...قال مطرف وابن نافع وغيرهما : لما قدم هارون المدينة وجه الى مالك ، البرمكي، وقال له : قل له أن يحمل إلي الكتاب الذي صنفه حتى أسمعه منه، فوجد من ذلك مالك، واغتم، وقال للبرمكي: أقرئه السلام، وقل له: العلم يزار ولا يزور، إن العلم يؤتى ولا يأتي.
فرجع البرمكي الى هارون فأخبره بذلك فغضب.
وأشار عامة أصحاب مالك عليه أن يأتي هارون.
وقال البرمكي للرشيد: يبلغ اهل العراق أنك وجهت الى مالك فخالفك! اعزم عليه حتى يأتيك.
فإذا بمالك قد دخل عليه، فسلم، وليس معه كتاب، فقال له هارون في ذلك، فقال مالك: يا أمير المؤمنين؛ إن الله تعالى بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم وأمر بطاعته واتباع سنته، وأن نرعاه حيا وميتا، وقد جعلك في هذا الموضع لعلمك، فلا تكن أنت أول من وضع العلم فيضعك الله!
الله الله! لقد رأيت من ليس هو في حسبك ولا نسبك من الموالي وغيرهم يعز هذا العلم ويجله و يوقر حملته!
فأنت أحرى أن تجل علم ابن عمك.
ولم يزل يعدد عليه حتى بكى !
ثم قال له: حدثني الزهري، وذكر حديث زيد بن ثابت: (كنت أكتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} وابن أم مكتوم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! قد أنزل الله تعالى في فضل الجهاد ما أنزل، وأنا رجل ضرير، فهل لي من رخصة؟ فقال: ما أدري. قال زيد: وقلمي رطب لم يجف حتى غشى النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فوقع فخذه على فخذي فكادت تندق من ثقل الوحي، ثم خلى عنه فقال: اكتب يا زيد: {غير أولي الضرر}.
فيا أمير المؤمنين! هذا حرف واحد بعث به جبريل والملائكة من مسيرة خمسين ألف عام حتى أنزل على نبيه، أفلا ينبغي لي أن أجله و أعزه؟
قال: فقال هارون: قم بنا إلى منزلك
فأتى هارون منزل مالك، فدخل مالك واغتسل ولبس ثيابا جديدا وتطيب و وضع مجامير فيها عود وجلس فقال: هات، فقال هارون: تقرأ علي؟
فقال: ما قرأت على أحد منذ زمان.
قال: فأخرج عني الناس حتى أقرأه عليك.
فقال مالك: إن العلم إذا منع من العامة لأجل الخاصة لم تنتفع به الخاصة.
قال: فامر بعض أصحابك يقرأه، فأمر المغيرة فقرأه له على مالك.
قال: فكان هارون قد استند الى جنب مالك، فلما بدأ يقرأ قال: يا أمير المؤمنين من تواضع لله رفعه
وفي رواية أبي مصعب: من إجلال الله؛ إجلال ذي الشيبة المسلم، فقام فقعد بين يديه، فلما فرغ عاد الى مكانه.
قال مالك: لما كان بعد مدة قال لي الرشيد: تواضعنا لعلمك فانتفعنا به، وتواضع لنا علم سفيان بن عيينة فلم ننتفع به، وكان يأتيهم فيحدثهم.
........................
(ترتيب المدارك وتقريب المسالك)
ج/2
تأليف: القاضي عياض السبتي
طبع: وزارة الأوقاف المغربية.
التعديل الأخير تم بواسطة مصطفى قالية ; 06 Apr 2014 الساعة 07:04 AM