منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 28 Mar 2015, 11:51 PM
أبو صهيب منير الجزائري أبو صهيب منير الجزائري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Jul 2014
المشاركات: 208
افتراضي بعض الصور الرّبوية عند المتقدمين وعند المعاصرين

مقدمة
الحمد لله الذي يربي البر ويزيد للمؤمنين في الدرجات، ويمحق السوء وينزل الكافرين أسفل الدّركات ، والصلاة والسّلام على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى أله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
من أهم ما اعتنت به الشّريعة الإسلامية باب المعاملات، الذي يحتاجه المسلم في حياته اليوميّة وفي معاشه، وجعل الشارع الحكيم لهذه المعاملات ضوابطاً وحدودًا وإنّ كان الأصل فيها الإباحة، ولكن جشع النّاس وجريهم وراء الدنيا جعلهم يستغل بعضهم البعض ويأكل بعضهم أموال بعض من غير رضا وطيبة نفس، فمن ثم جاءت نصوص الكتاب والسنة موضحة ومجلية لأحكام كثيرة تتعلق بالمعاملات المالية من بيع ودين وإجارة وغير ذلك من المعاملات؛ آمرة بما فيه صلاح أموال الأفراد وناهية عن كل مفسدة تلحق الضرر بأموالهم، وذلك صيانة لأموال النّاس من جهة الإيجاد والعدم وهذا الأمر الجلل من المقاصد الضرورية التّي اعتنى بها الإسلام حق العناية وهو حفظ المال.
ومن أجمع الآيات في باب المعاملات التّي تحذر من أكل أموال النّاس بالباطل قوله سبحانه:(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة البقرة 188.
فكانت هذه الآية معيارا وضابطا لمنع كل معاملة بين النّاس مبنية على باطل ، والباطل هو ما حرمه الله في كتابه الكريم، ونهى عنه النّبي صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة، وأجمعت الأمة على منعه وبغضته الفطر السليمة.
ومن بين هذه المعاملات الباطلة والمحرمة الرّبا الذي اجتمعت عليه الأدلة على حرمته، حتى في درهم منه، وبحكم حب النّاس للأموال من جانب، وبعدهم عن تعاليم الإسلام من جانب أخر ركب النّاس باب الرّبا وتعاملوا به جهارا وقننوا له قوانين وألبسوه لباس الشرعية، ودافعوا عليه ولجئوا إليه عند كل حاجة ضرورية و تحسينية، ومن هذه التوطئة سأذكر نفسي وإخواني ببعض المعاملات الرّبوية بين القديم والحديث وإن كان الأصل واحد والغرر واحد ولكنّ تغيرت الأسماء فكان لزاما على العلماء البحث فيها وبيان حكمها الذّي ذكره الله في كتابه وبلغه محمد صللى الله عليه وسلم في سنته المطهرة.
التعاملات الرّبوية كانت جارية عند المتقدمين، كما هي جارية في العصر الحاضر، فأصلها واحد من حيث الزيادة والتأخير، ولكنّها مختلفة في أسمائها وصورها، سأذكر في هذه المداخلة بعض التّعاملات الرّبوية عند المتقدمين، وكذلك عند المعاصرين، ذاكرا لصورها، و كلام العلماء في حكمها والأدلة الواردة فيها.


أقسم الموضوع إلى مطلبين:
المطلب الأول:
التّعاملات الربوية الجارية عند المتقدمين صورها وحكمها.
الرّبا إما أن يتعلق بالذمة، وإما أن يتعلق بالبيوع، فأما ربا الذمم فهو الذي جاءت فيه الآيات، التّي بينت حكمه وأظهرت خطورة الإقدام عليه والرّبا الذي يتعلق بالبيوع وكان يقع فيه المتقدمون، هو ربا الفضل والنّسيئة وكذلك بيوع ربوية تندرج تحت هذه الأصول.
الفرع الأول: ربا الذمم. ( ربا الجاهلية).
إذا أطلق قصد به أنظرني أزدك وهذا لا خلاف فيه وكذلك هناك قسم ثاني وهو ضع وتعجل، هذا الأخير فيه خلاف بين الفقهاء في تحريمه وإباحته ليس كالأول فيه إجماع الأمة.
الفقرة الأولى: أنظرني أزدك.
أولا: صورة أنظرني أزدك.
قال مجاهد:"الربا الذي نهى الله عنه: كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدّينُ فيقول: لك كذا وكذا وتؤخِّر عني! فيؤخَّر عنه." أبو جعفر الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن، ( 6/8).
وقال قتادة: "أن ربا أهل الجاهلية يبيعُ الرجل البيع إلى أجل مسمًّى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاده وأخَّر عنه." المصدر السابق نفس الجزء والصفحة.
وبين ذلك ابن رشد الحفيد: " فأما الربا فيما تقرر في الذمة فهو صنفان صنف متفق عليه وهو ربا الجاهلية الذي نهي عنه وذلك أنهم كانوا يسلفون بالزيادة وينظرون فكانوا يقولون انظرني أزدك وهذا هو الذي عناه عليه الصلاة والسلام بقوله في حجة الوداع " ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب" والثاني (ضع وتعجل)..". ابن رشد: بداية المجتهد ( 2/217).
ويقول ابن القيم: " موضحا لربا الجاهلية وسما ربا النّسيئة قاصدا به ما يقع التّأخير مقابل الزيادة ".. فأما الجلي فربا النسيئة، وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة عنده آلافا، مؤلفة وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج، فإذا رأى أن المستحق يؤخر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يبذلها له تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس ويدافع من وقت إلى وقت فيشتد ضرره وتعظم مصيبته ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه فيأكل مال أخيه بالباطل ويحصل أخوه على غاية الضرر فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله ولم يجيء مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره ولهذا كان من أكبر الكبائر" انظر:ابن القيم الجوزية: إعلام الموقعين عن رب العالمين(3/397)
وقال الجصاص: ".. والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض والدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به.." الجصاص: أحكام القرآن (2/184).
_ مما سبق من أقوال الأئمة في توضيح معنى ربا الذمم، نستنتج أنه ربا الدّيون، ويسمى عندهم ربا النّسيئة كذلك.
_ ربا الجاهلية يكون نتيجة أمرين:
1_ قد يكون الدين ناتجا عن بيع أجل، فإذا حل الأجل ولم يدفع المشتري الثمن التزم بدفع زيادة عليه مقابل الزّيادة في الأجل.
2_ قد يكون الدّين قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة مقابل الجل، ويتفق على هذه الزّيادة الرّبوية من البداية بالتّراضي بما يراه كل منهما مصلحة لنفسه. وإذا حل موعد القرض طبقت القاعدة الجاهلية المعروفة: إما تقضي وإما أن تربي فإما أن يؤدي المقترض، وإما أن يزاد في الدّين والأجل. انظر: د: علي أحمد السّالوس: الاقتصاد الإسلامي والقضايا الفقهية المعاصرة ص (106)
ثانيا: الأدلة الواردة في تحريم ربا الجاهلية ( أنظرني أزدك).
الأدلة كثيرة مستفيضة أكتفي بدليل من الكتاب و دليل من السنة.
1: الدليل من القرآن.
_ قال الله تعالى:( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) سورة البقرة 275
2: الدليل من السنة.
من أهم الأدلة التّي وردت في السّنة المطهرة، التّي تدل على تحريم ربا الجاهلية.
_ حديث جابر رضي الله عنه: « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ» رواه مسلم في صحيحه،كتاب المساقاة باب لعن الله أكل الربا..،رقم1598،(651)
يقول ابن القيم رحمه تعالى:" فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله ولم يجيء مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره ولهذا كان من أكبر الكبائر وسئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا شك فيه فقال هو أن يكون له دين فيقول له أتقضي أم تربي فإن لم يقضه زاده في المال وزاده هذا في الأجل وقد جعل الله سبحانه الربا ضد الصدقة فالمرابي ضد المتصدق... ثم ذكر الجنة التي أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء وهؤلاء ضد المرابين فنهى سبحانه عن الربا الذي هو ظلم للناس وأمر بالصدقة التي هي إحسان إليهم.." ابن القيم : إعلام الموقعين (3/397-398)
ملاحظة: التحريم في ربا الجاهلية واقع في كل زيادة مشروطة في حالة القرض. لا اعتبار للعلة المختلف فيها بين الفقهاء في ربا البيوع.
ونُقل الإجماع في ذلك:
1_ قال مالك رحمه الله تعالى: ".. كل شيء أعطيته إلى أجل فرد إليك مثله وزيادة فهو ربا." الإمام مالك: المدونة(3/75).
2_ وقال ابن تيمية رحمه الله:".. وليس له أَن يشترِط الزِّيادة عليه في جميع الْأَموال باتّفاق العلماء" ابن تيمية: مجموع الفتاوى(29/258).
3_ وقال ابن حزم رحمه الله: " الرّبا لا يجوز في البيع والسلم إلا في ستة أشياء فقط: في التّمر والقمح والشّعير والملح والذهب والفضة. وهو في القرض في كل شيء..هذا إجماع مقطوع به " ابن حزم: المحلى( 8/467-468)
من خلال كلام أهل العلم، يظهر لنا أن ربا الجاهلية حاصلة في كل شيء له قيمة، ولا يبحث فيه عن علة الرّبا، أي الأصناف المذكورة في ربا البيوع.
الفقرة الثّانية: ضع وتعجل.
أولا: صورة ضع وتعجل: هي أن يتعجل الرجل في دينه المؤجل عرضا يأخذه وإن كانت قيمته أقل من دينه. ابن رشد: بداية المجتهد (2/236).
وهي التّي ذكرها ابن رشد: " والثاني (ضع وتعجل)" المصدر السابق: ( 2/217)
أي يكون للرجل دين لأجل مثلا شهرا، فيقول له صاحب المال اعطني مالي قبل الشهر وانقص لك من الدين، هذه الصورة اختلف العلماء في حكمها خلافا للصورة الأولى التّي اتفقوا على تحريمها، وهي أصل الرّبا.
ثانيا: أقوال الفقهاء في حكم ضع وتعجل مع الأدلة والتّرجيح.
وهذه أقوال العلماء في مسألة ضع وتعجل باختصار.
القول الأول:
قالوا بالمنع: وهم: ابن عمر من الصحابة، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي والمشهور عن أحمد. انظر ابن رشد: بداية المجتهد (2/236). والإمام مالك: المدونة الكبرى ( 3/34)، ابن قودر: نتائج الأفكار (8/448)، الشربيني: مغني المحتاج ( 2/233)، ابن مفلح: المبدع شرح المقنع (4/163)
دليلهم: استدلوا بالأثر والمعنى:
دليلهم من الأثر:
1_ عن المقداد بن الأسود قال : ( أسلفت رجلا مائة دينار فقلت له : عجل تسعين دينارا وأحط عشرة دنانير ) فقال : نعم , فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « أكلت ربا مقداد وأطعمته » البيهقي: السنن الكبرى وقال إسناده فيه ضعف كتاب البيوع، باب: لاخير في أن يعجله رقم 11141،(6/47)
_ عن أبي المنهال أنه سأل ابن عمر رضي الله عنهما فقال لرجل: علي دين, فقال لي:عجل لي لأضع عنك, قال: فنهاني عنه. وقال: نهى أمير المؤمنين - يعني عمر - أن يبيع العين بالدين. رواه البيهقي في سننه: كتاب البيوع: باب لاخير في أن يعجله رقم 11140،( 6/47). قال ابن القيم صحيح في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (2/12)
دليلهم من المعنى:
_ قالوا:هو من قياس الشّبه، ضع وتعجل أنه شبيه بالزيادة مع النظرة المجتمع على تحريمها، ووجه شبهه بها أنه جعل للزمان مقدارا من الثمن بدلا منه في الموضعين جميعا، وذلك أنه هنالك لما زاد له في الزمان زاد له عرضه ثمنا وهنا لما حط عنه الزمان حط عنه في مقابلته ثمنا.. ابن رشد: بداية المجتهد (2/236/237)
القول الثاني:
قالوا بجواز هذه الصورة ابن عباس من الصحابة وزفر من الحنفية و رواية عن الإمام أحمد،وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. المصدر السابق: نفس الجزء ص 236، و ابن المفلح: المبدع (4/163)، بن تيمية الحراني: الفتاوى الكبرى (5/396).
دليلهم: كان من السنة والمعنى:
دليلهم من السنة.
_ عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج بني النضير، جاءه ناس منهم فقالوا قالوا يا رسول الله إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس ديون لم تحل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ضعوا وتعجلوا ». رواه البيهقي في سننه: كتاب البيوع-باب: من عجل..رقم 11137( 6/46).الحاكم :المستدرك على الصحيحين، وصححه كتاب البيوع- باب رقم 2325 (2/52)، وبذيله التلخيص للذهبي: وقال الذهبي: قلت الزنجي ضعيف وعبد العزيز ليس بثقة.
دليلهم من المعنى:
1 _ ضع وتعجل عكس الربا فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل , وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل فانتفع به كل واحد منهما , ولم يكن هنا ربا لا حقيقة ولا لغة ولا عرفا , فإن الربا الزيادة.
2_ الفرق واضح بين ضع وتعجل وانظرني أزدك، ولا نص من كتاب وسنة صحيحة، ولا قياس صحيح في المنع. ابن القيم: إعلام الموقعين(5/331-332).
وهناك قول ثالث: فيه تفصيل في مسالة المكاتب: يجوز ذلك في دين الكتابة ولا يجوز في غيره؛ لأن ذلك يتضمن تعجيل العتق المحبوب إلى الله والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم , ولا ربا بين العبد وبين سيده فالمكاتب وكسبه للسيد فكأنه أخذ بعض كسبه وترك بعضه. وهو قول: للشّافعي وأبا حنيفة. المصدر السابق:(5/332).
لعل الصّواب مع القول الثّاني الذين قالوا بالجواز مطلقا، وهذا راجع لأمرين:
1_ الأصل في العقود والمعاملات الحل، ولا دليل على المنع.
2_ قياسه على انظرني أزدك لا يصح لكون الضرر ظاهر على المدين أما الضرر في ضع وتعجل منتف، بل فيه مساعدة له والله أعلم.
الفرع الثّاني: بيع العينة.
بيع العينة من صور بيوع الآجال التّي ذكرها المالكية ويعتبرونها من الحيل التّي يتقصد بها إلى الرّبا وغيرهم من الأئمة وسنعرف في هذه الفقرة، صورته وحكمه بشكل عام لا على التفصيل في كل الصور المذكورة عند الفقهاء وأقوال الأئمة في هذا البيع.
وقبل ذكر صورها عند المالكية أذكر مفهومها بإيجاز وهو المشهور عن معنى بيع العينة.
و العينة هي: هو أنّ يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم، إلى أجل مسمى ثم يشتريها منه بالنقد بأقل من الثّمن الذي باعها به. وسميت بالعينة لحصول النقد لصاحب العينة؛ أي قصد عين المال لا السلعة. انظر: ( ابن الأثير): النّهاية في غريب الحديث والأثر (1/237-3/234).
الفقرة الأولى: صورة بيع العينة.
نقل العلماء صورا كثيرة لبيع العينة وبخاصة المالكية لكثرة الكلام حول هذا البيع من حيث كونه وسيلة للرّبا وكذلك الخلاف الواقع في حله وتحريمه.
أولا: صورة بيع العينة عند المالكية:
وذكر المالكية عدة صور ألحقوه إلى سبعة وعشرونصورة ومنهم من جعلها أربعة وعشرين صورة منها ستة محرمة و الباقي جائزة أو مكروه سأذكر صورة في كل صنف: ابن رشد محمد بن أحمد أبو الوليد: المقدمات الممهدات ( 2/43)، أحمد الصاوي: بلغة السالك (3/77).
1_ الصّورة الأولى: أن يقول رجلا لآخر اشتر لي سلعة بكذا وأربحك فيها كذا مثل أن يقول اشترها بعشرة وأعطيك فيها خمسة عشر إلى أجل فإن هذا يئول إلى الربا لأن مذهب مالك أن ينظر ما خرج عن اليد ودخل به ويلغي الوسائط فكأن هذا الرجل أعطى لأحد عشرة دنانير وأخذ منه خمسة عشر دينارا إلى أجل والسلعة واسطة ملغاة.
هذه من الصور المحرمة
2_ الصّورة الثّانية: لو قال له اشتر لي سلعة وأنا أربحك فيها ولم يسم الثمن فهذا مكروه وليس بحرام.
هذه من الصور المكروهة عند المالكية.
3_ الصورة الثالثة: أن يطلب السلعة عنده، فلا يجدها ثم يشتريها الآخر، من غير
أمره ويقول قد اشتريت السلعة التي طلبت مني، فاشترها مني إن شئت فيجوز أن يبيعها منه نقدا أو نسيئة بمثل ما اشتراها به أو أقل أو أكثر. وهذه الصورة جائزة.
والمقصود في المسالة، هي الصورة الأولى التّي قصدها الفقهاء عند ذكر المسألة. وهو بيع سلعة إلى أجل بثمن، ثم يشتريها البائع قبل الأجل بثمن أقل، أو أكثر. وهي المقابلة عند الشافعية. ابن جزي: القوانين الفقهية ص408-407.
والتّي قال ابن رشد فيها:".. وهو أن يشتريها قبل الأجل نقدا بأقل من الثمن أو إلى أبعد من ذلك الأجل بأكثر من ذلك الثمن." ابن رشد: بداية المجتهد (2/234).
الفقرة الثّانية: حكم بيع العينة عند الفقهاء.
اختلف الفقهاء في حكم بيع العينة بين مانع ومبيح.
أولا: أقوال الفقهاء.
القول الأول: المانعون.
وهم جمهور الفقهاء من حنفية ومالكية وحنابلة وبعض الشافعية وهو قول الثّوري والأوزاعي، وهو مروي عن عائشة وابن عباس و ابن سيرين والشعبي. انظر: ابن رشد: بداية المجتهد (2/234).و ابن قدامة: المغني(6/260).و الكساني: بدائع الصنائع(5/198). والصنعاني محمد بن إسماعيل: سبل السلام ط:1(1427ه-2006م).
والمانعون اختلفوا في العقد الثّاني: قال الحنفية العقد الثّاني فاسد إن خلا من توسط شخص ثالث، وقال المالكية والحنابلة يقع باطلا. انظر:أبو المظفر الشيباني: اختلاف الأئمة العلماء(1/404)، ووهبة الزّحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته ( 4/468-469) وجاءت عدة روايات في مذهب مالك يفسخ العقد الأول مع الثاني، وقيل الأول دون الثّاني وقيل الثّاني. و في مذهب الحنابلة يصح الأول بلا مواطأة، و إلاّ بطلا أي الأول والثّاني، لأن الأول ذريعة للثّاني. ابن رشد: المقدمات الممهدات (2/53-54)، ابن مفلح المقدسي: الفروع ومعه تصحيح الفروع لعلاء الدين ابو الحسن بن سليمان المرداوي (6/315).
قَالَ مُحَمَّدٌ ابن الحسن :" هَذَا الْبَيْعُ فِي قَلْبِي كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ ذَمِيمٌ اخْتَرَعَهُ أَكَلَةُ الرِّبَا". ابن عابدين: الرد المحتار(7/542).
وقال ابن قدامة: " ومن باع سلعة بنسيئة لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها به" ابن قدامة: المغني (6/260).
وقال ابن رشد: " فعند مالك وجمهور أهل المدينة أن ذلك لا يجوز" ابن رشد: بداية المجتهد (2/234).

القول الثّاني: المجيزون.
قالوا بجواز بيع العينة وهم: الشّافعية وهو قول أبو ثور، وأبي يوسف من الحنفية وداود ونصره ابن حزم الأندلسي. النّووي: روضة الطالبين ( 3/85-86)، ابن حزم: المحلى(9/47).و ابن عابدين: رد المحتار (7/542).
قال الشافعي رحمه الله:" من باع سلعة من السلع إلى أجل وقبضها المشترى فلا بأس أن يبيعها من الذي اشتراها منه بأقل من الثمن أو أكثر أو دين أو نقد لأنها بيعة غير البيعة الأولى."السبكي: تكملة المجموع للنووي (10/141)
يقول النّووي:" ليس من المناهي بيع العينة ... وهو أن يبيع غيره شيئا بثمن مؤجل، ويسلمه إليه، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بأقل من ذلك الثمن نقدا، وكذا يجوز أن يبيع بثمن نقدا ويشتري بأكثر منه إلى أجل ، سواء قبض الثمن الأول، أم لا، وسواء صارت العينة عادة له غالبة في البلد ، أم لا، هذا هو الصحيح المعروف في كتب الأصحاب." النّووي: روضة الطالبين ( 3/85-86).
وقال ابن حزم: " ومن باع سلعة بثمن مسمى حالة أو إلى أجل مسمى قريبًا أو بعيدًا فله أن يبتاع تلك السلعة من الذي باعها منه بثمن مثل الذي باعها به منذ وبأكثر منه وبأقل حالًا وإلى أجل مسمى أقرب من الذي باعها منه إليه أو أبعد ومثله كل ذلك حلال لا كراهة في شيء منه ما لم يكن ذلك عن شرط مذكور في نفس العقد فإن كان عن شرط فهو حرام مفسوخ أبدًا محكوم عليه بحكم الغصب '' ابن حزم: المحلى(9/47).
ثانيا: أدلة كل فريق ومناقشتها.
أ_ أدلة المانعين: استدل المانعون بالسنة والأثر و بالمعنى
دليلهم من السّنة:
1- عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزّرع وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلا لا ينّزعه حتى ترجعوا إلى دينكم » رواه أبو داود: سنن أبي داود، واللفظ له، كتاب الإجارة: باب في النهي عن العينة،رقم 3462، ص86، والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب البيوع: باب ما ورد في كراهية التّبايع بالعينة، رقم 10703، (5/516-517). واحمد في مسنده بلفظ أخر، من مسند عبد الله بن عمر رقم 4825، (8/440).
وجه الاستدلال:
قالوا: إنّ بيع العينة من أسباب تسليط الذل على الأمة. والأمور المذكورة في الحديث أمور عظيمة لهذا جاء الزجر بهذا الأسلوب فهذا دليل على تحريم بيع العينة وهي من الرّبا.
نوقش هذا الاستدلال من جهتين:
جهة السّند: لا يلزم من كون رجال الحديث ثقات يكون الحديث صحيحا، لوجود عطاء وهو مدلس ولم يذكر سماعه من عطاء، وكذلك من رواية أحمد: في إسناده إسحاق بن أسيد الخراساني لا يحتج بحديثه، وفيه عطاء الخراساني وفيه مقال.
جهة المتن: إنّ دلالة الحديث على التّحريم غير واضحة، لأنّه قرن العينة بالأخذ بأذناب البقر والاشتغال بالزّرع - وذلك غير محرم- لا يدل على التّحريم.انظر: الشوكاني: نيل الأوطار ص(1016-1017).
الجواب:
أما من جهة السّند: الحديث صحيح بمجموع طرقه، والحديث له أصل وهو محفوظ. ابن تيمية: الفتاوى الكبرى( 6/45).
وأما من جهة المتن: دليل الاقتران ضعيف لا يسلم له، كذلك وجوب اجتناب أسباب ذل الأمة واجب، ولذلك توعد ذلك على إنزال البلاء. انظر: الشوكاني: نيل الأوطار ص( 1017).
2_ عن يونس بن أبي إسحاق عن أمه العالية قالت: خرجت أنا وأم محبة إلى مكة فدخلنا على عائشة فسلمنا عليها فقالت لنا من أنتن ؟ قلنا من أهل الكوفة قالت: فكأنها أعرضت عنا. فقالت لها أم محبة : يا أم المؤمنين كانت لي جارية وإني بعتها من زيد بن أرقم الأنصاري بثمانمائة درهم إلى عطائه وأنه أراد بيعها فابتعتها منه بستمائة درهم نقدا ، قالت فأقبلت علينا فقالت : « بئسما شريت وبئسما اشتريت فأبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. فقالت لها: أرأيت إن لم آخذ منه إلا رأس مالي قالت {..فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ..} سورة البقرة: أية 275» رواه:الدارقطني: سنن الدارقطني : كتاب البيوع رقم: 3200 وقال الدارقطني: أم محبة وأم عالية مجهولتان لا يحتج بهما.(3/477)، و البيهقي: في سننه الكبرى: كتاب البيوع- باب: الرّجل يبيع الشيء إلى اجل رقم: 10798(5/539).
وجه الاستدلال:
معلوم هذا التغليظ من عائشة على فعل زيد دليل على التّحريم، لكونها علمت أن فعل زيد محرم. وهذا الوعيد لا يدخلها الاجتهاد بحيث قالت " أبطل جهاده" كونه حبط عمله إذا علم بالتحريم وأصر على ذلك، وإذا لم يعلم بالحكم فقد وقع في كبيرة من الكبائر. أنظر: ابن تيمية: الفتاوى الكبرى (6/47-48).
نوقش هذا الاستدلال من جهتين: جهة السّند والمتن.
من جهة السند:
قال الشافعي:" لا يثبت على عائشة ". وكذلك رواه الدارقطني من طريق داود بن الزبرقان وقد ضعفه غير واحد كأبي زرعة والجرجاني ويحي بن معين، ورمي بالكذب. كذلك أم محبة والعالية مجهولتان.انظر: سنن الدارقطني (3/477)، وابن حزم: المحلى (9/49)، و السبكي: تكملة المجموع(10/142).

و من جهة المتن: قال الشافعي:".قد تكون عائشة لو كان هذا ثابتا عنها عابت عليها بيعا إلَى العطاء لأنَّه أجل غير معلومٍ هذا مما لا نجيزه.."
وكذلك هو اجتهاد من عائشة والقياس مع زيد بن الرقم، لأنّ البيع الأول منفصل عن الثّاني، فلا يكون ربا.
وكذلك ابن عباس رضي الله عنه كان يجيز ربا الفضل باجتهاد ولم ينقل عن الصحابة أن قال فيه قد أبطلت جهادك فدل على أن الخبر مكذوب. الشّافعي محمد بن إدريس: الأم (4/160-161). ابن حزم: المحلى:( 9/50).
والجواب: من جهة السند: أم محبة في رواية الدارقطني لم ترو الحديث وإنما ذكر أنها حضرت القصة مع من روى الحديث، وأم العلية من التابعيات كان تتروي عن عائشة والكذب بعيد عليها، وروى عنها زوجها وهو من الأئمة المشهورين، الذي لا يروي إلا عن ثقة. ابن القيم: إعلام الموقعين (5/81-82).
و أما من جهة المتن: فرضا أن الحديث لا يصح فالقياس يمنع التّعامل لأنّه حيلة إلى الرّبا.
وكذلك عائشة قصدت الرّبا لما أجابت بالآية، ولم تقصد بيع إلى اجل غير معلوم كما قال الشافعي، وعائشة تجيز بيع إلى العطاء. ابن تيمية: الفتاوى الكبرى(6/49).ابن حزم: المحلى(9/51).
_ دليلهم من الأثر:
1_ ابن عباس لما سئل عن حريرة بيعت بدراهم ، ثم اشتراها من باعها بأقل: "دراهم بدراهم بينهما حريرة" وقال:" إنّ الله لا يخدع هذا مما حرم الله ورسوله" رواه ابن أبي شيبة : المصنف: كتاب البيوع - باب من كره العينة، رقم: 20409، (7/171)، ابن القيم: إعلام الموقعين (5/ 80). وابن حزم: رواه بلفظ أخر ( فكره أن يشتريها): المحلى(9/49).
_ وعن انس بن مالك: سئل عن العينة فقال:" إنّ الله لا يخدع هذا مما حرم الله ورسوله" ابن القيم: إعلام الموقعين:(5/80).
وجه الاستدلال: هذا له حكم المرفوع. وهذه الآثار مفسرة لحديث أم عائشة. انظر: المصدر السابق:(5/83).
ونوقش هذا الاستدلال: هو من اجتهاد الصحابة ومن الصحابة من عارض هذا القول وأجازه؛ كابن عمر، ومن التّابعين محمد بن سيرين. ابن حزم: المحلى (9/51).
دليلهم من المعنى:
_ كون العينة وسيلة للربا عن طريق حيلة البيع، والوسيلة إلى الحرام تكون حراما، ويمنع سدا للذريعة. الكساني: بدائع الصنائع(5/198). وابن رشد: بداية المجتهد (2/234).وابن القيم:أعلام الموقعين(5/83).و ابن جزي:القوانين الفقهية ص(407).
ويقول ابن القيم: " وأيضا فلو لم يأت في هذه المسألة اثر، لكان محض القياس ومصالح العباد وحكمة الشريعة تحريمها أعظم من تحريم الرّبا، فإنها ربا مستحل بأدنى الحيل" ابن القيم: إعلام الموقعين(5/83) وهذا أهم ما استدل به المانعون.

ب_ أدلة المجيزين: استدل المجيزون: بالسنة و الأثر والمعنى:
_ دليلهم من السّنة:
1 _ ما روى أبو سعيد الخدري وأبو هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « اسْتعمل رجلا على خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :أكل تمر خيبر هكذا ؟ قال : لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا » متفق عليه
وجه الاستدلال:
قالوا: هذا دليل على جواز العينة بعد أمر رسول الله للرجل أن يبيع الجمع ويشتري بثمنه جنيبا ولم يفرق بين أن يشتري من المشتري أو من غيره. النّووي: شرح مسلم (11/21)
مناقشة الاستدلال:
قال الجمهور: الاستدلال بالحديث في غير محله وهو مطلق لا يعم ولكن يشيع فإذا عمل به في موضع لا يكون فيما عداه، ويقيد بأدنى دليل كاف وثبت دليل سد الذرائع، فيمنع الشراء من نفس المشتري.انظر: بن حجر العسقلاني: فتح الباري بشرح صحيح البخاري (4/468).
دليلهم من الأثر:
1_ عن مجاهد قال: " أن رجلا باع من رجل سرجا ولم ينقد ثمنه فأراد صاحب السرج الذي اشتراه أن يبيعه فأراد الذي باعه أن يأخذه بدون ما باعه منه فسأل عن ذلك بن عمر فلم ير به بأسا وقال بن عمر" فلعله لو باعه من غيره باعه بذلك الثمن أو انقص" رواه البيهقي: في السنن الكبرى: كتاب البيوع – باب الرجل يبيع الشيء إلى أجل..رقم:10802،(5/541). و ابن حزم: المحلى: ( 9/51).
2 _ عن ابن سيرين أن رجلا باع من رجل فقال:" أقبل مني بعيرك وثلاثين درهما فسألوا شريحا فلم ير بذلك بأسا" رواه البيهقي: في السنن الكبرى: كتاب البيوع – باب الرجل يبيع الشيء إلى أجل رقم: 10802،(5/541). وروي كذلك على ابن سيرين أنه قال: لا بأس بان يشتري الشيء إلى أجل ثم يبيعه من الذي اشتراه منه بأقل من الثّمن إذا قاصصه." ابن حزم: المحلى( 9/51)
وجه الاستدلال:
قالوا هذه أقوال التابعين تزيد من بيان جواز العينة. المصدر السابق: نفس الجزء والصفحة.
دليلهم من القياس: _ القياس على بقية البيوع الجائزة ؛ لأن البيع وقع من أهله في محله باكتمال شروطه وأركانه فهو بيع صحيح . والبيعة الثانية غير البيعة الأولى. الشافعي: الأم (10/160-161). والسّبكي: تكملة المجموع (10/141).
ونوقش هذا الدليل: أنه قياس مقابل النص.
وكذلك هناك بيوع تتوفر فيها أركان البيع وهي فاسدة، وهنا الشروط غير متوفرة لوجود النّهي، والدليل المحرم مقدم على المبيح، مع أنّ الشّافعي اتبع الأصل وهو الإباحة. انظر: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد: مجلة البحوث الإسلامية(14/270)
الذي يظهر بعد ذكر أدلة كل فريق، ومناقشة أدلة كل فريق أنّ العينة من العقود المحرمة وهذا راجع لقوة أدلة الجمهور وصراحتها بخلاف أدلة الشّافعية، وكذلك بيع العينة هو وسيلة للحرام، وما كان وسيلة للحرام فهو حرام، فالعينة حيلة للرّبا. وحتى إن لم يثبت دليل من السنة يحرمها فالقياس يدل على تحريمها كما ذكر أهل العلم.

المطلب الثاني:التعاملات الرّبوية الجارية عند المعاصرين صورها وحكمها.
في هذا المطلب سأذكر بعض المعاملات الرّبوية التّي تتعامل بها البنوك سواء في بلاد الإسلام أو دول الكفر لأنّ النّظام فيها واحد؛ مبني على التّجارة في الأموال وبيع المال بالمال.
الفرع الأول: القرض الإنتاجي الرّبوي.
إنّ القروض الرّبوية في العصر الحديث، تنقسم إلى قسمين ؛ قرض استهلاكي، وقرض استثماري أو الإنتاجي.
فلأول القرض الاستهلاكي: هو ما يحتاجه المدين، لأجل شراء أشياء لحاجاته الضرورة، كشراء أكل وألبسة وغير ذلك فهذا محرم بلا خلاف.
وأما الثّاني وهو القرض الإنتاجي: يستعمل القرض في التجارة في الرّبح والتّنمية. وهذا الثّاني كذلك هو محرم والخلاف فيه غير معتبر؛ لكون أدلة وحجج المخالف واهية فلا أذكر هذا القول؛ وإنما أبين الصورة والحكم.
الفقرة الأولى: صورة القرض الإنتاجي.
هو منح البنك للعميل قرضا، على استعمال هذا القرض في نوع من أنواع الإستثمار، على تحديد فائدة ثابتة على رأس المال. انظر: الدكتور علي السالوس:الاقتصاد الإسلامي والقضايا الفقهية المعاصرة.ص(111)
الفقرة الثّانية: حكم القرض الإنتاجي.
الفوائد الناتجة على القروض سواء كانت استهلاكية أو إنتاجية فهي محرمة لدخولها في مسمى الرّبا المحرم بالكتاب والسّنة، ولهذا أجمع عليها كبار علماء المسلمين، المشتركين في المؤتمر الثّاني لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة سنة 1384ه- (1965م).حيث أفتوا بأنّ:
" الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لافرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي." المصدر السابق ص 113. ولا عبرة لبعض الأقوال المجيزة لهذا النوع لشبه واهية.
والحرمة ظاهرة فهي راجعة للزيادة التّي على رأس المال وهذا داخل في ربا الدّيون الذي ذكرناه في المعاملات عند المتقدمين، وعند العرب كان مفهموم الإنتاجي متداولا أكثر على الاستهلاكي.
الفرع الثّاني: أذونات الخزانة.
الفقرة الأولى: تعريف أذونات الخزانة.
هي أدوات دين قصيرة الأجل، تصدرها الحكومة؛ لغرض الاقتراض، وتتراوح فترة استحقاقها ما بين ثلاثة أشهر، واثني عشر شهرا.
وهي لا تحمل سعر فائدة محدد، وإنما تباع بخصم، أي بسعر يقل عن قيمتها الاسمية، على أن يسترد مشتريها قيمتها الاسمية في تاريخ الاستحقاق.
الفقرة الثّانية: آليات سير أذونات الخزانة.
أولا : الفائدة الحاصلة للمقرض، تكون نتيجة الفرق بين ما دفعه عند شراء الورقة ثمنا لها، وبين قيمتها الاسمية التّي يقبضها في تاريخ الاستحقاق.
ثانيا: يتم بيعها عن طريق المزاد؛ حيث يقوم البنك المركزي في الدّولة بعرضها على المستثمرين، الذين هم في العادة من المؤسسات المالية الكبيرة، كالبنوك التّجارية، وشركات التّأمين، والمتاجرين في هذا النّوع من الأدوات المالية، وبيعها لمن يقدم السّعر الأعلى، ثم الأقل فلأقل.
ثالثا: ولمن أراد الاتجار في هذه الوراق يدخل في السّوق الثّانوية، ويبيعونها بربح؛ حيث يبيعون بسعر خصم أقل، ويشترون بسعر بخصم أعلى.
الفقرة الثّالثة: حكم أذونات الخزانة.
بعد عرض صورة المعاملة وآلياتها التّي يظهر منها جليا أنها مبنية على الفائدة من تأخير أو دين.
وبشيء من التفصيل تمنع هذه المعاملة، بناء على كونها سندات بمبالغ تلتزم الحكومة بدفعها أجلا لمن يدفع ثمنا حالان وأنّ الغرض من إصدارها أنّ تحصل الحكومة على الأموال اللازمة لتمويل نفقاتها الحالية. أنظر: مبارك بن سليمان ال سليمان: أحكام التّعامل في الأسواق المالية المعاصرة ص(267-271)
ومن هذا نستنتج أن إصدار أذون الخزانة وبيعها للمستثمرين لا يخرج في تكييفه الفقهي فيما يظهر على محملين:
المحمل الأول: أن يكون اقتراضا بفائدة، حيث يتمثل القرض في المبلغ الذي يدفعه المشتري ثمنا للإذن، وتتمثل الفائدة في الفرق بين هذا المبلغ وبين قيمة الإذن الاسمية، التّي يقبضها المشتري في تاريخ الاستحقاق.
المحمل الثّاني: أن يكون من بيع النّقود بالنّقود، أي بيع نقود مؤجلة ( وهي قيمة الإذن الاسمية التّي تلتزم الحكومة بدفعها في تاريخ الاستحقاق) بنقود حالة أقل منها( وهي ما يدفعه مشتري الإذن ثمنا له وقت العقد).
والبيع هنا لإيراد به الإذن نفسه وإنما المراد منه النّقود.
وعلى أي هذين المحملين يكون الإذن محرما على التّقديرين:
على التقدير الأول: فهو قرض جر منفعة فهو محرم. والقاعدة الفقهية المتفق عليها (كل قرض جر منفعة فهو ربا). انظر: السيد الحموي: غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي(3/98).
وعلى التّقدير الثّاني: يكون إصدار أذون الخزانة مشتملا على ربا النسيئة المجمع على تحريمه؛ لأن من شرط بيع النّقود عندما تباع بنقود جنسها: التّماثل، والحلول، والتّقابض في مجلس العقد.
وهذه الشروط مفتقدة في بيع أذون الخزانة فيحرم ذلك. وهناك من أجاز أذون الخزانة، لمصالح عامة بعيدة عن الدليل الصحيح كالدكتور محمد سيد الطنّطاوي انظر: مبارك بن سليمان: أحكام التعامل في الأسواق المالية المعاصرة ص(271).
الفرع الثّالث: شهادات الإيداع القابلة للتداول أنواعها و آليات سيرها وحكمها.
هذه الشهادات لها علاقة مع الودائع البنكية، ولهذا لابد من تعريف الوديعة المصرفية ومعرفة أنواعها.
الفقرة الأولى: تعريف الوديعة المصرفية: هي النّقود الذي يعهد بها الأفراد أو الهيئات إلى البنك، على أن يتعهد الأخير برد مبلغ مساو لها إليهم لدى الطلب، أو بالشروط المتفق عليها. انظر: مبارك بن سليمان: أحكام التعامل في الأسواق المالية المعاصرة ص(378).
الفقرة الثّانية: أنواع الوديعة المصرفية الرّئيسية. المصدر السابق ص(378-379).
النّوع الأول: الوديعة تحت الطلب ( الوديعة الجارية).
وهي المبالغ النّقدية التّي يودعها أصحابها لدى المصرف، على أنّ يردها لهم متى طلبوها منه.
وهذا النّوع لا تعطي عليه المصارف فوائد في العادة، وقد تعطي عليه فائدة ضئيلة.
النّوع الثّاني: الوديعة لأجل.
وهي المبالغ النّقدية التّي يودعها أصحابها في المصرف إلى أجل معين، على أنّ لا يكون لهم الحق في سحبها أو سحب أو سحب جزء منها إلا بعد انقضاء ذلك الأجل.
وتعطي المصارف على هذا النّوع فوائد تزيد كلما زادت مدة الإيداع.
النّوع الثّالث: الوديعة بشرط الإخطار.
وهي المبالغ النّقدية التّي يودعها أصحابها لدى المصرف، على أنّ لا يقوم بسحبها إلا بعد إعلام المصرف بذلك قبل وقت السحب بمدة محددة، متفق عليها مع المصرف مسبقا.
وتعطي البنوك على هذا النّوع فوائد أيضا، لكنها اقل من النّوع السّابق.
بعد أن ذكرت تعريف الوديعة و أنواعها سأذكر تعريفا شهادات الإيداع القابلة للتداول وحكمها.
الفقرة الثّالثة: تعريف شهادة الإيداع:
هي ورقة مالية، تثبت أنّ لحاملها وديعة لدى المصارف، أو المؤسسة المالية التّي أصدرتها بالقيمة الاسمية المدونة عليها.
وهي من أدوات الدين قصيرة الأجل، تصدرها البنوك التّجارية؛ لغرض تشجيع المستثمرين على الإيداع لديها، ولهذا فهي تصدر بقيم مختلفة وأجال متفاوتة، لا تتجاوز السنة في الغالب.
وتحمل شهادات الإيداع:
1_ قيمة اسمية محددة بمقدار الوديعة.
2_ تاريخ استحقاق محدد.( موعد أخذ الفائدة).
3_ سعر الفائدة، يكون ثابتا وقد يكون متغيرا.
ومنه يحصل المودع في تاريخ الاستحقاق على القيمة الاسمية للشهادة، بالإضافة إلى الفائدة المتفق عليها.
الفقرة الرّابعة: كيفية تسويق شهادة الإيداع. انظر: مبارك بن سليمان: أحكام التعامل في الأسواق المالية المعاصرة ص (380-381)
يتم تسويق شهادة الإيداع بأحد الأسلوبين:
الأول: الإصدار العام؛ وذلك بدعوة الجمهور للاكتتاب فيها.
الثّاني: الإصدار الخاص؛ وذلك بأن يتم إصدارها بناء على طلب مسبق من قبل مجموعة من المودعين، بشروط متفق عليها بينهم وبين المصرف المصدر لها.
وتتميز شهادات الإيداع من نوع الودائع لأجل التي لا يحق استردادها قبل تاريخ الاستحقاق.
الفقرة الخامسة: حكم شهادات الإيداع.
بعد أنّ قدمنا مفهموم الودائع البنكية وتعلق الشهادة بها وذكرت أنواع الودائع البنكية يظهر منها أنها على الحقيقة هي قروض وليست ودائع بالمعنى المعروف للوديعة وبخاصة الوديعة لأجل؛ بحيث يستعمل البنك الوديعة بإذن صريح من المودع أو إذن عرفي، وبالتالي تكون مضمونة على البنك ودينا في ذمته وبهذا تتحول إلى قرض وليست وديعة، لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعانين لا بالألفاظ و المباني. انظر:علي السالوس: الاقتصاد الإسلامي والقضايا الفقهية المعاصرة.ص(166).

وبذلك يتبين أن تطبيق القواعد الفقهية والمفاهيم الشّرعية على الودائع المصرفية يقضي بتخريج تلك الودائع على أنّها قروض، وبالتّالي تلحق بأحكام القرض، ومن ذلك عدم جوازه بزيادة، وعليه فيحرم إصدار شهادات الإيداع القابلة للتداول لأنها قرض بزيادة، وهو الرّبا المحرم، أي ربا الديون.
وعند التّداول يدخلها ربا النّسيئة كذلك وهو من منطلق مشتري الشهادة هو المودع وبائع الشهادة اشترى مالا من المودع إلى أجل وهو مال ربوي بجنسه مع التفاضل وعدم التّقابض.
ومن هنا ندرك الفتوى التّي خرج بها العلماء المشتركون في المؤتمر الثّاني لمجمع البحوث الإسلامية بعد دراسة البحوث المقدمة: قرر في البيان الذي صدر عن المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة الذي انعقد في شهر محرم (1385هـ/ مايو 1965م)
(أ) الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم ، لا فرق في ذلك ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي ؛ لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين.
(ب) كثير الربا وقليله حرام كما يشير إلى ذلك الفهم الصحيح في تحريم النوعين.
(جـ) الإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك، ولا يرتفع إثمه عن المقترض إلا إذا دعت الضرورة.
(د) أعمال البنوك من الحسابات الجارية وصرف الشيكات وخطابات الاعتماد والكمبيالات التداخلية، التي يقوم عليها العمل بين المتاجر والبنوك في الداخل ، كل هذا من المعاملات المصرفية الجائزة ، وما يؤخذ في نظير هذه الأعمال ليس من باب الربا.
(هـ) الحسابات ذات الأجل وفتح الاعتماد بفائدة وسائر أنواع الإقراض نظير فائدة ، كلها من المعاملات الربوية ، وهي محرمة. أنظر: مبارك بن سليمان: أحكام التعامل في الأسواق المالية المعاصرة ص(385). علي السالوس: الاقتصاد الإسلامي والقضايا الفقهية المعاصرة.ص(167).

أسأل الله العظيم أن تكون هذه المشاركة خالصة لله عزوجل وأن تكون نافعة لي ولإخواني طلبة العلم، والحمد لله بفضله ومنه تتم الصّالحات.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 30 Mar 2015, 07:55 AM
أبو البراء
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي

مشاركة نافعة.
بارك الله فيك وفي جهدك، ووفَّقك لما فيه صلاح الدارين.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 01 Apr 2015, 11:49 PM
أبو صهيب منير الجزائري أبو صهيب منير الجزائري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Jul 2014
المشاركات: 208
افتراضي

بارك الله فيك أنت كذلك على جهدك في هذا المنتدى وفي سائر الأعمال التّي تقدمها نفع الله بك ووفقنا الله لما يحبه ويرضاه
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 03 Apr 2015, 09:19 AM
عبد الله سنيقرة عبد الله سنيقرة غير متواجد حالياً
عفا الله عنه
 
تاريخ التسجيل: Oct 2012
المشاركات: 268
افتراضي

موفق أخي منير جزاك الله خيرا
لكن حبذا لو جعلت الموضوع من حلقتين أو أكثر فغالب القراء ينفرون من المقالات الطويلة
و لعل ذلك يراعى في مقالاتك القادمة المفيدة .
بالتوفيق .
( وأستسمح من إخواني المشرفين إن كان ذلك تدخلا في صلاحياتهم )
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 03 Apr 2015, 03:28 PM
أبو عبد الرحمن محمد الجزائري أبو عبد الرحمن محمد الجزائري غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: May 2014
الدولة: الجزائر
المشاركات: 241
افتراضي

موفق أخي منير .. وملاحظتك أخي عبد الله في محلّها ..
لكن رغم طول مقالك إلاّ أنّك كتبت بأسلوب شيق لا يبعث على الملل ؛
فجزاك الله أخي على هذا الطرح الحسن ، وبارك الله للجميع .
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
مميز, مسائل, الربا, فقه

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013