من الخطأ والحرمان"، وكان بعضهم يقرأ الفاتحة، وجربنا ذلك نحن، فرأيناه من أقوى أسباب الإصابة.

والمعول في ذلك كلّه على حسن النية، وخلوص القصد، وصدق التوجه في الاستمداد من المعلِّم الأول، معلِّم الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فإنّه لا يرُدُّ من صَدَق في التّوجّه إليه لتبليغ دينه وإرشاد عبيده ونصيحتهم والتخلص من القول عليه بلا علم، فإذا صدقت نيّتُه ورغبته في ذلك لم يعدم أجراً إن فاته أجران والله المستعان.

وسئل الإمام أحمد، فقيل له: "ربّما اشتد علينا الأمر من جهتك فمَن نسأل بعدك؟"، فقال: "سلوا عبد الوهاب الوراق فإنّه أهل أن يوفَّقَ للصواب"، واقتدى الإمام أحمد بقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه: "اقتربوا من افواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون، فإنّهم تُجلَّى لهم أمورٌ صادقة، وذلك لقرب قلوبهم من الله، وكُلَّمَا قَرُبَ القلبُ من الله زالت عنه معارضاتُ السَّوء، وكان نور كشفه للحق أتمَّ وأقوى، وكلما بَعُد عن الله كَثُرَت عليه المعارضات، وضَعُفَ نُور كشفِه للصَّواب، فإنَّ العلم نورٌ يقذفه الله في القلب، يفرق به العبد بين الخطأ والصواب".

وقال مالك للشافعي رضى الله عنهما في أوَّل ما لقيه: "إنّي أرى الله قد ألقى على قلبك نورا، فلا تطفئه بظلمة المعصية

وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} ومن الفرقان: النّور الذي يفرّق به العبد بين الحق والباطل، وكلّما كان قلبه أقرب إلى الله كان فرقانه أتمّ، وبالله التوفيق. )) انتهـ. (2).
-----------------------------
- (1)- مجموع فتاوى و رسائل الشيخ محمد صالح العثيمين المجلد الأول - باب الأسماء والصفات.
- (2)- (المجلد:6، ص:197-199).


الصور المصغرة للصور المرفقة
اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	اهدني وسددني.png‏
المشاهدات:	3208
الحجـــم:	884.0 كيلوبايت
الرقم:	7267  
رد مع اقتباس
  #20  
قديم 03 Oct 2019, 12:49 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي





هداية التّوفيق وعلاقتها بعمل المطيق

إنّ الهداية التي هي توفيق الله، لعبده، حتّى يعرف الحقّ والخير والصّواب، و-يعمل- بمقتضى هذه المعرفة، العمل، الّذي، صلاحه، ينطلق من الإخلاص لله وحده، لايشوبه رياء ولا سمعة، ولا حبّ ظهور، ينال به متاع الدنيا الزّائلة. وأشدّها خسارة: حبّ الرياسة، والسيطرة على رقاب النّاس.

وهداية التّوفيق، هذه، تكمن، أصلاً، في أداتين: "لِمَ"؟ و "كيف"؟.

قال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "المخلص لربّه، كالماشي على الرّمل، لاتسمع خطواته، ولكن ترى آثاره".
تلك الخطوات التي يقدّم فيها علمًا نافعا، يثمر عملاً صالحًا. لايريد به إلاّ الله والدّار الآخرة.
فالّذين يكثرون من ترديد المثل:" نسمع جعجعةً، ولانرى طحينًا"، قد أصاب بعضهم، في القول، حين دعا إلى العمل بـ"لِمَ"، و"كيف". فأحسن الدّعوة إلى الله بالمنهج الربّاني الصّحيح. (1)
ووقع بعضهم، في الجعجعة مع فقدان الطّحين، دون أن يشعروا، لأنّهم، ركّزوا على "كيف"، وأهملوا "لِمَ"، التي تقوم عليها الأعمال الصّالحة في الإسلام. إذ لا تقوم "كيف" على قدم القوّة في إصلاح العمل، حتّى تكون "لِمَ" رأس كلّ عمل، يتقبّله الله من عباده المسلمين.

فـ: "لِمَ"، التي تعني إخلاص العمل لله، هي أساس"كيف" التي تعني، الطّريق الذي يحرّك المسلم، ويقوده إلى تحقيق مبتغاه في سيره إلى الله، الّذي هو متابعة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من السُّنّة الّتي هي وحيٌ يفسّر ما جاء في كلام الله القرآن، الّذي هو الوحي الصّادر من الله، بـشريعةٍ، فيها الخير والهدى للنّاس، والنّجاة.

وقد قيل أنّ من آثار التّابعي الحسن البصري رحمه الله، يقول فيه: "ليس الإيمان بالتّمنّي ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل". إذ الإيمان اعتقاد وقول وعمل، يزيد بالطّاعة وينقص بالمعصية.
وليس هناك، مؤمن حقيقيّ، إلاّ وعنده عمل ولو كان ضئيلاً.

قال الله تعالى: "مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ".

قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير الآية:

{ ثم ذكر صفة الجزاء فقال: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِالقولية والفعلية، الظاهرة والباطنة، المتعلّقة بـحقّ الله أو حقّ خلقه، (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) هذا أقلّ ما يكون من التّضعيف. (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) وهذا من تمام عدله تعالى وإحسانه، وأنّه لا يظلم مثقال ذرّة، ولهذا قال: (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) } انتهـ.

وقال الإمام البغوي رحمه الله في تفسير الآية:
{ قوله - عز وجل - : (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) أي : له عشر حسنات أمثالها ، وقرأ يعقوب " عشر " منون ، " أمثالها " بالرفع ، (وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)

أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ثنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ثنا أبو بكر محمد بن الحسن القطان ثنا محمد بن يوسف القطان ثنا محمد بن يوسف السلمي ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا أحسن أحدكم إسلامه فكلّ حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكلّ سيّئة يعملها تكتب له بمثلها حتّى يلقى الله - عز وجل - ".

وأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ثنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ثنا محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا وكيع ثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يقول الله تبارك وتعالى : مَن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ، ومَن جاء بالسيّئة فجزاء سيّئة بمثلها أو أغفر، ومَن تقرّب منّي شبرًا، تقرّبتُ منه ذراعا، ومَن تقرّب منّي ذراعا، تقرّبتُ منه باعًا، ومَن أتاني يمشي، أتيتُه هرولة ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة " .
قال ابن عمر : الآية في غير الصدّقات من الحسنات ، فأمّا الصدقات تضاعف سبعمائة ضعف .} انتهـ.



وقال تعالى:"إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا".
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير الآية:

{ يخبر تعالى عن كمال عدله وفضله، وتنزّهه عمّا يضاد ذلك من الظلم القليل والكثير، فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) أي: ينقصها من حسنات عبده أو يزيدها في سيّئاته، كما قال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا)، أي: إلى عشرة أمثالها، إلى أكثر من ذلك، بحسب حالها ونفعها وحال صاحبها، إخلاصًا ومحبَّةً وكمالاً.
(وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) أي: زيادة على ثواب العمل بنفسه من التّوفيق لأعمال أخر، وإعطاء البرّ الكثير والخير الغزير.} انتهـ.

قلتُ: الإيمان يذهب دون إخلاص، لكنّه يبقى وإن نقص العمل، و تكون درجة الإيمان بحسب العمل الّذي قام به العامل، يزيدُ بالطّاعة، وينقص بالمعصية، ولا يذهب بالكليّة، كما يزعم الخوارج. ولا يبقى بالكليّة دون عمل، كما يقول المرجئة.
ويعفو الله عن كثير من الأخطاء التي قد تعترض ذلك العامل، الذي أخلص العمل لله، ولم يشرك به أحدًا، وهذا من رحمة الله بالعامل، حتّى، يعلم أنّ الله يجازي المحسن على إحسانه بأضعاف ما عمل، ويعاقب المسيء بما عمل دون مضاعفة، وهذا ما يزيد العبد يقينًا أنّ الله الحكم العدل، هو الجواد، المتفضّل على عباده، بـجزاءٍ، أحسن ممّا عملوا، ويزيدهم من فضله. وينفي الظلم عن نفسه، بمعاقبة المسيء بما عمل فقط.

سبحانك يا ربّ، ماأعظمك!!!
وما أكرمك، حين تعطي المحسن أضعاف ما يبذل!!!
وما أحلمك، حين تمهل المسيء، وتعاقبه بـمثل ما يعمل !!!



ثمّ يقول الحسن البصري رحمه الله: "وإنّ قوما غرّتهم أماني المغفرة حتّى خرجوا من الدّنيا ولا حسنة لهم, قالوا: نحسن الظنّ بالله وكذبوا؛ لو أحسنوا الظنّ به لأحسنوا العمل". انتهـ.

فهؤلاء القوم الذين اتّكلوا على الرّجاء في الصحّة والرّخاء، دون عملٍ بما يستطيعون، وعطاء، في استقامةٍ، على شريعة الله، لَهُم، القوم، الّذين تفتقر نيّاتهم إلى الإخلاص لله، في جميع أحوالهم، وهم يعلمون أنّ الله غفور رحيم، لِمَن عاد إليه وتاب وأناب. ولكنّه، للعصاة والمتمرّدين، شديدُ العقاب، ويعفو، عن كثيرٍ، العزيز الوهّاب، لو آخذ بما كسبوا، ما ترك على ظهر الأرض، من الإنس والجنّ، والدّواب.

تعليق وجمع تفسير في كلّ مشاركة:
أم وحيد بهية صابرين
-----------------------------------------------------
(1) استفدتُ من كلام الشيخ العثيمين رحمه الله، في الأداتين: "لِمَ"، و"كيف" ، قد تكلّم حولها بقوله:"....والإنسان مسئول عن عمله بأداتين من أدوات الاستفهام ((لِمَ)) و ((كيف))

فـلِمَ عملت كذا؟ هذا الإخلاص .

كيف عملت كذا؟ هذا المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم،......" من موضوع: أهمّية دراسة العقيدة وأحكام العذر بالجهل بها.





الصور المصغرة للصور المرفقة
اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	من عمل صالحا.png‏
المشاهدات:	3316
الحجـــم:	268.4 كيلوبايت
الرقم:	7274   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	من عمل صالحا من.jpg‏
المشاهدات:	3503
الحجـــم:	63.9 كيلوبايت
الرقم:	7276   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	8.jpg‏
المشاهدات:	2863
الحجـــم:	129.4 كيلوبايت
الرقم:	7277   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	المخلصُ لربّه.png‏
المشاهدات:	5042
الحجـــم:	337.1 كيلوبايت
الرقم:	7278  
رد مع اقتباس
  #21  
قديم 12 Oct 2019, 09:36 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي





درر وجواهر من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله في "الهداية" ونعمة الله، بها، على عبده :


قال الإمام ابن القيم رحمه الله، في كتاب إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين:

{.....صِحَّةُ الْفَهْمِ وَحُسْنُ الْقَصْدِ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ، بَلْ مَا أُعْطِيَ عَبْدٌ عَطَاءً بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ وَلَا أَجَلُّ مِنْهُمَا، بَلْ هُمَا سَاقَا الْإِسْلَامِ، وَقِيَامُهُ عَلَيْهِمَا، وَبِهِمَا يَأْمَنُ الْعَبْدُ طَرِيقَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الَّذِينَ فَسَدَ قَصْدُهُمْ وَطَرِيقُ الضَّالِّينَ الَّذِينَ فَسَدَتْ فُهُومُهُمْ، وَيَصِيرُ مِنْ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ الَّذِينَ حَسُنَتْ أَفْهَامُهُمْ وَقُصُودُهُمْ، وَهُمْ أَهْلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِينَ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا صِرَاطَهُمْ فِي كُلِّ صَلَاةٍ، وَصِحَّةُ الْفَهْمِ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَيَمُدُّهُ حُسْنَ الْقَصْدِ، وَتَحَرِّي الْحَقَّ، وَتَقْوَى الرَّبِّ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَيَقْطَعُ مَادَّتُهُ اتِّبَاعَ الْهَوَى، وَإِيثَارَ الدُّنْيَا، وَطَلَبَ مَحْمَدَةِ الْخَلْقِ، وَتَرْكَ التَّقْوَى.....} (1)

وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله، أيضًا، في تفسير سورة الفاتحة، الآية: "اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ":
{....ثم تأمَّلَ ضرورته وفاقته إلى قوله: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ الذي مضمونه معرفة الحق وقصده وإرادته والعمل به والثبات عليه والدعوة إليه والصبر على أذى المدعو، فـبـاستكمال هذه المراتب الخمس تستكمل الهداية، وما نقص منها نقص من هدايته.

ولمّا كان العبد مفتقرًا إلى هذه الهداية في ظاهره وباطنه في جميع ما يأتيه ويذره:
-من أمورٍ قد فعلها على غير الهداية علمًا وعملًا وإرادةً، فهو محتاج إلى التوبة منها، وتوبته منها هي الهداية.
-وأمور قد هُدي إلى أصلها دون تفصيلها، فهو محتاج إلى هداية تفاصيلها.

-وأمورٍ قد هُدي إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها، ليتمَّ له الهداية ويُزاد هدى إلى هداه.

-وأمور يحتاج فيها إلى أن يحصل له من الهداية في مستقبلها مثل ما حصل له في ماضيها.

-وأمور يعتقد فيها بخلاف ما هي عليه، فهو محتاج إلى هداية تنسخ من قلبه ذلك الاعتقاد، وتُثبِت فيه ضدَّه.

-وأمور من الهداية هو قادر عليها، ولكن لم يخلق له إرادة فعلها، فهو محتاج في تمام الهداية إلى خلق إرادة يفعلها بها.

-وأمور منها هو غير قادر على فعلها مع كونه مريدًا، فهو محتاج في هدايته إلى إقداره عليها.

-وأمور منها هو غير قادر عليها ولا مريد لها فهو محتاج إلى خلق القدرة والإرادة له لتتمّ له الهداية.

-وأمور هو قائم بها على وجه الهداية اعتقادًا وإرادة وعملًا، فهو محتاج إلى الثّبات عليها واستدامتها.

كانت حاجته إلى سؤال الهداية أعظم الحاجات، وفاقته إليها أشدّ الفاقات، فرضَ عليه الربّ الرحيم هذا السؤال كل يوم وليلة في أفضل أحواله وهي الصلوات الخمس مراتٍ متعددة، لشدّة ضرورته وفاقته إلى هذا المطلوب....} (2)

.......

--------------------------------
(1) وَقَوْلُهُ: " فَافْهَمْ إذَا أَدْلَى إلَيْك " من الجزء1، الصفحة 69 الوارد فيها كلام من:
[كِتَابِ عُمَرَ فِي الْقَضَاءِ وشرحه][خِطَابُ عُمَرَ إلَى أَبِي مُوسَى] باب: صحّة الفهم وحسن القصد.

(2) تفسير ابن قيّم الجوزيّة رحمه الله/ ﴿ٱهْدِنَا ٱلصِّرَ ٰ⁠طَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة ٦]




الصور المصغرة للصور المرفقة
اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	صحة الفهم وحسن القصد.PNG‏
المشاهدات:	1669
الحجـــم:	68.4 كيلوبايت
الرقم:	7553   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	العبد مفتقر إلى الهداية كل حين.jpg‏
المشاهدات:	1644
الحجـــم:	46.6 كيلوبايت
الرقم:	7554  
رد مع اقتباس
  #22  
قديم 15 Oct 2019, 08:04 AM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي





سأتابع إن شاء الله، على فصول، تفسير الإمام ابن القيم رحمه الله للآية: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾، من سورة الفاتحة، وفي كلامه، دَرَرٌ ولَآلِىء، جدير بنا أن نصطادها من عمق العلم والفقه الّذي حباه الله سبحانه، وقد استفدتُ كثيرًا، والحمدلله، من كتب الإمام رحمه الله، ومن كتب شيخه، شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله.

فو الله الذي لاإله إلاّ هو، لهي كتبٌ، تزخر بالفوائد والتّوجيه إلى العلاج الربّاني، للأنفس المريضة، والقلوب العليلة، في تسلسل منطقي، يتقبّله كلّ عقل، وقد دعّمُـ(وا)، كلامهم، رحمـ(هم) الله، بالكتاب والسُّنّة، بفهم سلف الأُمّة، يستأصلُـ(ون) كلّ داء -بإذن الله- أصاب الأُمّة الإسلاميّة، بعد القرون الثلاثة الخيريّة.
أمّةٌ، تخلّت عن الدّواء النّافع، وجرت، تلهث وراء كلّ ناعقٍ، يزعم وصف الشفاء، لمريض، أنهكته الذّنوب، والمعاصي، ونخرت، قلبه، أورام البدع والضّلالات.
لكن، هيهات، هيهات، أن تجد ما يريحها، في غير هدى الله، المتجلّي في كتابه الكريم، وسنّة نبيّه محمد الأمين صلى الله وسلّم، عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، ومَن تبعهم بإحسان، إلى يوم الدّين.

نبدأ، على بركة الله، في تفسير الإمام ابن القيم رحمه الله، للآية:

* (فصل)

قوله: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ يتضمّن طلب الهداية ممّن هو قادر عليها وهي بيده، إن شاء أعطاها عبده، وإن شاء منعه إيّاها.
والهداية: معرفة الحقّ والعمل به. فمَن لم يجعله الله تعالى عالمًا بالحق، عاملا به، لم يكن له سبيل إلى الاهتداء. فهو سبحانه المتفرّد بـالهداية الموجبة للاهتداء، الّتي لا يتخلّف عنها وهي جعل العبد مُرِيدًا للهُدَى، محبًّا له، مؤثرا له، عاملا به. فهذه الهداية ليست إلى ملك مقرّب ولا نبي مرسل وهي الّتي قال سبحانه فيها: ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ مع قوله تعالى: ﴿وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فهذه هداية الدعوة والتّعليم والإرشاد وهي التي هدي بها ثمود، فاستحبّوا العمى عليها. وهي التي قال تعالى فيها: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَداهم حَتّى يُبَيِّنَ لَهم ما يَتَّقُون﴾. فهداهم هدى البيان الذي تقوم به حجّته عليهم ومنعهم الهداية الموجبة للاهتداء التي لا يضلّ مَن هداه بها. فذاك عدله فيهم. وهذا حكمته، فأعطاهم ما تقوم به الحجّة عليهم ومنعهم ما ليسوا له بأهل ولا يليق بهم.

* (فصل)

والهِدايَة هي العلم بِالحَقِّ مَعَ قَصده وإيثاره على غَيره، فـالمهتدي هو العامِل بِالحَقِّ، المريد لَهُ. وهِي أعظم نعْمَة لله على العَبْد. ولِهَذا أمرنا سُبْحانَهُ أن نَسْألهُ هِدايَة الصِّراط المُسْتَقيم كل يَوْم ولَيْلَة في صلواتنا الخمس. فَإنّ العَبْد مُحْتاج إلى معرفَة الحقّ الَّذِي يرضي الله، في كلّ حَرَكَة ظاهرة وباطنة. فَإذا عرفها فَهو مُحْتاج إلى مَن يلهمه قصد الحق، فَيجْعَل إرادَته في قلبه ثمَّ إلى مَن يقدره على فعله، ومَعْلُوم أنّ ما يجهله العَبْد أضعاف أضعاف ما يعلمه، وإن كلّ ما يعلم أنّه حقّ، لا تطاوعه نَفسه على إرادته. ولَو أراده لعجز عَن كثير مِنهُ، فَهو مُضْطَرّ كل وقت إلى هِدايَة تتَعَلَّق بالماضي وبالحال والمستقبل.

أمّا الماضِي فَهو مُحْتاج إلى محاسبة نَفسه عَلَيْهِ، وهل وقع على السّداد، فيشكر الله عَلَيْهِ ويستديمه، أم خرج فِيهِ عَن الحق فيتوب إلى الله تَعالى مِنهُ ويستغفره، ويعزم على أن لا يعود.

وَأمّا الهِدايَة في الحال فَهي مَطْلُوبَة مِنهُ، فَإنَّهُ ابْن وقته، فَيحْتاج أن يعلم حكم ما هو متلبّس بِهِ من الأفعال هَل هو صَواب أم خطأ.؟

وَأمّا المُسْتَقْبل، فحاجته في الهِدايَة أظهر ليَكُون سيره على الطَّرِيق، وإذا كانَ هَذا، شَأْن الهِدايَة علم أنّ العَبْد أشدّ شَيْء اضطرارا إليها، وأن ما يُورِدهُ بعض النّاس من السُّؤال الفاسِد وهِي أنّا إذا كُنّا مهتدين فَأيّ حاجَة بِنا أن نسْأل الله أن يهدينا؟

وَهل هَذا إلاّ تَحْصِيل الحاصِل؟

أفسد سُؤال وأبعده عَن الصَّواب وهو دَلِيل على أنّ صاحبه لم يحصل معنى الهِدايَة ولا أحاط علما بـحقيقتها ومسمّاها. فَلذَلِك تكلّف من تكلّف الجَواب عَنهُ بأنّ المَعْنى: ثبّتنا على الهِدايَة وأدمها لنا.

وَمَن أحاط علما بحقيقة الهِدايَة وحاجة العَبْد إليها ، علم أنّ الَّذِي لم يحصل لَهُ مِنها أضعاف ما حصل لَهُ أنّه كل وقت مُحْتاج إلى هِدايَة متجدّدة، لا سيما والله تَعالى خالق أفعال القُلُوب والجوارح. فَهو كلّ وقت مُحْتاج أن يخلق الله لَهُ هِدايَة خاصَّة، ثمَّ إن لم يصرف عَنهُ المَوانِع والصوارف الَّتِي تمنع مُوجب الهِدايَة وتصرفها، لم ينْتَفع بالهداية ولم يتمّ مقصودها لَهُ، فَإنّ الحكم لا يَكْفِي فِيهِ وجود مقتضيه، بل لا بُد مَعَ ذَلِك من عدم مانعه ومنافيه.

وَمَعْلُوم أنّ وساوس العَبْد وخواطره وشهوات الغي في قلبه ، كلّ مِنها مانع وُصُول أثر الهِدايَة إليه. فَإن لم يصرفها الله عَنهُ لم يهتدِ هدًى تامًا، فـحاجاته إلى هِدايَة الله لَهُ مقرونة بأنفاسه وهِي أعظم حاجَة للْعَبد.

* فَصْلٌ: عَلَّمَ اللَّهُ عِبادَهُ كَيْفِيَّةَ سُؤالِهِ الهِدايَةَ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ

وَلَمّا كانَ سُؤالُ اللَّهِ الهِدايَةَ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ أجَلَّ المَطالِبِ، ونَيْلُهُ أشْرَفَ المَواهِبِ: عَلَّمَ اللَّهُ عِبادَهُ كَيْفِيَّةَ سُؤالِهِ، وأمَرَهم أنْ يُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ حَمْدَهُ والثَّناءَ عَلَيْهِ، وتَمْجِيدَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ عُبُودِيَّتَهم وتَوْحِيدَهُمْ، فَهاتانِ وسِيلَتانِ إلى مَطْلُوبِهِمْ، تَوَسُّلٌ إلَيْهِ بِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ، وتَوَسُّلٌ إلَيْهِ بِعُبُودِيَّتِهِ، وهاتانِ الوَسِيلَتانِ لا يَكادُ يُرَدُّ مَعَهُما الدُّعاءُ، ويُؤَيِّدُهُما الوَسِيلَتانِ المَذْكُورَتانِ في حَدِيثَيِ الِاسْمِ الأعْظَمِ اللَّذَيْنِ رَواهُما ابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِ، والإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ.

-أحَدُهُما: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أبِيهِ قالَ «سَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ رَجُلًا يَدْعُو، ويَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِأنِّي أشْهَدُ أنَّكَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا أنْتَ، الأحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ، ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْوًا أحَدٌ، فَقالَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ سَألَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الأعْظَمِ، الَّذِي إذا دُعِيَ بِهِ أجابَ، وإذا سُئِلَ بِهِ أعْطى» قالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَهَذا تَوَسُّلٌ إلى اللَّهِ بِتَوْحِيدِهِ، وشَهادَةِ الدّاعِي لَهُ بِالوَحْدانِيَّةِ، وثُبُوتِ صِفاتِهِ المَدْلُولِ عَلَيْها بِاسْمِ الصَّمَدِ وهو كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: "العالِمُ الَّذِي كَمُلَ عِلْمُهُ، القادِرُ الَّذِي كَمُلَتْ قُدْرَتُهُ"، وفي رِوايَةٍ عَنْهُ: "هو السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِيهِ جَمِيعُ أنْواعِ السُّؤْدُدِ"، وقالَ أبُو وائِلٍ: "هو السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهى سُؤْدَدُهُ"، وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هو الكامِلُ في جَمِيعِ صِفاتِهِ وأفْعالِهِ وأقْوالِهِ، وبِنَفْيِ التَّشْبِيهِ والتَّمْثِيلِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ " ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ "

وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ عَقِيدَةِ أهْلِ السُّنَّةِ، والتَّوَسُّلُ بِالإيمانِ بِذَلِكَ، والشَّهادَةُ بِهِ هو الِاسْمُ الأعْظَمُ.

والثّانِي: حَدِيثُ أنَسٍ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو: اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِأنَّ لَكَ الحَمْدَ، لا إلَهَ إلّا أنْتَ، المَنّانُ، بَدِيعَ السَّماواتِ والأرْضِ، ذا الجَلالِ والإكْرامِ، يا حَيُّ يا قَيُّومُ، فَقالَ: لَقَدْ سَألَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الأعْظَمِ» فَهَذا تَوَسُّلٌ إلَيْهِ بِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ.

وَقَدْ جَمَعَتِ الفاتِحَةُ الوَسِيلَتَيْنِ، وهُما التَّوَسُّلُ بِالحَمْدِ، والثَّناءِ عَلَيْهِ وتَمْجِيدِهِ، والتَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِعُبُودِيَّتِهِ وتَوْحِيدِهِ، ثُمَّ جاءَ سُؤالُ أهَمِّ المَطالِبِ، وأنْجَحِ الرَّغائِبِ وهو الهِدايَةُ بَعْدَ الوَسِيلَتَيْنِ، فالدّاعِي بِهِ حَقِيقٌ بِالإجابَةِ.

وَنَظِيرُ هَذا دُعاءُ النَّبِيُّ ﷺ الَّذِي كانَ يَدْعُو بِهِ إذا قامَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، رَواهُ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ «اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، أنْتَ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ ومَن فِيهِنَّ، ولَكَ الحَمْدُ، أنْتَ قَيُّومُ السَّماواتِ والأرْضِ ومَن فِيهِنَّ، ولَكَ الحَمْدُ، أنْتَ الحَقُّ، ووَعْدُكَ الحَقُّ، ولِقاؤُكُ حَقٌّ، والجَنَّةُ حَقٌّ، والنّارُ حَقٌّ، والنَّبِيُّونَ حَقٌّ، والسّاعَةُ حَقٌّ، ومُحَمَّدٌ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وبِكَ آمَنتُ، وعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وإلَيْكَ أنَبْتُ، ولَكَ خاصَمْتُ، وإلَيْكَ حاكَمْتُ، فاغْفِرْ لِي ما قَدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسْرَرْتُ وما أعْلَنْتُ، أنْتَ إلَهِي لا إلَهَ إلّا أنْتَ». فَذَكَرَ التَّوَسُّلَ إلَيْهِ بِحَمْدِهِ والثَّناءِ عَلَيْهِ وبِعُبُودِيَّتِهِ لَهُ، ثُمَّ سَألَهُ المَغْفِرَةَ.





الصور المصغرة للصور المرفقة
اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	صراط الذين أنعمت عليهم.jpg‏
المشاهدات:	1743
الحجـــم:	65.0 كيلوبايت
الرقم:	7295   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	قد جاءكم الحق من ربّكم.jpg‏
المشاهدات:	1842
الحجـــم:	24.7 كيلوبايت
الرقم:	7296  
رد مع اقتباس
  #23  
قديم 16 Oct 2019, 08:34 AM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي





* (فصل) (1)

المَوْضِعُ السّادِسُ: مِن قَوْلِهِ ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ فـالهِدايَةُ: هي البَيانُ والدَّلالَةُ، ثُمَّ التَّوْفِيقُ والإلْهامُ، وهو بَعْدَ البَيانِ والدَّلالَةِ، ولا سَبِيلَ إلى البَيانِ والدَّلالَةِ إلّا مِن جِهَةِ الرُّسُلِ، فَإذا حَصَلَ البَيانُ والدَّلالَةُ والَتَّعْرِيفُ، تَرَتَّبَ عَلَيْهِ هِدايَةُ التَّوْفِيقِ، وجَعْلُ الإيمانِ في القَلْبِ، وتَحْبِيبُهُ إلَيْهِ، وتَزْيِينُهُ في القَلْبِ، وجَعْلُهُ مُؤْثِرًا لَهُ، راضِيًا بِهِ، راغِبًا فِيهِ.

وَهُما هِدايَتانِ مُسْتَقِلَّتانِ، لا يَحْصُلُ الفَلاحُ إلّا بِهِما، وهُما مُتَضَمِّنَتانِ تَعْرِيفَ ما لَمْ نَعْلَمْهُ مِنَ الحَقِّ تَفْصِيلًا وإجْمالًا، وإلْهامَنا لَهُ، وجَعْلَنا مُرِيدِينَ لِاتِّباعِهِ ظاهِرًا وباطِنًا، ثُمَّ خَلْقُ القُدْرَةِ لَنا عَلى القِيامِ بِمُوجَبِ الهُدى بِالقَوْلِ والعَمَلِ والعَزْمِ، ثُمَّ إدامَةُ ذَلِكَ لَنا وتَثْبِيتُنا عَلَيْهِ إلى الوَفاةِ.

وَمِن هُنا يُعْلَمُ اضْطِرارُ العَبْدِ إلى سُؤالِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ، وبُطْلانُ قَوْلِ مَن يَقُولُ: إذا كُنّا مُهْتَدِينَ، فَكَيْفَ نَسْألُ الهِدايَةَ؟ فَإنَّ المَجْهُولَ لَنا مِنَ الحَقِّ أضْعافُ المَعْلُومِ، وما لا نُرِيدُ فِعْلَهُ تَهاوُنًا وكَسَلًا مِثْلُ ما نُرِيدُهُ أوْ أكْثَرُ مِنهُ أوْ دُونَهُ، وما لا نَقْدِرُ عَلَيْهِ مِمّا نُرِيدُهُ كَذَلِكَ، وما نَعْرِفُ جُمْلَتَهُ ولا نَهْتَدِي لِتَفاصِيلِهِ فَأمْرٌ يَفُوتُ الحَصْرَ، ونَحْنُ مُحْتاجُونَ إلى الهِدايَةِ التّامَّةِ، فَمَن كَمُلَتْ لَهُ هَذِهِ الأُمُورُ كانَ سُؤالُ الهِدايَةِ لَهُ سُؤالَ التَّثْبِيتِ والوِئامِ.

وَلِلْهِدايَةِ مَرْتَبَةٌ أُخْرى وهي آخِرُ مَراتِبِها وهي الهِدايَةُ يَوْمَ القِيامَةِ إلى طَرِيقِ الجَنَّةِ، وهو الصِّراطُ المُوَصِّلُ إلَيْها، فَمَن هُدِيَ في هَذِهِ الدّارِ إلى صِراطِ اللَّهِ المُسْتَقِيمِ، الَّذِي أرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ، وأنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، هُدِيَ هُناكَ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، المُوَصِّلِ إلى جَنَّتِهِ ودارِ ثَوابِهِ، وعَلى قَدْرِ ثُبُوتِ قَدَمِ العَبْدِ عَلى هَذا الصِّراطِ الَّذِي نَصَبَهُ اللَّهُ لِعِبادِهِ في هَذِهِ الدّارِ يَكُونُ ثُبُوتُ قَدَمِهِ عَلى الصِّراطِ المَنصُوبِ عَلى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وعَلى قَدْرِ سَيْرِهِ عَلى هَذِهِ الصِّراطِ يَكُونُ سَيْرُهُ عَلى ذاكَ الصِّراطِ، فَمِنهم مَن يَمُرُّ كالبَرْقِ، ومِنهم مَن يَمُرُّ كالطَّرْفِ، ومِنهم مَن يَمُرُّ كالرِّيحِ، ومِنهم مَن يَمُرُّ كَشَدِّ الرِّكابِ، ومِنهم مَن يَسْعى سَعْيًا، ومِنهم مَن يَمْشِي مَشْيًا، ومِنهم مَن يَحْبُو حَبْوًا، ومِنهُمُ المَخْدُوشُ المُسَلَّمُ، ومِنهُمُ المُكَرْدَسُ في النّارِ، فَلْيَنْظُرِ العَبْدُ سَيْرَهُ عَلى ذَلِكَ الصِّراطِ مِن سَيْرِهِ عَلى هَذا، حَذْوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ، جَزاءً وِفاقًا ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إلّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النمل: ٩٠].

وَلْيَنْظُرِ الشُّبُهاتِ والشَّهَواتِ الَّتِي تَعُوقُهُ عَنْ سَيْرِهِ عَلى هَذا الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، فَإنَّها الكَلالِيبُ الَّتِي بِجَنَبَتَيْ ذاكَ الصِّراطِ، تَخْطَفُهُ وتَعُوقُهُ عَنِ المُرُورِ عَلَيْهِ، فَإنْ كَثُرَتْ هُنا وقَوِيَتْ فَكَذَلِكَ هي هُناكَ ﴿وَما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦].

فَـسُؤالُ الهِدايَةِ مُتَضَمِّنٌ لِحُصُولِ كُلِّ خَيْرٍ، والسَّلامَةِ مِن كُلِّ شَرٍّ.
--------------------------------------------
(1) مدارج السالكين بين منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين 1-3 ج1





الصور المصغرة للصور المرفقة
اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	يهدي الله لنوره من يشاء.PNG‏
المشاهدات:	1802
الحجـــم:	529.9 كيلوبايت
الرقم:	7297   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	مهما بلغ الإنسان من علم.PNG‏
المشاهدات:	2441
الحجـــم:	778.0 كيلوبايت
الرقم:	7298  
رد مع اقتباس
  #24  
قديم 28 Oct 2019, 07:07 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي





فصل:
حاجَةُ العَبْدِ إلى أنْ يَسْألَ اللَّهَ أنْ يَهْدِيَهُ الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ

وَلا تَتِمُّ لَهُ سَلامَةُ القَلْبِ لِلْعَبْدِ مُطْلَقًا حَتّى يَسْلَمَ مِن خَمْسَةِ أشْياء:

مِن شِرْكٍ يُناقِضُ التَّوْحِيدَ، وبِدْعَةٍ تُخالِفُ السُّنَّةَ، وشَهْوَةٍ تُخالِفُ الأمْرَ، وغَفْلَةٍ تُناقِضُ الذِّكْرَ، وهَوًى يُناقِضُ التَّجْرِيدَ والإخْلاصَ.
وَهَذِهِ الخَمْسَةُ حُجُبٌ عَنِ اللَّهِ، وتَحْتَ كُلِّ واحِدٍ مِنها أنْواعٌ كَثِيرَةٌ، تَتَضَمَّنُ أفْرادًا لا تَنْحَصِرُ.
وَلِذَلِكَ اشْتَدَّتْ حاجَةُ العَبْدِ بَلْ ضَرُورَتُهُ، إلى أنْ يَسْألَ اللَّهَ أنْ يَهْدِيَهُ الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أحْوَجَ مِنهُ إلى هَذِهِ الدَّعْوَةِ، ولَيْسَ شَيْءٌ أنْفَعَ لَهُ مِنها.
فَإنَّ الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ يَتَضَمَّنُ: عُلُومًا، وإرادَةً، وأعْمالًا، وتُرُوكًا ظاهِرَةً وباطِنَةً تَجْرِي عَلَيْهِ كُلَّ وقْتٍ، فَـتَفاصِيلُ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ قَدْ يَعْلَمُها العَبْدُ وقَدْ لا يَعْلَمُها، وقَدْ يَكُونُ ما لا يَعْلَمُهُ أكْثَرَ مِمّا يَعْلَمُهُ، وما يَعْلَمُهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وقَدْ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وهو الصِّراطُ المُسْتَقِيمُ وإنْ عَجَزَ عَنْهُ، وما يَقْدِرُ عَلَيْهِ، قَدْ تُرِيدُهُ نَفْسُهُ وقَدْ لا تُرِيدُهُ كَسَلًا وتَهاوُنًا، أوْ لِقِيامِ مانِعٍ وغَيْرِ ذَلِكَ، وما تُرِيدُهُ قَدْ يَفْعَلُهُ وقَدْ لا يَفْعَلُهُ، وما يَفْعَلُهُ قَدْ يَقُومُ فِيهِ بِشُرُوطِ الإخْلاصِ وقَدْ لا يَقُومُ، وما يَقُومُ فِيهِ بِشُرُوطِ الإخْلاصِ قَدْ يَقُومُ فِيهِ بِكَمالِ المُتابَعَةِ وقَدْ لا يَقُومُ، وما يَقُومُ فِيهِ بِالمُتابَعَةِ قَدْ يَثْبُتُ عَلَيْهِ وقَدْ يُصْرَفُ قَلْبُهُ عَنْهُ، وهَذا كُلُّهُ واقِعٌ سارٍ في الخَلْقِ، فَـمُسْتَقِلٌّ ومُسْتَكْثِرٌ.
وَلَيْسَ في طِباعِ العَبْدِ الهِدايَةُ إلى ذَلِكَ، بَلْ مَتى وُكِلَ إلى طِباعِهِ حِيلَ بَيْنَهُ وبَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وهَذا هو الإرْكاسُ الَّذِي أرْكَسَ اللَّهُ بِهِ المُنافِقِينَ بِذُنُوبِهِمْ، فَأعادَهم إلى طِباعِهِمْ وما خُلِقَتْ عَلَيْهِ نُفُوسُهم مِنَ الجَهْلِ والظُّلْمِ، والرَّبُّ تَبارَكَ وتَعالى عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ في قَضائِهِ وقَدَرِهِ، ونَهْيِهِ وأمْرِهِ، فَيَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بِفَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ، وجَعْلِهِ الهِدايَةَ حَيْثُ تَصْلُحُ، ويَصْرِفُ مَن يَشاءُ عَنْ صِراطِهِ المُسْتَقِيمِ بِعَدْلِهِ وحِكْمَتِهِ، لِعَدَمِ صَلاحِيَةِ المَحَلِّ، وذَلِكَ مُوجِبُ صِراطِهِ المُسْتَقِيمِ الَّذِي هو عَلَيْهِ، فَإذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ نَصَبَ لِخَلْقِهِ صِراطًا مُسْتَقِيمًا يُوصِلُهم إلَيْهِ، فَهو عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَنَصَبَ لِعِبادِهِ مِن أمْرِهِ صِراطًا مُسْتَقِيمًا دَعاهم جَمِيعًا إلَيْهِ حُجَّةً مِنهُ وعَدْلًا، وهَدى مَن يَشاءُ مِنهم إلى سُلُوكِهِ نِعْمَةً مِنهُ وفَضْلًا، ولَمْ يَخْرُجْ بِهَذا العَدْلِ وهَذا الفَضْلِ عَنْ صِراطِهِ المُسْتَقِيمِ الَّذِي هو عَلَيْهِ، فَإذا كانَ يَوْمُ لِقائِهِ نَصَبَ لِخَلْقِهِ صِراطًا مُسْتَقِيمًا يُوَصِّلُهم إلى جَنَّتِهِ، ثُمَّ صَرَفَ عَنْهُ مَن صَرَفَ عَنْهُ في الدُّنْيا، وأقامَ عَلَيْهِ مَن أقامَهُ عَلَيْهِ في الدُّنْيا، نُورًا ظاهِرًا يَسْعى بَيْنَ أيْدِيهِمْ وبِأيْمانِهِمْ في ظُلْمَةِ الحَشْرِ، وحَفِظَ عَلَيْهِمْ نُورَهم حَتّى قَطَعُوهُ كَما حَفِظَ عَلَيْهِمُ الإيمانَ حَتّى لَقَوْهُ، وأطْفَأ نُورَ المُنافِقِينَ أحْوَجَ ما كانُوا إلَيْهِ، كَما أطْفَأهُ مِن قُلُوبِهِمْ في الدُّنْيا.
وَأقامَ أعْمالَ العُصاةِ بِجَنْبَتَيِ الصِّراطِ كَلالِيبَ وحَسَكًا تَخْطِفُهم كَما خَطَفَتْهم في الدُّنْيا عَنِ الِاسْتِقامَةِ عَلَيْهِ، وجَعَلَ قُوَّةَ سَيْرِهِمْ وسُرْعَتَهم عَلى قَدْرِ قُوَّةِ سَيْرِهِمْ وسُرْعَتِهِمْ في الدُّنْيا، ونَصَبَ لِلْمُؤْمِنِينَ حَوْضًا يَشْرَبُونَ مِنهُ بِإزاءِ شُرْبِهِمْ مِن شَرْعِهِ في الدُّنْيا، وحَرَمَ مِنَ الشُّرْبِ مِنهُ هُناكَ مَن حُرِمَ الشُّرْبَ مِن شَرْعِهِ ودِينِهِ هاهُنا.
فانَظُرْ إلى الآخِرَةِ كَأنَّها رَأْيُ عَيْنٍ، وتَأمَّلْ حِكْمَةَ اللَّهِ سُبْحانَهُ في الدّارَيْنِ، تَعْلَمْ حِينَئِذٍ عِلْمًا يَقِينًا لا شَكَّ فِيهِ: أنَّ الدُّنْيا مَزْرَعَةُ الآخِرَةِ وعُنْوانُها وأُنْمُوذَجُها، وأنَّ مَنازِلَ النّاسِ فِيها مِنَ السَّعادَةِ والشَّقاوَةِ عَلى حَسَبِ مَنازِلِهِمْ في هَذِهِ الدّارِ في الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ وضِدِّهِما، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَمِن أعْظَمِ عُقُوباتِ الذُّنُوبِ - الخُرُوجُ عَنِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ.

المصدر:
كتاب: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي المسمى الداء والدواء (فصل:محاسبة النفس/النقطة رقم 9 بعنوان: الصراط المستقيم.






الصور المصغرة للصور المرفقة
اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	وليعلم الذين أوتوا العلم.png‏
المشاهدات:	1711
الحجـــم:	196.9 كيلوبايت
الرقم:	7320   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	القلب السليم.png‏
المشاهدات:	2010
الحجـــم:	357.4 كيلوبايت
الرقم:	7321   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	يامقلب القلوب.jpg‏
المشاهدات:	1941
الحجـــم:	44.9 كيلوبايت
الرقم:	7322  
رد مع اقتباس
  #25  
قديم 02 Nov 2019, 07:52 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي





قال الله تعالى: "وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَىٰ صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)"

قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير الآية:
قوله: ( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ) يقول تعالى ذكره: وهداهم ربّهم في الدّنيا إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ابن زيد، في قوله: ( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ) قال: هدوا إلى الكلام الطيب: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله . قال الله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ .
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: ( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ) قال: أُلْهِمُوا.
وقوله: ( وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) يقول جلّ ثناؤه: وهداهم ربّهم في الدنيا إلى طريق الربّ الحميد، وطريقه: دينه، دين الإسلام الّذي شرعه لخلقه وأمرهم أن يسلكوه. والحميد: فعيل، صرّف من مفعول إليه، ومعناه: أنّه محمود عند أوليائه من خلقه، ثم صرّف من محمود إلى حميد.

وقال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير الآية:
{ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ } الذي أفضله وأطيبه كلمة الإخلاص، ثم سائر الأقوال الطيبة التي فيها ذكر الله، أو إحسان إلى عباد الله، { وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } أي: الصراط المحمود، وذلك، لأنّ جميع الشرع كلّه محتوٍ على الحكمة والحمد، وحسن المأمور به، وقبح المنهي عنه، وهو الدّين الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، المشتمل على العلم النافع والعمل الصالح.
أو: وهدوا إلى صراط الله الحميد، لأنّ الله كثيرا ما يضيف الصراط إليه، لأنّه يوصل صاحبه إلى الله، وفي ذكر { الحميد } هنا، ليبين أنّهم نالوا الهداية بحمد ربّهم ومنّته عليهم، ولهذا يقولون في الجنّة: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } واعترض تعالى بين هذه الآيات بذكر سجود المخلوقات له، جميع مَن في السماوات والأرض، والشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والشجر، والدواب، الذي يشمل الحيوانات كلّها، وكثير من الناس، وهم المؤمنون، { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } أي: وجب وكتب، لكفره وعدم إيمانه، فلم يوفّقه للإيمان، لأنّ الله أهانه، { وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ } ولا راد لما أراد، ولا معارض لمشيئته، فإذا كانت المخلوقات كلّها ساجدة لربّها، خاضعة لعظمته، مستكينة لعزّته، عانية لسلطانه، دلّ على أنّه وحده، الربّ المعبود، والملك المحمود، وأن مَن عدل عنه إلى عبادة سواه، فقد ضلّ ضلالا بعيدا، وخسر خسرانا مبينا.} انتهـ.



فَمن هم الّذين تسهل عليهم الهداية، ولِمَن يُعطى الإلهام بالسّداد والرّشاد وحسن الانقياد؟

قال الله تعالى: "وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ۗ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101)"

قال الإمام الطبري رحمه الله مفسّرا للآية بالتّالي:
القول في تأويل قوله تعالى : وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: " وكيف تكفرون "، أيها المؤمنون بعد إيمانكم بالله وبرسوله، فترتدّوا على أعقابكم =" وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ "، يعني: حججُ الله عليكم التي أنـزلها في كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ="وَفِيكُمْ رَسُولُهُ" حجّةٌ أخرَى عليكم لله، مع آي كتابه، يدعوكم جميع ذلك إلى الحقّ، ويبصِّركم الهدَى والرشاد، وينهاكم عن الغيّ والضلال؟. يقول لهم تعالى ذكره: فما وجه عُذْركم عند ربّكم في جحودكم نبوَّة نبيِّكم، وارتدادكم على أعقابكم، ورجوعكم إلى أمر جاهليّتكم، إنْ أنتم راجعتم ذلك وكفرتم، وفيه هذه الحجج الواضحة والآياتُ البيّنة على خطأ فعلكم ذلك إن فعلتموه؟ كما:-
7533- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ" الآية، علَمان بيِّنان: وُجْدان نبي الله صلى الله عليه وسلم، وكتابُ الله. فأمّا نبيّ الله فمضى صلى الله عليه وسلم. وأمّا كتاب الله، فأبقاه الله بين أظهُركم رحمة من الله ونعمة، فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
* * *
وأمّا قوله: "وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"، فإنّه يعني: ومَن يتعلّق بأسباب الله، ويتمسَّك بدينه وطاعته =" فقد هُدِيَ "، يقول: فقد وُفِّق لطريق واضح، ومحجةٍ مستقيمة غير معوجَّة، فيستقيم به إلى رضى الله، وإلى النّجاة من عذاب الله والفوز بجنّته، كما:-
7534- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: " وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ " قال: يؤمن بالله.
* * *
وأصل " العَصْم " المنع، فكل مانع شيئًا فهو " عاصمه "، والممتنع به " معتصمٌ به "، ومنه قول الفرزدق:
أَنَــا ابــنُ العَـاصِمينَ بَنِـي تَمِيـم
إذَا مَــا أَعْظَــمُ الحَدَثَــانِ نَابَــا (1)
ولذلك قيل للحبل " عِصام "، وللسبب الذي يتسبب به الرجل إلى حاجته " عِصام "، ومنه قول الأعشى:
إلَــى المَــرْءِ قَيْسٍ أُطِيـلُ السُّـرَى
وَآخُــذُ مِــنْ كُــلِّ حَـيٍّ عُصـمْ
(2)
يعني بـ " العُصم " الأسباب، أسبابَ الذمة والأمان. يقال منه: " اعتصمت بحبل من فلان " و " اعتصمتَ حبلا منه " و " اعتصمت به واعتصمته "، وأفصح اللغتين إدخال " الباء "، كما قال عز وجل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ، وقد جاء: " اعتصمته "، كما الشاعر: (3)
إذَا أَنْــتَ جَــازَيْتَ الإخـاءَ بِمِثْلِـهِ
وَآسَــيْتَنِي, ثــمَّ اعْتَصَمْـتَ حِبَالِيَـا
(4)
فقال: " اعتصمت حباليا "، ولم يدخل " الباء ". وذلك نظير قولهم: " تناولت الخِطام، وتناولت بالخطام "، و " تعلَّقت به وتعلقته "، كما قال الشاعر: (5)
تَعَلَّقَــتْ هِنْــدًا ناشِـئًا ذَاتَ مِـئْزَرٍ
وَأَنْـتَ وَقَـدَ قَـارَفْتَ, لم تَدْرِ مَا الحِلْمُ
(6)
* * *
وقد بينت معنى " الهدى "،" والصراط"، وأنّه معنيّ به الإسلام، فيما مضى قبل بشواهده، فكرهنا إعادته في هذا الموضع. (7)
* * *
وقد ذكر أنّ الّذي نـزل في سبب تَحاوُز القبيلين (8) الأوس والخزرج، كان منْ قوله: (9) "وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ ".
*ذكر من قال ذلك:
7535- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حسن بن عطية قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن الأغرّ بن الصبّاح، عن خليفة بن حُصَين، عن أبي نصر، عن ابن عباس قال: كانت الأوس والخزرج بينهم حرب في الجاهلية كل شهر، (10) فبينما هم جلوس إذْ ذكروا ما كان بينهم حتى غضبوا، فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح، فنـزلت هذه الآية: "وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ" إلى آخر الآيتين، "وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً" إلى آخر الآية. (11)
----------------------
الهوامش :
(1) ديوانه: 115 ، والنقائض: 451 ، مطلع قصيدة ينقض بها هجاء جرير.
(2) ديوانه: 29 من قصيدته في ثنائه على صاحبه قيس بن معد يكرب الكندي ، وقد مضت منها أبيات في 1 : 242 / 5 : 422. والسرى: سير الليل كله. والعصم جمع عصام ، وهكذا ضبط في شعره ، وجائز أن يضبط"عصم" (بكسر العين وفتح الصاد) جمع"عصمة" (بكسر العين وسكون الصاد) وكلاهما مجاز في معنى العهود. وقوله: "وآخذ من كل حي عصم" ، يعني أن سطوة قيس في الأحياء ، ورهبته في صدورهم ، تجعل له عند كل حي عهدًا يأخذه ليجوز به أرضهم آمنًا ، لا يمسه أحد ولا ينال منه. وسيأتي مثل هذا المعنى في بيت آخر يأتي بعد قليل ص : 70 ، تعليق : 3 .
(3) لم أعرف قائله.
(4) معاني القرآن للفراء 1 : 228 ، وضبطه"ثم" هكذا ، وبقى جواب"إذا" في بيت بعده فيما أرجح. ولو قرأته"ثم" بفتح الثاء ، أي هناك ، كان جواب"إذا" ، "اعتصمت حباليا". وتم البيت ، وانفرد عما بعده. ولكني لا أستطيع أن أرجح هذا حتى أعرف بقية الأبيات.
(5) لم أعرف قائله.
(6) معاني القرآن 1 : 228. يقال: "غلام ناشئ ، وجارية ناشئة" ، ولكنه وصف"هندًا" على التذكير فقال: "ناشئًا" ، وقد زعم الليث أنه لم يسمع هذا النعت في الجارية ، فكأن الشاعر وصفها به ، وأمره على التذكير. وقوله: "وقد قارفت" ، أي قاربت ودنوت من الكبر ، والجملة حال معترضة. يقول: تعلقها صغيرة لم تحجب بعد ، وبلغت ما بلغت ، ولم تدر بعد ما الحلم ، وهو الأناة والعقل ومفارقة الصبا وطيش الشباب.
(7) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف 1 : 166 - 170 ، وفهارس اللغة / وانظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 1 : 170 - 177 وفهارس اللغة.
(8) في المطبوعة: "تحاور" ، وقد أسلفت قراءتي لهذا الحرف وبيانه فيما سلف: ص55 تعليق: 6 ، وفي المطبوعة: "القبيلتين" بالتاء ، وأثبت ما في المخطوطة.
(9) في المطبوعة والمخطوطة: "كان منه قوله" ، وهو خطأ ، والصواب ما في المخطوطة. ويعني أن الآيات التي نزلت في شأن تحاوز الأوس والخزرج واقتتالهما ، كان من أول هذه الآية ، لا الآيتين قبلها.
(10) قوله: "كل شهر" ، هكذا جاء في المخطوطة واضحا ، والذي في الدر المنثور 2 : 58: "كانت الأوس والخزرج في الجاهلية بينهم شر" ، وفي القرطبي 4 : 156: "كان بين الأوس والخزرج قتال وشر في الجاهلية" ، ويخشى أن يكون ما في المخطوطة: "كل شهر" ، تصحيف"وكل شر" ، ولكن ليس هذا موضع الرأي ، فإن الذين نقلوا هذا الأثر فيما بين يدي ، لم ينقلوه بإسناده هذا ، ولا بتمام لفظه كما هنا.
(11) الأثر: 7535-"حسن بن عطية بن نجيح القرشي" ، سلفت ترجمته في رقم: 4962. و"قيس بن الربيع الأسدي" أبو محمد الكوفي. روي عن أبي إسحاق السبيعي ، والأغر بن الصباح ، وسماك بن حرب وغيرهم. روى عنه الثوري ، وهو من أقرانه ، وشعبة ، ومات قبله ، وعبد الرزاق ووكيع. تكلموا فيه ، وثقه الثوري وشعبة وغيرهما. وضعفه آخرون وقالوا: "ليس بقوي ، يكتب حديثه ولا يحتج به". مترجم في التهذيب. و"الأغر بن الصباح التميمي المنقري". روى عن خليفة بن حصين ، روى عنه الثوري وقيس بن الربيع ، وأبو شبيبة. قال ابن معين والنسائي: "ثقة" ، وقال أبو حاتم"صالح" مترجم في التهذيب. و"خليفة بن حصين بن قيس بن عاصم التميمي المنقري" روى عن أبيه وجده ، وعلي بن أبي طالب ، وزيد بن أرقم ، وأبي نصر الأسدي. وروى عنه الأغر بن الصباح. ثقة. مترجم في التهذيب. و"أبو نصر الأسدي". روي عن ابن عباس ، وعنه خليفة بن حصين. قال البخاري: "لم يعرف سماعه من ابن عباس" ، وقال أبو زرعة: "أبو نصر الأسدي الذي يروي عن ابن عباس: ثقة". مترجم في التهذيب ، والكنى للبخاري: 76 ، وأشار إلى هذا الأثر ، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 448.}. انتهـ.



وقال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير الآية:
{.... ثم ذكر تعالى السبب الأعظم والموجب الأكبر لثبات المؤمنين على إيمانهم، وعدم تزلزلهم عن إيقانهم، وأنّ ذلك من أبعد الأشياء، فقال: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} أي: الرسول بين أظهركم يتلو عليكم آيات ربّكم كلّ وقت، وهي الآيات البيّنات التي توجب القطع بموجبها والجزم بمقتضاها وعدم الشكّ فيما دلّت عليه بوجه من الوجوه، خصوصا والمبين لها أفضل الخلق وأعلمهم وأفصحهم وأنصحهم وأرأفهم بالمؤمنين، الحريص على هداية الخلق وإرشادهم بكلّ طريق يقدر عليه، فصلوات الله وسلامه عليه، فلقد نصح وبلغ البلاغ المبين، فلم يبق في نفوس القائلين مقالا ولم يترك لجائل في طلب الخير مجالا، ثم أخبر أنّ مَن اعتصم به فتوكّل عليه وامتنع بقوّته ورحمته عن كل شرّ، واستعان به على كل خير {فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} موصل له إلى غاية المرغوب، لأنّه جمع بين اتّباع الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله وبين الاعتصام بالله.} انتهـ.



الصور المصغرة للصور المرفقة
اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	ومن يعتصم بالله.png‏
المشاهدات:	1597
الحجـــم:	161.2 كيلوبايت
الرقم:	7330   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	وهدوا إلى الطيب من القول.png‏
المشاهدات:	1790
الحجـــم:	860.1 كيلوبايت
الرقم:	7331   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	وكيف تكفرون بالله.png‏
المشاهدات:	1783
الحجـــم:	898.2 كيلوبايت
الرقم:	7332   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	ربّنا لاتزغ قلوبنا.png‏
المشاهدات:	1753
الحجـــم:	269.0 كيلوبايت
الرقم:	7333  
رد مع اقتباس
  #26  
قديم 28 Nov 2019, 06:49 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي



أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم





يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير الآية: "وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)"

{ ولمّا بيّن كثيرا من الأوامر الكبار، والشرائع المهمّة، أشار إليها وإلى ما هو أعمّ منها فقال: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) أي: هذه الأحكام وما أشبهها، ممّا بيّنه الله في كتابه، ووضّحه لعباده، صراط الله الموصل إليه، وإلى دار كرامته، المعتدل السهل المختصر. (فَاتَّبِعُوهُ) لتنالوا الفوز والفلاح، وتدركوا الآمال والأفراح. (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) أي: الطرق المخالفة لهذا الطريق (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أي: تضلّكم عنه وتفرّقكم يمينا وشمالا، فإذا ضللتم عن الصراط المستقيم، فليس ثمّ إلا طرق توصل إلى الجحيم. (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فإنّكم إذا قمتم بما بيّنه الله لكم علما وعملا صرتم من المتّقين، وعباد الله المفلحين، ووحّد الصراط وأضافه إليه لأنّه سبيل واحد موصل إليه، والله هو المعين للسالكين على سلوكه.}انتهـ.


(من كتاب القول المفيد: جـ1، صـ39 )

ويقول الامام البغوي رحمه الله في تفسير الآية: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153))

{ (وَأَنَّ هَٰذَا) أي : هذا الذي وصّيتكم به في هاتين الآيتين (صِرَاطِي) طريقي وديني ، (مُسْتَقِيمًا) مستويا قويما ، (فَاتَّبِعُوهُ) قرأ حمزة والكسائي " وإن " بكسر الألف على الاستئناف ، وقرأ الآخرون : بفتح الألف ، قال الفراء : والمعنى وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيما . وقرأ ابن عامر ويعقوب : بسكون النون . (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) أي : الطرق المختلفة التي عدا هذا الطريق ، مثل اليهودية والنصرانية وسائر الملل ، وقيل : الأهواء والبدع ، (فَتَفَرَّقَ) فتميل ، (بِكُمْ) وتشتت ، (عَن سَبِيلِهِ) عن طريقه ودينه الذي ارتضى ، وبه أوصى ، (ذَٰلِكُمْ) الذي ذكرت ، (وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي المعروف بأبي بكر بن أبي الهيثم أنا الحاكم أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي ثنا أبو يزيد محمد بن يحيى بن خالد ثنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال : خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا ثم قال : " هذا سبيل الله ، ثم خطّ خطوطا عن يمينه وعن شماله ، وقال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه "وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ...) الآية .





الصور المصغرة للصور المرفقة
اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	قل تعالوا أتلو عليكم.png‏
المشاهدات:	1506
الحجـــم:	36.9 كيلوبايت
الرقم:	7556   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	ولاتقربوا مال اليتيم.png‏
المشاهدات:	1576
الحجـــم:	73.9 كيلوبايت
الرقم:	7557   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	قوله السُّبُل.png‏
المشاهدات:	1549
الحجـــم:	283.2 كيلوبايت
الرقم:	7558   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	الهداية التامة.png‏
المشاهدات:	2044
الحجـــم:	277.7 كيلوبايت
الرقم:	7559  
رد مع اقتباس
  #27  
قديم 30 Nov 2019, 12:42 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي





معنى حديث: "أنّ الرسول ﷺ خطّ خطًا..."

سؤال يجيب عنه فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله

السؤال:
سمعت حديثًا عن رسول الله ﷺ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خطّ لنا رسول الله ﷺ خطاً، وقال: (هذا طريق الحقّ)، وخطّ خطوطًا عديدة، وقال: (هذه السُّبُل، على رأس كل منها شيطان يزيّنها لسالكيها) هذا معنى ما سمعت، أرجو أن توضّحوا لي معنى ذلكم الحديث؟ جزاكم الله خيرًا.

الجواب:
هذا الحديث صحيح رواه الدارمي وغيره وهو من تفسير قوله جل وعلا: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153] وفي الحديث: أنّ الرسول ﷺ خط خطًا مستقيمًا فقال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطًا عن يمينه وشماله فقال: هذه السُّبُل، وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه ثم قرأ الآية: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام:153] الآية.

والمعنى: أنّ صراط الله طريق واضح، يوصل مَن سلكه إلى الجنّة والكرامة. أمّا الطُّرُق التي عن يمينه وشماله فهي البدع والشُّبُهات والشَّهوات المحرّمة التي يسلكها أكثر الخلق، فهي توصل مَن سلكها إلى النار نعوذ بالله من ذلك.

فالواجب على كلّ مسلم أن يسلك الطريق السوي، وهو صراط الله الذي دلّ عليه كتاب الله وسُنَّة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، عن إخلاص لله، وعن إيمان به ومحبّة له عزّوجلّ، وعن موافقة لما شرعه رسوله عليه الصلاة والسلام، هذا هو صراط الله، وهذا هو سبيله.

أمّا ما خالف ذلك من المعاصي والبدع فهي السُّبُل التي نهى عنها الربّ عزّ وجلّ وحذّر منها. نعم.
المقدم: جزاكم الله خيرًا.

المصدر



يقول الشيخ السعدي رحمه اله في تفسير الآية: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا" (174)
{ يمتنّ تعالى على سائر الناس بما أوصل إليهم من البراهين القاطعة والأنوار الساطعة، ويقيم عليهم الحجّة، ويوضّح لهم المحجّة، فقال: (يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِن رَّبِّكُمْ) أي: حجج قاطعة على الحق تبينه وتوضحه، وتبين ضده. وهذا يشمل الأدلة العقلية والنقلية، الآيات الأفقية والنفسية (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ)
وفي قوله: (مِن رَّبِّكُمْ) ما يدلّ على شرف هذا البرهان وعظمته، حيث كان من ربّكم الذي ربّاكم التربية الدينية والدنيوية، فمن تربيته لكم التي يحمد عليها ويشكر، أن أوصل إليكم البيّنات، ليهديكم بها إلى الصراط المستقيم، والوصول إلى جنّات النّعيم. (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) وهو هذا القرآن العظيم، الذي قد اشتمل على علوم الأوّلين والآخرين والأخبار الصادقة النافعة، والأمر بكل عدل وإحسان وخير، والنّهي عن كل ظلم وشر، فالناس في ظلمة، إن لم يستضيئوا بأنواره، وفي شقاء عظيم إن لم يقتبسوا من خيره.} انتهـ.

ويقول الإمام الطبري رحمه الله في تفسير الآية:

{ القول في تأويل قوله : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) (174)
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ"، يا أيّها الناس من جميع أصناف الملل، يهودِها ونصاراها ومشركيها، الذين قصّ الله جلّ ثناؤه قَصَصهم في هذه السورة=
"قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ"، يقول: قد جاءتكم حجّة من الله تبرهن لكم بُطُولَ ما أنتم عليه مقيمون من أديانكم ومللكم، (22) وهو محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جعله الله عليكم حجّة قطع بها عذركم، وأبلغ إليكم في المعذرة بإرساله إليكم، مع تعريفه إيّاكم صحّة نبوّته، وتحقيق رسالته=
"وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا"، يقول: وأنـزلنا إليكم معه "نُورًا مُبِينًا"، يعني: يبيّن لكم المحجَّة الواضحة، والسُّبُل الهادية إلى ما فيه لكم النّجاة من عذاب الله وأليم عقابه، إن سلكتموها واستنرتم بضوئه. (23)
وذلك "النّور المبين"، هو القرآن الذي أنـزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم.} انتهـ.




الصور المصغرة للصور المرفقة
اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	هذا صراطي مستقيم.png‏
المشاهدات:	1833
الحجـــم:	438.7 كيلوبايت
الرقم:	7565   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	خط الرسول خطا.png‏
المشاهدات:	2017
الحجـــم:	364.1 كيلوبايت
الرقم:	7566   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	قد جاءكم برهان من ربكم.png‏
المشاهدات:	1761
الحجـــم:	657.8 كيلوبايت
الرقم:	7567   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	المصحف الشريف.jpg‏
المشاهدات:	1543
الحجـــم:	32.5 كيلوبايت
الرقم:	7569  
رد مع اقتباس
  #28  
قديم 16 Dec 2019, 04:03 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي





إنّ الله سبحانه، من صفاته العدل، ويحبّ العدل، وقد قسّم النّاس من حيث خضوعهم إلى شريعته، إلى قسم مؤمن بدينه وآياته، وقسم كافر. فأوجب الجزاء لكلا الطرفين، فـأثاب القسم المؤمن فأجزل في المثوبة، وعاقب القسم الكافر وحرمه مايكون سببا في سعادته، وليس هذا إلاّ لجحودهم وكفرهم وعنادهم. وأعظم الحرمان، أن يسلب الله سبحانه، الإنسان، الهداية والتوفيق إلى الأعمال الصّالحة التي قد تكون سبب النّجاة، يوم لاينفعُ مالٌ ولابنون إلاّ مَن أتى اللهَ بقلبٍ سليم.

فبعد أن ذكر الله عزّ وجلّ في الآية السّابقة: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا"، أنّه أنذر النّاس وأراهم كيف يسلكون الطّريق القويم، في كتابه الحكيم، ونبّههم وبيّن لهم ما يمكن أن ينالوه إن استجابوا للرّسول الكريم، في قوله تعالى:"فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (175)"، تشجيعًا وتثبيتًا لهم، حتّى لايتردّدوا في سلوك الطّريق المستقيم. لأنّ الإنسانَ يحبّ الإحسانَ، ويحبّ كلّ ما يجلب له الرّاحة والسّعادَة والطّمأنينَة. ولكنّ إدراك السّعادة الحقيقية يتفاوت بتفاوت مستوى فقه الأمر الذي يعين على بلوغها.

قال الشيخ السّعدي مفسّرا للآية: "فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا"

{ انقسم الناس -بحسب الإيمان بالقرآن والانتفاع به- قسمين: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ } أي: اعترفوا بوجوده واتّصافه بكل وصف كامل، وتنزيهه من كل نقص وعيب. { وَاعْتَصَمُــوا بِـهِ } أي: لجأوا إلى الله واعتمدوا عليه وتبرّأوا من حولهم وقوّتهم واستعانوا بربّهم. { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ } أي: فسيتغمّدهم بـالرّحمة الخاصّة، فيوفّقهم للخيرات ويجزل لهم المثوبات، ويدفع عنهم البليات والمكروهات.
{ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } أي: يوفّقهم للعلم والعمل، معرفة الحق والعمل به. أي: ومَن لم يؤمن بالله ويعتصم به ويتمسّك بكتابه، منعهم من رحمته، وحرمهم من فضله، وخلى بينهم وبين أنفسهم، فلم يهتدوا، بل ضلّوا ضلالا مبينا، عقوبة لهم على تركهم الإيمان فحصلت لهم الخيبة والحرمان، نسأله تعالى العفو والعافية والمعافاة.} انتهـ.

والإمام ابن كثير رحمه الله يفسّر الآية: "فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (175)"

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) أي : جمعوا بين مقامي العبادة والتّوكّل على الله في جميع أمورهم . وقال ابن جريج : آمنوا بالله واعتصموا بالقرآن . رواه ابن جرير .
(فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ) أي : يرحمهم فيدخلهم الجنّة ويزيدهم ثوابا ومضاعفة ورفعا في درجاتهم ، من فضله عليهم وإحسانه إليهم ، (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) أي : طريقا واضحا قصدا قواما لا اعوجاج فيه ولا انحراف.
وهذه صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة ، فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة وطريق السلامة في جميع الاعتقادات والعمليات ، وفي الآخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى روضات الجنات. وفي حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال : "القرآن صراط الله المستقيم وحبل الله المتين" . وقد تقدم الحديث بتمامه في أول التفسير ولله الحمد والمنة.} اانتهـ.



فالله سبحانه يهدي مَن اتّبع طريقه، وخضع لكتابه وسنن أنبيائه . أمّا المعرضون عن آياته، المكذّبون لرسله، فليس لهم جزاء سوى الطّمس على البصيرة، لأنّهم استحبّوا العمى على الهدى، فضلّوا وأضلّوا.
قال الله تعالى: "سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)"

قال الإمام البغوي رحمه الله في تفسير الآية:

{ قوله تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) قال ابن عباس : يريد الذين يتجبرون على عبادي ويحاربون أوليائي حتى لا يؤمنوا بي ، يعني : سأصرفهم عن قبول آياتي والتصديق بها، عوقبوا بحرمان الهداية لعنادهم للحق ، كقوله : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) .

قال سفيان بن عيينة : سأمنعهم فهم القرآن . قال ابن جريج : يعني عن خلق السماوات والأرض وما فيها أي أصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا بها . وقيل : حكم الآية لأهل مصر خاصة ، وأراد بالآيات الآيات التسع التي أعطاها الله تعالى موسى عليه السلام . والأكثرون على أن الآية عامة (وَإِن يَرَوْا) يعني : هؤلاء المتكبرين (كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ) قرأ حمزة والكسائي " الرشد " بفتح الراء والشين ، والآخرون بضم الراء وسكون الشين وهما لغتان كالسقم والسقم والبخل والبخل والحزن والحزن .
وكان أبو عمرو يفرق بينهما ، فيقول : الرُّشد - بـالضم - : الصلاح في الأمر ، وبـالفتح: الاستقامة في الدين . معنى الآية : إن يروا طريق الهدى والسداد (لَا يَتَّخِذُوهُ) لأنفسهم ( سبيلا (وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ) أي طريق الضلال (يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) عن التفكير فيها والاتّعاظ بها غافلين ساهين .} انتهـ.

ويقول الشيخ السعدي في تفسير الآية:

{ (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ) أي: عن الاعتبار في الآيات الأفقية والنفسية، والفهم لآيات الكتاب (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي: يتكبرون على عباد اللّه وعلى الحق، وعلى مَن جاء به، فمَن كان بهذه الصفة، حرمه اللّه خيرا كثيرا وخذله، ولم يفقه من آيات اللّه ما ينتفع به، بل ربّما انقلبت عليه الحقائق، واستحسن القبيح. (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا) لإعراضهم واعتراضهم، ومحادتهم للّه ورسوله، (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ) أي: الهدى والاستقامة، وهو الصراط الموصل إلى اللّه، وإلى دار كرامته. (لا يَتَّخِذُوهُ) أي: لا يسلكوه ولا يرغبوا فيه (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ) أي: الغواية الموصل لصاحبه إلى دار الشقاء يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا.
والسبب في انحرافهم هذا الانحراف ذَلِكَ (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) فردّهم لآيات اللّه، وغفلتهم عمّا يراد بها واحتقارهم لها - هو الذي أوجب لهم من سلوك طريق الغي، وترك طريق الرشد ما أوجب.} انتهـ

تعليق ونقل التفسير: أم وحيد بهية صابرين





الصور المصغرة للصور المرفقة
اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	سأصرف عن آياتي.jpg‏
المشاهدات:	2222
الحجـــم:	26.5 كيلوبايت
الرقم:	7640   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	سورة ابراهيم.jpg‏
المشاهدات:	1556
الحجـــم:	88.7 كيلوبايت
الرقم:	7641   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	قد جاءكم برهان.jpg‏
المشاهدات:	1521
الحجـــم:	41.8 كيلوبايت
الرقم:	7642  
رد مع اقتباس
  #29  
قديم 16 Jan 2020, 01:01 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي



بسم الله الرّحمن الرّحيم



قبل أن أختم إن شاء الله، بحثي البسيط، الذي حاولتُ فيه أن أجمع كلّ (معاني الهداية)، وإن كانت لاتُعَدّ ولاتُحصى في كتاب الله القرآن، الذي يحمل للإنسان، ما يدلّه به على خيريّ الدنيا والآخرة، في هداية إرشادٍ وتوجيه من ربّ العالمين، تمهيدًا لطريقٍ، قد يشقّ على بعض النّاس، ويسهل على البعض الآخر، اجتيازه، والله سبحانه، وحده، يعلم مَن يستحقّ الهداية، فيلهمه رشده، ويعلم مَن هو في ضلالٍ مبين.

قال الله تعالى: " أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (164)) (1)



وكتاب الله سبحانه، القرآن، حجّة للإنسان أو عليه. فمن بعد ما يتبيّن للمرء الهدى وطريق الحقّ، ليس له أن يختار لنفسه ما يوبقها به، "يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(111)" (2)

يقول الإمام الطبري رحمه الله في تفسير الآية: "يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ"
يقول تعالى ذكره: إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ ) تخاصم عن نفسها، وتحتجّ عنها بما أسلفت في الدنيا من خير أو شرّ أو إيمان أو كفر ، ( وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ ) في الدنيا من طاعة ومعصية ( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) : يقول: وهم لا يفعل بهم إلا ما يستحقونه ويستوجبونه بما قدّموه من خير أو شرّ، فلا يجزى المحسن إلا بالإحسان ولا المسيء إلا بالذي أسلف من الإساءة، لا يعاقب محسن ولا يبخس جزاء إحسانه، ولا يثاب مسيء إلا ثواب عمله} انتهـ.

ثمّ قال الإمام البغوي رحمه الله:
{ (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ) تخاصم وتحتج ، (عَن نَّفْسِهَا) بما أسلفت من خير وشر ، مشتغلا بها لا تتفرغ إلى غيرها ، (وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)

روي أن عمر بن الخطاب قال لكعب الأحبار : خوفنا ، قال : يا أمير المؤمنين ، والذي نفسي بيده ، لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيا لأتت عليك ساعات وأنت لا تهمك إلا نفسك ، وإن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل منتخب ، إلا وقع جاثيا على ركبتيه ، حتى إبراهيم خليل الرحمن ، يقول : يا رب لا أسألك إلا نفسي ، وإن تصديق ذلك : الذي أنزل الله عليكم " يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا " .

وروى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال : ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة ، حتى تخاصم الروح الجسد ، فتقول الروح : يا رب ، لم يكن لي يد أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ، ولا عين أبصر بها . ويقول الجسد : خلقتني كالخشب ليست لي يد أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ، ولا عين أبصر بها ، فجاء هذا كشعاع النور ، فبه نطق لساني ، وأبصرت عيني ، ومشت رجلي . فيضرب الله لهما مثلا أعمى ومقعد ، دخلا حائطا فيه ثمار ، فـالأعمى لا يبصر الثمر ، والمقعد لا يناله ، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر، فعليهما العذاب .} انتهـ



---------------------------------------------
(1) سورة آل عمران.
(2) سورة النحل.

الصور المصغرة للصور المرفقة
اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	أفمن اتبع رضوان الله.jpg‏
المشاهدات:	1270
الحجـــم:	45.9 كيلوبايت
الرقم:	7710   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ.png‏
المشاهدات:	1208
الحجـــم:	106.4 كيلوبايت
الرقم:	7712   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	أفمن اتّبع رضوان الله.png‏
المشاهدات:	1456
الحجـــم:	181.5 كيلوبايت
الرقم:	7713  
رد مع اقتباس
  #30  
قديم 20 Jan 2020, 03:03 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي





الهداية وما أدراك ما الهداية، كلمة، حروفها قليلة، ومنافعها كثيرة، وعليها مدار سعادة الإنسان أو شقائه في هذه الحياة. ولهذا كان النبيّ محمد وجميع الأنبياء والرُّسل (عليهم من الله أفضل الصّلاة وأزكى التّسليم)، يعتنون بـإصلاح النّاس ويصبرون على هذه الوظيفة الشّاقّة، وقد تكبّدوا الصِّعاب، ولاقوا من أقوامهم أشدّ الأذى والعذاب.
وإصلاح النّاس، لايتقنه إلاّ مَن هيّأه الله لهذه المهمّة الثّقيلة، يحمل عبئًا، يسعد به غيره، رجاء ثوابٍ من الله، يحقّق له به سعادة أبديّة، لاشقاء بعدها ولا عناء.

وأجمل ما أختم به موضوعي هذا، ختامًا، بحجم الموضوع الأصلي في الأهميّة وأكثر بكثير، وإن كان من المفروض أن يأتي أوّله، وقد عدتُ بالقرّاء إلى الوراء، لكن بشيء من التّفصيل المبدع في الوصف والتدقيق للمعاني، من الإمام العلاّمة ابن قيم الجوزية رحمه الله. يتطرّق إلى الهداية وأقسامها، أذكر مثلاً من كتاب: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل/الباب الرّابع عشر:

في الهدى والضلال ومراتبهما والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم

يقول الإمام ابن القيّم رحمه الله:

[ هذا المذهب هو قلب أبواب القدر ومسائله. فإنّ أفضل ما يقدر الله لعبده وأجلّ ما يقسّمه له: الهدى، وأعظم ما يبتليه به ويقدره عليه: الضلال . وكلّ نعمة دون نعمة الهدى وكلّ مصيبة دون مصيبة الضلال. وقد اتّفقت رسل الله من أوّلهم إلى آخرهم وكتبه المنزلة عليهم على أنّه سبحانه يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، وأنّه مَن يهده الله فلا مضل له ومَن يضلل فلا هادي له، وأنّ الهدى والإضلال بيده، لا بيد العبد، وأنّ العبد هو الضال أو المهتدي. فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه. ولا بد قبل الخوض في تقرير ذلك من ذكر مراتب الهدى والضلال في القرآن.
فأّمّا مراتب الهدى فأربعة:

- إحداها: الهدى العام وهو هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها وهذا أعم مراتبه.

-المرتبة الثانية: الهدى بمعنى البيان والدلالة والتعليم والدعوة إلى مصالح العبد في معاده وهذا خاص بالمكلّفين وهذه المرتبة أخص من المرتبة الأولى وأعم من الثالثة.

-المرتبة الثالثة: الهداية المستلزمة للاهتداء وهي هداية التوفيق ومشيئة الله لعبده الهداية، وخلقه دواعي الهدى، وإرادته والقدرة عليه للعبد. وهذه الهداية التي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.

-المرتبة الرابعة: الهداية يوم المعاد إلى طريق الجنة والنار.

* (فصل)

-فأما المرتبة الأولى فقد قال سبحانه: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى الَّذِي خَلَقَ فَسَوّى والَّذِي قَدَّرَ فَهَدى
فذكر سبحانه أربعة أمور عامة: الخلق والتسوية والتقدير والهداية. وجعل التسوية من تمام الخلق والهداية من تمام التقدير. قال عطاء "خلق فسوى أحسن ما خلقه وشاهده قوله تعالى: ﴿الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُفإحسان خلقه يتضمن تسويته وتناسب خلقه وأجزائه بحيث لم يحصل بينها تفاوت يخلّ بالتناسب والاعتدال. فالخلق الإيجاد والتسوية إتقانه وإحسان خلقه"

وقال الكلبي "خلق كل ذي روح فجمع خلقه وسواه باليدين والعينين والرجلين"

وقال مقاتل" خلق لكل دابة ما يصلح لها من الخلق"

وقال أبو إسحاق "خلق الإنسان مستويا" وهذا تمثيل وإلاّ فالخلق والتسوية شامل للإنسان وغيره قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وما سَوّاها﴾ وقال: ﴿فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماوات﴾. فالتسوية شاملة لجميع مخلوقاته: ﴿ما تَرى في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ﴾ وما يوجد من التفاوت وعدم التسوية فهو راجع إلى عدم إعطاء التسوية للمخلوق. فإنّ التسوية أمر وجودي تتعلق بالتأثير والإبداع فما عدم منها فلعدم إرادة الخالق للتسوية، وذلك أمر عدمي يكفي فيه عدم الإبداع والتأثير، فتأمل ذلك، فإنّه يزيل عنك الإشكال في قوله: ﴿ما تَرى في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ﴾، فـالتفاوت حاصل بسبب عدم مشيئة التسوية كما أنّ الجهل والصمم والعمى والخرس والبكم يكفي فيها عدم مشيئة خلقها وإيجادها وتمام هذا يأتي إن شاء الله في باب دخول الشر في القضاء عند قول النبي ﷺ: "والشر ليس إليك"
والمقصود أنّ كل مخلوق فقد سوّاه خالقه سبحانه في مرتبة خلقه وإن فاتته التسوية من وجه آخر لم يخلق له.

* (فصل)

وأمّا التقدير والهداية فقال مقاتل "قدر خلق الذكر والأنثى فهدى الذكر للأنثى كيف يأتيها"
وقال ابن عباس والكلبي وكذلك قال عطاء "قدر من النسل ما أراد ثم هدى الذكر للأنثى" واختار هذا القول صاحب النظم فقال: "معنى هدى: هداية الذكر لإتيان الأنثى كيف يأتيها" لأنّ إتيان ذكران الحيوان لإناثه مختلف لاختلاف الصور والخلق والهيآت فلولا أنّه سبحانه جبل كلّ ذكر على معرفة كيف يأتي أنثى جنسه لما اهتدى لذلك، وقال مقاتل أيضا: "هداه لمعيشته ومرعاه"

وقال السدي: "قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج"

وقال مجاهد: "هدى الإنسان لسبيل الخير والشر والسعادة والشقاوة"

وقال الفراء: "التقدير فهدى وأضل فاكتفى من ذكر أحدهما بالآخر".

قلت: الآية أعمّ من هذا كلّه وأضعف الأقوال فيها قول الفراء.
إذا المراد هاهنا الهداية العامة لمصالح الحيوان في معاشه ليس المراد هداية الإيمان والضلال بمشيئته وهو نظير قوله: ﴿رَبُّنا الَّذِي أعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾، فـإعطاء الخلق: إيجاده في الخارج والهداية: التعليم والدلالة على سبيل بقائه وما يحفظه ويقيمه. وما ذكر مجاهد فهو تمثيل منه لا تفسير مطابق للآية. فإنّ الآية شاملة لهداية الحيوان كلّه ناطقه وبهيمه طيره ودوابه فصيحه وأعجمه. وكذلك قول مَن قال أنّه هداية الذكر لإتيان الأنثى: تمثيل أيضا وهو فرد واحد من أفراد الهداية التي لا يحصيها إلا الله، وكذلك قول مَن قال هداه للمرعى: فإنّ ذلك من الهداية، فإنّ الهداية إلى التقام الثدي عند خروجه من بطن أمه والهداية إلى معرفته أمّه دون غيرها حتى يتبعها أين ذهبت والهداية إلى قصد ما ينفعه من المرعى دون ما يضرّه منه. وهداية الطير والوحش والدواب إلى الأفعال العجيبة التي يعجز عنها الإنسان كـهداية النحل إلى سلوك السبل التي فيها مراعيها على تباينها ثم عودها إلى بيوتها من الشجر والجبال وما يغرس بنو آدم.

وأمر النحل في هدايتها من أعجب العجب وذلك أنّ لها أميرا ومدبرا وهو اليعسوب وهو أكبر جسما من جميع النحل وأحسن لونا وشكلا، وإناث النحل تلد في إقبال الربيع، وأكثر أولادها يكن إناثا وإذا وقع فيها ذكر لم تدعه بينها، بل إما أن تطرده وإما أن تقتله إلا طائفة يسيرة منها تكون حول الملك. وذلك أنّ الذكر منها لا تعمل شيئا ولا تكسب ثم تجمع الأمهات وفراخها عند الملك فيخرج بها إلى المرعى من المروج والرياض والبساتين والمراتع في أقصد الطرق وأقربها فيجتني منها كفايتها، فيرجع بها الملك فإذا انتهوا إلى الخلايا وقف على بابها ولم يدع ذكرا ولا نحلة غريبة تدخلها. فإذا تكامل دخولها دخل بعدها وتواجدت النحل على مقاعدها وأماكنها، فيبتدئ الملك بالعمل كأنّه يعلمها إيّاه، فيأخذ النحل في العمل ويتسارع إليه ويترك الملك العمل ويجلس ناحية بحيث يشاهد النحل فيأخذ النحل في إيجاد الشمع من لزوجات الأوراق والأنوار ثم تقتسم النحل فرقا، فمنها فرقة تلزم الملك ولا تفارقه ولا تعمل ولا تكسب وهم حاشية الملك من الذكورة ومنها فرقة تهيئ الشمع وتصنعه والشمع هو ثفل العسل وفيه حلاوة كحلاوة التين وللنحل فيه عناية شديدة فوق عنايتها بالعسل، فينظفه النحل ويصفيه ويخلصه مما يخالطه من أبوالها وغيرها. وفرقة تبني البيوت وفرقة تسقي الماء وتحمله على متونها وفرقة تكنس الخلايا وتنظفها من الأوساخ والجيف والزبل. وإذا رأت بينها نحلة مهينة بطالة قطعها وقتلها حتى لا تفسد عليهن بقية العمال وتعديهن ببطالتها ومهانتها.
وأول ما يبنى في الخلية: مقعد الملك وبيته ، فيبنى له بيتا مربعا يشبه السرير والتخت فيجلس عليه ويستدير حوله طائفة من النحل يشبه الأمراء والخدم والخواص لا يفارقنه. ويجعل النحل بين يديه شيئا يشبه الحوض يصب فيه من العسل أصفى ما يقدر عليه ويملأ منه الحوض يكون ذلك طعاما للملك وخواصه ثم يأخذن في ابتناء البيوت على خطوط متساوية كأنها سكك ومحال وتبنى بيوتها مسدسة متساوية الأضلاع كأنها قرأت كتاب أقليدس حتى عرفت أوفق الأشكال لبيوتها لأن المطلوب من بناء الدور هو الوثاقة والسعة. والشكل المسدس دون سائر الأشكال إذا انضمت بعض أشكاله إلى بعض صار شكلا مستديرا كاستدارة الرحى ولا يبقى فيه فروج ولا خلل ويشد بعضه بعضا حتى يصير طبقا واحدا محكما لا يدخل بين بيوته رؤوس الإبر. فـتبارك الذي ألهمها أن تبني بيوتها هذا البناء المحكم الذي يعجز البشر عن صنع مثله، فعلمت أنها محتاجة إلى أن تبني بيوتها من أشكال موصوفة بصفتين
- إحداهما: أن لا يكون زواياها ضيقة حتى لا يبقى الموضع الضيق معطلا.
-الثانية: أن تكون تلك البيوت مشكلة بأشكال إذا انضم بعضها إلى بعض وامتلأت العرصة منها فلا يبقى منها ضائعا ثم إنها علمت أنّ الشكل الموصوف بهاتين الصفتين هو المسدس فقط. فإنّ المثلثات والمربعات وإن أمكن امتلاء العرصة منها إلاّ أنّ زواياها ضيقة وأمّا سائر الأشكال وإن كانت زواياها واسعة إلاّ أنها لا تمتلئ العرصة منها بل يبقى فيما بينها فروج خالية ضائعة.

وأما المسدس فهو موصوف بهاتين الصفتين. فـهداها سبحانه على بناء بيوتها على هذا الشكل من غير مسطر ولا آلة ولا مثال يحتذى عليه، وأصنع بني آدم لا يقدر على بناء البيت المسدس إلا بالآلات الكبيرة. فـتبارك الذي هداها أن تسلك سبل مراعيها على قوتها، وتأتها ذللا لا تستعصي عليها ولا تضل عنها، وأن تجتني أطيب ما في المرعى وألطفه وأن تعود إلى بيوتها الخالية فتصب فيها شرابا مختلفا ألوانه (فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون)

فإذا فرغت من بناء البيوت خرجت خماصا تسيح سهلا وجبلا فأكلت من الحلاوات المرتفعة على رؤوس الأزهار وورق الأشجار فترجع بطانا. وجعل سبحانه في أفواهها حرارة منضجة، تنضج ما جنته فتعيده حلاوة ونضجا ثم تمجه في البيوت حتى إذا امتلأت ختمتها وسدت رؤوسها بالشمع المصفى، فإذا امتلأت تلك البيوت عمدت إلى مكان آخر إن صادفته، فاتخذت فيه بيوتا وفعلت كما فعلت في البيوت الأولى. فإذا برد الهوى وأخلف المرعى وحيل بينها وبين الكسب لزمت بيوتها واغتذت بما ادخرته من العسل وهي في أيام الكسب والسعي تخرج بكرة وتسيح في المراتع وتستعمل كل فرقة منها بما يخصها من العمل فإذا أمست رجعت إلى بيوتها وإذا كان وقت رجوعها وقف على باب الخلية بواب منها ومعه أعوان، فكل نحلة تريد الدخول يشمها البواب ويتفقدها فإن وجد منها رائحة منكرة أو رأى بها لطخة من قذر، منعها من الدخول وعزلها ناحية إلى أن يدخل الجميع، فيرجع إلى المعزولات الممنوعات من الدخول فيتفقدهن ويكشف أحوالهن مرة ثانية. فمن وجده قد وقع على شيء منتن أو نجس، قدّه نصفين ومَن كانت جنايته خفيفة تركه خارج الخلية هذا دأب البواب كل عشية.

وأما الملك فلا يكثر الخروج من الخلية إلا نادرا إذا اشتهى التنزه فيخرج ومعه أمراء النحل والخدم فيطوف في المروج والرياض والبساتين ساعة من النهار ثم يعود إلى مكانه.

ومن عجيب أمره أنّه ربّما لحقه أذى من النحل أو من صاحب الخلية أو من خدمه، فيغضب ويخرج من الخلية ويتباعد عنها ويتبعه جميع النحل وتبقى الخلية خالية، فإذا رأى صاحبها ذلك وخاف أن يأخذ النحل ويذهب بها إلى مكان آخر، احتال لاسترجاعه وطلب رضاه، فيتعرف موضعه الذي صار إليه بالنحل، فيعرفه باجتماع النحل إليه، فإنها لا تفارقه وتجتمع عليه حتى تصير عليه عنقودا وهو إذا خرج غضبا، جلس على مكان مرتفع من الشجرة وطافت به النحل وانضمت إليه حتى يصير كالكرة فيأخذ صاحب النحل رمحا أو قصبة طويلة ويشد على رأسه حزمة من النبات الطيب الرائحة العطر النظيف ويدنيه إلى محل الملك ويكون معه إما مزهر أو يراع أو شيء من آلات الطرب فيحركه وقد أدنى إليه ذلك الحشيش، فلا يزال كذلك إلى أن يرضى الملك، فإذا رضي وزال غضبه، طفر ووقع على الضغث وتبعه خدمه وسائر النحل فيحمله صاحبه إلى الخلية، فينزل ويدخلها هو وجنوده. ولا يقع النحل على جيفة ولا حيوان ولا طعام. ومن عجيب أمرها أنها تقتل الملوك الظلمة المفسدة، ولا تدين لطاعتها، والنحل الصغار المجتمعة الخلق هي العسالة وهي تحاول مقاتلة الطوال القليلة النفع وإخراجها ونفيها عن الخلايا. وإذا فعلت ذلك جاد العسل وتجتهد أن تقتل ما تريد قتلها خارج الخلية صيانة للخلية عن جيفته. ومنها صنف قليل النفع كبير الجسم وبينها وبين العسالة حرب فهي تقصدها وتغتالها وتفتح عليها بيوتها وتقصد هلاكها والعسالة شديدة التيقظ والتحفظ منها، فإذا هجمت عليها في بيوتها، حاولتها وألجأتها إلى أبواب البيوت فتتلطخ بالعسل فلا تقدر على الطيران ولا يفلت منها الآكل طويل العمر. فإذا انقضت الحرب وبرد القتال عادت إلى القتلى فحملتها وألقتها خارج الخلية.
وقد ذكرنا أنّ الملك لا يخرج إلاّ في الأحايين، وإذا خرج خرج في جموع من الفراخ والشبان، وإذا عزم على الخروج ظل قبل ذلك اليوم أو يومين يعلم الفراخ وينزلها منازلها ويرتبها، فيخرج ويخرجن معه على ترتيب ونظام قد دبّره معهن لا يخرجن عنه، وإذا تولدت عنده ذكران عرف أنهن يتطلبن الملك، فيجعل كل واحد منهم على طائفة من الفراخ ولا يقتل ملك منها ملكا آخر لما في ذلك من فساد الرعية وهلاكها وتفرقها، وإذا رأى صاحب الخلية الملوك قد كثرت في الخلية وخاف من تفرّق النحل بسببهم، احتال عليهم وأخذ الملوك كلّها إلاّ واحدا ويحبس الباقي عنده في إناء ويدع عندهم من العسل ما يكفيهم حتى إذا حدث بـالملك المنصوب حدث مرض أو موت أو كان مفسدا، فقتلته النحل، أخذ من هؤلاء المحبوسين واحدا وجعله مكانه لئلاّ يبقى النحل بلا ملك، فيتشتت أمرها.

ومن عجيب أمرها أنّ الملك إذا خرج متنزّها ومعه الأمراء والجنود، ربّما لحقه إعياء فتحمله الفراخ، وفي النحل كرام عمال لها سعي وهمة واجتهاد وفيها لئام كسالى قليلة النفع مؤثرة للبطالة. فـالكرام دائما تطردها وتنفيها عن الخلية ولا تساكنها خشية أن تعدي كرامها وتفسدها.
والنحل من ألطف الحيوان وأنقاه ولذلك لا تلقي زبلها إلاّ حين تطير. وتكره النتن والروائح الخبيثة. وأبكارها وفراخها أحرس وأشد اجتهادا من الكبار وأقل لسعا وأجود عسلا، ولسعها إذا لسعت أقلّ ضررا من لسع الكبار.
ولمّا كانت النحل من أنفع الحيوان وأبركه قد خصّت من وحي الربّ تعالى وهدايته لما لم يشركها فيه غيرها. وكان الخارج من بطونها مادة الشفاء من الأسقام والنّور الذي يضيء في الظلام بمنزلة الهداة من الأنام كان أكثر الحيوان أعداء وكان أعداؤها من أقلّ الحيوان منفعة وبركة وهذه سُنّة الله في خلقه وهو العزيز الحكيم.

....يتبع...إن شاء الله...

الصور المصغرة للصور المرفقة
اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	ربنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.png‏
المشاهدات:	1272
الحجـــم:	1.02 ميجابايت
الرقم:	7729  
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013