قول الله تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ لها تفسيران عند العلماء:
1- أن المعنى: لا تراه الأبصار في الدنيا، ولا تدركه في الدنيا.
2- أن المعنى لا تدركه الأبصار في الآخرة وإن كانت تراه، فالأبصار تراه في الآخرة ولكنها لا تحيط به رؤية، كما أن القلوب تعلمه ولكنها لا تحيط به علمًا، كما قال تعالى: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا فنحن نعلم ربنا متيقنين، ولكننا لا نحيط به علمًا، ولا ندرك حقيقة ذاته وكنهها وكيفيتها.
الإحاطة قدر زائد على الشيء العام، فهو أخص منه، ولا يلزم من نفي الأعم نفي الأخص ولهذا أمثلة:
ـ رؤية الله للمؤمنين في الآخرة واقعة كما قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ولكن الإحاطة به رؤية منفية في قوله تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فهو يُرى ولا يُحاط به رؤية لكمال عظمته وكونه أكبر من كل شيء.
العلم بالله واقع في القلوب فهي تعلمه يقينًا ولكنها لا تحيط به علمًا لكمال عظمته وكونه أكبر من كل شيء، كما قال تعالى: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ولا تدرك حقيقة ذاته وكنهها وكيفيتها على ما هي عليه.
فكما أن صفات الله لا نكيفها فكذلك ذات الله لا نكيفها، فالكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فالله -تعالى- معلوم معروف لكل أحد، تعلمه القلوب وتقر به الألسن، لكن معرفة الحقيقة -حقيقة كنهه- وماهيته وكيفيته لا يعلمه إلا هو، وإن رآه المؤمنون يوم القيامة، كما أن من رأى القمر لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فالعظيم أولى بذلك وله المثل الأعلى.
قيل: هذا هو الإدراك المنفي في الآية لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وقيل: المنفي في الآية هو رؤية العظمة والجلال، وقيل: على ما هو عليه، فإن ذلك غير ممكن للبشر ولا للملائكة ولا لشيء .
فالكفرة يعلمون ربهم كما قال -تعالى- عن موسى أنه قال لفرعون لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وقال عن إبليس: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ولكن هذه المعرفة لا تجعلهم مؤمنين ولا تدخلهم في الإيمان إلا عند الجهم بن صفوان فإن الإيمان عنده: معرفة الرب بالقلب، والكفر عنده: الجهل بالرب بالقلب، وهذا القول من أبطل الباطل.
ـ فرعون وقومه دخلوا البحر فانطبق عليهم، لكنهم يطمعون في النجاة، ثم أدركهم الغرق فأيقنوا الهلاك، كما قال -تعالى- عن فرعون: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ فإدراك الغرق قدر زائد على دخول البحر وانطباقه عليه، إذ الإدراك إحاطة الماء به من جميع الجهات فتيقن الهلاك بعد الإدراك.