منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 02 Aug 2015, 10:21 AM
أبو همام وليد مقراني أبو همام وليد مقراني غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: الجزائر العاصمة
المشاركات: 748
افتراضي سلسلة ردود على الشبهات العقدية لـ «شمس الدين بوروبي» إدارة موقع الشيخ فركوس

المقدّمة

الحمدُ لله وليِّ الصالحين، والصلاةُ والسلامُ على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى أصحابه الأخيار، وعلى أتباعهم الأبرار بإحسانٍ إلى يوم الدِّين في دار القرار، أمَّا بعد:
فإنَّ تطهيرَ دين الله ممَّا أحدثه المُحدِثون والتصدِّيَ للباغين عليه ودَفْعَ عدوانهم درءًا لفسادهم وتنقيةً للشرع من سُوئهم بالحجَّة والبيان حتمٌ لازمٌ، وهو من مفاخر الدعوة السلفية المبنيَّة على العدل والرحمة، فبقيامهم بهذه الفريضة الشريفة يَزْهَق الباطلُ ويرتدع أهلُه المفسدون للقلوب مصداقًا لقوله تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ [الأنبياء: ١٨]، وقوله تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: ٨١]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾ [سبأ: ٤٩].
قال ابن تيمية -رحمه الله-: «ومثل أئمَّة البدع من أهل المقالات المخالِفة للكتاب والسنَّة أو العبادات المخالِفة للكتاب والسنَّة؛ فإنَّ بيانَ حالهم وتحذيرَ الأمَّة منهم واجبٌ باتِّفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبلٍ: الرجل يصوم ويصلِّي ويعتكف أحبُّ إليك أو يتكلَّم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلَّى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلَّم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل. فبيَّن أنَّ نَفْع هذا عامٌّ للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله؛ إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشِرعته ودفعُ بغي هؤلاء وعدوانِهم على ذلك واجبٌ على الكفاية باتِّفاق المسلمين، ولولا مَن يقيمه اللهُ لدَفْعِ ضرر هؤلاء لَفَسَد الدينُ وكان فسادُه أعظمَ من فساد استيلاء العدوِّ من أهل الحرب؛ فإنَّ هؤلاء إذا استولَوْا لم يُفسدوا القلوبَ وما فيها من الدين إلاَّ تبعًا، وأمَّا أولئك فهُم يُفسدون القلوبَ ابتداءً»(١).
وممَّن نصَّب نفْسَه -من غير طلبٍ- مناصرًا للباطل وأهله، منافحًا عن البدعة وأصحابها يوالي عليها ويعادي، جاهدًا في تلميع صورته الدّعوية البشعة، معاديًا للحقِّ والسائرين على منهاجه، حتى رضي لنفسه الانضواءَ في ركب الجعدِ بن درهمٍ وجهمِ بن صفوانَ وبشرٍ المرِّيسيِّ وأضرابهم، ممَّن انغمسوا في ظلماتٍ بعضُها فوق بعضٍ أعْمَتْهم عن الهدى وصدَّتهم عن الرشاد، يمارون بالباطل ليُدحِضوا به الحقَّ، ويتَّبعون الظنَّ وما تهوى الأنفس، اقترفوا الضلالَ وارتضَوْه بديلاً عن الهدى، فأصابهم الصغارُ والهوانُ بما كانوا يمكرون، المدعُوُّ: «شمس الدين بوروبي» -هداه الله-، ذاك الذي لم يظهر الفألُ الحسن مِن اسمه على نحو ما قال الشاعر:
تَسَمَّى بِنُورِ الدِّينِ وَهْوَ ظَلاَمُهُ * وَهَذَا بِشَمْسِ الدِّينِ وَهْوَ لَهُ خَسْفُ
وَذَا شَرَفَ الإِسْلاَمِ يَدْعُوهُ قَوْمُهُ * وَقَدْ نَالَهُمْ مِنْ جَوْرِهِ كُلَّهُمْ عَسْفُ
رُوَيْدَكَ يَا مِسْكِينُ سَوْفَ تَرَى غَدًا * إِذَا نُصِبَ المِيزَانُ وَانْتَشَرَ الصُّحْفُ
بِمَاذَا تُسَمَّى هَلْ سَعِيدٌ وَحَبَّذَا * أَوْ اسْمَ شَقِيٍّ بِئْسَ ذَا ذَلِكَ الوَصْفُ
جعل الله في صدره ضيقًا وفي نفسه حرجًا من الحقِّ ألزمَتَاه غُصَّةً وحَنَقًا بالدعوة السلفيةِ لقوَّةِ استحكامها في قلوب المدعوِّين، فراح -بعد أن انسلخ من الورع والتقى- يفتري عليها الأكاذيب، ويفتِّش عن مثالبها في كتبِ مَن سبقه ومقالاتِهم طعنًا وحقدًا ليظفر بها وينسبها لنفسه تشبُّعًا بما لم يُعط حتى أضحى عليه أرديةٌ من الزور، يحاكي أقوالَ المنحرفين مِن غير تحفُّظٍ أو تثبُّتٍ أو توثيقٍ، فمثله كمثل «الفرُّوج سمع الدِّيَكَةَ تصيح فصاح بصياحها»(٢).
ولله درُّ القائل:
دَخِيلٌ فِي الكِتَابَةِ يَدَّعِيهَا * كَدَعْوَى آلِ حَرْبٍ فِي زِيَادِ
يُشَبَّهُ ثَوْبُهُ لِلْمَحْوِ فِيهِ * إِذَا أَبْصَرْتَهُ ثَوْبَ الحِدَادِ
فَدَعْ عَنْكَ الكِتَابَةَ لَسْتَ مِنْهَا * وَلَوْ لَطَّخْتَ وَجْهَكَ بِالمِدَادِ(٣)
ومِن صياحه ما ألقاه في محاضرةٍ بالمغرب -حفظها الله منه ومِن كلِّ مبتدعٍ- صوَّر خلالها الصوفيةَ في صورة أصحابِ الحقِّ المتَّهَمِين بالباطل -وهم أهله وأحقُّ به-، وأجْلَب بخيله ورجِلِه على أهل الحقِّ فلطَّخ عقيدتَهم السليمة بتُرَّهاتٍ وتمويهاتٍ وتدليساتٍ لا يُحسنها إلاَّ المفلسون في العلم والفهم، تقمَّمَها مِن مراجع الرافضة وكتب فرقة الأحباش ومؤلَّفات الكوثريِّ والغماريِّ والسقَّاف وأضرابهم من المبتدعة الشانئين، فنال بجدارةٍ لقب «خسف الدين وظلامه»، وكأنَّّ شمس الدين -حقًّا لا كذبًا- ابنَ القيِّم -رحمه الله- يُبْصِرُه أمامه فيصف الغشاوةَ التي تعلوه والعَشَى الذي يكسوه قائلاً: «فإنَّ المُعْرِض عمَّا بعث الله تعالى به محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم مِن الهدى ودين الحقِّ يتقلَّب في خمس ظلماتٍ: قولُه ظلمةٌ، وعمله ظلمةٌ، ومدخله ظلمةٌ، ومخرجه ظلمةٌ، ومصيره إلى الظلمة، فقلبُه مظلمٌ، ووجهه مظلمٌ، وكلامه مظلمٌ، وحاله مظلمةٌ، وإذا قابلت بصيرتُه الخفَّاشية ما بعث الله به محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم من النور جدَّ في الهرب منه وكاد نورُه يَخْطَف بصرَه، فهرب إلى ظلمات الآراء التي هي به أنسبُ وأَوْلى، كما قيل:
خَفَافِيشُ أَعْشَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ * وَوَافَقَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ
فإذا جاء إلى زُبالة الأفكار ونُحاتة الأذهان؛ جال وصال، وأبدى وأعاد، وقعقع وفرقع، فإذا طلع نور الوحي وشمس الرسالة؛ انحجر في أَحْجِرة الحشرات»(٤).
وقد رأت إدارة موقع الشيخ أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس -حفظه الله- أن تتناول جملةً مِن الشبهات المُغْرِضة التي ألقاها ذاك المَفْتونُ في شكل سلسلة ردودٍ علميةٍ، تُفْرَد كلُّ شبهةٍ بردٍّ علميٍّ يزيل الشبهةَ ويقمع البدعةَ، وذلك في فصولٍ متلاحقةٍ، إسهامًا في التطهير مِن أدران الضلالات والبدع، وكشفًا لصنيع زيفه وانحرافه، وقد كان التركيز في هذه الردود على جانبِ بيان تطاوُله على مَن انعقدت لهم الإمامةُ في الدين، وأجرى اللهُ لهم المحبَّةَ في القلوب، وأبْقَتْ سيرتُهم العطرة الذِّكْرَ الحسَنَ على الألسنة، فأبى المفلس إلاَّ أن يلوِّث عبقَهم ويقترفَ في حقِّهم ما يحتقبه أوزارًا يبوء بإثمها وإثمِ مَن يُضِلُّهم ويفتنهم في دينهم.
سائلين اللهَ التوفيق والسداد والرشاد في الأقوال والأعمال.


الرابط:
http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-0

  #2  
قديم 02 Aug 2015, 10:29 AM
أبو همام وليد مقراني أبو همام وليد مقراني غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: الجزائر العاصمة
المشاركات: 748
افتراضي

الشبهة الأولى
صفة النزول

الردُّ على شبهة تأويل الإمام مالكٍ -رحمه الله- لصفة النزول
قال المدعوُّ شمس الدين بوروبي -هداه الله-: «ثمَّ ينزل ربُّنا في ثلث الليل الأخير عندهم نزولاً حقيقيًّا مِن مكانٍ أعلى إلى مكانٍ أسفل، بينما سئل إمامنا مالكٌ رضي الله عنه وأرضاه، واذهب إلى «التمهيد» لابن عبد البرِّ حيث روى الروايةَ بالسند الصحيح: سئل مالكٌ عن معنى النزول فقال: ينزل أمرُه، إمام السلفية الذي هو الإمام مالكٌ يقول: ينزل أمرُه، ولكنَّ الحشوية الذين يزعمون التمسلف يقولون: ينزل حقيقةً كنزولك أنت من شجرةٍ أو من الطابق العلويِّ أو من المنبر».
الجواب:
اعلَمْ أنَّ المنصوص في العقيدة التي نُقلت عن الإمام مالكٍ -رحمه الله- في صفات الله سبحانه تطابُقُها مع مذهب أهل الحديث أتباعِ السلف الصالح مِن إمرارها كما جاءت مِن غير تأويلٍ ولا تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ، والتحذير من مسلك المخالفين لهذا الأصل.
قال الوليد بن مسلمٍ -رحمه الله-: «سألت الأوزاعيَّ، وسفيان الثوريَّ، ومالكَ بنَ أنسٍ، والليثَ بن سعدٍ، عن الأحاديث التي فيها الصفات، فكلُّهم قال: أَمِرُّوها كما جاءت بلا تفسيرٍ»(٥).
وممَّا جاء عنه -رحمه الله- في ذمِّ ما يضادُّ منهجَ السلف ويناقضه قولُه: «مُحالٌ أن يُظَنَّ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه علَّم أمَّتَه الاستنجاءَ ولم يعلِّمْهم التوحيدَ»(٦).
وقال أبو عبد الله محمَّد بن أحمد بن إسحاق بن خويز منداد المالكيُّ -رحمه الله- في كتاب «الشهادات» في تأويل قول مالكٍ -رحمه الله-: «لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء»: «أهل الأهواء عند مالكٍ وسائرِ أصحابنا هم أهلُ الكلام، فكلُّ متكلِّمٍ فهو مِن أهل الأهواء والبدع: أشعريًّا كان أو غيرَ أشعريٍّ، ولا تُقبل له شهادةٌ في الإسلام، ويُهْجَر ويؤدَّب على بدعته، فإن تمادى عليها استُتيب منها»(٧).
ولا تخرجُ صفة النزول عن سائر الصفات الفعلية الثابتة لله تعالى بالنصِّ القطعيِّ، حيث ورد في إثباتها جملةٌ من النصوص تصل حدَّ التواتر منها:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ»(٨).
وعن زهير بن عبَّادٍ -رحمه الله- قال: «كلُّ مَن أدركتُ مِن المشايخ: مالكٌ وسفيان وفضيل بن عياضٍ وعيسى وابن المبارك ووكيعٌ كانوا يقولون: النزول حقٌّ»(٩).
وقال الإمام السجزيُّ -رحمه الله-: «وأئمَّتنا كسفيان ومالكٍ والحمَّادَيْن وابن عيينة والفضيل وابن المبارك وأحمد بن حنبلٍ وإسحاق متَّفقون على أنَّ الله سبحانه فوق العرش وعلمُه بكلِّ مكانٍ، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلَّم بما شاء»(١٠).
في تفنيد نسبة تأويل صفة النزول للإمام مالكٍ -رحمه الله-:
لقد لبَّس المُحاضر على سامعيه حين أحالهم على كتاب «التمهيد» لابن عبد البرِّ مدَّعيًا روايتَه تأويلَ صفة النزول عن الإمام مالكٍ -رحمه الله- بالسند الصحيح، وإذا رجَعْنا إلى المصدر الذي ذكره نجد أنه خان الأمانةَ العلمية ونقل مِن كلام ابن عبد البرِّ -رحمه الله- ما حَسِبَه موافقًا لمعتقَده الأشعريِّ وأخفى الحقيقةَ، على طريقة أهل البدع في بتر النصوص وتقطيعها لتتماشى وأهواءَهم، ويحسن إيرادُ سياق كلام ابن عبد البرِّ -رحمه الله- بتمامه إذ يقول -رحمه الله-:
«وأمَّا قوله صلَّى الله عليه وسلَّم في هذا الحديث «يَنْزِلُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» فقَدْ أكْثَرَ الناسُ التنازعَ فيه، والذي عليه جمهور أئمَّة أهل السنَّة أنهم يقولون: ينزل كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ويصدِّقون بهذا الحديث ولا يكيِّفون، والقول في كيفية النزول كالقول في كيفية الاستواء والمجيء، والحجَّةُ في ذلك واحدةٌ، وقد قال قومٌ مِن أهل الأثر -أيضًا- إنه ينزل أمرُه وتنزل رحمتُه، وروي ذلك عن حبيبٍ كاتب مالكٍ وغيرِه، وأنكره منهم آخَرون وقالوا: هذا ليس بشيءٍ، لأنَّ أمْرَه ورحمته لا يزالان ينزلان أبدًا في الليل والنهار، وتعالى الملك الجبَّار الذي إذا أراد أمرًا قال له: كن فيكون في أيِّ وقتٍ شاء ويختصُّ برحمته مَن يشاء متى شاء لا إله إلاَّ هو الكبير المتعال. وقد روى محمَّد بن عليٍّ الجبليُّ -وكان من ثِقَاتِ المسلمين بالقيروان- قال: حدَّثنا جامع بن سوادة بمصر قال: حدَّثنا مطرِّفٌ عن مالكِ بن أنسٍ أنه سئل عن الحديث: «إِنَّ اللهَ يَنْزِلُ فِي اللَّيْلِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا»، فقال مالكٌ: «يتنزَّل أمرُه»، وقد يحتمل أن يكون كما قال مالكٌ -رحمه الله- على معنى أنه تتنزَّل رحمتُه وقضاؤه بالعفو والاستجابة، وذلك مِن أمره أي: أكثرُ ما يكون ذلك في ذلك الوقت واللهُ أعلم»(١١).
والملاحَظُ مِن كلام ابن عبد البرِّ -رحمه الله- أنَّ للإمام مالكٍ روايتين في صفة النزول، أُولاهما موافِقةٌ لِما هو مقرَّرٌ عند أهل السنَّة والجماعة مِن إثباتها حقيقةً كما تليق بالله تعالى، والثانية موافِقةٌ لمذهب أهل التأويل. وحالتئذٍ يجب على الباحث المنصف دراسةُ الرواية التي ظاهرُها المخالَفة، لمعرفة مدى مطابَقتها لمنهج الإمام في العقيدة.
وقد ذكر ابن عبد البرِّ أنَّ رواية التأويل لها سندان:
السند الأوَّل: عن حبيبٍ كاتب الإمام مالكٍ -رحمه الله-.
والسند الثاني: عن مطرِّف بن عبد الله.
وكلا الطريقين معلولٌ سندًا ومتنًا، فأمَّا السند الأوَّل: فإنَّ حبيب بن أبي حبيبٍ هو المصريُّ كاتب مالكٍ، يكنَّى أبا محمَّدٍ واسمُ أبيه إبراهيمُ أو مرزوقٌ (ت: ٢١٨)، أصلُه من خراسان، وهو ضعيفٌ باتِّفاق أهل العلم بالنقل، يروي عن الثِّقَات الموضوعاتِ ويُدْخِل عليهم ما ليس مِن أحاديثهم. قال يحيى بن مَعِينٍ: «أَشَرُّ السماعِ من مالكٍ عرضُ حبيبٍ، كان يقرأ على مالكٍ فإذا انتهى إلى آخر القراءةِ صفح أوراقًا وكتب: بَلَغ، وعامَّة سماع المصريين عرضُ حبيبٍ»، وقال أحمد بن حنبلٍ: «ليس بثقةٍ، كان يكذب»، ولم يكن يوثِّقه ولا يرضاه، وأثنى عليه شرًّا وسوءًا، وقال أبو داود: «كان مِن أكذب الناس»، وقال أبو حاتمٍ: «متروك الحديث»، وقال ابن حبَّان: «أحاديثه كلُّها موضوعةٌ»، وقال النسائيُّ: «متروكٌ أحاديثُه كلُّها عن مالكٍ وغيرِه»، وقال ابن عدِيٍّ: «أحاديثُه كلُّها موضوعةٌ، وعامَّة حديث حبيبٍ موضوعُ المتن مقلوبُ الإسناد، ولا يحتشم حبيبٌ في وضعِ الحديث على الثقات وأمرُه بيِّنٌ في الكذَّابين»(١٢)، وقد أشار ابن عبد البرِّ إلى ضعفها بنقلها بصيغة التمريض.
أمَّا الرواية الثانية فكسابقتها فيها علَّتان:
الأولى: في سندها محمَّد بن عليٍّ الجبليُّ المتوفَّى سنة (٤٣٩ﻫ)(١٣)، قال الذهبيُّ في «ميزان الاعتدال»: «محمَّد بن عليِّ بن محمَّد، أبو الخطَّاب الجبليُّ الشاعر، فصيحٌ سائر القول. روى عن عبد الوهَّاب الكلابيِّ، ومدح أبا العلاء المعرِّيَّ فجاوبه بأبياتٍ. قال الخطيب: «قيل: إنه كان رافضيًّا»»(١٤)، ولفظ الخطيب: قيل: إنه كان رافضيًّا شديدَ الرفض.
الثانية: ضعف جامع بن سوادة، نقل ابن حجرٍ -رحمه الله- تضعيفَ الدارقطنيِّ -رحمه الله- له(١٥)، وأورد له الذهبيُّ حديثًا موضوعًا في الجمع بين الزوجين، ثمَّ قال: «كأنه آفَتُه»(١٦)، وعدَّه ابن الجوزيِّ مِن جملة المجاهيل(١٧).
فتبيَّن لكلِّ مُنْصِفٍ عدمُ صحَّة هذين الأثرين عن إمام دار الهجرة -رحمه الله- وأسكنه فسيحَ الجنان.
وعلى فرض التسليم بصحَّة الرواية المثبِتَة للتأويل فيتمُّ الجواب بما يلي:
١- أنها مخالِفةٌ للمحفوظ عن مالكٍ -رحمه الله- كما في رواية الوليد بن مسلمٍ، فتُقَدَّم الروايةُ المشهورة الموافِقة للأصول الصحيحة على الرواية الموافِقة للأصول البدعية إحسانًا للظنِّ بأئمَّة الهدى وأعلام السنَّة، ولذلك لم ينقلها المشاهير مِن أصحابه -رحمه الله-.
٢- يمكن توجيهها بحملها على ما لا يخالف الإيمانَ بحقيقة النزول له -سبحانه- وهو قصدُه أنَّ نزول الربِّ إلى سماء الدنيا يصاحبه الرحمةُ والعفو والاستجابة، وذلك أمرُه، وبهذا التوجيه خَتَمَ ابنُ عبد البرِّ -رحمه الله- قولَه: «وقد يحتمل أن يكون كما قال مالكٌ -رحمه الله- على معنى أنه تتنزَّل رحمتُه وقضاؤه بالعفو والاستجابة، وذلك مِن أمره أي: أكثرُ ما يكون ذلك في ذلك الوقت، والله أعلم».
٣- أنَّ تفسير النزول بنزول أمْرِه غيرُ متَّفقٍ عليه بين المؤوِّلة أنْفُسهم، فقد تضاربت أقوالُهم في تفسير النزول في الحديث، فحَمَله بعضُهم على نزول الملَك بأمره أو نزول أمرِه، وفسَّره آخَرون بنزول برِّه وعطائه وإحسانه، ومنهم مَن حَمَله على نزول رحمته -وهو موافقٌ لِما قبله-، ومنهم مَن زعم أنه الاطِّلاعُ والإقبال على العباد بالرحمة ونحوِ ذلك، فكان -حينئذٍ- التأويل محتملاً لا قطعية فيه باتِّفاق المؤوِّلة، ولا يخفى أنَّ الاحتمال لا يزيل الإشكال، ولا يمكن التعويل عليه في ارتضاء تفسيرٍ مُقْنِعٍ شافٍ.
٤- ولو سلَّمْنا -جدلاً- أنَّ تفسير النزول بنزول أمرِه أو نزول الملَك بأمره، أو نزول رحمته؛ فإنه يظهر بطلانُه من جهةِ قوله تعالى كما في الحديث: «أَنَا الْمَلِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، ..»(١٨)، وقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٢٩].
ومِن جهةٍ أخرى فإنَّ أمْرَه ورحمته لا يزالان ينزلان، فقَدْ أخبر الله تعالى عن أمره بقوله: ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [السجدة: ٥]، كما أنَّ الثابت نزولُ جزءٍ مِن رحمة الله مرَّةً واحدةً إلى الأرض في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا..»(١٩)، وفي الحديث تصريحٌ بنزول جزءٍ من الرحمة مرَّةً واحدةً إلى الأرض، بينما إذا حمَلْناه على تفسير المؤوِّلة لَلزم أن تكون أجزاءُ رحماته تنزل كلَّ يومٍ غيرَ الجزء الذي دلَّ عليه الحديث، وهذا بلا شكٍّ مناقضٌ لمقتضى الحديث.
ثمَّ إنَّ المعلوم مِن جهةٍ ثالثةٍ أنَّ الأمر والرحمة إنما ينزلان إلى الأرض، وتأويلُ حديث النزول بنزولهما يَلزم منه بقاؤُهما في السماء، فما فائدة العباد منهما إذا ما بقيت الرحمةُ والأمر في سماء الدنيا؟!!
٥- إذا وقع الخلاف بين العلماء فالمصيرُ إلى الحجَّة التي تفصل بين الناس نزاعَهم، فيرجَّح قولُ مَن كانت حجَّته أقوى، وهذا في كلِّ خلافٍ امتثالاً لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: ٥٩]، وقوله: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ﴾ [الشورى: ١٠]، فالعبرة بالدليل لا بالأشخاص -مهما سَمَت منزلتُهم-، وهذا منهج الإمام مالكٍ إذ قال: «إنما أنا بشرٌ، أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكلُّ ما وافق الكتابَ والسنَّة فخُذُوا به، وكلُّ ما لم يوافق الكتابَ والسنَّة فاتركوه»(٢٠)، وقال أيضًا: «ليس أحدٌ مِن خلق الله إلاَّ يؤخذ مِن قوله ويُترك إلاَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم»(٢١).
وبهذا يتمُّ تفنيدُ تدليسه وبيانُ الخداع الذي انطوى عليه كلامُه.
دفع فرية تشبيه الخالق بالمخلوق في صفة النزول:
افترى المُحاضر على عقيدة أهل السنَّة فريةً عظيمةً حين ادَّعى أنهم يمثِّلون صفاتِ الله بصفات المخلوقين فقال: «ولكنَّ الحشوية الذين يزعمون التمسلف يقولون ينزل حقيقةً كنزولك أنت مِن شجرةٍ أو مِن الطابق العلويِّ أو من المنبر»، وإنما أُتِيَ مِن قِبَل جهله بعقيدة السلف، وحِقده الذي أعماه عن الحقِّ، ذلك لأنَّ كلمة أهل السنَّة مُطْبِقَة على تحريم تمثيل صفات الله بصفات المخلوقين.
قال الإمام ابن عبد البرِّ -رحمه الله-: «أهل السنَّة مُجْمِعون على الإقرار بالصفات الواردة كلِّها في القرآن والسنَّة والإيمان بها وحملِها على الحقيقة لا على المجاز إلاَّ أنهم لا يُكيِّفون شيئًا مِن ذلك ولا يحدُّون فيه صفةً محصورةً، وأمَّا أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلُّها والخوارج فكلُّهم ينكرها ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة ويزعمون أنَّ مَن أقرَّ بها مشبِّهٌ، وهم عند مَن أثبتها نافون للمعبود، والحقُّ فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنَّةُ رسوله وهم أئمَّة الجماعة، والحمد لله»(٢٢).
وقال ابن تيمية -رحمه الله- عن مذهب السلف في الصفات «فطريقتهم تتضمَّن إثباتَ الأسماء والصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات، إثباتًا بلا تشبيهٍ، وتنزيهًا بلا تعطيلٍ، كما قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١]، ففي قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ردٌّ للتشبيه والتمثيل، وقوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ ردٌّ للإلحاد والتعطيل»(٢٣).
وفي نسبة المُحاضر فريةَ التشبيه للسلفية محاكاةٌ للمقرَّر عند نفاة الصفات على اختلاف طبقاتهم في النفي -مِن الجهمية والمعتزلة والأشاعرة- حيث يدَّعون أنَّ إثبات الصفاتِ أو بعضِها يسمَّى تشبيهًا، ذلك لأنَّ دعواهم مبنيَّةٌ على أنَّ ما في الشاهد إلاَّ صفاتُ المخلوقين، لذلك يلتزمون النفيَ مستدلِّين بأنه يَلْزَم مِن إثبات الصفاتِ تشبيهُ الخالق بالمخلوق، وهذا ما يفسِّر رميَهم لمثبتي الصفات مِن السلف وغيرهم بالتجسيم والتشبيه.
وهذا خطأٌ، إذ لا يصحُّ الاعتماد في النفي والإثبات على لزوم التشبيه وعدمه؛ لأنَّ اتِّفاق المسلمين في بعض الأسماءِ والصفاتِ ليس هو التشبيهَ والتمثيلَ الذي نَفَتْه الأدلَّة السمعية والعقلية، فما مِن شيئين إلاَّ وبينهما قدرٌ مشتركٌ وقدرٌ مميِّزٌ، فنفيُه عمومًا نفيٌ للقدر المشترك وهو باطلٌ، وإثباتُه بعمومه إثباتٌ لتساويهمَا في القدر المميِّز وهو باطلٌ، إذ لا يَلزم من التشابه في بعض الوجوه التشابهُ من كلِّ وجهٍ(٢٤).
قال شارح «الطحاوية»: «ويجب أن يُعلم أنَّ المعنى الفاسد الكفريَّ ليس هو ظاهرَ النصِّ ولا مقتضاه، وأنَّ من فَهِمَ ذلك منه فهو لقصور فهمِه ونقصِ علمه، وإذا كان قد قيل في قول بعض الناس:
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحًا * وَآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ
وقيل:
عَلَيَّ نَحْتُ القَوَافِي مِنْ مَعَادِنِِهَا * وَمَا عَلَيَّ إِذَا لَمْ تَفْهَمِ البَقَرُ
كيف يقال في قول الله -الذي هو أصدق الكلام وأحسنُ الحديث، وهو الكتاب الذي ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: ١]-: إنَّ حقيقة قولهم أنَّ ظاهرَ القرآن والحديث هو الضلال، وأنه ليس فيه بيانُ ما يصلح مِن الاعتقاد، ولا فيه بيانُ التوحيد والتنزيه؟! هذا حقيقة قول المتأوِّلين، والحقُّ أنَّ ما دلَّ عليه القرآن فهو حقٌّ، وما كان باطلاً لم يدلَّ عليه، والمنازعون يدَّعون دلالتَه على الباطل الذي يتعيَّن صرفُه!»(٢٥).
وقال الشنقيطيُّ -رحمه الله-: «فتحصَّلَ مِن جميع هذا البحث أنَّ الصفاتِ مِن بابٍ واحدٍ، وأنَّ الحقَّ فيها متركِّبٌ من أمرين:
الأوَّل: تنزيه الله جلَّ وعلا عن مشابهة الخلق.
والثاني: الإيمان بكلِّ ما وصف به نفْسَه، أو وصَفَه به رسولُه صلَّى الله عليه وسلَّم إثباتًا أو نفيًا، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١]، والسلف الصالح رضي الله عنهم ما كانوا يشكُّون في شيءٍ من ذلك، ولا كان يُشْكِلُ عليهم، ألا ترى إلى قول الفرزدق وهو شاعرٌ فقط، وأمَّا مِن جهة العلم فهو عامِّيٌّ:
وَكَيْفَ أَخَافُ النَّاسَ وَاللهُ قَابِضٌ * عَلَى النَّاسِ وَالسَّبْعِينَ فِي رَاحَةِ اليَدِ
ومرادُه بالسبعين: سبع سماواتٍ، وسبع أَرَضِين، فمَنْ عَلِمَ مثلَ هذا مِن كون السماوات والأَرَضين في يده جلَّ وعلا أصغرَ مِن حبَّة خردلٍ؛ فإنه عالمٌ بعظمة الله وجلاله، لا يسبق إلى ذهنه مشابهةُ صفاته لصفات الخلق، ومَن كان كذلك زال عنه كثيرٌ مِن الإشكالات التي أشكلت على كثيرٍ مِن المتأخِّرين، وهذا الذي ذكَرْنا مِن تنزيه الله جلَّ وعلا عمَّا لا يليق به، والإيمانِ بما وصف به نفسَه، أو وصفه به رسولُه صلَّى الله عليه وسلَّم، هو معنى قول الإمام مالكٍ -رحمه الله-: الاستواء غيرُ مجهولٍ، والكيف غيرُ معقولٍ، والسؤال عنه بدعةٌ»(٢٦).
وإن تعجب فعجبٌ تبجُّح المُحاضر في مقالاته المنشورة في الصحف -المملوءة بصور النساء المتبرِّجات والإعلانات المحشوَّة بالمعاصي- ومجالسِه الإضلالية المتلفزة بأنَّه مالكيٌّ، ولو كان كذلك لَاقتفى أثرَ الإمام مالكٍ في العقيدة، فكيف ارتضاه إمامًا في الفروع الفقهية وسوَّغ لنفسه مخالفتَه في الأصول الاعتقادية؟ فاللَّهمَّ احفَظْ علينا عقولَنا، وقد حَكَم على نفسه بنفسه مِن حيث اندراجُه في سلك مَن حذَّر منهم الإمام مالكٌ -رحمه الله-، ومِن أحسنِ ما قاله ابن تيمية -رحمه الله-: «كلام مالكٍ في ذمِّ المبتدعة وهجرِهم وعقوبتهم كثيرٌ، ومِن أعظمهم عنده الجهميةُ الذين يقولون: إنَّ الله ليس فوق العرش، وإنَّ الله لم يتكلَّم بالقرآن كلِّه، وإنه لا يُرى كما وردت به السنَّة، وينفون نحو ذلك مِن الصفات، ثمَّ إنَّه كثيرٌ في المتأخِّرين مِن أصحابه مَن يُنكر هذه الأمورَ كما يُنكرها فروعُ الجهمية، ويجعل ذلك هو السنَّةَ ويجعل القولَ الذي يخالفها -وهو قولُ مالكٍ وسائرِ أئمَّة السنَّة- هو البدعةَ، ثمَّ إنه مع ذلك يعتقد في أهل البدعة ما قاله مالكٌ، فبدَّل هؤلاء الدينَ فصَاروا يطعنون في أهل السنَّة»(٢٧).
والعلمُ عندَ الله تَعَالى، والحمدُ لله أوَّلاً وآخرًا، والصلاةُ والسلامُ عَلى المبعوثِ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه ومَنْ تَبعهُم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.

(١) «مجموع الفتاوى» (٢٨/ ٢٣٢).
(٢) انظر ما كتبه الشيخ أبو عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس -حفظه الله- ردًّا على هذا الرويبضة -قبل أن يشتهر- في زعمه أنَّ ابن تيمية مجسِّمٌ، فكتب الشيخ -حفظه الله- تعريضًا به رسالةً موسومةً به: «دعوى نسبة التشبيه والتجسيم لابن تيمية وبراءته من ترويج المُغْرِضين لها».
(٣) «صبح الأعشى» (٢/ ٥٠٢).
(٤) «اجتماع الجيوش الإسلامية» (٢/ ٥٨).
(٥) أخرجه الخلاَّل في «السنَّة» (٢٥٦)، والآجرِّي في «الشريعة» (٣/ ١١٤٦).
(٦) «ذمُّ الكلام» لأبي الفضل عبد الرحمن الرازي (٢٥٠)
(٧) «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البرِّ (٢/ ٩٤٢).
(٨) أخرجه البخاري في «أبواب التهجُّد» من صحيحه، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل (١١٤٥).
(٩) «أصول السنَّة» لابن أبي زمنين (١١٣).
(١٠) «الآثار الواردة عن أئمَّة السنَّة في أبواب الاعتقاد» لجمال بن أحمد بن بشير بادي (٢٠٩).
(١١) «التمهيد» لابن عبد البرِّ (٧/ ١٤٣).
(١٢) انظر: «الضعفاء والمتروكين» للنسائي (٣٤)، «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (٢/ ١٩٦)، «الكامل في الضعفاء» لابن عَدِيٍّ (٣/ ٣٢٤)، «المجروحين» لابن حبَّان (١/ ٢٦٥)، «ميزان الاعتدال» للذهبي (١/ ٤٥٢)، «تهذيب التهذيب» لابن حجر (٢/ ١٨١).
(١٣) انظر ترجمته في: «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (٣/ ٣١٧)، «الوافي بالوفيات» للصفدي (٤/ ٩٢)، «الأعلام» للزركلي (٦/ ٢٧٥).
(١٤) «ميزان الاعتدال» للذهبي (٢/ ٦٥٧).
(١٥) انظر: «لسان الميزان» للحافظ ابن حجر (٢/ ٤١٥).
(١٦) انظر: «ميزان الاعتدال» للذهبي (١/ ٣٨٧).
(١٧) انظر: «الموضوعات» لابن الجوزي (٢/ ٢٧٩).
(١٨) أخرجه مسلم (٧٥٨) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(١٩) أخرجه البخاري (٦٠٠٠)، ومسلم (٢٧٥٢)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢٠) «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البرِّ (١/ ٧٧٥).
(٢١) المصدر السابق (٢/ ٩٢٥).
(٢٢) «التمهيد» لابن عبد البرِّ (٧/ ١٤٥).
(٢٣) «التدمرية» (٨).
(٢٤) مستفادٌ من كلام الشيخ محمَّد علي فركوس -حفظه الله- في رسالته الموسومة ﺑ: «دعوى نسبة التشبيه والتجسيم لابن تيمية وبراءته من ترويج المُغْرِضين لها» (٢٢).
(٢٥) «شرح الطحاوية» (٢١٥).
(٢٦) «أضواء البيان» (٢/ ٣١).
(٢٧) «الاستقامة» (١/ ١٣).
  #3  
قديم 27 Jun 2016, 11:31 PM
أبو إكرام وليد فتحون أبو إكرام وليد فتحون غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
الدولة: الجزائر
المشاركات: 1,798
افتراضي

سلسلة ردود على الشبهات العقدية
لـ «شمس الدين بوروبي»
[إدارة الموقع]
الشبهة الثانية
نسبة القول بِخِسَّة التكاليف الشرعية للسلفية

قال شمس الدين بوروبي ـ هداه الله ـ: «اتِّهام الصوفية بسقوط التكاليف عنهم، مع أنَّ المتصوِّفة هم أشدُّ الناس تمسُّكًا بالسنَّة، هل تعلمون أنَّ السلفية يُسمُّون الصلاةَ والزكاة والحجَّ بالتكاليف الخسيسة؟ يقول ابنُ القيِّم في «مدارج السالكين» يشرح كلام الهروي: «قولُه: «ويطوي خسَّةَ التَّكاليف» ليت الشَّيخَ عبَّر عن هذه اللَّفظة بغيرها، فواللهِ إنَّها لَأَقبحُ مِنْ شوكةٍ في العين وشجًى في الحَلْقِ، وحاشا التَّكاليفَ أنْ تُوصَفَ بِخِسَّةٍ أو تلحقَها خسَّةٌ، وإنَّما هي قُرَّةُ عينٍ وسرورُ قلبٍ وحياةُ روحٍ، صَدَرَ التَّكليفُ بها عن حكيمٍ حميدٍ، فهي أشرفُ ما وصل إلى العبد مِن ربِّه، وثوابُه عليها أشرفُ ما أعطاه اللهُ للعبد، نَعَمْ، لو قال: يطوي ثِقَلَ التَّكاليف ويخفِّف أعباءَها ونحو ذلك فلعلَّه كان أَوْلى، ولولا مَقامُهُ في الإيمان والمعرفةِ والقيام بالأوامر لَكُنَّا نُسيءُ به الظَّنَّ»».

ثمَّ قال ـ هداه الله ـ: «انظروا الكيلَ بمكيالين، هذه الكلمةُ لو قالها ابنُ عربيٍّ ماذا يحكمون عليه؟ لو قالها الجنيد؟ لو قالها مالكٌ؟ لو قالها الشافعيُّ؟ واللهِ يكفِّرونه ويخرجونه مِن الملل كلِّها، وليس مِن الملَّة فقط، ماذا لو قالها أبي [كذا] حامدٍ الغزَّالي؟ ماذا لو قالها سَرِيٌّ السَّقَطيُّ؟ ماذا لو قالها إبراهيم بنُ الأدهم؟ ماذا لو قالها القاضي عياضٌ؟ ...لماذا لا تعمِّمون حُسْنَ الظنِّ على كلِّ العلماء كما أحسنتم الظنَّ بمن يتَّهم التكاليفَ بأنها خسيسةٌ؟ أحسِنُوا الظنَّ بغيره، وكفى اللهُ المسلمين القتالَ، احْمِلوا كلامَ الصوفية على المحامل الحسنة».

الجواب:
التحقيق في نسبة القول بِخِسَّة التكاليف الشرعية:

ادِّعاء المُحاضِر المتعالم بأنَّ السلفيِّين يتَّهمون الصوفيةَ بالقول بسقوط التكاليف عنهم، ونسبتُه التمسُّكَ بالسنَّة للمتصوِّفة كلامٌ عارٍ عن الدليل، بعيدٌ عن الواقع بعدًا ظاهًرا، فبدعةُ «سقوط التكليف» حقيقةٌ مسطَّرةٌ في كُتُب القوم، لا ينكرها إلَّا جاحدٌ أو مكابرٌ، ولِشدَّة نكير العلماء عليهم سلفًا وخَلَفًا دلَّس المُحاضِرُ البارع في التمويه والتدليس على السامعين محاولًا تخفيفَ قُبحها وألمِها عليهم بنسبتها للسلفية على أنها تهمةٌ منهم للصوفية ـ وهم منها بريئون ـ، ولتجلية حقيقة الأمر وكشفِ إفك المُحاضِر المغالط نسوق بعضَ النقول عن أعيانهم ورؤوسهم:

قال أبو يزيد البسطاميُّ: «لم أرَ الصلاةَ إلَّا نَصَبَ البدن ولا مِن الصوم إلَّا جوعَ البطن»، ويقول: «ليس أفضل للرجل مِن أن يكون بلا شيءٍ، بلا زهدٍ ولا علمٍ ولا عملٍ، فإنه إذا كان بلا شيءٍ كان له كلُّ شيءٍ»، ويقول: «عجبتُ ممَّن عرف اللهَ كيف يعبده»(١).

وقال أحمد بن عطاءٍ مِن مشايخ الصوفية: «العارف لا تكليفَ عليه»(٢).

وقد جرَّتهم نظرتُهم الاحتقارية للتكاليف الشرعية إلى ارتكاب المحارم والولوجِ في المُوبِقات المُهْلِكات، قال مؤسِّس الطريقة البرهانية محمَّد عثمان عبده البرهاني: «المجاذيب(٣) لا يصلُّون ولا يصومون، ويشربون الخمرَ، لكنَّهم أولياء، والمسلم والكافر وإبليس عندهم واحدٌ، وهؤلاء المجاذيبُ يرَوْن العالَمَ كلَّه بإنسه وجنِّه ودوابِّه، فهُم يُغيثون الناسَ ويرسلون الملائكةَ لدفعِ الأذى عنهم، ويرسلون الأرزاقَ إلى الحيَّات والعقارب في أوكارها، لذلك هم لا يصلُّون بسبب مشاغلهم الكثيرة، فلا وقت عندهم للصلاة، وعندما يتعاطَوْن الخمورَ والمريسة فلا حسابَ عليهم، وهُم يروِّجون السفاهاتِ لأنهم لا يعصون اللهَ ما أمرهم، والأرضُ لا تقف إذا عُدِم المجاذيبُ فيها»(٤).

وسندُ القول بسقوط التكاليف الشرعية نابعٌ مِن خلطهم بين الإرادة الكونية والشرعية، وراجعٌ كذلك إلى خزعبلات الكشف(٥) ودعاوى الاتِّصال(٦) وعقيدةِ الحلول والاتِّحاد التي رسم معالمَها وشيَّد أُسُسَها مُحيي الدين بنُ عربيٍّ القائلُ:

العَبْدُ رَبٌّ وَالرَّبُّ عَبْدٌ * يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنِ المُكَلَّفْ

إِنْ قُلْتَ: عَبْدٌ؛ فَذَاكَ رَبٌّ * أَوْ قُلْتَ: رَبٌّ؛ أَنَّى يُكَلَّفْ؟(٧)

فلمَّا صيَّر وجودَ الربِّ هو عينَ وجود العبد؛ أنتج مِن ذلك أنْ لا أحدَ يكلِّف الآخَرَ فعطَّل العبودية واستغنى عنها، وصاروا مِن أشرِّ الطوائف وأفسدِ الملل.

قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «فهؤلاء المتصوِّفون الذين يَشْهَدون الحقيقةَ الكونية مع إعراضهم عن الأمر والنهي: شرٌّ مِن القدرية المعتزلة ونحوِهم: أولئك يُشْبِهون المجوسَ وهؤلاء يُشبهون المشركين الذين قالوا: ﴿لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٤٨]، والمشركون شرٌّ مِن المجوس»(٨).

وهم ـ بزندقتهم هذه ـ يدَّعون ـ بلسان حالهم ـ لأنفسهم مقامًا لم يَنَلْه الأنبياءُ والمرسلون وخيارُ الصحابة وأفاضلُهم المبشَّرون بالجنان، وما نُقِل عن واحدٍ منهم الفتورُ أو التقصير، وما زادهم التبشيرُ إلَّا اجتهادًا في العمل ومداومةً على الصالحات؛ لإيقانهم أنه لا أسمى للمكلَّف ولا أرفع له مِن أن يعيش عبدًا لربِّه: يأمرُه فيأتمر وينهاه فينتهي، ويقدِّم محابَّ ربِّه على محابِّه وما يهواه.

قال ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ: «ومَن زعم أنه يصل إلى مقامٍ يسقط عنه فيه التعبُّدُ؛ فهو زنديقٌ كافرٌ بالله وبرسوله، وإنما وصل إلى مقام الكفر بالله والانسلاخِ مِن دينه، بل كلَّما تمكَّن العبدُ في منازل العبودية كانت عبوديتُه أَعْظَمَ، والواجبُ عليه منها أكبرَ وأكثر مِن الواجب على مَن دونه، ولهذا كان الواجب على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بل على جميع الرسل أعظمَ مِن الواجب على أممهم، والواجب على أولي العزم أعظمَ مِن الواجب على مَن دونهم، والواجب على أولي العلم أعظمَ مِن الواجب على مَن دونهم، وكلُّ أحدٍ بحسب مرتبته»(٩).
تفنيد نسبة القول بِخِسَّة التكاليف الشرعية للسلفية:

قوله: «إنَّ السلفية يُطلقون على الصلاة والزكاة والحجِّ: التكاليفَ الخسيسة» هو مِن أعظمِ البهتان ومِن أخسِّ صور التدليس، حيث إنَّ العبارة التي نقلها عن الإمام أبي إسماعيل الهرويِّ ـ رحمه الله ـ مستدِلًّا بها على بهتانه في حقِّ السلفيِّين ممَّا انفرد بها الهرويُّ ـ رحمه الله ـ ولم يُقِرَّه عليها أئمَّةُ العلم ومشايخُ الدعوة، فتعقَّبه ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ منتقِدًا له كما سَلَف في النقل عنه، وانتقده ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بقوله: «وقد ذكر في كتابه «منازل السائرين» أشياءَ حسنةً نافعةً وأشياءَ باطلةً»(١٠)، وقال الإمام الحافظ شمس الدين الذهبيُّ ـ رحمه الله ـ: «فيا ليته لا ألَّف كتاب «المنازل» ففيه أشياءُ منافيةٌ للسلف وشمائلِهم»(١١).

فتعبيرُ الهرويِّ ـ رحمه الله ـ عن التكاليف الشرعية بأنها خسَّةٌ هفوةٌ منه ـ غفر الله له ـ، مخالِفةٌ للسلف وشمائلهم، فكيف يُعاب السلفيةُ بأمرٍ لم يُقِرُّوه؟ قال ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ: «ومَن له علمٌ بالشرع والواقع يعلم قطعًا أنَّ الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدمٌ صالحٌ وآثارٌ حسنةٌ وهو مِن الإسلام وأهله بمكانٍ قد تكون منه الهفوةُ والزلَّةُ هو فيها معذورٌ بل ومأجورٌ لاجتهاده؛ فلا يجوز أن يُتَّبع فيها، ولا يجوز أن تُهْدَر مكانتُه وإمامته ومنزلته مِن قلوب المسلمين»(١٢).

وممَّا يدلُّ على تعظيم السلفية للتكاليف الشرعية اتِّفاقُ كلمتهم على أنَّ الأعمال داخلةٌ في حقيقة الإيمان ومسمَّاه، وأنَّ ترك جنس العمل يزيل أصلَ الإيمان، قال ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ: «فمَن لم يَرَ القيامَ بالفرائض ـ إذا حصلت له الجمعيةُ ـ فهو كافرٌ منسلِخٌ مِن الدين، ومَن عطَّل لها مصلحةً راجحةً ـ كالسنن الرواتب، والعلمِ النافع، والجهادِ، والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، والنفعِ العظيم المتعدِّي ـ فهو ناقصٌ»(١٣).

كما أنَّ المصنَّفاتِ السلفيةَ في تعظيم التكاليف الشرعية دليلٌ آخَرُ على بطلان ما نَسَبه إليهم المُحاضِرُ، ومِن أمثلة ذلك:

ـ كتاب «تعظيم قَدْر الصلاة» للإمام أبي عبد الله محمَّد بن نصرٍ المروزيِّ في مجلَّدين.

ـ وكتاب «الصلاة وحكم تاركها» للعلَّامة ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ في مجلَّدٍ.

ـ و«آداب المشي إلى الصلاة»، و«شروط الصلاة وأركانها»، و«منسك الحجِّ» ثلاثتها لشيخ الإسلام الإمام المجدِّد محمَّد بن عبد الوهَّاب ـ رحمه الله ـ.

ـ و«صفة صلاة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن التكبير إلى التسليم كأنك تراها» للمحدِّث الفقيه: محمَّد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله ـ في ثلاث مجلَّداتٍ. وله في «مناسك الحجِّ» مؤلَّفٌ.

ولا زال العلماء على منوالِ مَن سبقهم يسيرون، وعلى منهجهم مِن تعظيم التكاليف الشرعية يحرصون وفيه يؤلِّفون، وما ذُكِر هو مِن باب المثال لا الحصر.

هذا، والمُحاضِر المسكين يجهل أنَّ هذا النقلَ مِن «منازل السائرين» يضاف إلى سجلِّ الصوفية وانحرافهم، فإنه لأجلِ ما وقع فيه ـ أي: «منازل السائرين» ـ مِن زلَّاتٍ سلوكيةٍ ومزالقَ تتوافق ومسلكَ الصوفية نسبوه إليهم تمسُّكًا واعتمادًا، قال الذهبي: «ورأيتُ أهلَ الاتِّحاد (يعني: الصوفيةَ القائلين بوحدة الوجود) يعظِّمون كلامَه في «منازل السائرين» ويدَّعون أنه موافِقُهم ذائقٌ لوَجْدِهم ورامزٌ لتصوُّفهم الفلسفيِّ»(١٤)، فخِسَّةُ التكاليف الشرعية مِن مزاعم الصوفية وضلالاتهم لا مِن مقالات السلفية.
حسن الظنِّ لمن هو أهلُه:

وأمَّا قول المُحاضِر المتلاعب: «انظروا الكيلَ بمكيالين، هذه الكلمة لو قالها ابنُ عربيٍّ ماذا يحكمون عليه؟..» إلخ فغايةٌ في الخلط ونهايةٌ في الخبط، فكيف يستقيم نظمُ مَن عُرِف بالسنَّة والجهاد في سبيلها كالإمام مالكٍ والشافعيِّ ـ رحمهما الله ـ بمن عُرِف بالبدعة والاستماتة في الانحراف كابن عربيٍّ الذي «كلامُه دائرٌ على الوحدة المطلقة، وهي: أنه لا شيء سوى هذا العالَم، وأنَّ الإله أمرٌ كلِّيٌّ لا وجود له إلَّا في ضمن جزئيَّاته، ثمَّ إنه يسعى في إبطال الدين مِن أصله بما يَحُلُّ به عقائدَ أهله؛ .. وهذا يحطُّ ـ عند مَن له وعيٌ ـ على اعتقاد: أنه لا إله أصلًا»(١٥).

ضمن صفٍّ واحدٍ؟! وزيادةً في التضليل ذَكَر المتلاعبُ أسماءَ أعلامٍ لبعضهم كلامٌ ظاهرُه يوافق ما عليه المتصوِّفةُ ولذلك ينسبونهم إلى طريقتهم، كأبي حامدٍ الغزَّاليِّ ـ رحمه الله ـ، فقد كان مِن أذكياء العالَم متفنِّنًا في العلوم، ولكنَّه أُتِي مِن قِبَل عدم تنشئته على منهج أهل الحديث، فتشرَّب مسلكَ أهل الكلام منذ صغره إلى أن منَّ اللهُ عليه بالنور فأبصر خطأَ سيره، واستدرك بعضَ ما فاته بمؤلَّفٍ سمَّاه: «تهافت الفلاسفة»، يقول عنه ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وفي آخر عمره اشتغل بالحديث: بالبخاريِّ ومسلمٍ»(١٦)، ولكنَّ الوقت لم يُسعفه ليتخلَّص مِن التلوُّث الذي عَلِق به، قال أبو بكر بنُ العربيِّ المالكيُّ: «شيخنا أبو حامدٍ بَلَع الفلاسفةَ وأراد أن يتقيَّأهم فما استطاع»(١٧).

وجديرٌ بالتنبيه أنَّ العبرة في إحسان الظنِّ بسيرة القائل ومسيرته، فمَن أفنى عُمُرَه في بيان حقيقة الإسلام ودعوة الرسل، واجتهد في صفائه؛ يُحْمَلُ كلامُه المُجانبُ للصواب أحسنَ المحامل ويُتأوَّل له وجهٌ سليمٌ يحتمله كلامُه، وإلَّا رُدَّ بأدبٍ يليق بمكانته العلمية، خلافًا لمن عُلِم منه الانحرافُ عن الصراط السويِّ وعُرِف بالمخالفة وجعلها سمةً بارزةً لدعوته، فيُعامَل بما يليق به مِن الردِّ والتحذير، يقول ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ: «والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدُهما أعظمَ الباطل، ويريد بها الآخَرُ محضَ الحقِّ، والاعتبارُ بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه ويناظر عليه»(١٨)، تحقيقًا للعدل المأمورِ به شرعًا، وعملًا بقوله ـ تعالى ـ: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ [الأعراف: ٥٨]، وفي حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: تلا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الآية: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: ٧] قالت: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ»(١٩)، فأرشد صلَّى الله عليه وسلَّم إلى معاملتهم بما يستحقُّون لأنهم ليسوا أهلًا لحُسْن الظنِّ بهم، وكيف يُظَنُّ الحسنى بمن يشوِّه صورةَ الإسلام بالبدع ويكدِّر صفاءَه؟!

وهكذا تَعَامَل ابنُ القيِّم مع كلام الإمام الهرويِّ ـ رحمهما الله ـ حيث راعى جهادَه في الحقِّ ومواقفَه في ردِّ الباطل وشدَّتَه على المبتدعة مِن الجهمية والمعتزلة وعلماء الكلام والفلاسفة، قال عنه: «وكان شيخ الإسلام ـ قدَّس الله روحَه ـ راسخًا في إثبات الصفات، ونفيِ التعطيل ومعاداةِ أهله، وله في ذلك كتبٌ مثل: كتاب «ذمِّ الكلام» وغيرِ ذلك ممَّا يخالف طريقةَ المعطِّلة والحلولية والاتِّحادية»(٢٠)، ومِن ميزات المنهج السلفيِّ أنه يقبل الحقَّ ممَّن قاله، ويردُّ الباطلَ على مَن قاله.

قال الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ: «ثمَّ إنَّ الكبيرَ مِن أئمَّةِ العلمِ إذا كَثُرَ صوابُه، وَعُلِمَ تحرِّيه للحقِّ، واتَّسع علمُه، وظَهَرَ ذكاؤه، وعُرِف صلاحُه ووَرَعُه واتِّباعُه؛ يُغْفَرُ له زَلَلُهُ، ولا نضلِّله ونطرحه وننسى مَحَاسِنَه، نعم، ولا نقتدي به في بدعته وخَطَئِه، ونرجو له التوبةَ مِنْ ذلك»(٢١).

والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.

(١) انظر: «المجموعة الكاملة لأبي يزيد البسطامي» (٥٢، ٥٣، ٥٩).
(٢) «الطبقات الكبرى» للشعراني (١/ ٩٦)، وانظر «جهود علماء السلف في القرن السادس الهجري في الردِّ على الصوفية» لمحمَّد الجوير (٣٩٢).
(٣) الجذب لغة: القطع. قال ابن فارسٍ: «الجِيمُ والذَّالُ والباءُ أصلٌ واحدٌ يدلُّ على بَتْرِ الشيء» [«مقاييس اللغة» (١/ ٤٤٠)]، وفي اصطلاح المتصوِّفة: هو جذبُ الله ـ تعالى ـ عبدًا إلى حضرته، وهو يقابل «السالك» الذي يقطع الطريقَ بالمجاهدة والرياضة [انظر: «كشَّاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي (١/ ٩٧٠)].
(٤) مِن كتاب «علِّموا عنِّي» لمحمَّد عثمان عبده البرهاني (١/ ٦٠ ـ ٦٧).
(٥) عرف الغزَّاليُّ الكشفَ بقوله: «أن يرتفع الغطاءُ حتَّى تتَّضح له جليَّةُ الحقِّ في هذه الأمور اتِّضاحًا يجري مجرى العيان الذي لا يشكُّ فيه» [انظر: «إحياء علوم الدين» (١/ ٢٠)]. وقال الجرجانيُّ في «التعريفات» (١٨٤) عن الكشف في الاصطلاح بأنه: «هو الاطِّلاع على ما وراء الحجاب مِن المعاني الغيبية والأمورِ الحقيقية وجودًا وشهودًا».
(٦) يُعرِّف الصوفيةُ الاتِّصال بعدَّة تعريفاتٍ منها قولُهم: «هو مكاشفات القلوب ومشاهداتُ الأسرار». أو هو «أن لا يشهد العبدُ غيرَ خالقه ولا يتَّصل بسرِّه خاطرٌ لغير صانعه». وقال بعضهم: «الاتِّصال: اتِّصال المدد الوجوديِّ وتجلِّي الرحمن على العبد».
(٧) «الفتوحات المكِّية» لابن عربي (٢/ ١)
(٨) «مجموع الفتاوى» (٣/ ١٠٤).
(٩) «مدارج السالكين» (١/ ١١٧).
(١٠) «منهاج السنَّة» لابن تيمية (٥/ ٣٤٢).
(١١) «مختصر العلوِّ» (٢٧٨).
(١٢) «أعلام الموقِّعين» (٣/ ٢٢٠).
(١٣) «مدارج السالكين» (٣/ ١١٢).
(١٤) «تذكرة الحفَّاظ» للذهبي (٣/ ٢٤٩).
(١٥) «تنبيه الغبيِّ إلى تكفير ابن عربيٍّ» للبقاعي (١٩).
(١٦) «منهاج السنَّة» (٥/ ٢٦٩).
(١٧) انظر: «سير أعلام النبلاء» للذهبي (١٤/ ٢٦٩).
(١٨) «مدارج السالكين» (٣/ ٤٨١).
(١٩) أخرجه البخاري (٤٥٤٧).
(٢٠) انظر: «مدارج السالكين» (٣/ ٤٨١).
(٢١) «سير أعلام النبلاء» (٩/ ٣٢٥).
  #4  
قديم 27 Jun 2016, 11:34 PM
أبو إكرام وليد فتحون أبو إكرام وليد فتحون غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
الدولة: الجزائر
المشاركات: 1,798
افتراضي

سلسلة ردود على الشبهات العقدية
لـ «شمس الدين بوروبي»
[إدارة الموقع]
الشبهة الثالثة
نسبة ادِّعاء علم الغيب لابن تيمية ـ رحمه الله ـ

قال المُحاضِر ـ هداه الله ـ: «اتَّهَموا الصوفيةَ بالغلوِّ في رسول الله ثمَّ سقطوا في بدعة الجفاء، ثمَّ سقطوا في بدعة الغلوِّ في ابن تيمية، اسمعوا جيِّدًا يا جماعة «مدارج السالكين» ... ها هو كتاب «مدارج السالكين»، أَنْكَروا على الإمام البوصيري أن يقول لرسول الله:

وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمُ اللَّوْحِ وَالقَلَمِ

اسمعوا ماذا يقول ابن القيِّم في «مدارج السالكين»، الكتاب موجودٌ، لست أنا الذي ألَّفتُه ولست أنا الذي أنشرُه بين المسلمين، يقول عن ابن تيمية: «ولقد شاهدتُ مِن فراسة شيخ الإسلام ابن تيميَّة ـ رحمه الله ـ أمورًا عجيبةً، وما لم أشاهده منها أعظمُ وأعظمُ، ووقائعُ فراسته تستدعي سِفْرًا ضخمًا، أخبر أصحابَه بدخول التَّتار الشَّامَ سنةَ تسعٍ وتسعين وستِّمائةٍ، وأنَّ جيوش المسلمين تُكْسَرُ، وأنَّ دمشق لا يكون بها قتلٌ عامٌّ ولا سبيٌ عامٌّ، وأنَّ كَلَبَ الجيشِ وحِدَّتَه في الأموال، وهذا قبل أن يَهُمَّ التَّتارُ بالحركة. ثمَّ أخبر النَّاسَ والأمراءَ سنةَ اثنتين وسبعمائةٍ لمَّا تحرَّك التَّتارُ وقصدوا الشَّامَ: أنَّ الدَّائرةَ والهزيمةَ عليهم، وأنَّ الظَّفَرَ والنَّصرَ للمسلمين، وأقسم على ذلك أكثرَ مِن سبعين يمينًا، فيقال له: «قُلْ: إن شاء الله»، فيقول: «إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا» [هذا رجلٌ يزعم أنَّ شيخَه يعلم الغيبَ ويعلم أنَّ التتار سيدخلون إلى البلاد الإسلامية وأنهم سينتصرون وأنهم سيُكْسَرون في بعض المعارك...]، وسمعتُه يقول ذلك، قال: «فلمَّا أكثروا عليَّ قلت: لا تُكْثِروا [ماذا قال؟ اسمعوا جيِّدًا] كَتَبَ اللهُ ـ تعالى ـ في اللَّوح المحفوظ [هل يجوز لمسلمٍ أن يدَّعيَ الغيبَ ثمَّ يزعمَ أنَّ الله كتبه في اللوح المحفوظ؟ هل هذا معصومٌ؟ هل أوحى الله إليه؟ أوحِيَ بعد رسول الله؟] أنَّهم مهزومون في هذه الكرَّة، وأنَّ النَّصر لجيوش الإسلام. قال: وأطمعَتْ بعضَ الأمراء والعسكر حلاوةُ النَّصر قبل خروجهم إلى لقاء العدوِّ»».

ماذا نسمِّي هذا؟ ينكرون على رسول الله أن يُطلعه على بعض غيبه، ولكنَّهم لا ينكرون على مشايخهم ادِّعاءَ الغيب».

الجواب:

زعمُ المُحاضِر المراوغ أنَّ ابنَ القيِّم يدَّعي في ابن تيمية ـ رحمهما الله ـ اطِّلاعَه على الغيب زعمٌ باطلٌ مُنمٌّ عن جهلٍ عريضٍ بحقائق الأمور ووجهِ التفريق بينها، فعدمُ معرفة المُحاضِر ـ هداه الله ـ الفرقَ بين ماهية الأشياء أنتج له ظلمًا لهذين العَلَمين ـ رحمهما الله ـ وتجنِّيًا على السلفية، والحقُّ أنه جنى على نفسه إذ نصَّبها ناقدةً وحاكمةً على الغير، وهو فاقدٌ للميزان الذي يميِّز به الاختلافَ الحاصل بين حقيقة «الغيب»، و«الإلهام» و«الفراسة» لقِصَرٍ في الفهم وطول باعٍ في الجهل، فتمسَّك بالقَدْر المشترَك بينها وألغى الخصائصَ الفارقة لها، وأعطى حقائقَ كلِّ نوعٍ للآخَرِ(١).

وسنسوق كلامَ ابن القيِّم بتمامه ونبيِّن وَهَاءَ ما دندن حوله المُحاضِر، يقول ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ: «ولقد شاهدتُ مِن فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أمورًا عجيبةً، وما لم أشاهده منها أعظمُ وأعظمُ، ووقائع فراسته تستدعي سِفْرًا ضخمًا، أخبر أصحابَه بدخول التتار الشامَ سنة تسعٍ وتسعين وستِّمائةٍ، وأنَّ جيوشَ المسلمين تُكسر، وأنَّ دمشق لا يكون بها قتلٌ عامٌّ ولا سبيٌ عامٌّ، وأنَّ كَلَب الجيش وحِدَّته في الأموال، وهذا قبل أن يَهُمَّ التتارُ بالحركة، ثمَّ أخبر الناس والأمراء سنةَ اثنتين وسبعمائةٍ لمَّا تحرَّك التتارُ وقصدوا الشامَ: أنَّ الدائرة والهزيمة عليهم، وأنَّ الظفر والنصر للمسلمين، وأقسم على ذلك أكثرَ مِن سبعين يمينًا، فيقال له: «قل: إن شاء الله»، فيقول: «إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا»، وسمعتُه يقول ذلك، قال: «فلمَّا أكثروا عليَّ قلت: لا تُكْثِروا، كتب الله ـ تعالى ـ في اللوح المحفوظ أنهم مهزومون في هذه الكرَّة وأنَّ النصر لجيوش الإسلام. قال: وأطمعَتْ بعضَ الأمراء والعسكر حلاوةُ النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو». وكانت فراستُه الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر، ولمَّا طُلِب إلى الديار المصرية وأريد قتلُه ـ بعدما أُنضجت له القدورُ، وقُلِّبت له الأمورُ ـ اجتمع أصحابُه لوداعه وقالوا: «قد تواترت الكتبُ بأنَّ القوم عاملون على قتلك»، فقال: «واللهِ لا يَصِلُون إلى ذلك أبدًا»، قالوا: «أفتُحْبَس؟» قال: «نعم، ويطول حبسي، ثمَّ أُخْرَج وأتكلَّم بالسنَّة على رءوس الناس»، سمعتُه يقول ذلك. ولمَّا تولَّى عدوُّه الملقَّب بالجاشنكير المُلْكَ أخبروه بذلك وقالوا: «الآن بلغ مرادَه منك»، فسجد لله شكرًا وأطال، فقيل له: «ما سبب هذه السجدة؟» فقال: «هذا بداية ذلِّه ومفارقةِ عزِّه مِن الآن، وقربُ زوال أمره»، فقيل: «متى هذا؟» فقال: «لا تُرْبَط خيولُ الجند على القرط حتى تُغْلَب دولتُه»، فوقع الأمرُ مثل ما أخبر به، سمعتُ ذلك منه. وقال مرَّةً: «يدخل عليَّ أصحابي وغيرُهم، فأرى في وجوههم وأَعْيُنِهم أمورًا لا أذكرها لهم»، فقلت له ـ أو غيري ـ: «لو أخبرتَهم؟» فقال: «أتريدون أن أكون معرِّفًا كمعرِّف الولاة؟» وقلت له يومًا: «لو عامَلْتَنا بذلك لَكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح»، فقال: «لا تصبرون معي على ذلك جمعةً، أو قال: شهرًا». وأخبرَني غيرَ مرَّةٍ بأمورٍ باطنةٍ تختصُّ بي ممَّا عزمتُ عليه ولم ينطق به لساني، وأخبرَني ببعض حوادثَ كبارٍ تجري في المستقبل ولم يعيِّن أوقاتَها، وقد رأيتُ بعضَها وأنا أنتظر بقيَّتَها، وما شاهده كبارُ أصحابه مِن ذلك أضعافُ أضعافِ ما شاهدتُه. والله أعلمُ»(٢).

إخبارُ ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عن بعض وقائع الحرب مع التتار هو مِن باب الإلهام الذي يخصُّ به اللهُ ـ سبحانه ـ مَن يشاء مِن خَلْقه، وقد جاء في الحديث قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ»(٣)، قال سفيان: «المُحَدَّثُ أَعْلَمُهُمْ بِالصَّوَابِ الَّذِي يُلْقَى عَلَى فِيهِ»(٤)، وقال ابن الأثير: «أراد بقوله: محدَّثون: أقوامًا يصيبون إذا ظنُّوا وحدَسُوا، فكأنهم قد حُدِّثوه بما قالوا، وقد جاء في الحديث تفسيرُه: «أنهم مُلْهَمُون» والمُلْهَم: الذي يُلْقَى في نفسه الشيءُ، فيُخْبِر به حَدْسًا وظَنًّا وفراسةً، وهو نوعٌ يختصُّ اللهُ به مَن يشاء مِن عباده الذين اصطفى، مثل عمر رضي الله عنه»(٥).

وجزمُه ـ رحمه الله ـ بالنصر لجيش المسلمين والكسرِ للأعداء بناءً على وعد الله ـ سبحانه ـ لعباده المتَّقين حين تحقيقهم شروطَ النصر وطرحِهم موانعَه بالظفر والنصر، قال ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ: «وكان يَتأوَّلُ في ذلك أشياءَ مِن كتاب الله منها قولُه ـ تعالى ـ: ومَن ﴿بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ﴾ [الحج: ٦٠]»(٦)، ذلك لأنَّ المسلمين إنما يستمدُّون قوَّتَهم مِن الله ـ سبحانه ـ، فعند الْتجائهم إلى الله توكُّلًا ورغبةً واستعانةً وقطعِهم الطمعَ فيمن سواه ونصرِهم دينَه بامتثال أوامره والكفِّ عن زواجره يصيرون أهلًا لنصرِ الله لهم، قال ـ تعالى ـ: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: ٤٧]، والمؤمنون هم: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: ٢]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمَّد: ٧]، وقال: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: ١٢٨]، وقال: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: ١٢٨]، وقال: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: ١٢٠]، وقال: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: ١٢٥ ـ ١٢٦]، وقال: ﴿وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [المائدة: ١٢]، وقال: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ [إبراهيم: ١٣ ـ ١٤]، تلك هي شروطُ النصر التي رآها ابن تيمية ـ رحمه الله ـ متمثِّلةً في جيش المسلمين فجزم بهزيمة عدوِّهم، وقد كانوا مِن قبلُ قد تلبَّسوا بما يمنعهم مِن أن يُكْرِمهم الله بإحدى الحسنيين. ويزيد هذا وضوحًا قولُ ابن تيمية ـ رحمه الله ـ واصفًا الحالَ التي كان عليها المقاتلون للتتار وسببَ تخلُّف النصر عنهم وكيف غيَّر اللهُ حالَهم حين بدَّلوا ما بأنفسهم: «حتَّى إنَّ العدوَّ الخارج عن شريعة الإسلام لمَّا قَدِم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كَشْفَ ضرِّهم، وقال بعضُ الشعراء:

يَا خَائِفِينَ مِنَ التَّتَرْ * لُوذُوا بِقَبْرِ أَبِي عُمَرْ

أو قال:

عُوذُوا بِقَبْرِ أَبِي عُمَرْ * يُنْجِيكُمُ مِنَ الضَّرَرْ

فقلت لهم: هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لَانهزموا كما انهزم مَن انهزم مِن المسلمين يوم أُحُدٍ؛ فإنه كان قد قُضي أنَّ العسكر ينكسر لأسبابٍ اقتضت ذلك ولحكمةِ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ في ذلك. ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرَّة لعدم القتال الشرعيِّ الذي أَمَر اللهُ به ورسولُه، ولِما يحصل في ذلك مِن الشرِّ والفساد، وانتفاءِ النصرة المطلوبة مِن القتال، فلا يكون فيه ثوابُ الدنيا ولا ثوابُ الآخرة لمن عرف هذا وهذا، وإن كان كثيرٌ مِن المقاتلين الذين اعتقدوا هذا قتالًا شرعيًّا أُجِروا على نيَّاتهم.

فلمَّا كان بعد ذلك جعَلْنا نأمر الناسَ بإخلاص الدين لله ـ عزَّ وجلَّ ـ والاستغاثةِ به، وأنهم لا يستغيثون إلَّا إيَّاه، لا يستغيثون بملَكٍ مقرَّبٍ ولا نبيٍّ مرسلٍ؛ كما قال ـ تعالى ـ يوم بدرٍ: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ [الأنفال: ٩]، ورُوِي أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يوم بدرٍ يقول: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ»(٧)، وفي لفظٍ: «أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ»(٨)، فلمَّا أصلح الناسُ أمورَهم وصدقوا في الاستغاثة بربِّهم نَصَرهم على عدوِّهم نصرًا عزيزًا، ولم تُهزم التتارُ مثلَ هذه الهزيمة قبل ذلك أصلًا؛ لِما صحَّ مِن تحقيق توحيد الله ـ تعالى ـ وطاعةِ رسوله ما لم يكن قبل ذلك؛ فإنَّ الله ـ تعالى ـ ينصر رسولَه والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهادُ»(٩)

فظهر مِن هذا أنَّ ابن القيِّم ـ عليه رحمةُ الله ـ لم يدَّعِ في شيخه معرفةَ الغيب، وأنَّ ابن تيمية حين جزم بالنصر استدلَّ بأحوال المسلمين وصلاحِ عقائدهم وأعمالهم في تحقيق موعود الله الذي لا يُخْلِف وَعْدَه.

وأمَّا قول ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ: «وقال مرَّةً: «يدخل عليَّ أصحابي وغيرُهم فأرى في وجوههم وأعينهم أمورًا لا أذكرها لهم»، فقلت له ـ أو غيري ـ: «لو أخبرتَهم؟» فقال: «أتريدون أن أكون معرِّفًا كمعرِّف الولاة؟» وقلت له يومًا: «لو عامَلْتَنا بذلك لَكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح»، فقال: «لا تصبرون معي على ذلك جمعةً، أو قال: شهرًا»، وأخبرني غيرَ مرَّةٍ بأمورٍ باطنةٍ تختصُّ بي ممَّا عزمتُ عليه ولم ينطق به لساني» فهو مِن باب الفراسة وهي على نوعين: الأوَّل: وهو ما يُوقِعه اللهُ ـ تعالى ـ في قلوب أوليائه، فيعلمون أحوالَ بعض الناس بنوعٍ مِن الكرامات وإصابة الظنِّ والحدس، والثاني: نوعٌ يُتعلَّم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق، فتُعرف به أحوالُ الناس(١٠).

فعلى النوع الأوَّل: هي ضربٌ مِن ضروبِ الإلهام يهجم على القلب، ويَثِبُ عليه كوثوبِ الأسد على الفريسة يَرِدُ على حسب قوَّة الإيمان، فمَن كان أقوى إيمانًا فهو أحدُّ فراسةً، وعلى النوع الثاني: فَطُولُ مصاحبةِ تلامذة ابن تيمية ـ رحمه الله ـ له، ومعرفتُه بسلوكياتهم الظاهرة وخبرتُه بهم، مع ما يحدث غالبًا مِن تحديثهم لشيخهم عن بعض أسرارهم قَصْدَ الاستنصاح، أثمر له حدسًا وظنًّا بما في بواطنهم استدلالًا بما يظهر على تقاسيم وجوههم، وحركاتِ أجسامهم، وخطفاتِ نظراتهم، وليس هذا مِن قبيل ادِّعاء علمِ الغيب ألبتَّةَ(١١)، بل حدسٌ وظنٌّ مبنيٌّ على القرائن وشواهدِ الأحوال وقضايا العادات، شأنُه شأنُ توقُّعات الأحوال الجوِّيَّة القائمة على دراساتٍ معيَّنةٍ واستدلالٍ بالنظائر والتجارب، لا مدخل له في ادِّعاء علم الغيب.
تفنيد فرية اطِّلاع ابن تيمية على اللوح المحفوظ:

وأمَّا زعمُ المُحاضِر أنَّ ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يدَّعي اطِّلاعَه على اللوح المحفوظ بناءً على ما قاله ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ: «وسمِعْتُه يقول ذلك. قال: فلمَّا أكثروا عليَّ قلت: لا تُكْثِرُوا، كتب اللهُ ـ تعالى ـ في اللَّوح المحفوظ أنَّهم مهزومون في هذه الكرَّة وأنَّ النَّصر لجيوش الإسلام».

فليس في هذا الكلام أدنى مسكةٍ لاتِّهام ابن تيمية بادِّعاء اطِّلاعه على اللوح المحفوظ؛ لأنَّ ثمَّةَ فرقًا واضحًا بين قول: «أطَّلِعُ على اللوح المحفوظ» أو «أعلمُ ما في اللوح المحفوظ» وبين قول: «كتب اللهُ ـ تعالى ـ في اللَّوح المحفوظ كذا» لاسيَّما وأنَّ ابن تيمية ـ رحمه الله ـ قد صرَّح في أكثرَ مِن موضعٍ مِن كُتُبه ومصنَّفاته بعباراتٍ وجملٍ لا تحتمل التأويلَ بأنَّ معتقَدَه الذي يَدين الله به أنْ لا أحدَ يطَّلع على اللوح المحفوظ إلَّا اللهُ ـ سبحانه ـ، ومِن ذلك قولُه ـ رحمه الله ـ: «فإن قيل: هم يذكرون لمعرفة النبيِّ بالغيب سببًا آخَرَ وهو أنهم يقولون: إنَّ الحوادث التي في الأرض تعلمها النفسُ الفلكية ويسمِّيها مَن أراد الجمعَ بين الفلسفة والشريعة باللوح المحفوظ كما يوجد في كلام أبي حامدٍ ونحوِه، وهذا فاسدٌ فإنَّ اللوح المحفوظ الذي وردت به الشريعةُ «كَتَبَ اللهُ فِيهِ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، واللوحُ المحفوظ لا يطَّلع عليه غيرُ الله»(١٢).

وأمَّا ما جزم به ـ رحمه الله ـ مِن أنَّ الله كتب في اللوح المحفوظ أنهم منصورون فبناءً على ما مضى مِن دلائل الحال مستمَدَّةً مِن نصوصٍ قرآنيةٍ سبق ذكرُ جملةٍ منها.
إثبات أنَّ الصوفية يدَّعون الاطِّلاعَ على اللوح المحفوظ:

ما اتَّهم به المُحاضِرُ ابنَ تيمية ـ رحمه الله ـ والسلفيةَ هو ـ في حقيقة الأمر ـ واقعُ الصوفية، ويصدق عليه المثلُ القائل: «رَمَتْني بدائها وانسلَّتْ»، وهذه بعضُ النقول مِن كتبهم تبيِّن أنَّ جملةً كبيرةً مِن مشايخهم يدَّعون الاطِّلاعَ على اللوح المحفوظ:

ـ يقول الشعراني ـ ذاكرًا أولياءَ الصوفية ـ: «ومنهم الشيخ جاكير رضي الله تعالى عنه هو مِن أكابر المشايخ، وأعيانِ العارفين المقرَّبين، وأئمَّة المحقِّقين، وهو أحد أركان هذه الطريقة ... وكان يقول: ما أخذتُ العهدَ قطُّ على مريدٍ حتى رأيتُ اسمَه مكتوبًا في اللوح المحفوظ وأنه مِن أولادي»(١٣).

ـ ويقول أيضًا: «الشيخ العارف بالله ـ تعالى ـ سيدي إبراهيم المسوقي القرشي رضي الله عنه هو مِن أجلَّاء مشايخ الفقراء أصحابِ الخِرَق، وكان مِن صدور المقرَّبين، وكان صاحبَ كراماتٍ ظاهرةٍ ومقاماتٍ فاخرةٍ، ومآثرَ ظاهرةٍ، وبصائرَ باهرةٍ، وأحوالٍ خارقةٍ، وأنفاسٍ صادقةٍ، وهممٍ عاليةٍ... وكان رضي الله عنه يقول: أَشْهَدني اللهُ ـ تعالى ـ ما في العلى وأنا ابنُ ستِّ سنين، ونظرتُ في اللوح المحفوظ وأنا ابن ثمان سنين، وفككتُ طلسم السماء وأنا ابن تسع سنين، ورأيتُ في السبع المثاني حرفًا معجمًا حار فيه الجنُّ والإنسُ ففهمتُه وحمدتُ اللهَ ـ تعالى ـ على معرفته، وحرَّكتُ ما سُكِّن، وسكَّنتُ ما تحرَّك بإذن الله ـ تعالى ـ وأنا ابن أربع عشرة سنةً، والحمد لله ربِّ العالمين»(١٤).

ـ ويقول ـ أيضًا ـ: «وأجرى الله على يدَيْ سيدي إسماعيل الكراماتِ، وكلَّمته البهائمُ، وكان يخبر أنه يرى اللوحَ المحفوظ، ويقول: يقع كذا وكذا لفلانٍ فيجيء الأمرُ كما قال، فأنكر عليه شخصٌ مِن علماء المالكية وأفتى بتعزيره، فبلغ ذلك سيدي إسماعيل فقال: «وممَّا رأيتُه في اللوح المحفوظ أنَّ هذا القاضيَ يغرق في بحر الفرات»، فأرسله ملكُ مصر إلى ملك الإفرنج ليجادل القسِّيسين عندهم، فإنه وَعَد بإسلامه إن قطعهم عالمُ المسلمين بالحجَّة، فلم يجدوا في مصر أَكْثَرَ كلامًا ولا جدلًا مِن هذا القاضي فأرسلوه فغرق في بحر الفرات»(١٥).

ـ ويقول ـ أيضًا ـ عن شيخه شمس الدين الحنفي: «وكان إذا سأله أحدٌ مِن المنكرين عن مسألةٍ أجابه، فإن سأله عن أخرى أجابه حتى يكون المنكر هو التاركَ للسؤال، فيقول الشيخ رضي الله عنه لذلك الشخص: «أمَا تسأل؟ فلو سألتَني شيئًا لم يكن عندي أجبتُك مِن اللوح المحفوظ»»(١٦).

ـ ويقول ـ أيضًا ـ: «ومنهم شيخي وأستاذي سيدي علي الخواص البرلسي رضي الله تعالى عنه ورحمه كان رضي الله عنه أمِّيًّا لا يكتب ولا يقرأ، وكان رضي الله عنه يتكلَّم على معاني القرآن العظيم والسنَّةِ المشرَّفة كلامًا نفيسًا تحيَّر فيه العلماءُ، وكان محلُّ كشفه اللوحَ المحفوظ عن المحو والإثبات، فكان إذا قال قولًا لا بدَّ أن يقع على الصفة التي قال، وكنتُ أُرْسِل له الناسَ يشاورونه عن أحوالهم، فما كان قطُّ يُحْوِجهم إلى كلامٍ، بل كان يخبر الشخصَ بواقعته التي أتى لأجلها قبل أن يتكلَّم فيقول: طَلِّق مثلًا أو شارِكْ أو فارِقْ أو اصبِرْ أو سافِرْ أو لا تسافِرْ، فيتحيَّر الشخص ويقول: مَن أَعْلَمَ هذا بأمري»(١٧).

وأمَّا قول المُحاضِر: «يُنكرون على رسول الله أن يُطلعه على بعض غيبه» فمِن تماديه في الباطل وتوزيعه البهتانَ على الدعوة السلفية جزافًا، فمِن أين له هذا الحكمُ الجائر؟ ويكفي لكشفِ تطاوُله وبيانِ حرمانه مِن العدل المأمورِ به شرعًا خلوُّ كلامه مِن مصادرَ تُثْبِت صحَّتَه ومراجعَ تسند حجَّتَه، ولكن كما قيل:

قَدْ تُنْكِرُ العَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ * وَيُنْكِرُ الفَمُ طَعْمَ المَاءِ مِنْ سَقَمِ

فالرسول صلَّى الله عليه وسلَّم لا يعلم الغيبَ إلَّا ما علَّمه الله، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ [الجن: ٢٦ ـ ٢٧]، فقد يُطلع الله أنبياءَه على شيءٍ مِن الغيب مِن أجل إقامة الحجَّة على الخَلْق، وتكون معجزةً لهذا الرَّسول(١٨).

وغيرُ خافٍ على اللبيب تناقُضُ المُحاضِر الحقود، إذ كان قد وجَّه سهامَ النقد مِن قبلُ للسلفية فيما زَعَمه مِن عدم تعميمهم حُسْنَ الظنِّ على كبراء الصوفية وعظمائها، وشدَّد لومَه عليهم حينَ قَصَروه على مَن هُو أهلٌ له، ومنعُوه ممَّن لا يستحقُّه ـ وهو منهم سدٌّ لِبَابِ هدم الدين وأُسُسه بغطاء جيِّد الأدبِ وحسنِه ـ ثمَّ ها هو ذَا يقعُ في شرور صنائعه ـ ولا يحيق المكرُ السيِّئُ إلَّا بأهله ـ فيستثني ـ لشدَّة حنقه ـ ابنَ تيمية وابنَ القيِّم ـ رحمهما الله ـ وجميعَ أعلام السنَّة ممَّا استحسَنه مِن قبلُ ودَعَا إليه مِن تعميم حسن الظنِّ كفًّا للقتال وطرحًا للنزال. وإذِ الحالُ كذلكَ فيُوجَّهُ له السؤالُ نفسُه، ماذا لو قال ابنُ عربيٍّ الكلامَ نفسَه أو البسطاميُّ أو ابنُ الفارض أو العفيف التلمساني؟ فلِمَ لم يُعامِلِ ابنَ تيمية ـ رحمه الله ـ كتعامله مع البوصيري في «بُرْدته» لمَّا لوَّى كلامَه الكفريَّ الباطل وكساهُ ثوبَ الحقِّ بتعسُّفٍ ظاهرٍ وتكلُّفٍ مصطَنعٍ، ولله درُّ القائل:

لَا تَلُمِ المَرْءَ عَلَى فِعْلِهِ * وَأَنْتَ مَنْسُوبٌ إِلَى مِثْلِهِ

مَنْ ذَمَّ شَيْئًا وَأَتَى مِثْلَهُ * فَإِنَّمَا يُزْرِي عَلَى عَقْلِهِ

وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.


(١) انظر: «الصواعق المرسلة» لابن القيِّم (٤/ ١٢١٦).
(٢) «مدارج السالكين» لابن القيِّم (٢/ ٤٥٨).
(٣) أخرجه البخاري (٣٤٦٩)، ومسلم (٢٣٩٨)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٤) «شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة» (٧/ ١٣٩١).
(٥) «جامع الأصول» (٨/ ٦٠٩).
(٦) «البداية والنهاية» (١٤/ ٢٨).
(٧) أخرجه الترمذي (٣٥٢٤) من حديث أنسٍ رضي الله عنه. وليس فيه جملة: «لا إله إلا أنت». وحسَّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (١/ ٤٤٩).
(٨) أخرجه أبو داود (٥٠٩٠) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. وليس فيه جملة: «ولا إلى أحدٍ مِن خَلْقِك». وحسَّنه الألباني في «صحيح الجامع» (٣٣٨٨).
(٩) «الاستغاثة» (٦٣١).
(١٠) انظر: «النهاية» لابن الأثير (٣/ ٤٢٨).
(١١) يُنقل عن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه أنه دخل عليه رجلٌ مِن الصَّحابة وقد رأى امرأةً في الطَّريق، فتأمَّل محاسنَها، فقال له عثمان: «يدخل عليَّ أحدُكم وأثرُ الزِّنا ظاهرٌ على عينيه؟!» فقلت: «أوحيٌ بعد رسول الله؟!» فقال: «لا، ولكن تَبْصِرةٌ وبرهانٌ، وفِرَاسَةٌ صادقةٌ» [«الروح» لابن القيِّم (٢٤٠)].
(١٢) «الردُّ على الفلاسفة» (٤٧٥).
(١٣) «الطبقات الكبرى» للشعراني (١/ ١٢٧).
(١٤) المصدر السابق (١/ ١٥٥)
(١٥) المصدر السابق (١/ ١٥٧).
(١٦) المصدر السابق (٢/ ٨٦).
(١٧) المصدر السابق (٢/ ١٣٠).
(١٨) انظر: «تحفة الأنيس شرح عقيدة التوحيد للإمام ابن باديس ـ رحمه الله ـ» للشيخ أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ (١٢٥).
  #5  
قديم 27 Jun 2016, 11:36 PM
أبو إكرام وليد فتحون أبو إكرام وليد فتحون غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
الدولة: الجزائر
المشاركات: 1,798
افتراضي

سلسلة ردود على الشبهات العقدية
لـ «شمس الدين بوروبي»
[إدارة الموقع]
الشبهة الرابعة
كرامةٌ منسوبةٌ لابن منده ـ رحمه الله ـ

قال شمس الدين بوروبي ـ هداه الله ـ: «كرامة الرفاعي: لمَّا زار قبرَ رسول الله مدَّ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يدَه مِن القبر وصافَحَه.

فِي حَالَةِ البُعْدِ رُوحِي كُنْتُ أُرْسِلُهَا * تُقَبِّلُ الأَرْضَ عَنِّي وَهْيَ نَائِبَتِي

وَهَذِهِ دَوْلَةُ الأَشْبَاحِ قَدْ حَضَرَتْ * فَامْدُدْ يَمِينَكَ كَيْ تَحْظَى بِهَا شَفَتِي

قال المؤرِّخون: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم مدَّ يدَّه فقبَّلها بحضرة الحُجَّاج وهُمْ ينظرون.

هذه كرامةٌ يجوز أَنْ تصدِّقها ويجوز أَنْ لا تصدِّقها ... ولكنَّ الكرامة بعينها لا بدَّ أن تثبت بالسند الصحيح، فمَنْ أنكر هذه الكرامةَ فلا شيءَ عليه، ولكِنْ لاحِظوا جيِّدًا، السلفيةُ أجمعوا جميعًا على أنها مِن المُنْكَرات ...

اسمعوا: ابنُ منده أحَدُ كبار مشايخ الحشوية: «سألتُ بعضَ خَدَمِ تربةِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكان مِن أبناء مائةٍ وعشرين سنةً، قال: رأيتُ يومًا رجلًا عليه ثيابٌ بِيضٌ دَخَلَ الحرَمَ وقتَ الظهر، فانشقَّ حائطُ التربة فدخل فيها وبيده محبرةٌ وكاغدٌ وقلمٌ، فمكث ما شاء الله، ثمَّ انشقَّ فخرج، فأخذتُ بذيله فقلت: «بحقِّ معبودك مَن أنت؟» قال: «أنا أبو عبد الله بنُ منده، أشكل عليَّ حديثٌ فجئتُ فسألتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأجابني وأرجِعُ»».

يعني: خروج يد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن القبر منكرٌ، ودخولُ ابنِ منده بكُلِّ لحمه وشحمِه وعظمِه إلى القبر الشريف مِن الكرامات ...كراماتُنا بدعةٌ، وبِدَعُهم كراماتٌ».


الجواب:

الحمد لله وحده، والصلاةُ والسلامُ على مَن لا نبيَّ بعده، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أمَّا بعد:

القصَّة التي نَسَبَها المُحاضِرُ المتعالم إلى الإمام ابنِ منده وَرَدَ ذكرُها في جزءٍ مُعَنْوَنٍ ﺑ «ذِكْرِ الحافظ أبي عبد الله بن منده ومَن أدركهم مِن أصحابه الإمامُ أبو عبد الله الحسينُ بنُ عبد الملك الخلَّال» للإمام الحافظ الحسين بنِ عبد الملك الخلَّال، وقد قام الإمامُ محمَّد بنُ أبي بكرٍ المدينيُّ الأصبهانيُّ بتصنيفه وترتيبه. ذَكَرَ صاحبُه فيه بعضَ تلامذة الإمام ابنِ منده ممَّن أَدْرَكهم الإمامُ وقدَّم فيه بترجمةٍ حافلةٍ للإمام ابنِ منده، ذَكَرَ مَناقبَه ورحلاته ومنزلتَه وأقوالَ العلماء فيه، مع روايته لبعض الأحاديث التي تفرَّد بها، وقد استفاد منه كثيرٌ مِن العلماء والحُفَّاظ في ترجمة الإمام ابنِ منده منهم الحافظُ الذهبيُّ في «سِيَر أعلام النبلاء»(١).

وهذا يُنبئ العارفين ممَّن يدركون مَسالِكَ العلماءِ في التأليف أنَّ هذه الحكايةَ لم تُنْقَلْ في كُتُبِ العقيدة ولا في المصنَّفات التي تُعْنى بذكر الكرامات؛ فهي إذًا لم تُذْكَر ليُسْتدَلَّ بها أو يُعتمد عليها لإثبات عقيدةٍ، بل غايةُ ما في الأمر أنها ذُكِرَتْ في سياق ترجمة الإمام ابنِ منده وذِكْرِ رحلاته الحديثية، وفَرْقٌ عند أهلِ الدراية والمعرفة ممَّن سَلِمَتْ أفئدتهم وحَسُنَتْ سريرتُهم بين حكايةِ أمرٍ ما وبين الاستدلال به.

تفنيد صحَّة القصَّة المنسوبة إلى الإمام ابن منده ـ رحمه الله ـ:

القصة ـ في حدِّ ذاتها ـ غيرُ ثابتةٍ عن الإمام ابنِ منده، ودلائلُ وَهَائها واضحةٌ وإشاراتُ الكذب عليها لائحةٌ، وتظهر هَنَاتُها مِن حيثيتين وهما:

مِن حيثيةِ سَنَدِ القصَّة ومَتْنِها: فإنَّ عَوارَ القصَّةِ تتجلَّى في النقاط التالية:

١- تصديرها بصيغةِ التمريض الدالَّةِ على الضعف عند علماء الحديث؛ ففي الجزء المرويِّ فيها قال الإمام الخلَّال: «وحُكِيَ لي».

٢- جهالةُ نَقَلَةِ القصَّة جهالةً عينيةً مُفْضِيةً إلى جهالة الحال، فناقِلُها رئيسُ حُجَّاجِ نيسابور واسْمُه: أبو جعفرٍ الهمذانيُّ، عن خادمِ التربة التي دُفِنَ فيها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وكلاهما لا يُعْرَف.

٣- استحالة حدوث مثلِ هذه الخوارقِ كونَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد فارَقَ الدنيا والْتَحَقَ بالرفيق الأعلى، فمحادَثتُه وسؤالُه صلَّى الله عليه وسلَّم ومشافَهتُه غيرُ ممكِنةٍ بعد وفاته صلَّى الله عليه وسلَّم.

٤- قال الإمام الذهبيُّ قبل ذِكْرِه القصَّةَ التي استند إليها المُحاضِرُ الملبِّسُ على العوامِّ: «وهذه حكايةٌ نكتبها للتعجُّب» وقال عَقِبَها: «إسنادُها مُنْقَطِعٌ»(٢).

٥- قال عامر حسن صبري الذي اعتنى بالجزء تخريجا وتحقيقًا: «جاء في حاشية الأصل: هذا كَذِبٌ»(٣)، وقد اعتمد في تحقيقه على نسخةٍ خطِّيَّةٍ وَصَفَها بقوله: «اعتمدتُ في التحقيق على نسخةٍ فريدةٍ ـ حسب علمي ـ محفوظةٍ في المكتبة الظاهرية بالشام مجموع (٨٠) مِن الورقة ١٤٣، إلى الورقة ١٥٨ وتقع في خمسة عشر ورقةً، وهي نسخةٌ جيِّدةٌ واضحةُ الخطِّ كُتِبَتْ في حياة الإمام أبي عبد الله الخلَّال وفي حياةِ مخرِّجها الإمام أبي موسى المدينيِّ، وكانَتْ وقفًا على المدرسة الضيائية بدمشق، وقُرِئَتْ على جماعةٍ مِن العلماء الأثبات، ولكنَّها مع ذلك لم تَسْلَمْ مِن بعض الأخطاء..»(٤)، ولعلَّ مِن أخطائها سقوطَ العبارةِ الصريحة في القصَّة: «هذا كَذِبٌ» مِن أصلها والاكتفاء بالإشارة إليها في الحاشية.

مِن حيثية تلازُمِ سلوكه وسيرته مع منهج دعوته:

لا يمكن ـ بحالٍ ـ التصديق بأنَّ إمامًا كابن منده والمعروفَ بسلامةِ مَشْرَبِه يتلطَّخُ بما يقدح في عقله فضلًا عن عَقْده، وهو الذي لم يجالِسْ طيلةَ حياته العلميةِ مَن يُغيِّر فِطْرَتَه السليمة أو يعبث بمعتقَدِه؛ فقَدْ كان ـ رحمه الله ـ مُجانِبًا لأهل البِدَع غيرَ مُخْتَلِطٍ بهم، وهذا ما صرَّح به قائلًا: «طُفْتُ الشرقَ والغربَ مرَّتين فلم أتقرَّبْ إلى مُذَبْذَبٍ، ولم أسمع مِن المُبْتَدِعين حديثًا واحدًا»(٥)؛ لذلك لا يجوز نسبةُ الضلالات والطامَّات لمن عُرِف مِن منحى عقيدته ومنهجِ دعوته ما يُضادُّها ومِن سيرته وحالِه ما يُخالِفها عملًا بقوله تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ [الأعراف: ٥٨]؛ فهذه الأباطيل لا تصدر إلَّا مِن الخرافيين الذين يريدون مِن ورائها جَلْبَ عصمةٍ يسيطرون بها على عقول العوامِّ ليروِّجوا ما شاؤوا مِن عقائدَ مُنْحَرِفةٍ، أمَّا ابنُ منده ـ رحمه الله ـ فكان مُدافِعًا عن الحقِّ ومُجاهِدًا لأهل البدع، يغزو حصونهم فيدكُّ شُبَهَهم دكًّا، ويدفع صائِلَهم ويصدُّ باغِيَهم، وله مع أهل الباطل ـ كالجهمية والمُرْجِئة والشيعة والخوارج ـ جَوَلاتٌ، تشهد تصانيفُه النافعةُ ككتاب: «الإيمان» و«الردِّ على المرجئة» بعُلُوِّ قَدْرِه في السنَّة وسُمُوِّ مكانته العلمية.

أفبعد كُلِّ هذه الدلائلِ يجرؤ مُنْصِفٌ على جَعْلِ القصَّة المزعومةِ سهمًا يطعن به السلفيةَ ويُسفِّهُ بها عقولَهم ويُلْصِقُ بهم قُبْحَ البدعة؟ وهو نَفْسُه قد صرَّح مِن قبلِ هذا الكلامِ أنَّ «الكرامة بعينها لا بدَّ أن تَثْبُتَ بالسند الصحيح» فما بالُه يُؤاخِذ غيرَه بما لم يصحَّ سندُه؟ أم أنَّ ذِكْرَ اسْمِ أيِّ عَلَمٍ مِن أعلام السلفية يُحِلُّ له مُخالَفةَ ما جَعَلَه أصلًا؟ فأيُّ كيلٍ يكيل به؟ وأيُّ روحٍ علمية يتمتَّع بها؟

كرامات الصوفية في الميزان:

تهجَّم المُحاضِرُ المفتونُ في كلامه على السلفية مُدَّعِيًا أنَّ للصوفية كراماتٍ وخوارقَ وأنَّ ما رواه السلفيةُ عن صالِحيهم مِن كراماتٍ فبِدَعٌ، وذلك عند قوله: «كراماتُنا بدعةٌ، وبِدَعُهم كراماتٌ». وقد سَبَقَ أَنْ حَكَمَ هو بنفسه على نَفْسِه بأنَّ مِن شروطِ صحَّةِ الكرامات إثباتَها بالسند الصحيح، ثمَّ هاهنا يتناقض مع نَفْسه ليجعل ما رُوِيَ عن الرفاعيِّ مِن تقبيله يدَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كرامةً، وفي المُقابِل يُصْدِر أحكامًا جُزافيةً على الكرامات التي رواها أهلُ السنَّةِ والجماعة بأنها بِدَعٌ، ومنشأُ هذا الحكمِ الجائر التعصُّبُ المَقيتُ لبِدَعِه ومنهجِه المُنْحَرِف وعقيدتِه المعوجَّة؛ فأعماه ذلك عن الحقِّ وألقى على بصرِه غشاوةً، فمن يَهديه مِن بعدِ الله؟!.

واللافت للنظر أنَّ المُحاضِرَ المزعوم لم يذكر كراماتهم التي حَكَمَ عليها أهلُ السنَّة بالبدعة، وله في ذلك عذرٌ ماكرٌ؛ فإنه لو حدَّث السامعين عن كرامات الصوفية كما حدَّثهم عن الكرامة المنسوبة للرفاعيِّ ـ وحاوَلَ الدفاعَ عنها بسياسةٍ ماكرةٍ تمثَّلَتْ في قوله: «يجوز أن تصدِّقها ويجوز أَنْ لا تُصَدِّقها» ـ لَأجمعَتْ كلمةُ كلِّ سليمِ السمع أنها خُزَعْبلاتٌ تَليقُ بالمجانينِ أو كبائرُ لا يقترفها إلَّا الفُسَّاقُ مِن الناس، فحتَّى يُظْهِر للسامعين أنَّ أهل السنَّةِ السلفيين جَنَوا على الصوفية وافترَوْا عليهم اكتفى بتمثيلِ دورِ المظلوم الذي بُخِسَ حقَّه ولم يُنْصَف. ولا بأس أن نذكر أمثلةً عن كرامات القوم التي يتبجَّح بها المُحاضِرُ الملبِّس، وقد كفانا أحَدُ أقطابهم وهو الشعرانيُّ مؤونةَ البحث والتنقيب عنها فجَمَعَها في كتابٍ سمَّاه «الطبقات الكبرى»، ونعتذر للقُرَّاء عن رداءةِ ما سيقرؤون، ولكنَّ الاطِّلاعَ على حقيقة صورتهم هي التي دفَعَتْ لنقلِ السفاسف والدناءة، وفيما لم يُنْقَلْ ما هو أشدُّ رداءةً.

نماذجُ مِن خُرافات الصوفية:

ـ قال عبد الوهَّاب الشعرانيُّ: «إنَّ سبَبَ حضوري مولدَ «أحمد البدوي» كُلَّ سَنَةٍ أنَّ شيخي العارفَ بالله تعالى «محمَّد الشناوي» رضي الله عنه أحَدَ أعيانِ بيته ـ رحمه الله ـ قد كان أَخَذَ عليَّ العهد في القُبَّةِ تُجاه وجهِ سيِّدي أحمد رضي الله عنه، وسلَّمني بيده، فخرجَتِ اليدُ الشريفة مِن الضريح وقَبَضْتُ على يدي. وقال: يا سيِّدي يكون خاطِرُك عليه، واجْعَلْه تحت نظَرِك فسَمِعْتُ «سيِّدي أحمد» مِن القبر يقول: نعم، ولمَّا دخلتُ بزوجتي فاطمةَ أمِّ عبد الرحمن وهي بِكْرٌ، مكثتُ خمسةَ شهورٍ لم أَقْرُبْ منها فجاءني وأخَذَني وهي معي، وفَرَش لي فراشًا فوق ركنِ القبَّة التي على يسار الداخل، وطَبَخ لي الحلوى، ودعا الأحياءَ والأموات إليه، وقال: «أَزِلْ بكارتها هنا»؛ فكان الأمرُ تلك الليلةَ» ثمَّ يقول: «وتخلَّفتُ عن ميعاد حضوري للمولد سنة ٩٤٨ ثمان وأربعين وتسعمائةٍ، وكان هناك بعضُ الأولياء فأخبَرَني أنَّ سيدي أحمد رضي الله عنه كان ذلك اليومَ يكشف السِّتر مِن الضريح ويقول: «أبطأ عبدُ الوهَّاب، ما جاء»»(٦).

ـ وقال عن الشيخ إبراهيم العريان: «رضي الله تعالى عنه ورَحِمه...كان رضي الله عنه يطلع المنبر ويخطب عريانًا .. وكان يُخْرِج الريحَ بحضرة الأكابر ثمَّ يقول: «هذه ضرطةُ فلان»، ويحلف على ذلك، فيخجلُ ذلك الكبيرُ منه. مات رضي الله عنه سنة نيِّفٍ وثلاثين وتسعمائةٍ رضي الله عنه»(٧).

ـ وقال: «ومنهم الشيخ أبو الخير الكليباتي رضي الله عنه، كان رضي الله عنه مِن الأولياء المعتقِدين، وله المكاشَفات العظيمة مع أهل مصر وأهل عصره، وكانَتِ الكلابُ التي تسير معه مِن الجنِّ، وكانوا يَقْضُون حوائجَ الناس، ويأمر صاحِبَ الحاجةِ أن يشتريَ للكلب منهم إذا ذَهَبَ معه لقضاء حاجته رطلَ لحم، وكان أغْلَبَ أوقاتِه واضعًا وجهَه في حلق الخلاء في مِيضأةِ جامعِ الحاكم، ويدخل الجامعَ بالكلاب»(٨).

وللنبهاني مؤلَّفٌ سمَّاه: «جامع كرامات الأولياء» جَمَعَ فيه هو الآخَرُ مجموعةً كبيرةً مِن كرامات أوليائه وما هي إلَّا قوادحُ عقديةٌ وانحرافاتٌ خُلُقية سمَّاها الصوفيةُ ـ زورًا وتدليسًا ـ كراماتٍ تغطيةً لمَخازيهم وتُرَّهَاتِهم السافلة، تعكس حقيقةَ تفكيرهم ونظرتهم إلى التديُّن حيث اتَّخذوه مطيَّةً لتحقيقِ مَآرِبهم الدنيوية لا غيرَ، الأمرُ الذي يُنافي الغرضَ مِن الكرامة؛ فإنَّ الله سبحانه إنما يُكْرِم بها مَن يشاء مِن خَلْقه لصلاحهم وقوَّةِ إيمانهم، أو لحاجتهم إليها، والمقصودُ منها إظهارُ الدينِ ورفعُ كلمته، إحقاقًا للحقِّ وإبطالًا للباطل تميُّزًا عن الأحوال الشيطانية.

هذا، وأهلُ السنَّة والجماعةِ وقفوا موقفًا وسطًا تُجاه خوارق البشر غيرِ الأنبياء والمُرْسَلين فلم يُغالوا فيها مغالاةَ الصوفية والدجاجلة، ولم ينكروها مطلقًا كفعل المعتزلة، بل أَثْبَتُوها واعتقدوا إمكانيةَ حدوثها، ولم يجعلوها معيارًا يميِّزون بها الأفضليةَ؛ فقد يكون مَن لم يَحُزْها أَكْمَلَ إيمانًا وأَعْظَمَ ولايةً ممَّن نالها، وقد كانَتْ في التابعين أَكْثَرَ منها في الصحابة، ولذلك لم تتشرَّفْ نفوسُهم لطَلَبِها لعلمهم اليقينيِّ أنَّ أفضلَ كرامةٍ هي الاستقامةُ على دينِ الله تعالى. قال أبو عليٍّ الجوزجانِيُّ: «كن طالِبًا لِلاستِقامةِ، لا طالِبًا لِلكرامَة؛ فإنَّ نَفْسَكَ مُتحرِّكةٌ فِي طلبِ الكرامةِ، وربُّك يَطلبُ مِنك الاستِقامة»(٩).

زَعْمُ الصوفية أَخْذَ العلمِ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مباشَرةً بعد موته.

حاوَلَ المُحاضِرُ ـ فشلًا ـ بذِكْرِه للقصَّة الواهية عن الإمام ابنِ منده ـ رحمه الله ـ تضليلَ السامعين بأنَّ السلفية يستمدُّون أحكامَهم على الأحاديث النبوية والأخبار الأثرية مِن خلال ادِّعائهم التلقِّيَ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مُباشَرةً، وهو بذلك يطعن ـ مِن طَرْفٍ خفيٍّ ـ في تأصيل علماء الحديث لقواعدِ قَبول الأخبار وصحَّتها لبناء الأحكام العقدية والعملية عليها، ولسانُ حالِه يصرِّح بأنَّ جهودهم في التنقيب عن الأسانيد وتمحيصها ودراسةِ سقيمها وضعيفها قَصْدَ حِفْظِ السنَّة النبوية وصيانتها مِن كَذِبِ الكَذَبة والوضَّاعين والضعفاء والمدلِّسين، ما هي إلَّا ادِّعاءاتٌ كاذبةٌ، وأخبار رحلاتهم في طلَبِ الحديث وهَجْرِهم الأوطانَ والخِلاَّن أخبارٌ ساقطةٌ، وإنما يروم مِن وراءِ ذلك هَدْمَ أحكام علماء الحديث على الأخبار صحَّةً وضعفًا، قبولًا وردًّا، وذلك مِن أهمِّ الأصول التي يتبنَّاها السلفيةُ مصدرًا للتلقِّي ومنهجًا في الاستدلال. وبهدمه لأصلِ تمحيص الأخبار يخلو له الجوُّ في تلميعِ ما يهواه مِن فسادٍ وضلالٍ، ولله درُّ الشافعيِّ إذ قال: «لولا المَحابِرُ لخَطَبَتِ الزنادقةُ على المَنابِر»(١٠)، وقال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: «المَلائِكَةُ حُرَّاسُ السَّمَاء، وَأَصْحَابُ الحَدِيثِ حُرَّاسُ الأَرْضِ»(١١)، وَقَالَ يزِيد بن زُرَيْعٍ: «لكلِّ دينٍ فُرْسَانٌ وفرسانُ هَذَا الدِّين أَصحَابُ الأَسَانِيد»(١٢).

وفي الوقت ذاته أخفى المُحاضِرُ عن السامعين عقيدةَ الصوفية المسطَّرةَ في كُتُبهم ومَراجِعِهم، مِن زَعْمِهم أَخْذَ العلومِ مِن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مباشَرةً والْتقائهم إيَّاه يقظةً لا منامًا؛ فيطرحون عليه ما أشكل عليهم مِن مَسائِلَ شرعيةٍ ويتلقَّوْن حَلَّها منه مُشافَهةً ويدوِّنون أجوبتَه، وعند اختلافهم في الحكم على الأحاديث صحَّةً أوضعفًا يتوجَّهون إلى شيخهم وهو بدوره ـ فيما يزعمون ـ يسأل النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيرفع عنهم الخلافَ ويقطع لهم بصحَّةِ ما يَشْتَهون تصحيحَه مِن أحاديثَ مكذوبةٍ يُلْقُون بها على ألسنة مُريديهم، وجعلوا هذه الضلالةَ أصلًا مِن أصولهم لئلَّا يجرؤَ أَحَدٌ على الإنكار عليهم.

قال العجلونيُّ: «وفي «الفتوحات المكِّيَّة» [لابن عربيٍّ الصوفي] ما حاصِلُه: فرُبَّ حديثٍ يكون صحيحًا مِن طريقِ رُواتِه يحصل لهذا المُكاشِفِ أنه غيرُ صحيحٍ لسؤاله لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فيعلم وَضْعَه ويترك العملَ به وإن عَمِلَ به أهلُ النقل لصحَّةِ طريقه، ورُبَّ حديثٍ تُرِك العملُ به لضعفِ طريقه مِن أجل وضَّاعٍ في رُواته يكون صحيحًا في نفسِ الأمر لسماعِ المُكاشِفِ له مِن الروح حين إلقائه على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم»(١٣)

وقال التجاني: «رأيتُه مَرَّةً صلَّى الله عليه وسلَّم، وسألتُه عن الحديث الواردِ في سيِّدنا عيسى عليه السلام، قلت له: ورَدَ عنك روايتان صحيحتان: واحدةٌ قلتَ فيها: يمكث بعد نزوله أربعين، وقلتَ في الأخرى: سبعًا.. ما الصحيحةُ منهما؟ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: رواية السبع»(١٤).

فالعلم الشرعيُّ الذي امتدح اللهُ أَهْلَه ورَفَعَهم به عمَّن سواهم طريقُه الطلبُ وسبيلُه التعبُ وسَهَرُ الليالي في تصفُّح الكتب ومُطالَعتها، ومُكابَدة الأعباء وثَنْيِ الرُّكَب عند العلماء، مع صِدْقِ السريرة وطِيبِ السيرة، لا يَثْنيه عن الطلب شاغلٌ ولا يُعيقُه كِبَرُ سنٍّ وعُلُوُّ جاهٍ، قال الذهبيُّ ـ رحمه الله ـ: «فالَّذِي يحتَاج إِلَيْهِ الحَافِظُ أَن يَكُون تقيًّا ذكيًّا، نَحْوِيًّا لُغَوِيًّا زكيًّا حَيِيًّا، سَلَفيًّا، يَكْفِيهِ أَنْ يَكتبَ بِيَدِهِ مائَتَيْ مُجَلَّدٍ، ويحصِّل مِن الدواوينِ المعتبَرةِ خمسَمائةِ مجلَّدٍ، وَأَنْ لاَ يَفْتُر مِنْ طَلَبِ العِلم إِلَى المَمَات، بنيَّةٍ خَالصَةٍ وَتواضُعٍ، وَإِلاَّ فَلَا يَتَعَنَّ»(١٥).

وهؤلاء الصوفية لمَّا أعياهم العلمُ طلبًا وأتعبتهم النصوصُ فهمًا وإدراكًا، ووقفَتْ ضدَّ أهوائهم وشهواتهم عَمَدُوا إلى أصولٍ فاسدةٍ وقواعِدَ كاسدةٍ فاتَّخذوها دينًا وصاغوها عبادةً يتزلَّفون بها إلى قلوب الجُهَّال وضِعافِ العقول حتَّى وَصَلَ الحدُّ بِغُلاتهم ـ مِن الزنادقة ـ إلى ادِّعاء رؤية الله سبحانه وتعالى والأخذِ عنه مُباشَرةً بدونِ واسطةٍ. قال في «قوت القلوب»: «وقد كان أبو ترابٍ النخشبيُّ ـ رحمه الله ـ مُعْجَبًا ببعض المريدين؛ فكان يُؤويهِ ويقوم بمَصالِحه، والمريدُ مشغولٌ بعبادته ومَواجيدِه، فقال له أبو ترابٍ يومًا: «لو رأيتَ أبا يزيد»، فقال المريد: «إنِّي عنه مشغولٌ»، فلمَّا أكثر عليه أبو تراب مِن قوله: «لو رأيت أبا يزيد» هاج وجدُ المريد فقال: «ويحك، ما أصنع بأبي يزيد، قد رأيتُ اللهَ فأغناني عن أبي يزيد»، قال أبو تراب: فهاج طبعي ولم أملك نفسي فقلت له: «ويلك، لو رأيتَ أبا يزيد مرَّةً واحدةً كان أَنْفَعَ لك مِن أن ترى الله عزَّ وجلَّ سبعين مرَّةً»، فبُهِت المريدُ مِن قولي وأنكره وقال: «وكيف ذلك؟» فقلت له: «ويلك، إنما ترى الله عندك فيظهر لك على مقدارك، وترى أبا يزيد عند الله قد ظهر له على مقداره»، قال: فعرف ما أقول فقال: «احْمِلْني إليه..»»(١٦)

هذه خرافاتهم وضلالاتهم موثَّقةً مِن كُتُبهم ومَصادِرِهم تشهد ببطلانِ ما يَدينون به ممَّا أخفاهُ المُحاضِرُ عن الحضور، ولا يخفى على اللبيب تخليطُ المُحاضِرِ وتخبيطُه؛ ففي مطلع مُحاضَرته فرَّق بين السلفية الحاضرة وبين السلف، ثمَّ هو هاهنا يتهجَّم على عَلَمٍ مِن أعلام السلف وجَبَلٍ مِن جبالهم حفظًا وروايةً فيصفه ـ أوَّلًا ـ بأنه «أحَدُ كبار الحشوية»، وينسب إليه ـ ثانيًا ـ فريةً عظيمةً، وهو بصنيعه هذا إنما يكشف عن نواياه المدسوسةِ وبواطنِه المخبوءةِ، وأنه يتظاهر بتعظيمِ السلف وفي الحقيقةِ يجتهد في مُحارَبتهم والحطِّ مِن أقدارهم، وكما قيل:

«فَحَسْبُكُمُ هَذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَنَا * وَكُلُّ إِنَاءٍ بِالَّذِي فِيهِ يَنْضَحُ»

ولا عَجَبَ في ذلك فإنَّ كُلَّ مَن أُشْرِبَ قلبُه حبَّ البدعةِ فلا بدَّ أن يكون للسلف كارهًا والعداءَ لهم ناصبًا. قال محمَّد البشير الإبراهيمي ـ رحمه الله ـ عن الصوفية: «ومِن مَكْرِها الكُبَّار أن تَعْمِد إلى العلماء ـ وهم ألسنةُ الإسلام المُنافِحة عنه ـ فترمِيَها بالشلل والخرس، وتصرفها في غيرِ ما خُلِقَتْ له»(١٧).

وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٨ المحـرَّم ١٤٣٣ﻫ

الموافق ﻟ: ٠٢ ديسمبر ٢٠١٢م

(١) «سِيَر أعلام النبلاء» للذهبي (١٢/ ٤٩٩).
(٢) «سِيَر أعلام النبلاء» للذهبي (١٢/ ٥٠٣).
(٣) الحاشية رقم (٤) صفحة (٣٧).
(٤) صفحة (٢١).
(٥) انظر: «طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى (٢/ ١٦٧).
(٦) «الطبقات الكبرى» للشعراني (١/ ١٦١).
(٧) «الطبقات الكبرى» للشعراني (٢/ ١٢٤).
(٨) المصدر السابق.
(٩) «شرح الطحاوية» لابن أبي العزِّ الحنفي (٥٠٩).
(١٠) أخرجه الهرويُّ في «ذمِّ الكلام وأهله» (٣/ ٣٤).
(١١) أخرجه الخطيب البغدادي في «شرف أصحاب الحديث» (٤٤).
(١٢) المصدر السابق.
(١٣) «كشف الخفاء» للعجلوني (١/ ١٤).
(١٤) «جواهر المعاني» لعلي حرازم (١/ ٥٥).
(١٥) «سِيَر أعلام النبلاء» للذهبي (١٠/ ٣٤١).
(١٦) «قوت القلوب في مُعامَلة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد» لأبي طالبٍ المكِّي (٢/ ١١٥).
(١٧) «آثار محمَّد البشير الإبراهيمي» (١/ ١٧٠).
  #6  
قديم 27 Jun 2016, 11:39 PM
أبو إكرام وليد فتحون أبو إكرام وليد فتحون غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
الدولة: الجزائر
المشاركات: 1,798
افتراضي

الشبهة الخامسة
الردُّ على تأويل أبياتِ «البُرْدة» للبوصيري
وتفنيد شُبْهة الغُلُوِّ في ابن تيمية ـ رحمه الله ـ

قال شمس الدين بوروبي ـ هداه الله ـ:
«حَكَمُوا على الإمام البوصيري بالكفر لأنه قال:

يَا أَكْرَمَ الخَلْقِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ * سِوَاكَ عِنْدَ حُلُولِ الحَادِثِ العَمِمِ

مع أنَّ هذا البيت له أصلٌ في السنَّة .. أنَّ الناس يلوذون يومَ القيامة بآدَمَ...فإذا جاؤوا رسولَ الله ولاذوا به ... وقال:

فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتَهَا * وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالقَلَمِ

«مِن» تبعيضيةٌ أي: أنَّ مِن بعضِ علمِ رسول الله ما أَطْلَعَهُ اللهُ عليه ليلةَ الإسراء والمعراج ...ثمَّ مَدَحُوا ابنَ تيمية: كتاب «العقود الدُّرِّية في مَناقِبِ ابن تيمية» لابن عبد الهادي، يمدح ابنَ تيمية بأنه أَعْلَمُ الخَلْقِ منذ أَنْ خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ إلى يومِنا هذا...يقول:

يَا مَن حَوَى مِن عُلُومِ الْخَلْقِ مَا قَصُرَتْ * عَنْهُ الْأَوَائِلُ مُذْ كَانُوا إِلَى الآنَا

ويقول له:

إِنْ تُبْتَلَى بِلِئَامِ النَّاسِ يَرْفَعُهُمْ * دَهْرٌ عَلَيْكَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ قَدْ خَانَا

إِنِّي لَأُقْسِمُ ـ وَالْإِسْلَامُ مُعْتَقَدِي * وَإِنَّنِي مِنْ ذَوِي الْإِيمَانِ أَيْمَانَا ـ

لَمْ أَلْقَ قَبْلَكَ إِنْسَانًا أُسَرُّ بِهِ * فَلَا بَرِحْت لِعَيْنِ الْمَجْدِ إِنْسَانَا

هذا لم يَلْقَ قطُّ إنسانًا يُسَرُّ به، لا رسولَ الله ولا أبا بكرٍ الصدِّيقَ ولا عمر ولا علي ولا عثمان ولا آدَمَ ولا إبراهيم، وأنا أعجبُ كيف لا تعمد الجهاتُ الرسميةُ إلى منعِ هذه الكُتُبِ التي تُضلِّلُ الشبابَ وتُعلِّمُهم التكفيرَ والتبديع والتضليل».


الجواب:

اختلق صاحِبُ المُحاضَرةِ في هذا الكلام إفكًا، حين اتَّهم أهلَ السنَّةِ بتكفير البوصيري، مُلْصِقًا بهم تهمةَ التكفير قَصْدَ تنفيرِ الناس منهم ومِن دعوة التوحيد الخالص التي رفعوا شِعارَها، وعَقَدوا ألويتَها، كما بَهْرَجَ الباطلَ الصُّرَاحَ بألوانٍ مِن الحقِّ مُحاوِلًا بذلك مَحْوَ آثارِه وطَمْسَ أعلامه، فجَعَلَ لكلام البوصيري مَخْرَجًا شرعيًّا على الشفاعة العظمى لِيَسْلَمَ بذلك مِن التنديد والتفنيد.
ـ تفنيد فرية تكفير السلفية للبوصيري:

أمَّا رميُ أئمَّةِ التوحيد بتكفير البوصيري ففريةٌ تُبيِّنُ مدى الجَوْرِ المُتولِّدِ عن الحقد، وإلَّا فإنَّ أهل السنَّةِ السلفيِّين لا يُكفِّرون المُعيَّنَ إلَّا بعد تَحقُّقِ شروطٍ فيه وانتفاءِ مَوانِعَ عنه، وقد قام بالبوصيري صاحِبِ قصيدة «البُرْدةِ» مانعٌ مِن موانعِ التكفير هو الجهلُ بالعلم الشرعيِّ(١)، ونشأتُه في مُحيطٍ يُصوِّرُ له الشركَ توحيدًا والبدعةَ سنَّةً. وضِمْنَ هذا المنظور يقول ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «كنتُ أقول للجهمية مِن الحلولية والنُّفاةِ الذين نَفَوْا أنَّ اللهَ فوق العرش لمَّا وقَعَتْ محنتُهم: «أنا لو وافَقْتُكُمْ كنتُ كافرًا لأنِّي أَعْلَمُ أنَّ قولكم كفرٌ، وأنتم عندي لا تَكْفُرُون لأنَّكم جُهَّالٌ»، وكان هذا خطابًا لعُلَمائهم وقُضاتِهم وشيوخِهم وأُمَرائِهم، وأَصْلُ جَهْلِهم شُبُهاتٌ عقليةٌ حصَلَتْ لرؤوسهم في قصورٍ مِن معرفة المنقولِ الصحيح والمعقولِ الصريح المُوافِقِ له»(٢).

ولبيانِ كَذِبِ المُحاضِرِ على عُلَماءِ السلفية نَسوقُ نَقْلَيْنِ لعَلَمَيْنِ مِن عُلَماءِ التوحيد يُبيِّنانِ حُكْمَهما على صاحِبِ قصيدة «البُرْدة»:

قال الشيخان حسينٌ وعبد الله ابنا الشيخ محمَّد بنِ عبد الوهَّاب: «إنَّ صاحِبَ «البُرْدة» وغيرَه، ممَّن يُوجَدُ الشركُ في كلامِه والغُلُوُّ في الدِّين وماتوا، لا يُحْكَمُ بكفرهم، وإنما الواجب إنكارُ هذا الكلام، وبيانُ أنَّ مَن اعتقد هذا على الظاهر فهو مُشْرِكٌ كافرٌ، وأمَّا القائل: فيُرَدُّ أمرُه إلى الله سبحانه، ولا ينبغي التعرُّضُ للأموات؛ لأنه لا يُعْلَمُ: هل تابوا أم لا»(٣).

وقال الشيخ عبد الله أبا بطين: «ولْيُعْلَمْ أنَّنا لم نجترئ على تكفيرِ مَن وَجَدْنا في كلامه ألفاظًا شركيةً كصاحب «البُرْدة» وأمثالِه، وهذه زلَّاتٌ عظيمةٌ ربَّما لو نُبِّهوا عليها لَتنبَّهُوا، ولا نَسُبُّ الأمواتَ وقد أَفْضَوْا إلى ما قدَّموا، ونسأل اللهَ ألا يُزيغَ قلوبَنا بعد إذ هَدَانَا وأَنْ يَهَبَ لنا مِن لَدُنْهُ رحمةً إنه هو الوهَّابُ»(٤).
تفنيد تأويل البيت الشعريِّ المحمول على الشفاعة:

قد يَتوهَّمُ مَن سَمِعَ المُحاضَرةَ أنَّ تأويلَ بيتِ قصيدة البوصيري: «يَا أَكْرَمَ الخَلْقِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ * سِوَاكَ عِنْدَ حُلُولِ الحَادِثِ العَمِمِ» على الشفاعة العظمى مِن تخريجات المُحاضِر المُتعالِم، وليس الأمرُ كذلك؛ فقَدْ تَلقَّفَه مِن ألَدِّ أعداءِ دعوة التوحيد في هذا العصر والذي قبله ﻛ: داود بنِ جرجيس العراقيِّ(٥)، وعبد الله الغُماريِّ المغربيِّ(٦) وغيرِهما، وزيادةً في التلبيس لم يَجْرُؤْ على تسميةِ مَن سَلَفُه: إمَّا خجلًا بهم، وإمَّا تشبُّعًا بما لم يُعْطَ، وأَحْلاهُما مُرٌّ.

أمَّا ما يتعلَّقُ بالبيت الشعريِّ مِن «البُرْدة» وحَمْلِه على الشفاعة العُظْمى فغيرُ سليمٍ؛ لأنَّ «الحادث العَمِم» عند الصوفية هو العامُّ والشاملُ لجميع الخَلْق، وهذا محصورٌ ـ عندهم ـ في القيامة الصغرى وهي الموت، والقيامةِ الكبرى وهي الساعة، وبهذا فسَّرَ شُرَّاحُ «البُرْدة» البيتَ(٧)، وقد جاء البيتُ بأسلوب الحصر نافيًا بذلك كُلَّ مَلاذٍ له إذا حلَّتْ به الحوادثُ، ما عدا النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ الشاعرُ ـ في دعائه وندائه ـ يُظْهِرُ الفاقةَ والتضرُّعَ للمسؤول بتوحيده وإفرادِه لهذا المطلوب العظيم والخَطْبِ الجسيم؛ الشيءُ الذي يزيد الأمرَ نكارةً.

فاحتمالُ كونِ الشاعر قَصَدَ الشفاعةَ العظمى في الساعة الكبرى بعيدٌ وتأويلٌ مُتكلَّفٌ تأباهُ نظائرُه في القصيدة مِن الاستجارة والاستغاثة بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ومنها قولُ البوصيري:

إِنْ لَمْ تَكُنْ فِي مَعَادِي آخِذًا بِيَدِي * فَضْلًا وَإِلَّا فَقُلْ: يَا زَلَّةَ القَدَمِ

يقول الخريوتيُّ في شرحه لهذا البيت مِن «البُرْدة»: «والمرادُ به: حالةُ الموت وما بعده، والأخذُ باليد عبارةٌ عن النصر والإمدادِ والمعونة ودفعِ البلاية»(٨).

ويقول البوصيريُّ ـ أيضًا ـ:

حَاشَاهُ أَنْ يُحْرَمَ الرَّاجِي مَكَارِمَهُ * أَوْ يَرْجِعَ الجَارُ مِنْهُ غَيْرَ مُحْتَرَمِ

قال الخريوتيُّ شارحًا البيتَ: «وحاصِلُ معنى البيتِ: أنه عليه السلام مُنزَّهٌ عن أَنْ يَحْرِمَ راجِيَه وسائلَه مِن الإكرام، أو يَرُدَّ المستجيرَ منه بغيرِ احترامٍ؛ فإنه معدنُ الكرامات ومنبعُ الاحترامات، بل جميعُ أهلِ الدنيا مستغيثٌ بذاته عليه السلام»(٩).

ويقول البوصيري ـ أيضًا ـ:

مَا سَامَنِي الدَّهْرُ ضَيْمًا وَاسْتَجَرْتُ بِهِ * إِلَّا وَنِلْتُ جِوَارًا مِنْهُ لَمْ يُضَمِ

وَلَا الْتَمَسْتُ غِنَى الدَّارَيْنِ مِنْ يَدِهِ * إِلَّا الْتَمَسْتُ النَّدَى مِنْ خَيْرِ مُسْتَلَمِ

ومعنى ذلك: أي: ما ظَلَمَني أهلُ الدهرِ في وقتٍ مِن الأوقات وطلبتُ مِن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنْ يُدْخِلَني في جِوارِه ليَحْمِيَنِي مِن ضيمِ الدهر إلَّا وقرَّبَني منه(١٠).

وأَشَدُّ مِن ذلك دعاؤه النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنْ يَصْفَحَ عنه وأَنْ يَقْبَلَ عُذْرَه بقوله:

يَا مَنْ خَزَائِنُ جُودِهِ مَمْلُوءَةٌ * كَرَمًا وَبَابُ عَطَائِهِ مَفْتُوحُ

نَدْعُوكَ عَنْ فَقْرٍ إِلَيْكَ وَحَاجَةٍ * وَمَجَالُ فَضْلِكَ للعُفَاةِ(١١) فَسِيحُ

فَاصْفَحْ عَنِ العَبْدِ المُسِيءِ تَكَرُّمًا * إِنَّ الكَرِيمَ عَنِ المُسِيءِ صَفُوحُ

وَاقْبَلْ ـ رَسُولَ اللهِ ـ عُذْرَ مُقَصِّرٍ! * هُوَ ـ إِنْ قَبِلْتَ ـ بِمَدْحِكَ المَمْدُوحُ

فِي كُلِّ وَادٍ مِنْ صِفَاتِكَ هَائِمٌ * وَبِكُلِّ سِرٍّ مِنْ نَدَاكَ سَبُوحُ(١٢)

فليس في كلام الشاعرِ إلَّا استغاثةٌ ولِياذٌ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وهو عينُ الشرك؛ لأنه استغاثةٌ بالأموات واتِّخاذٌ لهم وسائطَ بين الخَلْقِ وبين الله تعالى، واللِّياذُ عبادةٌ كالعِياذ؛ فلا تُطْلَبُ إلَّا مِن الله وَحْدَه لا شريك له، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٦ وَإِن يَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَۖ وَإِن يُرِدۡكَ بِخَيۡرٖ فَلَا رَآدَّ لِفَضۡلِهِۦۚ يُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ١٠٧﴾ [يونس]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فِي ٱلۡبَحۡرِ ضَلَّ مَن تَدۡعُونَ إِلَّآ إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٦٧]، وقال تعالى: ﴿قُلۡ أَرَءَيۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوۡ أَتَتۡكُمُ ٱلسَّاعَةُ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَدۡعُونَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤٠ بَلۡ إِيَّاهُ تَدۡعُونَ فَيَكۡشِفُ مَا تَدۡعُونَ إِلَيۡهِ إِن شَآءَ وَتَنسَوۡنَ مَا تُشۡرِكُونَ ٤١﴾ [الأنعام].

ودلَّتِ السنَّةُ على أنَّ الدعاء ـ بمُخْتَلَفِ أنواعِه ـ عبادةٌ؛ ففي حديث النعمان بنِ بشيرٍ مرفوعًا: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ»، ثمَّ قرأ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي﴾ [غافر: ٦٠](١٣)، ومِن أنواع الدعاء: الاستعاذةُ والاستعانة والاستغاثة والاستجارة، ولا يجوز صرفُ شيءٍ منها إلَّا لله وَحْدَه؛ فمَن صَرَفَها لغيره تعالى فهو مُشْرِكٌ بالله تعالى.

وقد تَتابَعَ العلماءُ العدولُ على إنكارِ ما حَوَاهُ البيتُ المذكور مِن مُنْكَرٍ، واتَّفَقَتْ كلمتُهم على أنه مِن صُوَرِ الشرك وألوانِ الغُلُوِّ المَقيت، قال الشيخ محمود شكري الألوسي ـ رحمه الله ـ كاشفًا عمَّا في قول البوصيري مِن الباطل: «وأمَّا ما انتقده أهلُ العلم والدين على كلام البوصيري فكثيرٌ جدًّا، مِن ذلك قولُه:

يَا أَكْرَمَ الخَلْقِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ * سِوَاكَ عِنْدَ حُلُولِ الحَادِثِ العَمِمِ... إنَّ قول البوصيري هذا أَشْنَعُ وأَبْشَعُ...؛ لِما تَضمَّنَهُ مِن الحصر، ولِما فيه مِن اللِّياذ بغير الله في الخَطْب الجَلَلِ والحادثِ العمِمِ وهو قيامُ الساعة، وقد قال تعالى: ﴿قُلۡ أَرَءَيۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوۡ أَتَتۡكُمُ ٱلسَّاعَةُ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَدۡعُونَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤٠﴾ [الأنعام]؛ فدُعاءُ غيرِ الله في الأمور العامَّة الكُلِّيَّةِ أَبْشَعُ مِن دُعاءِ غيرِه في الأمور الجزئية؛ ولذلك أخبر أنَّ عُبَّاد الأصنامِ لا يَدْعُون غيرَه عند إتيان العذاب أو إتيانِ الساعة التي هي الحادث العَمِمُ»(١٤).

ـ وقال محمَّد بن علي الشوكاني ـ رحمه الله ـ عن هذا البيت: «فانظر كيف نَفَى كُلَّ مَلاذٍ ما عدا عَبْدَ الله ورسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم، وغَفَلَ عن ذِكْرِ ربِّه وربِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟! إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون»(١٥).

وعلى فرضِ التسليم بحملِ البيت على الشفاعة العظمى فإنَّ استغاثة الناسِ بالأنبياء يومَ القيامة إنما هي استغاثةٌ بأحياءٍ حاضرين قادرين، وتلك مشروعةٌ بنصوصٍ شرعيةٍ مِن كتابٍ وسنَّةٍ، ومشروطةٌ برِضًا مِن الله تعالى على الشافع وكونِ الشفاعة مَرْضيَّةً لله تعالى، يقع الإذنُ أو الأمرُ تفضُّلًا منه وكرمًا لقوله تعالى: ﴿يَوۡمَئِذٖ لَّا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ إِلَّا مَنۡ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُۥ قَوۡلٗا ١٠٩﴾ [طه]، بخلافِ الاستغاثة بالموتى ـ ولو كانوا أنبياءَ فممنوعةٌ، والاستدلالُ بالأوَّل المشروعِ لتقريرِ الثاني غيرِ المشروعِ هو عينُ شبهةِ المشركين في تجويزِ عبادة الأولياء. قال تعالى: ﴿ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ فِي مَا هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ كَٰذِبٞ كَفَّارٞ ٣﴾ [الزُّمَر]؛ فاعتذارُ أنصارِ «البُرْدة» المذكورُ مِن أنهم يطلبون الشفاعةَ فقط هو مِن قبيلِ اعتذار المشركين عن عبادة الأصنام، يَلُوكها المُنافِحون عن الضلال، ويتوارثونها جيلًا عن جيلٍ، وإنما تَتغايَرُ الأحداثُ وتتبدَّلُ الشخصياتُ، والشبهةُ واحدةٌ لا تتغيَّرُ ولا تَتبدَّلُ.

كما أنَّ الشفاعة لا تُطْلَبُ مِن الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولم يُنْقَلْ عن أحَدٍ مِن أصحابه رضي الله عنهم السابقين إلى الخير والمُتنافِسين لتحصيله، ولا عن أحَدٍ مِن أئمَّةِ الإسلام بعدهم أنه دعاهُ صلَّى الله عليه وسلَّم أو طَلَبَ منه شفاعةً، ولو كان خيرًا لَسبقونا إليه، وإنما سبيلُ تحصيلها سؤالُها مِن الذي وَهَبَها لرسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وهو اللهُ مالكُ المُلكِ الآمرُ لنبيِّه أَنْ يقول: ﴿قُل لِّلَّهِ ٱلشَّفَٰعَةُ جَمِيعٗا﴾ [الزُّمَر: ٤٤].

قال الشيخ عبد العزيز محمَّد آل عبد اللطيف ـ رحمه الله ـ: «ويزعم بعضُ المُتعصِّبين للقصيدة أنَّ مُرادَ البوصيريِّ طَلَبُ الشفاعة؛ فلو صحَّ ذلك فالمحذورُ بحاله؛ لِما تَقرَّرَ أنَّ طَلَبَ الشفاعةِ مِن الأموات شركٌ؛ بدليلِ قوله تعالى: ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبِّ‍ُٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ١٨﴾ [يونس]؛ فسمَّى اللهُ تعالى اتِّخاذَ الشُّفَعاءِ شركًا»(١٦).
ـ تفنيد تأويل البيت الشعريِّ الثاني المحمولِ على التبعيض:

وأمَّا قول المُحاضِرِ المُتعالِم: «فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتَهَا * وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالقَلَمِ: «مِنْ» تبعيضيةٌ، أي: أنَّ مِن بعضِ علمِ رسول الله ما أَطْلَعَهُ اللهُ عليه ليلةَ الإسراء والمعراج..».

فلم يخرج عن عادته في التدليس، وغايةُ ما في الأمر أنه أضافَ إليه جهلًا عريضًا بالعربية وتبجُّحًا قبيحًا بتطبيق قواعدها، وكُلُّ مَن له أَدْنى معرفةٍ بعلم اللغة العربية يُدْرِكُ المقصودَ الظاهر للشاعر؛ ﻓ «مِن» التبعيضيةُ في كلامه داخلةٌ على كلمةِ «علومِك» أي: مِن بعضِ علومك، ولم تدخل على «علم اللوح والقلم»؛ فهي باقيةٌ على عمومها وشمولِها لكونها مُفْرَدةً مُضافةً؛ فيكون المعنى: «مِن بعض علومك كُلُّ علمِ اللوح المحفوظ وكُلُّ علمِ القلم»؛ وعليه فالرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في نظرِ الشاعر ـ يعلم الغيبَ، وهو بعضُ عِلْمِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا ما قالَهُ شُرَّاحُ «البُرْدة»:

قال الأزهريُّ: «فإنك أَعْظَمُ الخَلْقِ على الله تعالى ... وعِلْمَيِ اللوحِ والقلم مِن عِلْمك، وأنتَ الحقيقُ بذلك، والمعوَّلُ في الشفاعة عليك، ولا أَقْطَعُ رجائي منك»(١٧).

ويقول الحسينيُّ: « ... وإِنَّ مِن علومك التي أفاضَها اللهُ عليك: عِلْمَ اللوح والقلم»(١٨).

ولعلَّ المُحاضِرَ أخَذَ تأويلَ البيتِ مِن الهيتميِّ حيث قال عند شرحِه البيتَ: «ووجهُ كونِ علمِ اللوح المحفوظِ مِن بعضِ علومه صلَّى الله عليه وسلَّم: أنَّ الله أَطْلَعَهُ ليلةَ الإسراء على جميعِ ما في اللوح المحفوظ وزادَهُ علومًا أُخَرَ كالأسرار المُتعلِّقةِ بذاته سبحانه وتعالى وصفاتِه»(١٩).

ومحاوَلتُه فاشلةٌ؛ لأنَّ ادِّعاءَ إِطْلاعِ اللهِ نبيَّه ليلةَ الإسراء على جميعِ ما في اللوح المحفوظ يفتقر إلى دليلٍ، ولم يأتِ في قصَّةِ الإسراء شيءٌ مِن هذا، وهي أمورٌ غيبيةٌ لا تَثْبُتُ بمجرَّدِ الرأي، وكُلُّ مَن روى قصَّتَه مِن الرُّواة لم يذكروا ما ذَكَرَه الهيتميُّ، ولو حَصَلَ لنُقِل.

ولا يخفى مُناقَضةُ هذا الادِّعاء لخصوصية الله تعالى في استئثاره بعلم الغيب كما أخبر به تعالى في قوله: ﴿ وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ ٥٩﴾ [الأنعام]، قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: «أُعْطِيَ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مَفَاتِحَ الغَيْبِ»(٢٠)، وقد أَمَرَ ـ سبحانه ـ نبيَّه أَنْ يقول: ﴿قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُ﴾ [النمل: ٦٥]، وقال كذلك: ﴿وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَيۡرِ﴾ [الأعراف: ١٨٨].

وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم للجارية التي كانَتْ تُغنِّي: «مَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللهُ» عندما قالت: «وفينا رسولُ الله يعلم ما في غَدِ»(٢١).

وإنما بَنَى صاحبُ «البُرْدة» هذا على أصلٍ مِن أصول الصوفية يَتَّضِحُ مِن قول صاحِبِ «النفحات»: «ولا يخفاك ما سَبَقَ غيرَ مرَّةٍ أنه لولاه لَما وُجِدَ لوحٌ ولا قلمٌ كما في الحديث القدسيِّ: «لولاك لولاك ما خَلَقْتُ الأفلاكَ»، لا سيَّما وقد خُلِقَ اللوحُ والقلمُ وسائرُ الأفلاك مِن نوره صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فيكون عِلْمُ اللوحِ والقلم مِن ضِمْنِ علومه صلَّى الله عليه وسلَّم»(٢٢).

تلك هي عقيدةُ القوم مؤسَّسةً على حديثٍ كذبٍ مُخْتَلَقٍ: «لولاك ما خلقتُ الأفلاكَ»(٢٣)، ويكفي لبطلانه قولُه تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦﴾ [الذاريات].

وكذلك اعتقادُهم بأنَّ النبيَّ خُلِق مِن نورٍ مُعارِضٌ للآيات الدالَّة على بشريته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. قال تعالى: ﴿قُلۡ سُبۡحَانَ رَبِّي هَلۡ كُنتُ إِلَّا بَشَرٗا رَّسُولٗا ٩٣﴾ [الإسراء]، وقال ـ أيضًا ـ: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ إِذَآ أَنتُم بَشَرٞ تَنتَشِرُونَ ٢٠﴾ [الروم]، وهُمْ كُلُّهم مخلوقون مِن ترابٍ بلا استثناءٍ.

وعن عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ»(٢٤)، قال الشيخ الألبانيُّ ـ رحمه الله ـ: «وفيه إشارةٌ إلى بطلان الحديث المشهور على ألسنة الناس: «أوَّلُ ما خَلَقَ اللهُ نورُ نبيِّك يا جابرُ!» ونحوِه مِن الأحاديث التي تقول بأنه صلَّى الله عليه وسلَّم خُلِقَ مِن نورٍ؛ فإنَّ هذا الحديثَ دليلٌ واضحٌ على أنَّ الملائكة فقط هم الذين خُلِقوا مِن نورٍ؛ دون آدَمَ وبَنِيهِ»(٢٥).
ـ تفنيد حَمْلِ كلامِ ابنِ عبد الهادي على الغُلُوِّ في ابن تيمية ـ رحمهما الله ـ:

تحميلُ كلامِ ابنِ عبد الهادي مَحامِلَ لم يُصرِّحْ بها، وتَصوُّرُ إلزاماتٍ لا تَلْزَمُ كلامَه كتفضيله ابنَ تيمية ـ رحمه الله ـ على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وسائرِ أصحابه الكرام، لا يَصْدُرُ إلَّا مِن نفسٍ أُشْبِعَتْ حِقدًا، وارتَوَتْ بغضًا لعَلَمٍ شَهِدَ له المُخالِفُ قبل المُوافِقِ بسَعَةِ عِلْمِه ودقَّةِ فَهْمِه. وجُرأةُ المُحاضِرِ في بُغْضِ أعلام السنَّة وجبالِ العلم والثقةِ ظاهرةٌ لا يُخْفِيها، وباديةٌ لا يسترها بالتلميحات والإشارات كشأن الحاقدين الآخَرين.

ولو أنَّ المُحاضِرَ الحقود أَعْمَلَ القاعدةَ اللغوية التي بها سوَّغَ غُلُوَّ البوصيري صاحبِ «البُرْدة» في هذا المَقامِ لَزال عنه الإشكالُ، ولكِنْ عمَّاهُ التعصُّبُ، ودَفَعَهُ الشنآنُ إلى البغي؛ إذ «مِن» ـ في كلام ابنِ عبد الهادي ـ تبعيضيةٌ دخَلَتْ على قوله: «علوم الخَلْق»، والمعنى: «مَنْ حَوَى بعضَ علومِ الخَلْق الذي قَصُرَتْ عنه الأوائلُ».

ويمكن أَنْ تكون «مِن» بيانيةً أي: لبيانِ الجنس، ويكونُ المعنى ـ حينئذٍ ـ: «الذي حَوَى علمًا مِن جنسِ علوم الخَلْق ـ لا مِن جنسِ علوم غيرِهم ـ الذي قَصُرَتْ عنه الأوائلُ».

أمَّا الحمل الأوَّلُ فلا غموضَ فيه، وأمَّا الثاني ـ وهو بيانُ الجنس ـ فلا يَلْزَمُ منه عمومٌ ولا خصوصٌ لأنه معنًى عارضٌ يُلْتَمَسُ مِن قرينةٍ خارجيةٍ، هذا مِن جهةٍ.

ومِن جهةٍ أخرى، فإنَّ الألف واللام في «الأوائل» للعهد، ويَقْصِدُ بهم الأوائلَ الذين هم في مرتبة شيخ الإسلام ابنِ تيمية ـ رحمه الله ـ، ويجوز شرعًا تفضيلُه عليهم، وليسَتِ الجنسيةَ التي تعمُّ كُلَّ مَن سَبَقَهُ ولو مِن الأنبياء والصحابةِ الممنوعِ شرعًا المُفاضَلةُ عليهم ممَّن جاء بعدهم.

وهل يُعْقَلُ أَنْ يفهم رجلٌ سَلِمَ قلبُه مِن الحسد وصحَّ عقلُه ممَّا يَشِينُه أَنْ يَنْسِبَ إلى ابنِ عبد الهادي ـ رحمه الله ـ أنه يَدَّعي مَعيشةَ سبعةِ قرونٍ لقي فيها النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وصحابتَه الكِرامَ، وفاضَلَ بينهم وبين ابنِ تيمية ـ رحمه الله ـ، فضلًا عن أَنْ يُفضِّله عليهم، وإنما المُنْصِفُ يفهم ظاهِرَ كلامِه وحقيقتَه في تفضيله ابنَ تيمية ـ رحمه الله ـ على عُلَماءِ عصره الذين لَقِيَهُمُ ابنُ عبد الهادي بنفسه، وكانوا المُقَدَّمين على غيرِهم.

وممَّا يُوضِّحُ أنَّ مقصود ابنِ عبد الهادي تَفوُّقُ ابنِ تيمية على أترابه قولُه في موضعٍ آخَرَ: «هو الشيخ الإمام الربَّانيُّ، إمامُ الأئمَّة، ومفتي الأمَّة، وبحرُ العلوم، سيِّدُ الحُفَّاظ، وفارسُ المعاني والألفاظ، فريدُ العصر، وقريعُ الدهر(٢٦)، شيخُ الإسلام، وعلَّامةُ الزمانِ، ترجمانُ القرآن»(٢٧).

وعلى نحوِ صنيعِ ابنِ عبد الهادي حَذَا جماعةٌ مِن العلماء؛ إذ أخبروا عن شيخ الإسلام ابنِ تيمية ـ رحمه الله ـ بما عَلِموا مِن سَعَةِ اطِّلاعه على أقوالِ المُوافِقِ والمُخالِفِ، ومنهم:

ـ ابن حجرٍ ـ رحمه الله ـ: ومِن ضمنِ كلامه قولُه: «وفَاق الأقرانَ، وَصَارَ عَجَبًا فِي سرعةِ الاستحضار، وقُوَّةِ الجَنان، والتوسُّع في المنقول والمعقول، والإطالةِ على مَذاهِبِ السلف والخلف»(٢٨).

ـ وماذا عَسَى المُحاضِرُ ـ الحقود ـ مُعلِّقًا على كلام ابنِ دقيق العيد الأصوليِّ في ابنِ تيمية ـ رحمهما الله ـ لمَّا لَقِيَه: «ما أظنُّ بقي يُخْلَقُ مِثْلُك»(٢٩).

وقد صَدَقَ السبكيُّ الشافعيُّ حين قال لبَعْضِ مَن ذَكَرَ له الكلامَ في ابن تيمية: «وَاللهِ يَا فلانُ مَا يبغض ابنَ تيمية إلَّا جاهلٌ أَو صاحبُ هوًى؛ فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحِبُ الهوى يصدُّه هَوَاهُ عن الحقِّ بعد معرفته به»(٣٠).

وأمَّا قول المُحاضِرِ ـ هداهُ الله ـ: «أنا أعجبُ كيف لا تعمد الجهاتُ الرسميةُ إلى مَنْعِ هذه الكتبِ التي تُضلِّلُ الشبابَ وتُعلِّمُهم التكفيرَ والتبديع والتضليل».

فجوابُه: أنَّ التكفير حكمٌ شرعيٌّ لا يجوز إلغاؤه أو إسقاطُه، وهو حقٌّ مِن حقوق الله تعالى الذي فرَّق بين الناسِ بالإيمان والكفر فقال سبحانه: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ ٢﴾ [التغابن]، ومِن إقامةِ شَرْعِ الله تعالى وصفُ مَن يَسْتحِقُّ الكفرَ بأنه أهلٌ له، كإلحاقِ وصفِ الإيمان بمن استجمع شرائطَه وأركانَه.

وإذا كان المُحاضِرُ الجاهلُ يقصد بقوله: «التكفير»: الغُلُوَّ فيه؛ فيقال له ـ عندئذٍ ـ: اتِّهامُ السلفيةِ بأنها تُعلِّمُ الناسَ تكفيرَ مَن لا يَسْتحِقُّهُ تهمةُ الجُبَناء الجاحدين لجهود السلفيِّين في إرساء الوسطية والاعتدال المأمورِ بهما، مُجانِبين بذلك طرَفَيِ الانحراف مِن الخوارج الذين غالَوْا في نصوص الوعيد حتَّى حَكَمُوا بالكفر على مَن لا يَسْتَحِقُّه، والمرجئةِ الذين تَمسَّكوا بنصوص الوعد إلى حدِّ اعتبارِ أنَّ الإيمان لا يضرُّ معه معصيةٌ. والسلفيةُ ـ ولله الحمدُ ـ يَتَّبِعون الكتابَ والسنَّةَ ويُطيعون اللهَ ورسولَه؛ فيتَّبِعون الحقَّ ويرحمون الخَلْق، ويكفي شاهدًا لردِّ بهتانه التطبيقُ العمليُّ في سنوات الجمر التي مرَّتْ بها الجزائرُ؛ فمَن الذي أَسْهَمَ في إطفاءِ نارِ الغُلُوِّ في التكفير وواجَهَ شبهاته المُتتالِيةَ؟ أهي كُتُبُ الصوفيةِ أم جهودُ عُلَماءِ السلفية؟! إذ لم تتمكَّنْ سائرُ الطوائفِ والنِّحَلِ الممكَّنِ لها بالبلد مِن صدِّ غاراتِ التكفريين، وعَجَزُوا عن ردِّ غُلُوِّهم لفَقْرِهم العلميِّ وضَعْفِهم مِن ناحيةِ التحصيل العِلميِّ الشرعيِّ، حتَّى اسْتُنْجِدَ بعُلَماءِ السلفيةِ ومؤلَّفاتِهم المحتويةِ على التأصيلات النافعة المُزيلةِ للأفهام السقيمة؛ فعمَّ بذلك الخيرُ ـ بإذن الله تعالى ـ وانتشر الأمنُ وفَهِمَ العوامُّ ـ فضلًا عن الخواصِّ ـ البَوْنَ الشاسعَ بين التكفيريين الغُلَاةِ وبين وسطيةِ السلفية، وعندها امتلأَتْ قلوبُ المُبْتدِعةِِ حَنَقًا بهذا الفتح، ومازالوا قَلِقين مُضْطرِبِينَ، وللخير مُتربِّصين، فلمَّا ضُيِّقَ على السلفيةِ راحوا يُلَبِّسون، وبالباطل يُدلِّسون، إلى أَنْ نَطَقَ المُحاضِرُ بالإفك والبهتان، وما ذلك إلَّا نكرانٌ للجميل وجَحْدٌ للفضل، وما يقالُ في التكفير يقال كذلك في التضليل والتبديع.

وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.

(١) انظر: ضوابط مسألة العذر بالجهل في خاتمة «توجيه الاستدلال بالنصوص الشرعية على العذر بالجهل في المسائل العقدية» للشيخ أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ.
(٢) «الردُّ على البكري» (٢٥٩). ويمكن مراجعةُ فتوى الشيخ أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ الموسومة ﺑ: «في حكم إطلاقِ الكفر على مَن أتى بالكفريات» تحت رقم: (٤٩٧).
(٣) «الدُّرَر السنيَّة في الأجوبة النجدية» (١٠/ ١٤٨).
(٤) «الردُّ على البردة» (ص ٤٩).
(٥) هو داود بنُ سليمان بنِ جرجيس البغداديُّ، النقشبنديُّ الخالديُّ. وُلِدَ سنة: (١٢٣١ﻫ)، استوطن نجدًا، وتَلَقَّى شيئًا مِن العلوم الشرعية عن طريق بعض مَشايِخِ نجدٍ كأبي بطينٍ، ثمَّ ما لَبِثَ أَنْ أظهر العداوةَ، ودَعَا إلى الاستعانة والاستغاثة بقبر أبيه، والاستمدادِ مِن الأموات، وألَّف في ذلك كُتُبًا ﻛ: «صلح الإخوان»، و«المنحة الوهبية في ردِّ الوهَّابية». هَلَك يوم الإثنين ١٩ مِن رمضان سنة: (١٢٩٩ﻫ). [انظر: «الأعلام» للزركلي (٢/ ٣٣٢)، «دعاوى المُناوِئين» لعبد العزيز آل عبد اللطيف (١/ ٦٣)].
(٦) هو عبد الله بنُ محمَّد الصدِّيق الغماري الطنجي. وُلِد سنة: (١٣٢٨ﻫ) الموافق ﻟ: (١٩١٠م). له كُتُبٌ تَضمَّنَتْ مَزالِقَ عقديةً منها: «الإعلام بأنَّ التصوُّف مِن شريعة الإسلام» و«أولياءُ وكراماتٌ» و«إتحاف الأذكياء بجوازِ التوسُّل بسيِّد الأنبياء» و«إعلام الراكع الساجد بمعنى اتِّخاذ القبور مساجد» و«القول المُقْنِع في الردِّ على الألبانيِّ المبتدع». تُوُفِّيَ سنة: (١٤١٣ﻫ) الموافق ﻟ: (١٩٩٣م).
(٧) «عصيدة الشهدة» للخريوتي (٢١٨).
(٨) «عصيدة الشهدة» للخريوتي (٢١٤).
(٩) المصدر السابق.
(١٠) «العمدة شرح البردة» (٤١١ ـ ٤١٣).
(١١) العُفاةُ: طُلَّاب المعروف، [انظر: «كتاب العين» للخليل (٢/ ٢٥٨)، «الصحاح» للجوهري (٦/ ٢٤٣٣)].
(١٢) انظر: «ديوان البوصيري» (ص ٩٠).
(١٣) أخرجه أبو داود (١٤٧٩)، والترمذيُّ (٣٢٤٧). وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» (٥/ ٢١٩).
(١٤) انظر: «جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية» لشمس الدين الأفغاني (٢/ ١١٨٣).
(١٥) «الدرُّ النضيد في إخلاص كلمة التوحيد» للشوكاني (٢٦).
(١٦) «قوادحُ عقديةٌ في بردة البوصيري» لعبد العزيز محمَّد آل عبد اللطيف (١٩٧).
(١٧) «شرح البردة» للأزهري.
(١٨) المصدر السابق.
(١٩) «العمدة شرح البردة» للهيتمي (٦٩٩).
(٢٠) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١/ ٤٠١).
(٢١) أخرجه البخاريُّ (٤٠٠١) واللفظُ لابن ماجه (١٨٩٧)، عن الرُّبَيِّعِ بنت مُعوِّذٍ رضي الله عنهما.
(٢٢) «النفحات الشاذلية في شرح البردة البوصيرية» لحسن العدوي الحمزاوي (٣/ ٥٤٤).
(٢٣) انظر: «الموضوعات» للصغَّاني (٥٢)، «الفوائد المجموعة» للشوكاني (١١٦)، «السلسلة الضعيفة» للألباني (١/ ٤٥٠).
(٢٤) أخرجه مسلمٌ (٢٩٩٦).
(٢٥) «السلسلة الصحيحة» للألباني (١/ ٨٢٥).
(٢٦) القريعُ: السيِّد، وتأتي: بمعنى المختارِ والْغَالِب، [انظر: «تاج العروس» (٢١/ ٥٤٠)، «لسان العرب» (٨/ ٢٦٧)].
(٢٧) «العقود الدُّرِّية مِن مَناقِبِ شيخ الإسلام أحمد بنِ تيمية» لابن عبد الهادي (١٨).
(٢٨) «الدُّرَر الكامنة» لابن حجر (١/ ١٦٩).
(٢٩) انظر: «البداية والنهاية» لابن كثير (١٤/ ٣٢).
(٣٠) انظر: «الردَّ الوافر» لابن ناصر الدين الدمشقي (٢٤).
  #7  
قديم 27 Jun 2016, 11:41 PM
أبو إكرام وليد فتحون أبو إكرام وليد فتحون غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
الدولة: الجزائر
المشاركات: 1,798
افتراضي

الشبهة السادسة
تفنيد شبهة نسبة القول بفناء النار
ودخول أهلها الجنَّةَ للسلف الصالح

الشبهة:

قال شمس الدين بوروبي ـ هداه الله ـ:
«اتَّهَموا الصوفيةَ بأنهم يقولون بنجاة فرعون مِنَ النار، وهُمْ ألَّفوا كُتُبًا في فَناء النار، زعموا أنَّ النَّار تفنى وأنَّ كُلَّ مَنْ فيها يدخل الجنَّةَ؛ فيلتقي موسى مع فرعون، الكتاب موجودٌ، يقول الألبانيُّ: «وليس هذا فقط، بل وأنَّ أهلها يدخلون بعد ذلك جنَّاتٍ تجري مِنْ تحتها الأنهارُ»... يلتقي فرعونُ مع رسول الله، ويلتقي أبو جهلٍ مع رسول الله، ويلتقي موسى مع مَنْ كَفَرَ بالله.. ومَنْ أراد التأكُّدَ هذا كتابٌ طَبَعَه المكتبُ الإسلاميُّ اسمُه: «رفعُ الأستار لإبطال أدلَّةِ مَنْ قال بفَناء النار»، فهذا يردُّ على مَنِ اعتقد مِنَ التيَّار الحشويِّ أنَّ النار تفنى وأنَّ أهلها يدخلون إلى الجنَّة».

الجواب:

نتناول ـ في جوابنا عن هذه الشبهة المطروحة ـ ثلاثَ جهاتٍ، نُبيِّن ـ في الفقرة الأولى منها ـ حقيقةَ نسبة القول بنجاة فرعون مِنَ النار للصوفية، وعلى رأسهم إمامُ الاتِّحادية: محيي الدين بنُ عربيٍّ الطائيُّ، الذي يُطْلِقُ عليه المتصوِّفةُ لقبَ: «الكبريت الأحمر» و«الشيخ الأكبر»، ثمَّ نتعرَّضُ ـ في الفقرة الثانية ـ إلى إبطال نسبة القول بفَناء النار لأهل السنَّة، ثمَّ نخصِّصُ الفقرةَ الأخيرة لتحقيقِ نسبة القول بفَناء النار لابن تيمية ـ رحمه الله ـ.
الفقرة الأولى: حقيقة نسبة القول بنجاة فرعون مِنَ النار للصوفية:

نسبةُ القول بنجاة فرعون مِنَ النار للصوفية حقيقةٌ لا يدفعها إلَّا مُكابِرٌ جاحدٌ، أو جاهلٌ مُعانِدٌ، ومِنْ نصوص القوم الصريحةِ كلامُ ابنِ عربيٍّ، حيث زَعَمَ بقوله مفسِّرًا قولَه تعالى: ﴿وَقَالَتِ ٱمۡرَأَتُ فِرۡعَوۡنَ قُرَّتُ عَيۡنٖ لِّي وَلَكَ﴾ [القصص: ٩]: «فبه قرَّتْ عينُها بالكمال الذي حَصَلَ لها، وكان قرَّةَ عينٍ لفرعون بالإيمان الذي أعطاه اللهُ عند الغرق، فقَبَضهُ طاهرًا مُطهَّرًا، ليس فيه شيءٌ مِنَ الخبث؛ لأنه قَبَضَه عند إيمانه قبل أَنْ يكتسب شيئًا مِنَ الآثام، والإسلام يَجُبُّ ما قبله، وجَعَلَه آيةً على عنايته سبحانه وتعالى بمَنْ شاء، حتَّى لا ييأس أَحَدٌ مِنْ رحمة الله؛ فإنه لا ييأس مِنْ رَوْحِ الله إلَّا القومُ الكافرون»(١).

وهذا القول كفرٌ مَعْلُومٌ فَسَادُه باضطرارٍ مِنْ دِينِ الإِسْلام، لم يسبقِ ابنَ عربيٍّ إليه أحَدٌ مِنْ أهل القبلة، إلَّا ما كان مِنْ لازمِ مذهبِ الجهمية مِنْ أنَّ الإيمان هو المعرفةُ بالقلب، وفرعونُ وقومُه ـ عندهم ـ كانوا عارفين بصدق موسى وهارون عليهما السلام لقوله تعالى: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمٗا وَعُلُوّٗا﴾ [النمل: ١٤](٢)، وابنُ عربيٍّ ومَنْ سار على معتقده أَشَدُّ ضلالًا؛ إذ زَعَمُوا أَنه ليس في القرآن ما يدلُّ على عذاب فرعون، بل فيه ما ينفيه كقوله تعالى: ﴿أَدۡخِلُوٓاْ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ أَشَدَّ ٱلۡعَذَابِ ٤٦﴾ [غافر]، قالوا: فإنَّما أُدْخِلَ آلُه دونه، وقولِه: ﴿يَقۡدُمُ قَوۡمَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَأَوۡرَدَهُمُ ٱلنَّارَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡوِرۡدُ ٱلۡمَوۡرُودُ ٩٨﴾ [هود]، قالوا: ففرعونُ أَوْرَدَهم ولم يدخلها. وإنَّما دخَلَتِ الشبهةُ على هؤلاء الجُهَّال مِنْ لفظةِ «آل»(٣) حيث حَسِبوا أنَّ الشخص خارجٌ منهم، وهذا تحريفٌ للكَلِمِ عن مَوَاضِعه؛ فإنَّ أهل الْعلم بالقرآن واللغة مُطْبِقون على شمول لفظِ «آل فلانٍ» للشخص نفسِه، ومِنْ أدلَّةِ ذلك: قولُه تعالى فِي الملائكة الذين نزلوا على إبراهيم عليه السلام: ﴿قَالُوٓاْ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمٖ مُّجۡرِمِينَ ٥٨ إِلَّآ ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٥٩ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ﴾ [الحجر: ٥٨ ـ ٦٠]، ثمَّ قال: ﴿فَلَمَّا جَآءَ ءَالَ لُوطٍ ٱلۡمُرۡسَلُونَ ٦١ قَالَ﴾ [الحجر: ٦١ ـ ٦٢] يَعْنِي: لوطًا ﴿إِنَّكُمۡ قَوۡمٞ مُّنكَرُونَ ٦٢﴾ [الحجر]، وقولُه تعالى: ﴿وَلَقَدۡ جَآءَ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ ٱلنُّذُرُ ٤١ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذۡنَٰهُمۡ أَخۡذَ عَزِيزٖ مُّقۡتَدِرٍ ٤٢﴾ [القمر]، وعلى قولهم الفاسد فإنَّ فرعون لم تَأْتِهِ النُّذُرُ، وإنما جاءَتْ آلَه، وفي هذا تكذيبٌ للنصوص القرآنية الصريحة في محاجَّة موسى وهارون عليهما السلام لفرعون ودعوتِه إلى التوحيد.

وأمَّا قولُه تعالى: ﴿فَٱتَّبَعُوٓاْ أَمۡرَ فِرۡعَوۡنَۖ وَمَآ أَمۡرُ فِرۡعَوۡنَ بِرَشِيدٖ ٩٧ يَقۡدُمُ قَوۡمَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَأَوۡرَدَهُمُ ٱلنَّارَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡوِرۡدُ ٱلۡمَوۡرُودُ ٩٨﴾ [هود]، فالمعلومُ أنَّ المتقدِّم إذا أَوْرَدَ المُتأخِّرين النارَ كان هو أوَّلَ مَنْ يَرِدُها، وإلَّا كان سائقًا، ويُوضِّحُ ذلك أَنه قال: ﴿وَأُتۡبِعُواْ فِي هَٰذِهِۦ لَعۡنَةٗ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ﴾ [هود: ٩٩]، فَعُلِمَ أنه وهُمْ يَرِدُون النارَ، وأنَّهم جميعًا ملعونون في الدنيا وَالآخرة(٤)، وكُلُّ مَنْ شمَّ رائحةَ العلم يعلم أنَّ فرعون ما نَطَقَ بالإيمان إلَّا عند رؤية البأس، وصريحُ القرآن في غيرِ ما آيةٍ بأنه لا ينفع أَحَدًا إيمانُه عند رؤيةِ ذلك، قال سبحانه: ﴿فَلَمَّا رَأَوۡاْ بَأۡسَنَا قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥ وَكَفَرۡنَا بِمَا كُنَّا بِهِۦ مُشۡرِكِينَ ٨٤ فَلَمۡ يَكُ يَنفَعُهُمۡ إِيمَٰنُهُمۡ لَمَّا رَأَوۡاْ بَأۡسَنَاۖ سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدۡ خَلَتۡ فِي عِبَادِهِۦۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨٥﴾ [غافر](٥)، قال ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ: «هذا حكمُ اللهِ في جميعِ مَنْ تاب عند معاينة العذاب: أنه لا يُقْبَلُ؛ ولهذا جاء في الحديث: «إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ»(٦)، أي: فإذا غَرْغَرَ وبلغَتِ الروحُ الحنجرةَ وعايَنَ المَلَكَ فلا توبةَ حينئذٍ؛ ولهذا قال: ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾»(٧). ودعواهم أنه ليس في القرآن ما يدلُّ على عذابِ فرعونَ تردُّهُ الآياتُ الصريحةُ في موته على الكفر وترتيبِ العذاب على ذلك بالتعيين في الدنيا والآخرة، حتَّى جَعَلَه اللهُ عبرةً لِمَنِ اعتبر، منها: قولُه تعالى: ﴿وَجَآءَ فِرۡعَوۡنُ وَمَن قَبۡلَهُۥ وَٱلۡمُؤۡتَفِكَٰتُ بِٱلۡخَاطِئَةِ ٩ فَعَصَوۡاْ رَسُولَ رَبِّهِمۡ فَأَخَذَهُمۡ أَخۡذَةٗ رَّابِيَةً ١٠﴾ [الحاقَّة]، وقولُه: ﴿إِنَّآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ رَسُولٗا شَٰهِدًا عَلَيۡكُمۡ كَمَآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولٗا ١٥ فَعَصَىٰ فِرۡعَوۡنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذۡنَٰهُ أَخۡذٗا وَبِيلٗا ١٦﴾ [المزَّمِّل]، وقولُه: ﴿فَأَرَىٰهُ ٱلۡأٓيَةَ ٱلۡكُبۡرَىٰ ٢٠ فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ ٢١ ثُمَّ أَدۡبَرَ يَسۡعَىٰ ٢٢ فَحَشَرَ فَنَادَىٰ ٢٣ فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ ٢٤ فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلۡأٓخِرَةِ وَٱلۡأُولَىٰٓ ٢٥ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰٓ ٢٦﴾ [النازعات]، وقولُه: ﴿وَفِرۡعَوۡنَ ذِي ٱلۡأَوۡتَادِ ١٠ ٱلَّذِينَ طَغَوۡاْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ ١١ فَأَكۡثَرُواْ فِيهَا ٱلۡفَسَادَ ١٢ فَصَبَّ عَلَيۡهِمۡ رَبُّكَ سَوۡطَ عَذَابٍ ١٣ إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلۡمِرۡصَادِ ١٤﴾ [الفجر]، وغيرُ ذلك مِنَ الآيات؛ فكيف يسوغ بعد هذا البيانِ القرآنيِّ الواضحِ أَنْ يدَّعِيَ مُدَّعٍ أنه ليس في القرآن ما يدلُّ على عذاب فرعون الذي هو مِنْ أَعْظَمِ الناس كفرًا؟
الفقرة الثانية: تفنيد نسبة القول بفَناء النار لأهل السنَّة:

زَعْمُ المُحاضِرِ بأنَّ السلفيِّين ألَّفوا كُتُبًا في تقرير مسألةِ فَناءِ النار محضُ افتراءٍ، سببُه الجهلُ العميقُ بفنِّ التأليف، والحقدُ الدفينُ الذي يُعْمِي البصائرَ قبل الأبصار؛ فالمعلومُ أنَّ أهل السنَّة إذ ألَّفوا في المسألة فإنما كتبوا مُناقِشِين لا مُقرِّين، والأمرُ الذي يجهله المُحاضِرُ وأَوْقَعَه في الإجحاف وعدمِ الإنصاف هو أنَّ القول بفَناء النار ألَّف فيه طائفةٌ ممَّنْ ينتسبون إلى غير السلفية مُقرِّرِين بالمنقول والمعقول(٨).

هذا، وقد نُسِبَ القولُ بفَناء النار لطائفةٍ مِنَ السلف كعمر بنِ الخطَّاب وعبد الله بنِ عمرٍو رضي الله عنهم، بينما حكى ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ اتِّفاقَ السلف على أنَّ مِنَ المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكُلِّية كالجنَّة والنار(٩)؛ الأمرُ الذي يدفع إلى تحقيق صحَّة النسبة إلى مَنْ سَبَقَ ذِكْرُهم، وقد صَنَعَ ذلك العلَّامةُ الألبانيُّ ـ رحمه الله ـ وخَلَصَ إلى أنه: «لم يثبت القولُ بفَناء النار عن أحَدٍ مِنَ السلف، وإنما هي آثارٌ واهيةٌ لا تقوم بها حجَّةٌ، وبعضُ أحاديثه موضوعٌ»(١٠)، وهذا الرأيُ مُوافِقٌ للأدلَّة، وبيانُ ذلك أنَّ القرآن جاء مُصرِّحًا ـ عن الكُفَّار ومَنْ مات على الشرك ـ بأمورٍ هي:

١ ـ عدم خروجهم مِنَ النار: كقوله تعالى: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوۡ أَنَّ لَنَا كَرَّةٗ فَنَتَبَرَّأَ مِنۡهُمۡ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّاۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡ حَسَرَٰتٍ عَلَيۡهِمۡۖ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ ١٦٧﴾ [البقرة].

٢ ـ عدم موتهم فيها: كقوله تعالى: ﴿لَا يُقۡضَىٰ عَلَيۡهِمۡ فَيَمُوتُواْ﴾ [فاطر: ٣٦]، وقولِه: ﴿وَيَأۡتِيهِ ٱلۡمَوۡتُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٖ﴾ [إبراهيم: ١٧].

٣ ـ عدم تخفيف العذاب عنهم: كقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡمُجۡرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَٰلِدُونَ ٧٤ لَا يُفَتَّرُ عَنۡهُمۡ وَهُمۡ فِيهِ مُبۡلِسُونَ ٧٥﴾ [الزخرف].

٤ ـ عدم دخولهم الجنَّةَ: كقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُواْ عَنۡهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمۡ أَبۡوَٰبُ ٱلسَّمَآءِ وَلَا يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلۡجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلۡخِيَاطِۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُجۡرِمِينَ ٤٠﴾ [الأعراف].

فإذا تبيَّن ـ بهذه النصوص ـ بطلانُ جميعِ هذه الأقسام تَعيَّنَ القسمُ الخامس الذي هو خلودُهم فيها أبدًا بلا انقطاعٍ ولا تخفيفٍ بالتقسيم والسبر الصحيح(١١). ويؤيِّد ذلك: التصريحُ بدوام عذابهم: كقوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصۡرِفۡ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ٦٥﴾ [الفرقان] أي: مُلازِمًا لأهلها بمنزلة مُلازَمةِ الغريم لغريمه(١٢)، وكذا التصريح بأبديَّتهم فيها في ثلاث مَواضِعَ مِنَ القرآن، منها: قولُه تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَعَنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمۡ سَعِيرًا ٦٤ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ لَّا يَجِدُونَ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ٦٥﴾ [الأحزاب]، والأبد هو: الدائم الذي لا نهايةَ له ولا انقطاعَ؛ جزاءً على خُبْثهم الطبيعيِّ الدائم الذي لا يزول، المستفاد مِنْ نصوصٍ كثيرةٍ منها قولُه تعالى: ﴿وَلَوۡ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمۡ خَيۡرٗا لَّأَسۡمَعَهُمۡ﴾ [الأنفال: ٢٣]؛ فنَفَى اللهُ عنهم كُلَّ خيرٍ بدلالة النكرة الواقعة في سياق الشرط.
الفقرة الثالثة: في تحقيق نسبة القول بفَناء النار لابن تيمية ـ رحمه الله ـ:

وفي هذه الفقرة نَتناوَلُ مسألتَها مِنْ جهتين:

الأولى: بيان مُوافَقةِ مذهب ابنِ تيمية لمذهب السلف في عدم فَناء النار، ونُحاوِلُ مِنْ خلالِ هذه الجهة أَنْ نُبْرِزَ جملةً مِنْ أقوال ابنِ تيمية ـ رحمه الله ـ ومقالاته ونصوصِه مِنْ كُتُبِه ما وافق فيها مذهبَ السلف مِنْ غيرِ مخالَفةٍ.

الثانية: على فرضِ صحَّةِ نسبة القول بفَناء النار لابن تيمية ـ رحمه الله ـ: حيث نُبيِّنُ في هذه الجهة مَطْمَعَ النيل منه بإيراد اللوازم مِنْ قوله، و«لَازِمُ المَذْهَبِ ـ كَمَا تَقَرَّرَ ـ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ».

الجهة الأولى: بيان موافقة مذهب ابنِ تيمية ـ رحمه الله ـ لمذهب السلف في عدم فَناء النار.

عَثَر المُحاضِرُ ـ بواسطة الحاقدين قبله ـ على كلامٍ للألبانيِّ عن شيخ الإسلام ابنِ تيمية ـ رحمهما الله ـ فطار به فرحًا حين ظنَّه طعنًا في شيخ الإسلام، وإقرارًا على صحَّة النسبة إليه بفَناء النار، وجعل عليه ـ مِنْ نفسِه السقيمة ـ فهومًا تُوافِقُ كلامَ ابنِ عربيٍّ وأضرابِه بل تفوقُه ضلالًا، ولم يعلم المسكينُ أنَّ الألبانيَّ عزَاهُ إلى الصنعانيِّ ـ رحمهما الله ـ وأنه كان جاهدًا للاطِّلاع على المطبوع مِنْ كلام ابنِ تيمية ـ رحمه الله ـ ولم يعثر عليه لعدم توفُّرِ المخطوط بالمظانِّ التي قَصَدَها(١٣)، فاكتفى بثِقَتِه بعلم الصنعانيِّ وفهمِه، واعتذر لشيخ الإسلام بأعذارٍ تحفظ له مكانتَه العلمية وتصون له مرتبتَه العليَّة(١٤)، وقد طُبِعَتْ رسالةٌ لابن تيمية معنونةً ﺑ: «الردُّ على مَنْ قال بفَناء الجنَّة والنار وبيان الأقوال في ذلك»، ألَّفها على إثرِ سؤالٍ وجَّهه إليه تلميذُه ابنُ القيِّم ـ رحمهما الله ـ، ذَكَرَ له فيه أنَّ هذه المسألة تُشْكِلُ عليه، فأجاب ـ رحمه الله ـ مستقصيًا جميعَ جوانبها ومُوازِنًا بين أدلَّتها، شأنَ الباحثين المحقِّقين المتبحِّرين في الاطِّلاع، وبيَّن الفرقَ بين دوام الجنَّة والنارِ وفَنائهما، ولم يعقِّبْ على تلك الآراءِ بقولٍ خاصٍّ له، ومِنْ هنا ظنَّ مَنْ ظنَّ بأنه يقول بفَناء النار أو يميل إلى القول به(١٥)، وتَحامَلَ عليه الشانئون المُعادون له ولمنهجه، وجعلوا منها غرضًا للنيل منه وتضليله(١٦).

ويَحْسُنُ التنبيهُ إلى أنه لا يُوجَدُ لشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ نصٌّ واضحٌ جليٌّ في فَناء النار، وتتأيَّدُ نسبةُ القول لابن تيمية ـ رحمه الله ـ بما يُوافِقُ مذهبَ السلف مِنْ عدم فَناء النار بشيئين:

الأوَّل: النصوص المستفيضة في كُتُبِه، ومنها قولُه ـ رحمه الله تعالى ـ: «وقال أهل الإسلام جميعًا: ليس للجنَّة والنار آخِرٌ، وإنهما لا تزالان باقيتين، وكذلك أهلُ الجنَّة لا يزالون في الجنَّة يتنعَّمون، وأهل النار في النار يُعَذَّبون، ليس لذلك آخِرٌ...»(١٧)؛ فتكون هذه النصوصُ مِنْ قبيل المُحْكَم، وما فُهِمَ منه على خلافها مِنْ قبيل المتشابه، وأهلُ الإنصاف والعدل ـ المنبثقَيْن عن العلم الصحيح والصدر السليم ـ يقدِّمون حالَ التعارض المُحْكَمَ الذي لا يحتمل إلَّا وجهًا واحدًا، على المتشابه المشتمل على أَوْجُهٍ لا مزيَّةَ لأحَدِهَا عن الآخَرِ إلَّا بالقرائن.

الثاني: أنه ـ رحمه الله ـ ألَّف «نقد مراتب الإجماع» معقِّبًا على ابنِ حزمٍ ـ رحمه الله ـ في مَواضِعَ مِنْ كتابه: «مراتب الإجماع»، ولم يعقِّبْ بشيءٍ على حكاية ابنِ حزمٍ الإجماعَ على أبدية الجنَّة والنار(١٨).

وأمَّا ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ فإنَّ له قولين: الأوَّل: مالَ فيه إلى تقوية القول بفَناء النار، وأيَّده بظواهِرَ غيرِ صريحةٍ وآثارٍ مُتكلَّمٍ في أسانيدها، وذلك في كتابه: «حادي الأرواح» و«شفاء العليل»، كما أنه تَوقَّفَ في المسألة في كتابه: «الصواعق المرسلة». والثاني: وهو الموافِقُ لمذهب أهل السنَّة، وهو القول بأبدية النار وعدمِ فَنائها، ذَكَرَ ذلك منصوصًا عليه في كتابَيْه: «الوابل الصيِّب» و«طريق الهجرتين». قال ـ رحمه الله ـ: «وأمَّا النار فإنها دارُ الخبث في الأقوال والأعمال والمآكل والمَشاربِ ودارُ الخبيثين، فاللهُ تعالى يجمع الخبيثَ بعضَه إلى بعضٍ فيركمه كما يركم الشيءَ المُتراكِبَ بعضُه على بعضٍ ثمَّ يجعله في جهنَّمَ مع أهله؛ فليس فيها إلَّا خبيثٌ، ولمَّا كان الناسُ على ثلاث طبقاتٍ: طيِّبٌ لا يشينه خُبْثٌ، وخبيثٌ لا طِيبَ فيه، وآخَرُون فيهم خُبْثٌ وطِيبٌ كانت دُورُهم ثلاثةً: دار الطَّيِّبِ المحض ودار الخبيث المحض، وهاتان الداران لا تَفْنَيَان، ودارٌ لمن معه خُبْثٌ وطِيبٌ وهي الدار التي تفنى وهي دارُ العُصاة؛ فإنه لا يبقى في جهنَّمَ مِنْ عُصاةِ الموحِّدينَ أحَدٌ، فإنه إذا عُذِّبُوا بقَدْرِ جزائهم أُخْرِجوا مِنَ النار فأُدْخِلوا الجنَّةَ، ولا يبقى إلَّا دارُ الطَّيِّبِ المحض ودارُ الخبيث المحض»(١٩).

الجهة الثانية: وعلى فرض صحَّة نسبة القول بفَناء النار لابن تيمية ـ رحمه الله ـ وغيره مِنَ السلف، فإنه لا يَلْزَمُ منه ما ذَكَرَهُ المُحاضِرُ الحقودُ مِنْ أنَّ جملةً مِنَ المقطوع بكفرهم محكومٌ عليهم بمرتبة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الجنَّة؛ فغايةُ ما ذَكَرَهُ ـ هداه الله ـ إلزاماتٌ باطلةٌ حَسِبَها ـ لجهلِه وحقدِه ـ مذهبًا لمن نُسِب إليه مِنَ السلف القولُ بفَناء النار، ولازمُ المذهب ـ عند أهل العلم العارفين ـ ليس بمذهبٍ لمن لم يصرِّحْ به، أو لم يُشِرْ إليه ولم يلتزمه، أو سكت عنه ولم يذكره بالْتزامٍ ولا منعٍ، أو صرَّح بمنع التلازم بينه وبين قوله؛ فنسبةُ القول إليه والحالُ كذلك تقويلٌ له لِمَا لم يقله(٢٠)، ومِنْ علامات أهل البِدَعِ في ردِّ الحقِّ: إيرادُ لوازمَ باطلةٍ عليه، وإلزامُ أهل الحقِّ بها مِنْ غيرِ أَنْ يلتزموها.

كما أنَّ القول بفَناء النار دون الجنَّة منقولٌ عن عمر بنِ الخطَّاب وابنِ مسعودٍ وأبي هريرة وأبي سعيدٍ رضي الله عنهم وغيرِهم؛ فقَدْ روى عبدُ بنُ حُمَيْدٍ في تفسيره المشهور بسنده إلى عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه أنه قال: «لَوْ لَبِثَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ كَقَدْرِ رَمْلِ عَالِجٍ لَكَانَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَقْتٌ يَخْرُجُونَ فِيهِ»، وذَكَرَ ذلك في تفسير قوله تعالى: ﴿لَّٰبِثِينَ فِيهَآ أَحۡقَابٗا ٢٣﴾ [النبأ](٢١)، والحديثُ وإِنْ كان ضعيفًا كما قرَّره أهلُ الحديث، إلَّا أنه لا يُعابُ على مَنْ حاوَلَ تقويتَه كما فَعَلَ ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في «حادي الأرواح»، ولا يُنْتَقَصُ ممَّنْ رأى صحَّتَه عن بعض السلف المذكورين واعتقد مقتضاهُ المرجوحَ ظانًّا راجحِيَّتَهُ عند بعض السلف خلافًا للجمهور، والمعلومُ ـ في المنهج السلفيِّ ـ أنَّ الواجب اتِّخاذُ الكتابِ والسنَّةِ ميزانًا لقَبولِ أقوال الرجال وردِّها، وما سواهما مِنْ آراء البشر واجتهاداتِهم إنما تُعْرَضُ على الميزان الحقِّ وهو الكتابُ والسنَّة، فإِنْ حَصَلَتِ الموافَقةُ معهما أُخِذَ بتلك الأقوال والآراء، وإلَّا رُدَّتْ على أصحابها مهما كانوا؛ إذ الطاعةُ المُطْلَقةُ محصورةٌ في طاعة الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، وليس للعالِمِ أو الإمام مِنَ الطاعة إلَّا مِنْ جهةِ أنه مُبلِّغٌ عن الله دِينَه وشَرْعَه؛ فإذا أخطأ عالِمٌ في مسألةٍ أو غَلِطَ إمامٌ في قضيَّةٍ بعد اجتهادٍ منه فهو مأجورٌ غيرُ مأزورٍ، غير أنَّه لا يُتَّبَعُ في تلك المسألة، مِنْ غير إهدارٍ لحقِّه ولا انتقاصٍ لمنزلته، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «فلو كان كُلُّ مَنْ أَخْطَأَ أو غَلِطَ تُرِكَ جملةً وأُهْدِرَتْ مَحاسنُه لَفَسَدَتِ العلومُ والصناعاتُ والحِكَمُ وتعطَّلَتْ مَعالِمُها»(٢٢).

هذا، وقد حاوَلَ المُحاضِرُ بتدليسه أَنْ يسوِّيَ بين ما انتُقِدَ على الصوفية مِنَ القول بنجاة فرعون مِنَ النار، وبين ما نُسِبَ إلى بعض السلف ـ وقد سمَّاهم على عادة أهل البِدَعِ حشويةً ـ مِنَ القول بفَناء النار، والفرقُ بين القولين والنسبتين ـ لمَنْ كان له قلبٌ وفهمٌ ـ شاسعٌ، والبونُ بينهما واضحٌ؛ إذ النسبةُ إلى ابنِ عربيٍّ بالمنطوق الصريح، بخلاف النسبة إلى بعض السلف فباللازم الذي لم يلتزموه، كما أنَّ في المنطوق عنهم ـ مِنَ التصريح بكفر فرعونَ وخلودِه في نار جهنَّم ـ الدلالةَ القاطعةَ على بطلانِ ما اتَّهمهم به المبغضون المحرِّفون للكَلِمِ عن مواضعه؛ فينطبق على الصوفية مسلكُ الزائغين، ويُعامَلون المعامَلةَ التي قيَّدها البربهاريُّ ـ رحمه الله ـ بقوله: «واعْلَمْ أنَّ الخروج مِنَ الطريق على وجهين؛ أمَّا أحَدُهما: فرجلٌ زلَّ عن الطريق وهو لا يريد إلَّا الخير؛ فلا يُقتدى بزلَّتِه فإنه هالكٌ، وآخَرُ عانَدَ الحقَّ وخالَفَ مَنْ كان قبله مِنَ المتَّقين، فهو ضالٌّ مُضِلٌّ، شيطانٌ مَريدٌ في هذه الأمَّة، حقيقٌ على مَنْ يعرفه أَنْ يُحذِّرَ الناسَ منه، ويبيِّنَ لهم قصَّتَه؛ لئلَّا يقع أحَدٌ في بدعته فيهلكَ»(٢٣). وأمَّا السلف الصالح ـ إِنْ صحَّ النقلُ عنهم ـ فيحقُّ فيهم مسلكُ المجتهدين المأجورين، الموضوعِ عنهم إثمُ الخطإِ، المرفوعِ عنهم وِزْرُ الزلل.

والعلم عند الله تعالى، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.

(١) «فصوص الحِكَم» لابن عربي (٢٠١).
(٢) «شرح الطحاوية» لابن أبي العزِّ الحنفي (٣٣٢).
(٣) قيل: إنَّ أصل «الآل» هو «الأهل» ثمَّ قُلِبَتِ الهاءُ همزةً ثمَّ سُهِّلَتْ على قياس أمثالها، فقيل: آلٌ، وهذا الوجه ضعيفٌ، ذكر ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في «جلاء الأفهام» ستَّةَ أوجهٍ على ضعفه، واختار أنَّ أصله «أول» مشتق مِنْ «آلَ يؤول» إذا رجع، ذكره صاحب «الصحاح» في باب الهمزة والواو واللام، وقال: «وآلُ الرجل: أهلُه وعيالُه. وآلُهُ أيضًا: أتباعُه»؛ فآلُ الرجل هم الذين يرجعون إليه ويضافون إليه ويؤولهم أي: يسوسهم، ومنه الإيالة وهي السياسة، انظر: «الصحاح» (٤/ ١٦٢٧ ـ ١٤٢٨).
(٤) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢/ ٢٧٩).
(٥) «مصرع التصوُّف» لإبراهيم بن عمر البقاعي (١٣٠).
(٦) أخرجه أحمد (٦١٦٠) والترمذيُّ (٣٨٤٧)، وحسَّنه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٦١٣٢).
(٧) «تفسير ابن كثير» (٤/ ٨٩).
(٨) ذَكَرَ طائفةً منهم الفخرُ الرازيُّ المتوفَّى سنة: (٦٠٦ﻫ) في «التفسير الكبير» له (١٨/ ٦٣-٦٦).
(٩) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٨/ ٣٠٧).
(١٠) «تحقيق شرح الطحاوية» (٤٢٤) هامش (٥٩١)، وانظر: «سلسلة الأحاديث الضعيفة» له (٢/ ٧١).
(١١) «دفع إيهام الاضطراب» للشنقيطي (٩٤).
(١٢) «تفسير السعدي» (٥٨٦).
(١٣) قال الألبانيُّ ـ رحمه الله ـ: «ولقد كان أملي كبيرًا في أَنْ أجِدَ رسالةَ ابنِ تيمية هذه محفوظةً في «مجموع الفتاوى» التي جَمَعَها الشيخ محمَّد بنُ عبد الرحمن بنِ قاسم في خمسٍ وثلاثين مجلَّدًا، ولكنِّي ـ مع الأسف ـ لم أجِدْ لها أثرًا في شيءٍ منها بعد تقليبي لها كُلِّها والاستعانةِ على ذلك بالفهارس التفصيلية الموضوعة» [تحقيق «رفع الأستار» (١٥)]
(١٤) مِنْ ذلك قولُه عنه وعن تلميذه: «إنَّ أَحْسَنَ ما أجِدُ في نفسي مِنَ الجواب عنهما إنما هو أنه لمَّا تَوهَّمَا أنَّ بعض الصحابةِ قد ذهبوا إلى ذلك .. واقترن مع ذلك غلبةُ الخوف عليهما مِنَ الله ﴿وَلِمَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ جَنَّتَانِ ٤٦﴾ [الرحمن]، والشفقةُ على عباده تعالى مِنْ عذابه، وغَمَرَهما الشعورُ بسعة رحمته وشمولها حتَّى للكُفَّار منهم، وساعَدَهما على ذلك ظواهرُ بعض النصوص ومفاهيمُها؛ فأذهلهما ذلك عن تلك الدلالة القاطعة.. » [تحقيق «رفع الأستار» (٢١)].
(١٥) ومِنْ هؤلاء السفارينيُّ في «لوامع الأنوار»، وصدِّيق حسن خان في «يقظة أولي الاعتبار ممَّا وَرَدَ في ذكرِ النار وأصحاب النار»، والألوسيُّ في «جلاء العينين في محاكمة الأحمدين».
(١٦) انظر: مقدِّمة تحقيق «الردِّ على القائلين بفَناء الجنَّة والنار وبيان الأقوال في ذلك» لمحمَّد بن عبد الله السمهري.
(١٧) «درء تعارُضِ العقل والنقل» (٢/ ٣٥٨).
(١٨) قال ابنُ حزم: « .. وأنَّ النار حقٌّ وأنها دارُ عذابٍ أبدًا، لا تفنى ولا يفنى أهلُها أبدًا بلا نهايةٍ..» [«مراتب الإجماع» (١٧٣)].
(١٩) «الوابل الصيِّب» (٢٠).
(٢٠) انظر: «مجالس تذكيرية» لأبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس (٣٩٧).
(٢١) انظر: «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العزِّ الحنفي (٤٨٤).
(٢٢) «مدارج السالكين» لابن القيِّم (٢/ ٤٠).
(٢٣) «شرح السنَّة» للبربهاري (٣٨).
  #8  
قديم 27 Jun 2016, 11:43 PM
أبو إكرام وليد فتحون أبو إكرام وليد فتحون غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
الدولة: الجزائر
المشاركات: 1,798
افتراضي

الشبهة السابعة
تفنيد نسبةِ لقبِ «الحشوية» لأهل السنَّة والجماعة
وبراءتُهم منه

الشبهة:

قال شمس الدين بوروبي ـ هداهُ اللهُ ـ: «ولذلك أنا لا أُسَمِّيهم «السلفية»، وإنما أُسمِّيهم: «حشويةً». لماذا؟ لأنَّ السلف الصالحَ أطلقوا عليهم: «الحشوية»، سمَّاهم سيِّدُنا الحسنُ البصريُّ: «حشويةً»؛ لأنهم يعيشون على حَشَا الحياة، على حَشَا الحلقات، على حَشَا الأمَّة، الأمَّةُ تخوض مَعارِكَ التنمية، وهُمْ يخوضون مَعارِكَ أخرى في تكفير الناسِ وتبديعِهم وتضليلِهم، الحرب على عقائد الأشاعرة، الحرب على عقائد أهل السنَّة، ثمَّ الحرب على تصوُّف أهل السنَّة».

الجواب:

أَطْبَقَ خصومُ أهل السنَّة ـ بعد أَنْ أَعْيَتْهم الحجَّةُ ـ على أَنْ لا يذكروهم بأسمائهم المَرْضِيَّة إلَّا نادرًا، ودَرَجُوا على وَصْمِهم بألقابٍ قبيحةٍ وأسماءٍ شنيعةٍ ابتدعوها مِنْ عندِ أَنْفُسهم؛ قصدًا للحطِّ منهم، وإرادةً للتشنيع على مذهبهم، وإزراءً بهم عند العوامِّ والجُهَّال، حتَّى غَدَا التلقيبُ بالألقاب المنفِّرةِ المستكرَهةِ مِنْ أَبْرَزِ سِمَاتِ أهل البِدَعِ والأهواء التي تعكس كراهِيَتَهم لأهل السنَّة وشدَّةَ مُعاداتِهم لحَمَلةِ الأخبار؛ قال الإمام أبو حاتِمٍ الرازيُّ ـ رحمه الله ـ: «وعلامةُ أهلِ البِدَعِ: الوقيعةُ في أهلِ الأثر، وعلامةُ الزَّنادقة: تسميتُهم أهلَ السُّنَّةِ «حشويةً»، يريدون إبطالَ الآثار، وعلامةُ الجهمية: تسميتُهم أهلَ السُّنَّةِ «مُشبِّهةً»، وعلامةُ القَدَرِيَّة: تسميتُهم أهلَ الأثَر «مُجْبِرةً»، وعلامةُ المُرْجئَةِ: تسميتهُم أهلَ السُّنَّةِ «مُخالِفةً» و«نقصانيَّةً»، وعلامةُ الرافضةِ: تسميتُهم أهلَ السُّنَّةِ «ناصبةً»، ولا يَلْحَقُ أهلَ السُّنَّةِ إلَّا اسْمٌ واحدٌ، ويَستحيلُ أَنْ تَجْمَعَهم هذه الأسماءُ»(١)، وقال الصابونيُّ ـ رحمه الله ـ: «وعلاماتُ البِدَعِ على أهلها باديةٌ ظاهرةٌ، وأَظْهَرُ آياتهم وعلاماتِهم: شدَّةُ معاداتهم لحَمَلةِ أخبار النبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، واحتقارهم لهم، واستخفافهم بهم، وتسميتُهم إيَّاهم: «حشويَّةً» و«جَهَلةً» و«ظاهريةً» و«مُشبِّهةً»؛ اعتقادًا منهم في أخبار رسول الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم أنَّها بمَعْزِلٍ عن العلم، وأنَّ العلم ما يُلْقيهِ الشيطانُ إليهم مِنْ نتائجِ عقولهم الفاسدة، ووساوِسِ صدورهم المُظْلِمة، وهواجسِ قلوبهم الخالية مِنَ الخير، وكلماتِهم وحُجَجِهم العاطلة، بل شُبَهِهم الداحضة الباطلة، ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمۡ وَأَعۡمَىٰٓ أَبۡصَٰرَهُمۡ ٢٣﴾ [محمَّد]، ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩ ١٨﴾ [الحج]»(٢).

فنتناول في الجواب عن هذه الشبهة ثلاثَ جهاتٍ: نبيِّن ـ في الفقرة الأولى ـ أنَّ لفظ «الحشوية» مُحْدَثٌ ومُجْمَلٌ وبراءةَ أهل السنَّة والجماعة مِنَ المعاني التي أُريدَتْ به، ثمَّ نحقِّق ـ في الفقرة الثانية ـ في صحَّةِ نسبةِ لفظ «الحشوية» للحسن البصريِّ، ثمَّ نخصِّص الفقرةَ الأخيرة لبيان الأحقِّ بهذا اللقب.

الفقرة الأولى: في تحقيق معنى لفظ «الحشوية» وبراءة أهل السنَّة منه:

لقبُ «الحشوية» مِنْ أَشْنَعِ الألقاب التي نَبَزَ بها المُخالِفون أهلَ السنَّةِ والجماعةِ عدوانًا وظلمًا، ومِنْ أكثرِها ذيوعًا في كُتُبِ مُخالِفِي أهلِ السنَّة؛ لكثرة الفِرَقِ التي رَمَتْ به أهلَ السنَّة، وهو اسْمٌ مُحْدَثٌ ليس له مسمًّى معروفٌ، لا في شرعٍ ولا في اللغة ولا في العرف العامِّ، لا يُناطُ به مدحٌ ولا ذمٌّ لذاته؛ إذ الأسماءُ التي يتعلَّقُ بها المدحُ والذمُّ في الدِّينِ لا تكون إلَّا ممَّا دلَّ عليه الكتابُ والسنَّة أو الإجماع: كالمؤمن والكافر والعالم والجاهل والمُقتصِد والمُلْحِد، قال ابنُ قُتَيْبة رحمه الله ـ ذاكرًا أصحابَ البِدَعِ وتلقيبَهم أهلَ الحديثِ ﺑ «الحشوية» و«النابتة»، و«المُجْبِرةِ» و«الجبرية»، و«الغُثاءِ» و«الغثر» ـ: «وهذه كُلُّها أنبازٌ لم يأتِ بها خبرٌ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كما أتى في القَدَرية أنهم: «مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ؛ فَإِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ»»(٣).

والمسلك القويم في الأسماء المُرْسَلة المُجْمَلة التي لا دليلَ على ذمِّ أهلِها ولا مدحِهم يحتاج إلى مَقامين:

أحَدُهما: بيانُ المُراد منها.

والثاني: بيانُ أنَّ المَرْمِيَّ بها مذمومٌ في الشريعة(٤).

أمَّا المَقام الأوَّل [بيان المُراد مِنْ لفظ «الحشوية»]: فإنَّ المتتبِّع لكلام الطوائف والفِرَق يَلْحَظُ أنَّ المُخالِفِين لأهل السنَّة إنما أطلقوا لفظةَ «الحشوية» عليهم لِمَعانٍ ثلاثةٍ:

الأوَّل: بمعنى العامَّة الذين هم حَشْوُ الناسِ ورُذَالتُهم وجمهورُهم، وهُمْ غيرُ الأعيان والمتميِّزين؛ فإنَّ «الحَشْوية» ـ بسكون الشين ـ مِنَ: الحشو: وهو أَنْ يُودَعَ الشيءُ وِعاءً باستقصاءٍ، يقال: حشَوْتُه أَحْشُوهُ حشوًا، ويقال: فلانٌ مِنْ حشوةِ بني فلان، أي: مِنْ رُذالهم، وإنما قِيلَ ذلك لأنَّ الذي تُحْشى به الأشياءُ لا يكون مِنْ أفخرِ المَتاع، بل أَدْوَنِه(٥). وبفتح الشين مِنْ: الحَشَا: وهو الناحية، وحاشيةُ كُلِّ شيءٍ جانبُه وطرَفُه(٦). قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «وأمَّا قولُ القائل: «حشويةٌ» فهذا لفظٌ ليس له مسمًّى معروفٌ، لا في شرعٍ ولا في اللغة ولا في العرف العامِّ، ... وأصلُ ذلك أنَّ كُلَّ طائفةٍ قالَتْ قولًا تُخالِفُ به الجمهورَ والعامَّةَ يُنْسَبُ إلى أنه قولُ الحشوية، أي: الذين هم حشوٌ في الناس ليسوا مِنَ المتأهِّلين عندهم؛ فالمعتزلةُ تسمِّي مَنْ أَثْبَتَ القَدَرَ: حشويًّا، والجهميةُ يُسمُّون مُثْبِتةَ الصفاتِ: «حشويةً»، والقرامطةُ ـ كأتباع الحاكم(٧) ـ يُسمُّون مَنْ أَوْجَبَ الصلاةَ والزكاةَ والصيام والحجَّ حشويًّا»(٨).

الثاني: بمعنى رُواةِ الأحاديث الذين لا يميِّزون صحيحَها مِنْ سقيمها: قال ابنُ الوزير ـ رحمه الله ـ: «فإنَّ الحشويةَ إنما سُمُّوا بذلك لأنهم يَحْشُون الأحاديثَ التي لا أصلَ لها في الأحاديث المرويَّةِ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، أي: يُدْخِلونها فيها وليسَتْ منها»(٩).

الثالث: بمعنى التجسيم: قال السبكيُّ: «الحَشَويةُ: هم طائفةٌ ضلُّوا عن سواء السبيل وعُمِّيَتْ أبصارُهم، يُجْرُون آياتِ الصفات على ظاهِرِها ويعتقدون أنها المراد، وسُمُّوا بذلك لأنهم كانوا في حلقة الحسن البصريِّ رحمه اللهُ تعالى فوجَدَهم يتكلَّمون كلامًا ساقطًا؛ فقال: «ردُّوا هؤلاء إلى حَشَا الحلقة»، وقِيلَ: سُمُّوا بذلك لأنَّ منهم المجسِّمةَ أو هُمْ هُم، والجسمُ مَحْشُوٌّ؛ فعلى هذا، القياسُ فيه: الحَشْويةُ بسكون الشين؛ إذ النسبةُ إلى الحشو»(١٠).

هذه المعاني الثلاثةُ أو أحَدُها هي المسوِّغاتُ التي اعتبرها مُخالِفُو أهلِ السنَّةِ وهُمْ ينبزونهم بهذا اللقبِ الجائر، وسيتَّضِحُ ـ بإذن الله تعالى ـ براءتُهم منه.

أمَّا المَقام الثاني [بيان أنَّ المرميَّ بلفظ «الحشوية» مذمومٌ شرعًا]: فيقال: كُلُّ هذه المعاني إمَّا منفيَّةٌ عن أهل السنَّة والجماعة أو هُمْ غيرُ معنيِّين بها: فإنَّ المعنى الأوَّل ـ الذي هو عامَّةُ الناسِ وجمهورُهم ورُذَالتُهم ـ إنما ألصقه الروافضُ بالسواد الأعظم مِنْ هذه الأمَّة، حيث رَمَوْا به كُلَّ مَنْ لم يقل بإمامة عليٍّ رضي الله عنه بعد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم(١١)؛ فيدخل فيه جميعُ الطوائف المنتسِبةِ لأهل السنَّة في مُقابِلِ الرافضة؛ فلا مجالَ لتخصيصِ أهلِ الحديث السلفيِّين به.

أمَّا المعنى الثاني ـ الذي يُدْخِلُ في الأحاديثِ ما ليس منها مِنْ غيرِ تمييزٍ بين صحيحها وسقيمها ـ فإنَّ الواقع خيرُ شاهدٍ على أنَّ المُخالِفِين لأهل الحديث والسنَّة أَوْلى بهذا اللقبِ وأحقُّ به؛ إذ كُتُبُهم طافحةٌ بسقيمِ الأحاديث ضعيفِها وموضوعِها، وقد بيَّن ابنُ الوزير ـ رحمه الله ـ براءةَ أهلِ الحديثِ والسنَّة مِنْ هذا اللقب؛ فقال: «فأكثرُ عامَّةِ المسلمين لا يَدْرُون مَنِ الحشويةُ؟ ولا يعرفون أنَّ هذه النسبةَ غيرُ مَرْضِيَّةٍ ... ومَنْ كان له أَدْنَى تمييزٍ عَرَفَ أنَّ نُقَّادَ الحديثِ وأئمَّةَ الأثر هم أعداءُ الحشويةِ وأَكْرَهُ الناسِ لهذه الطائفة الغويَّة»(١٢).

وأمَّا المعنى الثالث ـ الذي هو التجسيم ـ: فإنَّ لفظ التجسيم لا يُوجَدُ في كلامِ أحَدٍ مِنَ السلف لا نفيًا ولا إثباتًا، وهو مِنَ الألفاظ التي دَخَلَها الاشتراكُ بسببِ اختلافِ اصطلاحات المتكلِّمين وغيرِهم، وكُلُّ طائفةٍ تعني به ما لا تَعنيهِ الأخرى(١٣)، وأهلُ الحقِّ لا يُثْبِتون لفظَ التجسيم ولا ينفونه، وفي الوقت ذاتِه يستفصلون عن معناهُ، فإِنْ كان حقًّا أقرُّوه، وإِنْ كان باطلًا ردُّوه. وأهلُ البِدَعِ والأهواءِ يريدون بالتجسيم إثباتَ الصفات أو شيءٍ منها؛ وعلى هذا فالأشاعرةُ ـ الذين يُثْبِتون بعضًا مِنَ الصفاتِ الخبرية ـ حشويةٌ عند مَنْ ينفيها جميعًا؛ فيكونون قد وقعوا فيما اتَّهموا به أتباعَ السلف، قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «فكُلُّ مَنْ نفى شيئًا مِنَ الأسماء والصفات سَمَّى مَنْ أثبت ذلك مجسِّمًا قائلًا بالتحيُّز والجهة: فالمعتزلةُ ونحوُهم يُسمُّون الصفاتيةَ ـ الذين يقولون: إنَّ الله تعالى حيٌّ بحياةٍ، عليمٌ بعلمٍ، قديرٌ بقدرةٍ، سميعٌ بسمعٍ، بصيرٌ ببصرٍ، متكلِّمٌ بكلامٍ ـ يُسمُّونهم: «مجسِّمةً مشبِّهةً حشويةً»، والصفاتيةُ هم: السلفُ والأئمَّةُ وجميعُ الطوائفِ المُثبِتةِ للصفات: كالكُلَّابية والكرَّامية والأشعرية والسالمية وغيرهم مِنْ طوائف الأمَّة»(١٤).

فتَبيَّنَ بهذا أنَّ أهل السنَّة السلفيِّين بريئون مِنْ هذا اللقبِ وما يحمله مِنْ مَعانٍ تتنافى ومُعتقَدَهم المبنيَّ على الوحيين. ويزيد الأمرَ وضوحًا أنَّ الطائفة إنما تتميَّزُ باسْمِ رجالها: كالجهمية نسبةً للجهم بنِ صفوان، والكُلَّابية نسبةً لابن كُلَّابٍ، والأشعريةِ نسبةً للأشعريِّ، أو بنعتِ أحوالها: كالرافضة لرفضِهم زيدَ بنَ عليٍّ، والقدرية لقولهم بنفي القَدَر، والمرجئة لقولهم بالإرجاء في الإيمان، أمَّا لفظ «الحشوية» فليس فيه ما يدلُّ على شخصٍ مُعيَّنٍ منسوبٍ للسلفية، ولا مقالةٍ معيَّنةٍ تبنَّاها المنهجُ السلفيُّ ورَفَعَ لواءَها(١٥).

الفقرة الثانية: في تحقيق نسبة لفظ «الحشوية» للحسن البصريِّ ـ رحمه الله ـ:

تسمية أهل السنَّة أصحابِ الحديث ﺑ «الحشوية» ونسبةُ ذلك للحسن البصريِّ ـ رحمه الله ـ ذَكَره الإسنويُّ فقال: «اختُلِف في «الحشوية»: فقِيلَ بإسكان الشين؛ لأنَّ منهم المجسِّمة، والجسمُ محشُوٌّ، والمشهورُ أنه بفتحها نسبةً إلى الحَشَا؛ لأنهم كانوا يجلسون أمام الحسن البصريِّ في حلقته فوَجَدَ كلامَهم رديئًا؛ فقال: «رُدُّوا هؤلاء إلى حَشَا الحلقة» أي: جانبِها، والجانبُ يُسمَّى: حَشًا، ومنه الأحشاءُ لجوانبِ البطن»(١٦).

والجواب عن هذا النقلِ مِنْ أوجُهٍ ثلاثةٍ:

الأوَّل: أنَّ هذا النقلَ عن الحسن البصريِّ ـ رحمه الله ـ بدون إسنادٍ؛ الأمرُ الذي يُشكِّكُ في صحَّةِ النسبة إليه.

الثاني: على فرضِ صحَّة الحادثة المنسوبةِ للحسن فإنه إنما ردَّهم إلى حَشَا المجلس اتِّباعًا لطريقة أهل العلم بأَنْ يُخَصَّ صدرُ المجلس لمَنْ عُرِفَ بقوَّةِ الحفظ وسدادِ الفهم، ويُجْعَلَ آخِرُ المجلس لغيرهم. قال أبو عاصمٍ النبيل: «سمِعْتُ سفيان الثوريَّ وقد حَضَرَ مجلسَه شابٌّ مِنْ أهل العلم وهو يترأَّسُ ويتكلَّمُ ويتكبَّرُ بالعلم على مَنْ هو أكبرُ منه، قال: فغَضِبَ سفيانُ وقال: «لم يكن السلفُ هكذا، كان أحَدُهم لا يدَّعي الإمامةَ ولا يجلس في الصدر حتَّى يطلب هذا العلمَ ثلاثين سنةً، وأنت تتكبَّرُ على مَنْ هو أسَنُّ منك، قُمْ عنِّي ولا أراك تدنو مِنْ مجلسي»»(١٧).

الثالث: لعلَّ الذين ردَّهم الحسنُ البصريُّ ـ رحمه الله ـ إلى حَشَا الحلقةِ هم أتباعُ عمرو بنِ عُبَيْدٍ لمَّا ظَهَرَ منهم ما يُخالِفُ الحقَّ وشقُّوا عَصَا المسلمين بإحداث القول بالمنزلة بين المنزلتين؛ فردَّهم إلى حَشَا الحلقة؛ فاعتزلوه وقالوا بالأصول الخمسة المؤسِّسة لمذهب الاعتزال. قال محمود شكري الألوسي ـ رحمه الله ـ: «وكيف يكون مذهبُ السلف هو مذهبَ الحشوية، وقد رأى الحسنُ البصريُّ الذي هو مِنْ أكابر السلف سقوطَ قول الحشوية، ولم يَرْضَ أَنْ يقعد قائلُه تُجاهَه؟!»(١٨).

والمشهور عند أهل العلم أنَّ أوَّلَ مَنْ عُرِفَ أنه تَكلَّمَ في الإسلام بهذا اللفظِ عَمْرُو بنُ عُبَيْدٍ ـ رئيسُ المعتزلة وفقيهُهم وعابِدُهم ـ فإنه ذُكِرَ له عن ابنِ عمر رضي الله عنهما شيءٌ يخالِفُ قولَه؛ فقال: «كان ابنُ عمر حشويًّا»، قال ابنُ العماد ـ رحمه الله ـ في ترجمته: «وكانَتْ له جرأةٌ؛ فإنه قال عن ابنِ عمر: هو حشويٌّ»، ثمَّ قال: «فانْظُرْ هذه الجرأةَ والافتراء ـ عامَلَه اللهُ بعدله ـ»(١٩).

ولا زال أهلُ الزيع والانحرافِ قديمًا وحديثًا يتوارثون نَبْزَ أهلِ السنَّةِ والحديثِ بهذا اللقب في مؤلَّفاتهم ومقالاتِهم، مِنْ رافضةٍ ومعتزلةٍ وأشاعرةٍ وماتريديةٍ؛ فقَدْ نَسَبَ الإمامُ أحمد بنُ حنبلٍ ـ رحمه الله ـ إلى الخوارج تلقيبَهم أهلَ السنَّةِ بذلك(٢٠)، ونَسَبَ ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ لجَهَلةِ الجهمية أنهم لقَّبوا أهلَ السنَّة بذلك؛ لأنهم ـ بزعمهم ـ جعلوا ربَّهم حَشْوَ هذا الكونِ بإثباتهم له صفةَ الفوقية والاستواءِ وأنه في السماء(٢١)، وأَكْثَرَ محمَّد زاهد الكوثري (ت: ١٣٧١ﻫ) منه في كُتُبِه وتعليقاته المُعادِية لأهل السنَّة(٢٢)، وعنه أخَذَ المُحاضِرُ؛ فبِئْسَ هذا الخلفُ لذاك السلف.

الفقرة الثالثة: في بيان الأحقِّ بلقب «الحشوية»:

ويكفي أهلَ السنَّة السلفيِّين فخرًا أنَّ هذا اللقبَ لا يَعْنِيهم، وهو مصروفٌ عنهم عارُهُ ومدفوعٌ عنهم عوارُه، وصَدَقَ فيهم مِثْلُ ما صَدَقَ في نبيِّهم ومتبوعِهم صلَّى الله عليه وسلَّم إذ قال: «أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ؟ يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا، وَأَنَا مُحَمَّدٌ»(٢٣)؛ حيث كان كُفَّارُ قريشٍ ـ مِنْ شدَّةِ كراهتهم للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ لا يُسمُّونه باسْمِه: «محمَّدٍ» الدالِّ على المدح؛ فيعدلون إلى ضِدِّه، و«مُذمَّمٌ» ليس هو اسْمَه ولا يُعْرَفُ به؛ فكان الذي يقع منهم في ذلك مصروفًا إلى غيره(٢٤)، وكذا وَرَثَتُه وأتباعُه، يُسمَّوْن: «حشويةً» وهُمْ بُرَآءُ مِنْ هذا الوصف، بل هو مصروفٌ لغيرهم، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ:

تَجِدُ المُعَطِّلَ لَاعِنًا لِمُجَسِّمٍ ... وَمُشَبِّهٍ للهِ بِالإِنْسَانِ

وَاللهُ يَصْرِفُ ذَاكَ عَنْ أَهْلِ الهُدَى ... كَمُحَمَّدٍ وَمُذَمَّمٍ إِسْمَانِ

هُمْ يَشْتُمُونَ مُذَمَّمًا وَمُحَمَّدٌ ... عَنْ شَتْمِهِمْ فِي مَعْزِلٍ وَصِيَانِ

صَانَ الإِلَهُ مُحَمَّدًا عَنْ شَتْمِهِمْ ... فِي اللَّفْظِ وَالمَعْنَى هُمَا صِنْوَانِ(٢٥)

والأحَقُّ بوصفِ «الحشوية»: هم أهلُ الأهواء والكلام؛ لأنَّ مصنَّفاتِهم ومناظَراتِهم وسائرَ كلامِهم محشوٌّ بخُزَعْبَلات المَناطقة وتُرَّهات الفلاسفة وتمحُّلات المتكلِّمين؛ ذلك لأنَّ منهجهم مؤسَّسٌ على الجدل والمِراء والخصومات المذمومة، وطابعُها: الظنونُ والأوهامُ وحشوُ الكلامِ الفارغِ بالعبارات والألفاظ وما لا جَدْوَى فيه، بخلافِ أهل السنَّة فعمدتُهم: الأحاديثُ الصحيحةُ والآثارُ التي فيها الخلاصةُ والثمرةُ والحقُّ الذي لا ريبَ فيه لمَنْ يُنْصِفُهم ولا يعدل عن الحقِّ، ولله دَرُّ ابنِ القيِّم ـ رحمه الله ـ إذ قال:

وَمِنَ العَجَائِبِ قَوْلُهُمْ لِمَنِ اقْتَدَى ... بِالوَحْيِ مِنْ أَثَرٍ وَمِنْ قُرْآنِ

«حَشْوِيَّةٌ» يَعْنُونَ: حَشْوًا فِي الوُجُو ... دِ وَفَضْلَةً فِي أُمَّةِ الإِنْسَانِ

وَيَظُنُّ جَاهِلُهُمْ بِأَنَّهُمُ حَشَوْا ... رَبَّ العِبَادِ بِدَاخِلِ الأَكْوَانِ

إِذْ قَوْلُهُمْ: فَوْقَ العِبَادِ وَفِي السَّمَا ... ءِ الرَّبُّ ذُو المَلَكُوتِ وَالسُّلْطَانِ

ظَنَّ الحَمِيرُ بِأَنَّ «فِي» لِلظَّرْفِ، وَالرْ ... رَحْمَنُ مَحْوِيٌّ بِظَرْفِ مَكَانِ

وَاللهِ لَمْ يُسْمَعْ بِذَا مِنْ فِرْقَةٍ ... قَالَتْهُ فِي زَمَنٍ مِنَ الأَزْمَانِ

لَا تَبْهَتُوا أَهْلَ الحَدِيثِ بِهِ فَمَا ... ذَا قَوْلُهُمْ، تَبًّا لِذِي البُهْتَانِ

بَلْ قَوْلُهُمْ: إِنَّ السَّمَاوَاتِ العُلَى ... فِي كَفِّ خَالِقِ هَذِهِ الأَكْوَانِ

حَقًّا كَخَرْدَلَةٍ تُرَى فِي كَفِّ مُمْـ ... ـسِكِهَا تَعَالَى اللهُ ذُو السُّلْطَانِ

أَتَرَوْنَهُ المَحْصُورَ بَعْدُ أَمِ السَّمَا؟ ... يَا قَوْمَنَا ارْتَدِعُوا عَنِ العُدْاوَنِ

كَمْ ذَا «مُشَبِّهَةٌ» وَكَمْ «حَشْوِيَّةٌ» ... فَالبَهْتُ لَا يَخْفَى عَلَى الرَّحْمَنِ

يَا قَوْمِ، إِنْ كَانَ الكِتَابُ وَسُنَّةُ الْـ...ـمُخْتَارِ حَشْوًا فَاشْهَدُوا بِبَيَانِ

أَنَّا ـ بِحَمْدِ إِلَهِنَا ـ حَشْوِيَّةٌ ... صِرْفٌ بِلَا جَحْدٍ وَلَا كِتْمَانِ

تَدْرُونَ مَنْ سَمَّتْ شُيُوخُكُمُ بِهَـ...ـذَا الْإِسْمِ فِي المَاضِي مِنَ الأَزْمَانِ

سَمَّى بِهِ ابنُ عُبَيْد عَبْدَ اللهِ ذَا ... كَ ابْنُ الخَلِيفَةِ طَارِدِ الشَّيْطَانِ

فَوَرِثْتُمُ عَمْرًا كَمَا وَرِثُوا لِعَبْـ...ـدِ اللهِ، أَنَّى يَسْتَوِي الإِرْثَانِ؟

تَدْرُونَ مَنْ أَوْلَى بِهَذَا الإِسْمِ وَهْـ ... ـوَ مُنَاسِبٌ أَحْوَالَهُ بِوِزَانِ

مَنْ قَدْ حَشَا الأَوْرَاقَ وَالأَذْهَانَ مِنْ ... بِدَعٍ تُخَالِفُ مُوجَبَ القُرْآنِ

هَذَا هُوَ الحَشْوِيُّ لَا أَهْلُ الحَدِيـ ... ـثِ أَئِمَّةُ الإِسْلَامِ وَالإِيمَانِ

وَرَدُوا عِذَابَ مَنَاهِلِ السُّنَنِ الَّتِي ... لَيْسَتْ زُبَالَةَ هَذِهِ الأَذْهَانِ

وَوَرَدْتُمُ القَلُّوطَ مَجْرَى كُلِّ ذِي الـ ... ـأَوْسَاخِ وَالأَقْذَارِ وَالأَنْتَانِ

وَكَسَلْتُمُ أَنْ تَصْعَدُوا لِلْوِرْدِ مِنْ ... رَأْسِ الشَّرِيعَةِ؛ خَيْبَةَ الكَسْلَانِ(٢٦)

وهكذا منهجُ أهلِ الأهواءِ والبِدَع والضلالِ قائمٌ على لَمْزِ أتباعِ السلف أهلِ السنَّة والجماعة وسَبِّهم، يُنفِّقون بضاعتَهم بالبغض والتنفير والتعيير بالألقاب المشينة والأسماء الشنيعة، ﴿وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ﴾ [التوبة: ٣٢].

والعلم عند الله تعالى.

(١) «السنَّة» لابن الطبري (١/ ١٧٩).
(٢) «عقيدة السلف أصحاب الحديث» للصابوني (١٠١ ـ ١٠٢).
(٣) «تأويل مختلف الأحاديث» (١٣٦). والحديث أخرجه أحمد (٥٥٨٤)، وأبو داود (٤٦٩١)، عن ابنِ عمر رضي الله عنهما. وهو في «صحيح الجامع» للألباني (٤٤٤٢) .
(٤) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٤/ ١٤٧).
(٥) انظر: «مقاييس اللغة» لابن فارس (٢/ ٦٤).
(٦) انظر: «لسان العرب» لابن منظور (١٤/ ١٨٠).
(٧) هو أبو عليٍّ منصور بنُ العزيز نزار بنِ المعزِّ مَعَدِّ بنِ المنصور إسماعيل بنِ القائم محمَّدٍ بنِ عُبَيْدِ الله المهديِّ، سعيد بنِ محمَّد بنِ عبد الله بنِ ميمونٍ القدَّاح، القرمطيُّ العُبَيْديُّ المصريُّ الرافضيُّ، مولدُه سنة: (٣٧٥ﻫ)، تولَّى الحكمَ منذ صِغَرِه بعد وفاة أبيه وله ثلاثَ عشرةَ سنةً، ولُقِبَّ ﺑ «الحاكم بأمر الله»، كان شيطانًا مَريدًا، جبَّارًا عنيدًا، مُدَّعِيًا للألوهية، سفَّاكا للدماء، خبيثَ النِّحْلة، عظيمَ المكر، أَمَرَ بسبِّ الصحابة رضي الله عنهم، وبكتابةِ ذلك على أبواب المساجد والشوارع، وقد أصابَ الناسَ منه شرٌّ شديدٌ، إلى أَنْ فُقِدَ في إحدى الليالي، فيقال: إنَّ رجلًا اغتاله غيرةً لله وللإسلام، ويقال: إنَّ أختَه (سِتَّ المُلْك) دسَّتْ له رجلين اغتالاهُ وأخفيا أثرَه.
انظر ترجمته في: «المنتظم» لابن الجوزي (٧/ ٢٩٧)، «وفيات الأعيان» لابن خِلِّكان (٥/ ٧٤٢)، «سِيَر أعلام النُّبَلاء» للذهبي (١١/ ٤٣٤)، «شذرات الذهب» لابن العماد الحنبلي (٣/ ١٩٢).
(٨) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٢/ ١٧٦).
(٩) انظر: «الروض الباسم في الذبِّ عن سنَّة أبي القاسم» لابن الوزير (١/ ١٢٠).
(١٠) «الإبهاج في شرح المنهاج» للسبكي (١/ ٣٤٦).
(١١) انظر: «فِرَق الشيعة» للنُّوبختي (٦)، وقد دلَّ الدليل الصحيح على أنَّ أَوْلى الناسِ بالخلافة بعد النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم هو أبو بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه، وإنما اختلف أهلُ السنَّة في خلافة أبي بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه: هل كانَتْ بالنصِّ أو بالاختيار؟ [انظر: «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العزِّ الحنفي (٤٧١)].
(١٢) «الروض الباسم في الذبِّ عن سنَّة أبي القاسم» لابن الوزير (١/ ١٢٠).
(١٣) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٤/ ١٥٠).
(١٤) المصدر السابق (٦/ ٤٠).
(١٥) انظر: «منهاج السنَّة» لابن تيمية (٢/ ٤١٤).
(١٦) «نهاية السول شرح منهاج الوصول» للإسنوي (١٤٧).
(١٧) انظر: «المدخل إلى السنن الكبرى» للبيهقي (ص ٣٨٨)
(١٨) «فصل الخطاب في شرح المسائل التي خالَفَ فيها رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أهل الجاهلية» لشكري الألوسي (ص ١٨٨).
(١٩) «شذرات الذهب» لابن العماد (٢/ ١٩٦)، وتلقَّاهُ عنه أتباعُه في المُعتقَد، يُوصِي به بعضُهم بعضًا، يقول القاضي عبدُ الجبَّار مؤلِّفُ أهَمِّ مصنَّفات المعتزلة: «واعْلَمْ أنَّ القوم على فِرَقٍ؛ ففيهم مَنْ يجعل كلامَ اللهِ هذا المسموعَ، وكذلك كلام أحَدِنا ما هو بهذه الصفة، ولكنَّه يقول في كلامه تعالى خاصَّةً: إنه غيرُ مخلوقٍ ولا مُحْدَثٍ، ويُقِرُّ في كلامنا بذلك؛ فهؤلاء هم الحشوية، وإلى ذلك ذَهَبَ أحمد بنُ حنبلٍ» [«المحيط بالتكليف» (ص ٣٠٨)].
(٢٠) انظر: «السنَّة» (ص ٤٠).
(٢١) انظر: «النونية» لابن القيِّم (١٤٥)، وجَعَل الغزَّاليُّ مَنْ أَثْبَتَ رؤيةَ الله عزَّ وجلَّ مِنْ جهةٍ حشويًّا [«الاقتصاد» (ص ٤٨)].
(٢٢) حيث علَّق على كلام الملطيِّ: «نفيُ أَنْ يكون اللهُ متمكِّنًا في السماء مذهبُ أهل الحقِّ، وكذا نفيُ الفوقية الحسِّيَّة؛ بخلافِ مُعتقَدِ الحشوية» قائلًا: «يقصد أهلَ السنَّة؛ فإنهم هم الذين يعتقدون الفوقيةَ الحسِّيَّةَ لله عزَّ وجلَّ» [«الرد على أهل الأهواء والبِدَع» (ص ٧٩)].
(٢٣) أخرجه البخاريُّ (٣٥٣٣) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢٤) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٦/ ٥٥٨).
(٢٥) «نونية ابن القيِّم» (١٦٤).
(٢٦) «نونية ابن القيِّم» (١٤٥).
  #9  
قديم 16 Oct 2016, 02:03 PM
أبو إكرام وليد فتحون أبو إكرام وليد فتحون غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
الدولة: الجزائر
المشاركات: 1,798
افتراضي

الشبهة الثامنة
تفنيد دعوى «تنزيه ابنِ عربيٍّ الصوفيِّ
مِنْ وحدة الوجود واتِّهام السلفية بها»

قال شمس الدين بوروبي ـ هداه الله ـ: «السلفية يتَّهمون الصوفية وابنَ عربيٍّ بأنهم يعتقدون وحدةَ الوجود، ولكنَّهم في عقائدهم اعتقدوا أنَّ الله يحلُّ في السماء. الله عند السلفية موجودٌ في السماء، والسماءُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقه؛ فكيف يحلُّ الخالقُ في المخلوق، مَنِ الذي يعتقد ـ إذًا ـ وحدةَ الوجود؟ مَنِ الذي يعتقد أنَّ الله يحول في خَلْقه؟ الذي يعتقد أنَّ الله في السماء أم الذي ينزِّه الله عن المكان ويقول: ما كان لخالقِ المكان أَنْ يحدَّه مكانٌ»... ثمَّ برَّأ ابنَ عربيٍّ مِنْ وحدة الوجود بأبياتٍ قالها في ديوانه:

«الاتِّحَادُ مُحَالٌ لَا يَقُولُ بِهِ إِلَّا جَهُولٌ بِهِ عَنْ عَقْلِهِ شَرَدَا

وَعَنْ حَقِيقَتِهِ وَعَنْ شَرِيعَتِهِ فَاعْبُدْ إِلَهَكَ لَا تُشْرِكْ بِهِ أَحَدَا

الرجل يقول هذا بينما العقائد السلفية تعلِّم الناسَ أنَّ الله موجودٌ في السماء كوجود النجوم.. والقمر..» اﻫ.


الجواب:

ادَّعى المحاضر ـ جهلاً أو عنادًا ـ تبرئةَ المتصوِّفة مِنْ عقيدة وحدة الوجود الكفرية، وزاد الدعوى باطلًا حين ألصقها بالسلفية ـ زورًا وبهتانًا ـ ونَسَب إليهم فهمًا سقيمًا مِنْ إثبات صفة العلوِّ لله تعالى، ويمكن تناوُلُ الجواب عن الشبهة وبيانُ تهافُتِها مِنْ جهاتٍ:

الجهة الأولى: إثبات نسبة وحدة الوجود للصوفية.

عقيدة وحدة الوجود يُعنى بها في المعتقَدِ الصوفيِّ أنه لا وجودَ في الوجود إلَّا الله فليس غيره في الكون، وما هذه المظاهر في هذا الكونِ المُشاهَدِ إلَّا مَظاهِرُ لحقيقةٍ واحدةٍ هي الحقيقةُ الإلهية، أي: أَنْ يكون المخلوقُ مخلوقًا وخالقًا في آنٍ واحدٍ فلا انفصالَ بينهما، وأمَّا أنَّ غُلاةَ المتصوِّفة المتأثِّرين بالفكر اليونانيِّ والهندوسيِّ القديم يعتقدون هذه العقيدةَ فيدلُّ على ذلك جملةٌ مستفيضةٌ مِنْ نصوصٍ مبثوثةٍ بكُتُبِ أعلامهم كابن عربيٍّ وابن سبعين، والتلمسانيِّ وعبد الكريم الجيلي، وعبد الغني النابلسي، منها: قولُ ابنِ عربي: «فإنَّ الإله المُطْلَقَ لا يَسَعُه شيءٌ لأنه عينُ الأشياء وعينُ نفسه، والشيءُ لا يقال فيه: يَسَعُ نَفْسَه ولا يَسَعُها؛ فافهم»(١) أي: أنَّ الله تعالى هو عين الأشياء الموجودة في الكون، وكُلُّ ما في الكون مَظاهِرُ لله تعالى؛ فيُطْلَقُ عليه الله، وهذه ـ بعينها ـ عقيدةُ القول بوحدة الوجود، ومنها كلامٌ له يُنْكِرُ فيه موقفَ هارون عليه السلام ويصحِّح فيه موقفَ السامريِّ زاعمًا أنَّ موسى عليه السلام أيَّد السامريَّ في دعوته إلى عبادةِ غيرِ الله تعالى فقال: «وكان موسى عليه السلام أَعْلَمَ بالأمر مِنْ هارون؛ لأنه عَلِمَ ما عَبَده أصحابُ العجل، لعِلْمه بأنَّ الله قد قضى ألَّا نعبد إلَّا إيَّاه، وما حَكَم اللهُ بشيء إلَّا وَقَع، فكان عتبُ موسى أخاه هارون؛ لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتِّساعه؛ فإنَّ العارف مَنْ يرى الحقَّ في كُلِّ شيءٍ، بل يراه عينَ كُلِّ شيءٍ»(٢)، وله في «فصوص الحِكَم» طامَّاتٌ لا يَسَعُ المجالُ لذِكْرِها.

وقال ابنُ الفارض زاعمًا أنَّ الذات الإلهية هتكت عنه الحُجُب، فرأى حقيقةَ الله متعيِّنةً بذاتها في كُلِّ مظاهر الوجود:

جَلَتْ فِي تَجَلِّيهَا الوُجُودَ لِنَاظِرِي فَفِي كُلِّ مَرْئِيٍّ أَرَاهَا بِرُؤْيَةِ

فَفِي الصَّحْوِ بَعْدَ المَحْوِ لَمْ أَكُ غَيْرَهَا وَذَاتِي بِذَاتِي إِذْ تَحَلَّتْ تَجَلَّتِ

ويدَّعي أنَّ جميع الوجود يعبد بعضُه بعضًا فيقول:

وَكُلُّ الجِهَاتِ السِّتِّ نَحْوِي تَوَجَّهَتْ بِمَا تَمَّ مِنْ نُسْكٍ وَحَجٍّ وَعُمْرَةِ

لَهَا صَلَوَاتِي فِي المَقَامِ أُقِيمُهَا وَأَشْهَدُ فِيهَا أَنَّهَا لِيَ صَلَّتِ

كِلَانَا مُصَلِّ وَاحِدٌ سَاجِدٌ إِلَى حَقِيقَتِهِ بِالجَمْعِ فِي كُلِّ سَجْدَةِ

وَمَا كَانَ لِي صَلَّى سِوَايَ وَلَمْ تَكُنْ صَلَاتِي لِغَيْرِي فِي أَدَا كُلِّ سَجْدَةِ(٣).

هذا، وحريٌّ بالتنبيه أنَّ القول بوحدة الوجود يترتَّب عليه آثارٌ غايةٌ في الفساد ترجع على التوحيد بالهدم وعلى الدِّين بالإبطال، فينجرُّ على القول بوحدة الوجود ـ من جهةٍ ـ تجويزُ عبادةِ كُلِّ شيءٍ موجودٍ في هذا الكون؛ لأنه ـ انطلاقًا مِنْ عقيدتهم الباطلة ـ أنَّ كُلَّ ما في الكون يُعتبَرُ مجالِيَ ومَظاهِرَ لله تعالى، وأنَّ حَصْرَ العبادة في الله تعالى ـ عندهم ـ نقصٌ في التوحيد، وكمالُ التوحيد إنما يكون بعبادةِ كُلِّ شيءٍ ـ تعالى الله عمَّا يقولون عُلُوًّا كبيرًا ـ وقد تقدَّم أنَّ ابنَ عربيٍّ اعتبر موقفَ السامريِّ في صناعته العجلَ لأجلِ أَنْ يعبده بنو إسرائيلَ صحيحًا، وموقفَ هارون عليه السلام النبيِّ المُرْسَلِ مِنْ عند الله خطأً.

كما يترتَّب على القول بوحدة الوجود ـ مِنْ جهةٍ ثانية ـ أنَّ كُلَّ الذين يعبدون غيرَ الله تعالى مِنْ عَبَدةِ الأوثان والأصنام والحيوان وغيرِها مؤمنون حقًّا، وذلك انطلاقًا مِنْ معتقَدِهم الفاسد؛ لأنَّ كُلَّ ما في الكون يُعَدُّ مَظْهَرًا لله، وكُلُّ ما فيه جزءٌ مِنَ الألوهية؛ فإنَّ عبادة أيِّ شيءٍ ممَّا يُوجَدُ في هذا الكونِ فهو عبادةٌ لله تعالى، بمعنى: أنه ينتفي الشركُ والمشركون، ولا وجودَ إلَّا للتوحيد والموحِّدين.

وبناءً على أصلهم في القول بوحدة الوجود فإنه يترتَّب عليه ـ أيضًا مِنْ جهةٍ ثالثةٍ ـ القولُ بوحدة الأديان، سواءٌ كانوا مِنْ أهل الكتاب أو مِنْ غيرهم مِنْ مجوسٍ وبوذيةٍ وغيرهم؛ فهُمْ جميعًا بناءً على هذه العقيدة الإلحادية في أنَّ الله هو عينُ خَلْقه، وما الأشياءُ الموجودةُ في هذا الكون إلَّا مَظْهَرٌ مِنْ مظاهر الله تعالى، فالأديان جميعًا حقٌّ لا باطلَ فيها، وهي متساويةٌ في عبادة الله تعالى؛ فهذه العقيدةُ الإلحادية ساوَتْ بين التوحيد والشرك، والإيمانِ والكفر، وأنَّ الإسلام الذي هو دِينُ الهدى والقدسية هو ـ عندهم ـ عينُ الأديان الباطلة التي تدعو إلى الكفر والضلال والباطل.

تلك هي الآثارُ الفاسدة المترتِّبة على عقيدة وحدة الوجود الإلحادية ومضاعفاتها الخطيرة على الدِّين والمجتمع الإسلاميِّ، وقد بيَّن العلماءُ بطلانَ هذا المعتقَدِ حقَّ البيان، ووقفوا ضِدَّه بكُلِّ حزمٍ وعزمٍ، وألَّفوا في الردِّ عليه كُتُبًا ومؤلَّفاتٍ سيقَتْ فيها الأدلَّةُ القاطعة والبراهين الواضحة، ووصفوا معتنقيها ممَّنْ يعتقد بهذه العقيدةِ الإلحادية بأنهم ليسوا مِنَ الإسلام في شيءٍ، بل الإسلام بريءٌ منهم كُلَّ البراءة. قال ابنُ حجر ـ رحمه الله ـ: «وقد كنتُ سألتُ شيخَنا الإمام سراج الدِّين البلقينيَّ عن ابنِ عربيٍ فبادَرَ الجوابَ بأنه كافرٌ، فسألتُه عن ابنِ الفارض فقال: لا أحبُّ أَنْ أتكلَّم فيه، قلت: فما الفرق بينهما والموضعُ واحدٌ، وأنشدتُه مِنَ التائية، فقطع عليَّ بعد إنشاد عِدَّةِ أبياتٍ بقوله: هذا كفرٌ هذا كفرٌ»(٤).

الجهة الثانية: في بيان الفرق بين وحدة الوجود والاتِّحاد.

ساق المُحاضِرُ ـ عامَله اللهُ بعدله ـ أبياتًا تُنْسَبُ لابن عربيٍّ الصوفيِّ حَسِبها ـ لفرطِ جهلِه ـ تبرِّئه مِنْ عقيدة «وحدة الوجود»، فأظهرَ بذلك مدَى فَقرِه في العلم الشرعيِّ وجرأته على محاربة الحقِّ بالتمويهات، حيث خَلَط بين مصطلحَيِ «الاتِّحاد» و«وحدة الوجود»، وبنى على هذا الخلطِ إفكًا، فاستدل بنفي نسبة القول بالاتحاد لابن عربي على نفي عقيدة «وحدة الوجود» عنه، وكُلُّ مَنْ له معرفةٌ بمصطلحات القوم وعباراتهم يعلم علمًا لا مِرْيةَ فيه أنَّ ابنَ عربيٍّ في أبياته التي صدَّرها بقوله: «الاتِّحاد مُحالٌ لا يقول به *** إلاَّ جهولٌ به عن عقله شردَا» إنما نفى الاتِّحاد وهو ـ أي: عقيدة الاتِّحاد المنفيَّةُ عنده ـ: «تصيير الذاتين واحدةً، ولا يكون إلاَّ في العدد مِنَ الاثنين فصاعدًا»(٥)، والمنسوبُ إليه صراحةً هو «وحدة الوجود» التي يسمِّيها ـ زورًا ـ توحيدًا: وهي الزعم بأنَّ الله والوجود شيءٌ واحدٌ غير منقسمٍ، وأنَّ وجود هذا العالَمِ هو عينُ وجود الله، فليس عندهم ربٌّ وعبدٌ، ولا مالكٌ ومملوكٌ، ولا عابدٌ ولا معبودٌ؛ فابنُ عربيٍّ ومَنِ اتَّبعه ينفون لفظَ الاتِّحاد لأنه يعني أنَّ التعدُّدية هي الأصلُ في الوجود، وهم يقولون: إنَّ الوجود عينُ الله، وهذا الذي أنكره المحاضر ـ جهلاً أو مكابرةً ـ أفصح عنه ابنُ عربيٍّ قائلاً: «فإنَّ العارف مَنْ يَرى الحقَّ في كُلِّ شيءٍ، بل يراه كُلَّ شيءٍ»(٦)، والشرك الذي نفاه ابن عربي في قوله: «فَاعْبُدْ إِلَهَكَ لا تُشْرِكْ بِهِ أَحَدَا» ليس هو حقيقة الشرك الذي نهى الله عنه، وإنما يعني به خصوصًا: إثبات وجودين اتحدَ أحدُهما بالآخر، وهذا عنده باطل من جهة أنَّ كلَّ الوجود ـ عنده ـ واحدٌ ربًّا ومربوبًا، خالقًا ومخلوقًا، لا مِنْ جهة كون حقيقة الشرك جعل الند مع الله تعالى المنهي عنه بمثل قوله تعالى: ﴿فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٢٢﴾ [البقرة] وهو شامل لعقيدة «الاتحاد» و«وحدة الوجود».

وفي معرض بيان حقيقةِ مذهب أهل وحدة الوجود، وسببِ تسميتهم اتِّحاديةً يقول ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «حقيقة قول هؤلاء: أنَّ وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ليس وجودُها غيرَه، ولا شيءَ سواهُ ألبتَّةَ؛ ولهذا مَنْ سمَّاهم حلوليةً أو قال: «هم قائلون بالحلول» رأوه محجوبًا عن معرفة قولهم خارجًا عن الدخول إلى باطن أمرهم؛ لأنَّ مَنْ قال: إنَّ الله يحلُّ في المخلوقات فقَدْ قال بأنَّ المحلَّ غير الحالِّ، وهذا تثنيةٌ ـ عندهم ـ وإثباتٌ لوجودين: أحَدُهما: وجود الحقِّ الحالِّ. والثاني: وجود المخلوق المحلِّ، وهم لا يُقِرُّون بإثبات وجودين ألبتَّةَ... وأمَّا وجهُ تسميتهم اتِّحاديةً، ففيه طريقان: أحَدُهما: لا يرضَوْنه؛ لأنَّ الاتِّحاد على وزن الاقتران، والاقترانُ يقتضي شيئين، اتَّحد أحَدُهما بالآخَرِ، وهم لا يُقِرُّون بوجودين أبدًا، والطريق الثاني: صحَّة ذلك، بناءً على أنَّ الكثرة صارَتْ وحدةً»(٧).

وتسميته «وحدة الوجود» توحيدًا هو عينُ الباطل، فبَين التوحيد الذي بَعَث اللهُ به رُسُلَه وأنبياءَه، وأنزله في كُتُبه، والكفرِ الذي يسمِّيه أهلُ الباطل توحيدًا كما بين السماء والأرض، وكيف يكون القائل بأنَّ الوجود واحدٌ، ليس عنده وجودان: قديمٌ وحادثٌ، وخالقٌ ومخلوق موحِّدًا؟ قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ مبيِّنًا مسلكَ أهل البِدَع في تمسُّكهم بالمتشابه مِنَ الكلام الذي له وجهان: «يخدعون به جُهَّالَ الناس كما يُنفِّقُ أهل الزَّغَلِ النقدَ المغشوش الذي له وجهان يخدعون به مَنْ لم يعرفه مِنَ الناس؛ فلا إله إلَّا الله! كم قد ضلَّ بذلك طوائفُ مِنْ بني آدَمَ لا يحصيهم إلَّا اللهُ! واعتبِرْ ذلك بأظهر الألفاظ والمعاني في القرآن والسنَّة وهو التوحيد الذي حقيقتُه إثباتُ صفاتِ الكمال لله وتنزيهُه عن أضدادها وعبادتُه وَحْدَه لا شريكَ له؛ فاصطلح أهل الباطل على وضعِه للتعطيل المحض، ثمَّ دعَوُا الناسَ إلى التوحيد فخدعوا به مَنْ لم يعرف معناه في اصطلاحهم وظنَّ أنَّ ذلك التوحيدَ هو الذي دعَتْ إليه الرُّسُلُ، والتوحيد اسمٌ لستَّةِ مَعانٍ: توحيد الفلاسفة، وتوحيد الجهمية، وتوحيد القدرية الجبرية، وتوحيد الاتِّحادية، فهذه الأربعة أنواع مِنَ التوحيد جاءَتِ الرُّسُلُ بإبطالها، ودلَّ على بطلانها العقلُ والنقلُ» إلى أَنْ قال: «التوحيد الرابع: توحيد القائلين بوحدة الوجود وأنَّ الوجود عندهم واحدٌ، ليس عندهم وجودان: قديمٌ وحادثٌ، وخالقٌ ومخلوقٌ، وواجبٌ وممكنٌ، بل الوجود عندهم واحدٌ بالعين، والذي يقال له: الخلق المشبه هو الحقُّ المنزَّه، والكُلُّ مِنْ عينٍ واحدةٍ، بل هو العين الواحدة. فهذه الأنواع الأربعة سمَّاها أهل الباطل: توحيدًا، فاعتصموا بالاسم مِنْ إنكار المسلمين عليهم وقالوا: نحن الموحِّدون، ودعَوُا الناسَ إلى الباطل باسم التوحيد فجعلوه جُنَّةً وترسًا ووقايةً، وسمَّوُا التوحيدَ الذي بَعَث اللهُ به رُسُلَه وأنبياءه: تركيبًا وتجسيمًا وتشبيهًا، وجعلوا هذه الألقابَ له سهامًا وسلاحًا يقاتلون بها أهلَه؛ فتترَّسوا بما عند أهل الحقِّ مِنَ الأسماء الصحيحة وقاتلوهم بالأسماء الباطلة التي سمَّوْا بها ما بعث اللهُ به رسوله»(٨).

الجهة الثالثة: إثبات العلوِّ لله تعالى.

لا زالَتِ الأمَّةُ منذ الرعيل الأوَّل مُطْبِقةً على أنَّ الله سبحانه على عرشه مستوٍ، وأوَّلُ مَنْ عُرِف عنه في هذه الأمَّةِ إنكارُ أَنْ يكون الله فوق سماواته على عرشه هو «جهم بنُ صفوان» وقبله «الجعد بنُ درهم»، ولكنَّ الجهم هو الذي دعا إلى هذه المقالة وقرَّرها وعنه أُخِذَتْ. وشبهتهم: فهمٌ سقيمٌ لظواهر الآيات، والأدلَّةُ على بطلان قول الجهمية متضافرةٌ؛ فكتاب الله مِنْ أوَّله إلى آخِرِه، وسنَّةُ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم وعامَّةُ كلام الصحابة والتابعين وسائرِ الأئمَّةِ مملوءٌ بما هو نصٌّ أو ظاهرٌ في أنَّ الله سبحانه وتعالى فوق كُلِّ شيءٍ بدلالاتٍ متنوِّعةٍ منها: التصريح بأنه سبحانه في السماء بذاته(٩) كقوله تعالى: ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخۡسِفَ بِكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ١٦ أَمۡ أَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرۡسِلَ عَلَيۡكُمۡ حَاصِبٗاۖ فَسَتَعۡلَمُونَ كَيۡفَ نَذِيرِ ١٧﴾ [المُلْك]. وفي الصحيحين مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ رضي الله عنه قال: «بَعَث عليُّ بنُ أبي طالبٍ إلى النبيِّ بذهيبة في أديمٍ مقروضٍ لم تحصل مِنْ ترابها». قال: «فقسمها بين أربعةِ نَفَرٍ: بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَزَيْدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلاثَةَ، وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ»، قال رجلٌ مِنْ أصحابه: «كنَّا نحن أحقَّ بهذا مِنْ هؤلاء»، قال: فبَلَغ ذلك النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: «أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً»(١٠)، وعن عبد الله بنِ عمرو بنِ العاص رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»(١١)، وصحَّ عن أبي بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه في موت النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قولُه: «وَمَنْ كَانَ يَعبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ فِي السَّمَاءِ، حَيٌّ لَا يَمُوتُ»(١٢)، وبنو آدم كُلُّهم مفطورون على الإقرار بعلوِّ الله الذاتي فعن زَيد بنِ أسلمَ، قال: مرَّ ابنُ عُمر رضي الله عنهما برَاعي غنَمٍ فقال: «يا راعِي الغنَمِ هل مِنْ جَزْرَةٍ؟» قالَ الرَّاعِي: «ليسَ هَاهنَا ربُّها»(١٣)، فقال ابنُ عُمرَ: «تَقولُ: أكلَهَا الذِّئبُ»، فرفعَ الرَّاعِي رَأسهُ إلى السَّماءِ، ثُمَّ قال: «فأيْنَ اللهُ؟» فَاشْتَرَى ابنُ عُمرَ الرَّاعِيَ واشْترى الغنَمَ، فأعْتقهُ وأعْطاهُ الغنَمَ(١٤).

الجهة الرابعة: في بيان المراد بكون الله في السماء:

قد افترى المحاضر فريةً عظيمةً حين نَسَب إلى المُثْبِتين للعلوِّ أنهم يحصرون ربَّهم في جرم السماء، وإنما أُتِيَ مِنْ قِبَلِ قلَّةِ معرفته بلغة العرب التي نزل بها كتابُ ربِّ العالمين؛ فإنَّ قوله تعالى: ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ﴾ إذا أُجْرِيَتْ «في» على أصلها ـ وهو الظرفية ـ فتفسَّرُ السماءُ بمعنى العلوِّ المطلق، قَالَ الزَّجَّاجُ: «السَّمَاءُ ـ فِي اللُّغَةِ ـ يُقَالُ لِكُلِّ مَا ارتَفع وعَلا: قَدْ سَما يَسْمُو»(١٥). وإِنْ أُرِيدَ بالسماء المخلوقة فتُحْمَل «في» بمعنى «على»، ويكون المعنى: «مَنْ على السماء»، لا بمعنَى أنَّ السَّماء تحويه وتحيط به ـ كما ادَّعى المحاضرُ افتراءً ـ فالله ـ سبحانه ـ لا يحيط به أيُّ شيءٍ. وعلى هذا التفسيرِ نصوصُ علماء أهل السنَّة والجماعة، قال ابنُ عبد البرِّ المالكي ـ رحمه الله ـ: «وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخۡسِفَ بِكُمُ﴾ فَمَعْنَاهُ: مَنْ عَلَى السَّمَاءِ، يَعْنِي: عَلَى الْعَرْشِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي بِمَعْنَى عَلَى، أَلا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَسِيحُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ﴾ [التوبة: ٢] أي: على الأرض، وكذلك قوله: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخۡلِ﴾ [طه: ٧١] وَهَذَا كُلُّهُ يُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿تَعۡرُجُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيۡهِ﴾ [المعارج: ٤] وَمَا كَانَ مِثْلَهُ مِمَّا تَلَوْنَا مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الباب»(١٦).

وقال أَبو بَكرٍ مُحمَّدُ بنُ مَوهَبٍ المالكيُّ شارح «رِسالةِ ابنِ أَبي زَيدٍ» ـ رحمة الله عليهمَا ـ: «وَقَدْ تَأْتِي (فِي) فِي لُغَةِ العَربِ بمعنى فوقَ؛ وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا﴾ [المُلْك: ١٥] يريد: فوقها وعليها، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخۡلِ﴾ [طه: ٧١] يريد: عليها، وقال تعالى: ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخۡسِفَ بِكُمُ ٱلۡأَرۡضَ﴾ [المُلْك: ١٦] الآيات، قال أهلُ التَّأويلِ العالِمُون بلُغةِ العربِ: يريدُ: فوْقهَا، وهُو قوْلُ مالِكٍ مِمَّا فهم عن جماعةٍ ممَّن أدركَ مِنَ التَّابعينَ ممَّا فهموهُ عن الصَّحابةِ رضي الله عنهم ممَّا فهمُوهُ عنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ اللهَ في السَّماء بمَعنَى: فوقهَا وعليْهَا»(١٧).

وقد ناقش شيخ الإسلام ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ شبهةَ مَنْ يقول بأنَّ السَّماء تحويه، وبيَّن زيفَها، فقال: «من توهَّم أنَّ كون الله في السَّماء بمعنى أنَّ السَّماء تحيط به وتحويه فهو كاذبٌ ـ إِنْ نَقَله عن غيره ـ ضالٌّ ـ إِنِ اعتقده في ربِّه ـ وما سمعنا أحَدًا يفهم هذا مِنَ اللّفظ، ولا رأينا أحدًا نقله عن واحدٍ، ولو سُئِل سائرُ المسلمين: هل يفهمون مِنْ قول الله ورسوله: «إنَّ الله في السَّماء»: أنَّ السَّماء تحويه؟ لَبادَرَ كُلُّ أحَدٍ منهم إلى أَنْ يقول: هذا شيءٌ لعلَّه لم يخطر ببالنا. وإذا كان الأمرُ هكذا، فمِنَ التكلُّف أَنْ يُجْعَل ظاهرُ اللفظ شيئًا محالًا لا يفهمه النَّاسُ منه، ثمَّ يريد أَنْ يتأوَّله، بل عند النَّاس «أن الله في السَّماء»، و«هو على العرش» واحدٌ؛ إذ السَّماء إنّما يراد به العلوُّ، فالمعنى: أنَّ الله تعالى في العلوِّ، لا في السفل، وقد علم المسلمون أنَّ كرسيَّه ـ سبحانه وتعالى ـ وَسِع السمواتِ والأرض، وأنَّ الكرسيَّ في العرش كحلقةٍ ملقاةٍ بأرضِ فَلَاةٍ، وأنَّ العرش خَلْقٌ مِنْ مخلوقات الله لا نسبةَ له إلى قدرة الله وعظمته، فكيف يُتوهَّمُ بعد هذا أنَّ خَلْقًا يحصره ويحويه؟ وقد قال سبحانه: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخۡلِ وَلَتَعۡلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابٗا وَأَبۡقَىٰ ٧١﴾ [طه]، وقال: ﴿فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ [آل عمران: ١٣٧؛ النحل: ٣٦] بمعنى «على»، ونحو ذلك، وهو كلامٌ عربيٌّ حقيقةً لا مجازًا، وهذا يعلمه مَنْ عَرَف حقائقَ معاني الحروف، وأنها متواطئةٌ في الغالب لا مشتركةٌ»(١٨).

وقال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «التصريح بأنه سبحانه في السماء، وهذا عند أهل السنَّة على أحَدِ وجهين: إمَّا أَنْ تكون «في» بمعنى «على»، وإمَّا أَنْ يراد بالسماء العلوُّ، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز حملُ النصِّ على غيره»(١٩).

وقد تمسَّك أهلُ السنَّة بنصوص الكتاب والسنَّة في إثبات العلوِّ لله تعالى، ويَلْزَمُ المحاضرَ ـ هداه الله ـ أَنْ يَستصحِبَ اتِّهامَه للسلفيِّين فيُنْزِله على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بأنه بلَّغ أمَّتَه الكفرَ في الأحاديث التي سَلَف بعضُها، ويَلْزَمه أَنْ يحكم على السلف ومنهم الصحابة بما اتَّهم به أتباعَهم، وأنهم أقرُّوا الكفرَ ولم يُنْكِروه، هذا مِنْ جهةٍ، ومِنْ جهةٍ أخرى فإنَّ الذين ينفون عُلُوَّ اللهِ على خَلْقه هم الذين يحصرون ربَّهم ويحدُّونه في مخلوقاته حين يدَّعون أنه في كُلِّ مكانٍ، وهي مَزاعِمُ الجهميةِ وامتداد أباطيلهم لأهل الصوفية الفلسفية مِنَ القائلين بوحدة الوجود والاتِّحادية والحلولية.

وختامًا لهذه الشبهة فإنه يجدر التنبيهُ إلى وقوع المحاضر في التناقض، وبيانُه: أنَّ إنكاره أَنْ يكون الله في السماء ـ وهي عقيدة الجهمية ـ ينقض قولَه السالفَ ممَّا زعَمه مِنْ تأويلِ نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا بنزول أمره ناسبًا ذلك ـ تدليسًا ـ إلى الإمام مالكٍ ـ رحمه الله ـ فيقال: إذا كنتَ لا تؤمن بأنَّ الله في العلوِّ فكيف تزعم أنَّ الأمر ينزل؟ فإنَّ النزول لا يكون في اللغة إلاَّ مِنْ علوٍّ(٢٠).

وهكذا حالُ كُلِّ مَنْ لم يرضَ بالسلف اعتقادًا ومنهجًا واتَّخذ الأهواءَ وبِدَعَ الكلام له سبيلاً، يضرب بعضُ كلامِه بعضًا، وينقض آخرُه أوَّلَه، لا يستقيم لهم منهجٌ ولا يطَّرِدُ لهم أصلٌ ولا تنضبط بهم قاعدةٌ.

والعلم عند الله تعالى، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

(١) «فصوص الحِكَم» لابن عربي (١/ ١٧٥).
(٢) المصدر السابق (١/ ١٩٢).
(٣) انظر: «هذه هي الصوفية» لعبد الرحمن الوكيل (٢٥).
(٤) «لسان الميزان» لابن حجر (٤/ ٣١٨).
(٥) «التعريفات» للجرجاني (٨).
(٦) «فصوص الحِكَم» لابن عربي (١/ ١٤١).
(٧) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢/ ١٤٠ ـ ١٤١).
(٨) «الصواعق المرسلة» لابن القيِّم (٣/ ٩٣٢).
(٩) قال ابن القيِّم ~: «إنَّ الجهمية لمَّا قالوا: إنَّ الاستواء مجازٌ، صرَّح أهل السنَّة بأنه مستوٍ بذاته على عرشه، وأكثرُ مَنْ صرَّح بذلك أئمَّةُ المالكية» [«مختصر الصواعق المرسلة» للبعلي (٣٥٧)].
(١٠) أخرجه البخاري (٤٣٥١)، ومسلم (١٠٦٤).
(١١) أخرجه أبو داود (٤٩٤١)، والترمذي (١٩٢٤)، وهو في «السلسلة الصحيحة» للألباني (٩٢٥)، والجزرة: شاةٌ تصلح للذبح.
(١٢) انظر: «التاريخ الكبير» للبخاري (١/ ٢٠١).
(١٣) أي: مالكها.
(١٤) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (١٣٠٥٤). وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (٧/ ٤٧٠).
(١٥) انظر: «لسان العرب» لابن منظور (١٤/ ٣٩٨).
(١٦) «التمهيد» لابن عبد البرِّ (٧/ ١٣١).
(١٧) انظر: «اجتماع الجيوش الإسلامية» لابن القيِّم (٢/ ١٨٨).
(١٨) «مجموع الفتاوى» (٥/ ١٠٦).
(١٩) «إعلام الموقِّعين» (٢/ ٢١٥).
(٢٠) انظر: «شرح حديث النزول» لابن تيمية (٣٥)، و«الصفات الإلهية» لمحمَّد أمان الجامي (٣١٣).
موضوع مغلق

الكلمات الدلالية (Tags)
منهج, مميز, البوروبي, ردود

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013