منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 14 Mar 2014, 12:40 AM
أبو معاوية كمال الجزائري أبو معاوية كمال الجزائري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: الجزائر(قادرية- ولاية البويرة)
المشاركات: 513
افتراضي مختارات من أدب المنفلوطي: (الأدب الكاذب)

مختاراتٌ من أدب المنفلوطي (من كتابه النظرات)

الأدب الكاذب


كنا وكان الأدب حالاً قائمةً بالنفس تمنَعُ صاحبها أن يُقدِم على شر أو يحدِّث نفسه به، أو يكون عونًا لفاعليه عليه، فإن ساقَتْه إليه شهوةٌ من شهوات النفس أو نزوة من نزوات العقل، وجَد في نفسِه عند غشيانه من المضَضِ والامتعاض ما ينغِّصه عليه ويكدِّر صَفْوَه وهناءه، ثم أصبحنا وإذا الأدب صورٌ ورسوم وحركات، وسكنات وإشارات والتفاتات لا دخل لها في جوهرِ النفس، ولا عَلاقةَ لها بشعورها ووجدانها، فأحسَنُ الناس عند الناس أدبًا وأكرَمُهم خُلقًا وأشرَفُهم مذهبًا مَن يكذِبُ؛ على أن يكونَ كذِبُه سائغًا مهذبًا، ومن يُخلِف الوعد؛ على أن يُحسِن الاعتذار عن إخلافه، ومن يُبغِض الناس جميعًا بقلبِه؛ على أن يحبَّهم جميعًا بلسانه، ومن يقترف ما شاء مِن الجرائم والذنوب؛ على أن يتخلصَ من نتائجها وآثارها، وأفضلُ عندهم من هؤلاء جميعًا أولئك الذين برَعوا في فنِّ "الآداب العالية" - أي: فن الرِّياء والنفاق - وتفوَّقوا في استظهار تلك الصورِ الجامدة التي تَواضَع عليها جماعة "الظُّرفاء" في التحية والسلام، واللقاء والفِراق، والزيارة والاستزارة، والمجالسة والمنادمة، وأمثال ذلك مما يرجع العِلمُ به غالبًا إلى صِغَر النفس وإسفافِها أكثرَ مما يرجع إلى أدبِها وكمالها، فكان الناس لا يستنكرون من السيئةِ إلا لونَها، فإذا جاءتهم في ثوب غيرِ ثوبها أَنِسُوا بها، وسكنوا إليها، ولا يعجبهم من الحسنة إلا صورتُها، فإذا لم تأتِهم من الصورةِ التي تعجبهم وتَرُوقهم عافُوها، وزهدوا فيها؛ أي إنهم يفضِّلون اليدَ النَّاعمة التي تحمِلُ خَنْجَرًا على اليدِ الخَشِنة التي تحمل بَدْرةً، ويؤثِرون كأسَ البِلَّوْر المملوءةَ سَمًّا على كأس الخزَفِ المملوءةِ ماءً زُلالاً، ولقد سمعتُ بأُذُني مَن أخذ يعُدُّ لرجلٍ من أصدقائه من السيئات ما لو وُزِّع على الخَلْق جميعًا للَوَّثَ صحائفهم، ثم ختم كلامه بقوله: وإني على ذلك أحبُّه وأجلُّه؛ لأنه رجل "ظريف"، وأغرب من ذلك كله أنهم وضَعوا قوانين أدبية للمغازلة والمعاقرة والمقامرة، كأن جميعَ هذه الأشياء فضائلُ لا شك فيها، وكانت الرَّذيلةُ وحدها هي الخروجَ عن تلك القوانينِ التي وضعت لها، وما عهدُنا ببعيدٍ بذلك القاضي المِصري الذي أجمع الناسُ في مصرَ على احتقاره وازدرائِه حينما علِموا أنه تلاعَب بأوراق اللعبِ في أحد أندية القِمار، وسمَّوه لصًّا دنيئًا، والقمار لصوصية من أساسِه إلى ذِروتِه.

أعرف في هذا البلد رجلينِ يجمعُهما عملٌ واحد ومركز واحد، أحدهما خيرُ الناس، والآخر شرُّ الناس، وإن كان الناس لا يرَوْنَ رأيي فيهما.

أما الأول فهو رجلٌ قد أخذ نفسه منذ نشأته بمطالعة كُتُب الأخلاق والآداب، ومزاولتها ليلَه ونهاره، فقرأ فيها فصول الصِّدق والأمانة، والعِفَّة والزهد، والسماحة والنَّجْدة، والمروءة والكَرَم، وقصص السُّمَحاء والأجواد، والرُّحماء والمُؤثِرين، وافتتن بتلك الفضائل افتتانًا شديدًا، ثم دخَل غِمار المجتمع بعد ذلك وقد استقر في نفسِه أن الناسَ قد عرَفوا من الأدب مِثلَ ما عرف، وفهِموا من معناه مِثلَ ما فهِم، وأخذوا منه بمِثل الذي أخَذ، فغضب في وجهِ الأشرار، وابتسَم في وجه الأخيار، والأوَّلون أكثرُ عددًا، وأعظمُ سُلطة وجاهًا، فسُمِّي عند الفريقينِ شَرِسًا متوحشًا، وامتدح إحسانَ المُحسِن، وذمَّ إساءة المُسيء، والمُحسنون في الدنيا قليلون، فسُمِّي وَقِحًا بذيئًا حتى بين المُحسنين، وبذَل معروفه للعاجز الخامل، ومنَعه القادرَ النَّابِهَ، فلم يشعُرْ بمعروفه أحدٌ، فسمي بخيلاً، واعتبر الناسَ بقِيَمِهم الأدبيَّة لا بمقاديرِهم الدُّنيوية، فلقي الأغنياءَ والأشراف بمِثْل ما يلقى به العامَّةَ والدَّهْماء، فسُمِّي متكبِّرًا، وقال لمن جاءه يساومُه في ذمَّتِه: إني أحبُّك، ولكني أحبُّ الحقَّ أكثرَ منك؛ فكثُر أعداؤه، وقل أصدقاؤه.

أما الثاني فأقلُّ سيئاته أنه لا يفي بوعدٍ يعِدُه، ولكنه يُحسِن الاعتذارَ عن إخلاف الوعود، فلا يسميه أحدٌ مِخْلافًا، وما رآه الناس في يوم من أيامه عاطفًا على بائس أو منكوب، ولكنه يبكي لمُصاب البائسينَ والمنكوبين، ويستبكي الناسَ لهم، فعُدَّ من الأجواد السُّمَحاء، وكثيرًا ما أكَل أموالَ اليتامى، وأساء الوصايةَ عليهم، ولكنه لا يزال يمسَحُ رؤوسَهم، ويحتضنهم إلى صدرِه في المجامعِ والمشاهد كأرحَمِ الرُّحَماء، وأشفقِ المُشفِقين، فسُمِّي الوصيَّ الرَّحيمَ، ولا يفتأ ليلَه ونهاره ينال من أعراض الناس، ويستنزلُ من أقدارهم، إلا أنه يخلِطُ جِدَّه بالهَزْل، ومَرارته بالحلاوةِ، فلم يعرِفِ الناسُ عنه شيئًا سوى أنه الماجنُ الظَّريف.

ذلك هو الأدبُ الذي أصبَح في هذا العصور رأيًا عامًّا يشتركُ فيه خاصَّةُ الناس وعامَّتُهم، وعُقَلاؤهم وجُهَلاؤهم، ويُعلِّمُه الوالدُ ولدَه، والأستاذُ تلميذَه، ويقتتل الناس اقتتالاً شديدًا على انتحالِه والتجمُّل به، كما يقتتِلون على أعزِّ الأشياءِ وأنفَسِها حتى تبدَّلَتِ الصُّور، وانعكستِ الحقائقُ، وأصبَح الرَّجُلُ الصادق المُخلص أحرَجَ الناسِ بصِدقِه وإخلاصه صدرًا، وأضَلَّهم بهما سبيلاً، لا يدري أيكذِبُ فيُسخِط ربَّه ويُرضي الكاذبين، أم يصدُقُ فيُرضي نفسَه ويُسخِط الناسَ أجمعين، ولا يعلَمُ أيهجَرُ هذا العالَمَ إلى عُزلةٍ منقطعة يقضي فيها بقيةَ أيام حياتِه غريبًا شريدًا، أم يبرُزُ للعيونِ فيموت هَمًّا وكَمَدً.
يجبُ أن يكونَ أدَبُ النفس أساسَ أدبِ الجوارح، وأن يكون أدبُ الجوارحِ تابعًا له وأثَرًا من آثارِه، فإن أبى الناسُ إلا أن يجعَلوا أدبَ الحركاتِ والسَّكنات أساسَ أعمالِهم وعلائقِهم وميزانَ قِيَمِهم وأقدارِهم، فليعلَموا أن العالَمَ كلَّه قد استحال إلى مسرحِ تمثيلٍ، وأنهم لا يؤدُّونَ فيه غيرَ وظيفةِ الممثِّلين الكاذبين.


التعديل الأخير تم بواسطة أبو معاوية كمال الجزائري ; 14 Mar 2014 الساعة 12:42 AM
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 15 Mar 2014, 08:29 AM
مهدي بن صالح البجائي مهدي بن صالح البجائي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 591
افتراضي

جزاك الله خيرا على هذا النقل الطيب، أدب ماتع.
وقد ذكرني بحديث حذيفة -رضي الله عنه- قال::«حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حَدِيثَيْنِ رأيت أَحَدَهُمَا وأنا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ: أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ في جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ عَلِمُوا من الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا من السُّنَّةِ وَحَدَّثَنَا عن رَفْعِهَا قال: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ من قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ على رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فيه شَيْءٌ، فَيُصْبِحُ الناس يَتَبَايَعُونَ فلا يَكَادُ أحدهم يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فَيُقَالُ: إِنَّ في بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: ما أَعْقَلَهُ! وما أَظْرَفَهُ! وما أَجْلَدَهُ! وما في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ من إِيمَانٍ، وَلَقَدْ أتى عَلَيَّ زَمَانٌ وما أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ لَئِنْ كان مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامُ وَإِنْ كان نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ ساعية فَأَمَّا الْيَوْمَ فما كنت أُبَايِعُ إلا فُلَانًا وَفُلَانًا»رواه الشيخان.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 08 May 2014, 03:34 PM
خالد العايب خالد العايب غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Oct 2013
الدولة: الجزائر/المسيلة
المشاركات: 77
افتراضي

جزاك الله خيرا أخي كمال ، على هذا النقل الطيب .

اقتباس:
فليعلَموا أن العالَمَ كلَّه قد استحال إلى مسرحِ تمثيلٍ، وأنهم لا يؤدُّونَ فيه غيرَ وظيفةِ الممثِّلين الكاذبين.
هذا كله مرض في القلب في تصوره وإرادته فنسأل الله ان يعافى قلوبنا من كل داء ونعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013