منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 20 May 2019, 07:39 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 364
افتراضي مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَيُوجِبُ الكَفَّارَةَ.











مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَيُوجِبُ الكَفَّارَةَ


لفضيلة الشّيخ محمّد بن صالح العثيمين رحمه الله .


مَنْ أَكَلَ،.......

قوله: «باب ما يفسد الصوم» أي: يبطله، والصّوم يشمل الفرض والنّفل.

والعلماء ـ رحمهم الله ـ لهم أساليب في تسمية الأبواب معناها واحد، ولكن تختلف لفظاً،

- ففي الوضوء يسمّون المّفسدات : نواقض

-وفي الغُسْلِ يسمّونها مُوجِبَات الغُسْل،

- وفي باب الصّلاة يسمّونها مُبْطِلات الصلاة،

- وفي الصّوم يسمّونها مُفسدات الصّوم،

-وفي باب الإحرام يسمّونها محظورات الإحرام،

وكلّ هذه، المعنى فيها واحد.

والمُفسد للصّوم يُسمّى عند العلماء المُفْطِرات، وأصولها ثلاثة ذكرها الله ـ عزّ وجل ـ في قوله: {{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}} [البقرة: 187] .

وقد أجمع العلماء على أنّ هذه الثلاثة تُفْسِد الصّوم، وما سوى ذلك سيأتي إن شاء الله الكلام عليه.


***قوله: «ويُوجِب الكفّارة»

الكفّارة «الـ» هنا للعهد الذّهني، فهي الكفّارة المعروفة: عتق رقبة، فإن لم يجد فـصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فـإطعام ستين مسكيناً.


**قوله: «مَن أكل»

«مَن» هذه شرطيّة وجوابه قوله «فسد صومه» ،

والأكل هو إدخال الشيء إلى المعدة عن طريق الفم.


وقولنا إدخال الشيء يشمل ما ينفع وما يضرّ ، وما لا يضر ولا ينفع،

-فـما ينفع : كاللّحم والخبز وما أشبه ذلك،

ما يضرّ : كأكل الحشيشة ونحوها،

ما لا نفع فيه ولا ضرر مثل أن يبتلع خرزة سبحة أو نحوها؛

ووجه العموم إطلاق الآية {{كُلُوا وَاشْرَبُوا}} وهذا يُسَمَّى أكلاً.

وقال بعض أهل العلم: إِنَّ ما لا يُغَذِّي لا فطر بأكله،

وبناءً على هذا فإنّ بلع الخرزة أو الحصاة أو ما أشبههما لا يفطر.

والصّحيح أنّه عام، وأنّ كلّ ما ابتلعه الإنسان من نافع أو ضار، أو ما لا نفع فيه ولا ضرر فإنّه مفطر لإطلاق الآية.


**أَوْ شَرِبَ أوْ اسْتَعَطَ،........

قوله: «أو شَرِبَ» الشُّرْبُ يشمل ما ينفع وما يضرّ، وما لا نفع فيه ولا ضرر،

فكلّ ما يُشْرَب من ماء، أو مرق، أو لبن، أو دم، أو دخان، أو غير ذلك، فإنّه داخل في قول المؤلف «أو شَرِبَ» .

ويلحق بالأكل والشُّرْب ما كان بمعناهما، كالإبر المُغذّية التي تغني عن الأكل والشرب.


**قوله: «أو استعط» أي: تناول السّعوط،

والسّعوط ما يصل إلى الجوف عن طريق الأنف، فإنّه مفطر، لأنّ الأنف منفذ يصل إلى المعدة، ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» [(356)]

وهذا يدل على أنّ الصّائم لا يبالغ في الإستنشاق، ولا نعلم لهذا علّة إلاّ أنّ المبالغة تكون سبباً لوصول الماء إلى المعدة، وهذا مُخِل بالصّوم،

وعلى هذا فنقول: كلّ ما وصل إلى المعدة عن طريق الأنف أو الفم فإنّه مفطر.



**أوْ احْتَقَنَ،...........

قوله: «أو احتقن» الإحتقان هو إدخال الأدوية عن طريق الدُّبُر، وهو معروف، ولا يزال يعمل، فإذا احتقن فإنّه يفطر بذلك، لأنّ العلّة وصول الشيء إلى الجوف،

والحقنة تصل إلى الجوف، أي: تصل إلى شيء مجوف في الإنسان، فتصل إلى الأمعاء فتكون مفطرة، فإذا وصل إلى الجوف شيء عن طريق الفم، أو الأنف، أو أي منفذ كان، فإنّه يكون مفطراً، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد[(357)]، وعليه أكثر أهل العلم.


وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: لا فطر بالحقنة، لأنّه لا يطلق عليها اسم الأكل والشُّرْب لا لغةً ولا عرفاً، وليس هناك دليل في الكتاب والسُّنَّة، أن مناط الحكم وصول الشيء إلى الجوف،

ولو كان لقلنا: كلّ ما وصل إلى الجوف مِنْ أيّ مَنْفَذ كان فإنّه مفطر، لكن الكتاب والسُّنّة دَلاَّ على شيء معين وهو الأكل والشُّرْب.

وقال بعض العلماء المعاصرين: إنّ الحقنة إذا وصلت إلى الأمعاء فإنّ البدن يمتصّها عن طريق الأمعاء الدقيقة، وإذا امتصّها انتفع منها، فكان ما يصل إلى هذه الأمعاء الدقيقة كالّذي يصل إلى المعدة من حيث التَّغذّي به، وهذا من حيث المعنى قد يكون قوياً.

لكن قد يقول قائل: إن العلّة في تفطير الصّائم بالأكل والشُّرْب ليست مجرد التّغذية، وإنّما هي التّغذية مع التّلذّذ بالأكل والشُّرْب،

فتكون العلّة مركبة من جزأين:

أحدهما: الأكل والشُّرْب.

الثاني: التّلذّذ بالأكل و الشُّرْب لأنّ التّلذّذ بالأكل والشُّرْب ممّا تطلبه النّفوس،

والدليل على هذا أنّ المريض إذا غذي بالإبر لمدة يومين أو ثلاثة، تجده في أشدّ ما يكون شوقاً إلى الطعام والشراب مع أنّه متغذٍ.

فإن قيل: ينتقض قولكم إنّ العلّة مركّبة من جزأين إلى آخره أنّ السّعوط مفطر مع أنّه لا يحصل به تلذذ بالأكل والشُّرْب.

فالجواب : أنّ الأنف منفذ معتاد لتغذية الجسم، فألحق بما كان عن طريق الفم.

وبناء على هذا نقول: إنّ الحقنة لا تفطر مطلقاً، ولو كان الجسم يتغذّى بها عن طريق الأمعاء الدقيقة.

فيكون القول الرّاجح في هذه المسألة قول شيخ الإسلام ابن تيمية مطلقاً، ولا التفات إلى ما قاله بعض المعاصرين.

ومن الحقن المعروفة الآن ما يُوضع في الدُّبُر عند شِدَّة الحُمَى، ومنها أيضاً ما يدخل في الدُّبُر من أجل العلم بحرارة المريض وما أشبه ذلك، فكل هذا لا يفطر.


ثم لدينا قاعدة مهمّة لطالب العلم، وهي أنّنا إذا شككنا في الشّيء أمفطر هو أم لا؟ فالأصل عدم الفطر،

فلا نجرؤ على أن نفسد عبادة متعبّد لله إلاّ بدليل واضح يكون لنا حجة عند الله عزّ وجل.


***أوْ اكْتَحَلَ بِمَا يَصِلُ إِلَى حَلْقِهِ، أوْ أدْخَلَ إِلَى جَوْفِهِ شَيْئاً مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ .......

قوله: «أو اكتحل بما يصل إلى حلقه» الكُحل معروف، فإذا اكتحل بما يصل إلى الحلق فإنّه يفطر، لأنّه وصل إلى شيء مجوف في الإنسان وهو الحلق، هذا هو تعليل مَن قال إنّ الكُحل يفطر

ولكن في هذا التّعليل نظر، ولذلك ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ إلى أنّ الكُحل لا يفطر ولو وصل طعم الكُحل إلى الحلق[(358)]،

وقال: إنّ هذا لا يُسمّى أكلاً وشرباً، ولا بمعنى الأكل والشُّرْب، ولا يحصل به ما يحصل بالأكل والشُّرْب، وليس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث صحيح صريح يدل على أنّ الكحل مفطر، والأصل عدم التفطير، وسلامة العبادة حتّى يثبت لدينا ما يُفسدها، وما ذهب إليه ـ رحمه الله ـ هو الصّحيح.

وبناءً على هذا لو أنّه قطّر في عينه وهو صائم فوجد الطّعم في حلقه، فإنّه لا يفطر بذلك أمّا إذا وصل طعمها إلى الفم وابتلعها فقد صار أكلاً وشرباً.


**قوله: «أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان»

قوله: «إلى جوفه» أي: إلى مجوف في بدنه كحلقه وبطنه وصدره، والمراد أنّه يفطر بذلك،

فلو أنّ الإنسان أدخل منظاراً إلى المعدة حتى وصل إليها، فإنّه يكون بذلك مفطراً.

والصحيح أنّه لا يفطر إلا أن يكون في هذا المنظار، دهن أو نحوه يصل إلى المعدة بواسطة هذا المنظار فإنّه يكون بذلك مفطراً، ولا يجوز استعماله في الصّوم الواجب إلاّ للضّرورة.

ولو أن الإنسان كان له فتحة في بطنه، وأدخل إلى بطنه شيئاً عن طريق هذه الفتحة، فعلى المذهب يفطر بذلك كما لو داوى الجائفة، والصحيح أنّه لا يفطر بذلك إلاّ أن تجعل هذه الفتحة بدلاً عن الفم بحيث يدخل الطعام والشراب منها لانسداد المرئ أو تقرحه، ونحو ذلك فيكون ما أدخل منها مفطراً كما لو أدخل من الفم، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.


***غَيْرَ إحْلِيلِهِ، أوِ اسْتَقَاءَ أوْ اسْتَمْنَى، أَوْ بَاشَرَ فَأَمْنَى، أَوْ أَمْذَى، أو كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَلَ،.........


-وقوله: «غير إحليله» أي: قناة الذكر، فلو أدخل عن طريق الذكر خيطاً فيه طعم دواء فإنّه لا يفطر؛ لأنّ الذكر لا يصل إلى الجوف ما دخل عن طريقه، فإنّ البول إنّما يخرج رشحاً،

هكذا علّل الفقهاء ـ رحمهم الله ـ ومرادهم بذلك أنّ البول يجتمع في المثانة عن طريق الرشح؛ لأنّه ليس لها إلاّ منفذ واحد.

والحمد لله نحن في غنى عن هذه التّعليلات من الأصل إذا أخذنا بالقول الراجح، وهو أن المفطر هو الأكل والشُّرْب، وما أدخل من طريق الإحليل فإنّه لا يُسَمَّى أكلاً ولا شرباً،

وإذا كانت الحقنة وهي التي تدخل عن طريق الدبر لا تفطر على القول الراجح، فما دخل عن طريق الإحليل من باب أولى.


-قوله: «أو استقاء» أي: استدعى القيء، ولكن لا بد من قيء، فلو استدعى القيء ولكنّه لم يقئ فإنّ صومه لا يفسد، بل لا يفسد إلاّ إذا استقاء فقاء، ولا فرق بين أن يكون القيء قليلاً أو كثيراً.

أمّا ما خرج بالتّعتعة من الحلق فإنّه لا يفطر، فلا يفطر إلاّ ما خرج من المعدة، سواء كان قليلاً أو كثيراً، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنِ استقاء عمداً فَلْيَقْضِ، ومَنْ ذرعه القيء فلا قضاء عليه» [(359)]،

«ذرعه» أي: غلبه.

واستدعاء القيء له طرق: النّظر، الشّم، والعصر، والجذب، وربّما نقول السّمع أيضاً.


-أمّا النّظر: فكأن ينظر الإنسان إلى شيءٍ كريهٍ فتتقزّز نفسه ثم يقيء.

-وأمّا الشّم: فكأن يشم رائحة كريهة فيقيء.

-وأمّا العصر: فكأن يعصر بطنه عصراً شديداً إلى فوق ثم يقيء.

-وأمّا الجذب: بأن يدخل أصبعه في فمه حتّى يصل إلى أقصى حلقه ثم يقيء.

-أمّا السّمع: فربّما يسمع شيئاً كريهاً.


وقال بعض العلماء: إنّه لا فطر في القيء ولو تعمّده بناءً على قاعدة قعّدوها، وهي: «الفطر ممّا دخل لا ممّا خرج، والوضوء ممّا خرج لا ممّا دخل»، وضعّفوا حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ وقالوا: إنّه مخالف للقياس مع ضعف سنده،

والجواب: أن يقال أين الدّليل على هذه القاعدة، فهذا لحم الإبل ينقض وهو داخل، فسيقولون لا ينقض الوضوء إلاّ على مذهب الإمام أحمد فقاعدتنا سليمة، قلنا لهم: إنزال المني من الصائم خارج، ويفسد الصوم.

والصّواب :

أنّ القيء عمداً مفطر، لأن الحديث دل عليه والقاعدة التي أسّسوها غير صحيحة، والحكمة تقتضي أن يكون مُفطراً؛ لأنّ الإنسان إذا استقاء ضعف واحتاج إلى أكل وشُرْب

فنقول له لا يحل لك في الصّوم الواجب سواء رمضان أو غيره أن تتقيّء إلاّ للضّرورة،

فإن اضطررت إلى القيء فتقيّأ ثم أعد على بدنك ما يحصل به القوة من الأكل و الشُّرْب،

فهذا القول كما هو مقتضى الحديث فهو مقتضى النّظر الصّحيح، أمّا رأيهم فهو يعارض النّص، والرأي المقابل للنص المعارض له فاسد لا عبرة به،
ونقول لصاحبه: أأنت أعلم أم الله؟ فما دام هذا حكم الله فإنّه خير من الرأي.


-قوله: «أو استمنى» .

أي: طلب خروج المني بأي وسيلة، سواء بيده، أو بالتّدلّك على الأرض، أو ما أشبه ذلك حتّى أنزل،
فإنّ صومه يفسد بذلك، وهذا ما عليه الأئمة الأربعة ـ رحمهم الله ـ مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد.

وأبى الظّاهرية ذلك وقالوا: لا فطر بالإستمناء ولو أمنى[(360)]، لعدم الدليل من القرآن والسُّنّة على أنّه يفطر بذلك، فإن أصول المفطرات ثلاثة، وليس هذا منها فيحتاج إلى دليل، ولا يمكن أن نفسد عبادة عباد الله إلاّ بدليل من الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم).

ولكن عندي والله أعلم أنّه يمكن أن يستدل على أنّه مفطر من وجهين:

الوجه الأوّل : النّص: فإن في الحديث الصحيح أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال في الصّائم: «يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي» [(361)]

والاستمناء شهوة، وخروج المني شهوة، والدّليل على أن المني يطلق عليه اسم شهوة قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وِزْر، كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» [(362)] والذي يوضع هو المني.

الوجه الثاني: القياس، فنقول: جاءت السُّنَّة بفطر الصّائم بالإستقاء إذا قاء، وبفطر المحتجم إذا احتجم وخرج منه الدم، وكلا هذين يضعفان البدن.

أمّا خروج الطّعام فواضحٌ أنّه يضعف البدن، لأنّ المعدة تبقى خالية فيجوع الإنسان ويعطش سريعاً.

وأمّا خروج الدم فظاهر أيضاً أنّه يضعف البدن، ولهذا ينصح مَن احتجم أو تبرّع لأحد بدم من جسمه، أن يبادر بالأكل السّريع الهضم والسّريع التّفرّق في البدن، حتّى يعوّض ما نقص من الدم، وخروج المني يحصل به ذلك فيفتر البدن بلا شك، ولهذا أمر بالاغتسال ليعود النشاط إلى البدن، فيكون هذا قياساً على الحجامة والقيء،

وعلى هذا نقول: إنّ المني إذا خرج بشهوة فهو مفطر للدليل والقياس.



**قوله: «أو باشر فأمنى» أي: باشر زوجته سواء باشرها باليد، أو بالوجه بتقبيل، أو بالفرج، فإنّه إذا أنزل أفطر، وإذا لم يُنزل فلا فطر بذلك.

ونقول في الإنزال بالمباشرة ما قلنا في الإنزال بالاستمناء: إنّه مفطر.

وعلم من كلام المؤلف، أنّه لو استمنى بدون إنزال فإنّه لا فطر، وأنّه لو باشر بدون إنزال فإنّه لا فطر في ذلك أيضاً، وسيأتي بيان حكم المباشرة.


**قوله: «أو أمذى» أي: فإنّه يفطر، والمذي هو ماء رقيق يحصل عقيب الشهوة بدون أن يحس به الإنسان عند خروجه، وهو بين البول والمني من حيث النجاسة،

فالمني طاهر موجب لغسل جميع البدن، والبول نجس موجب لغسل ما أصاب من البدن والملابس، والمذي يوجب غسل الذكر والأنثيين، ولا يوجب الغسل إذا أصاب الملابس، بل يكفي فيه النّضح كما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك[(363)].

فالمذهب أنّ خروج المذي مفسد للصوم كالمني، أي: إذا استمنى فأمذى، أو باشر فأمذى فإنّه يفسد صومه،

والذين يقولون لا يفسد بالمني يقولون لا يفسد بالمذي من باب أولى،

والذين يقولون إنّ الصوم يفسد بالمني اختلفوا في المذي على قولين:

فالمذهب أنّه يفطر، ولا دليل له صحيح،

والصّحيح القول الثاني أنّه لا يفطر؛ لأن المذي دون المني لا بالنّسبة للشّهوة ولا بالنسبة لانحلال البدن، ولا بالنسبة للأحكام الشرعية حيث يخالفه في كثير منها بل في أكثرها أو كلّها، فلا يمكن أن يلحق به.

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ والحجة فيه عدم الحجة، أي عدم الحجة على إفساد الصوم به؛ لأنّ هذا الصّوم عبادة شرع فيها الإنسان على وجه شرعي فلا يمكن أن نفسد هذه العبادة إلا بدليل.


**قوله: «أو كرّر النّظر فأنزل» يعني فإنّه يفسد صومه، وتكرار النّظر يحصل بمرّتين، فإن نظر نظرة واحدة فأنزل لم يفسد صومه لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لك الأولى وليست لك الثانية» [(364)]،

ولأنّ الإنسان لا يملك أن يجتنب هذا الشيء، فإنّ بعض الناس يكون سريع الإنزال وقوي الشّهوة، إذا نظر إلى امرأته أنزل، ولو قلنا: إنه يفطر بذلك لكان فيه مشقّة.

فصار النّظر فيه تفصيل، إن كرّره حتّى أنزل فسد صومه، وإن أنزل بنظرة واحدة لم يفسد، إلاّ أن يستمر حتّى ينزل فيفسد صومه، لأنّ الإستمرار كالتّكرار، بل قد يكون أقوى منه في استجلاب الشّهوة والإنزال.


-وأمّا التّفكير بأن فكّر حتّى أنزل فلا يفسد صومه، لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تجاوز عن أمّتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلّم» [(365)] إلاّ إن حصل معه عمل يحصل به الإنزال كعبث بذكره ونحوه.



والخلاصة:


-أوّلاً: المباشرة إذا أنزل فيها، فسد صومه وكذلك إذا أمذى على المذهب.

ثانياً: النّظر. إن كان واحدة فأنزل أو أمذى فلا شيء عليه في ذلك، وإن كرّر فأمذى فلا شيء في ذلك، وإن كرَّر فأنزل فسد صومه.

وهنا فرَّق المؤلف ـ رحمه الله ـ بين الإمذاء والإمناء، فإذا كرّر النّظر فَأَمْذَى فلا يفسد صومه، وإذا كرّره فَأَمْنَى فسد صومه.

والصّواب أنّه لا فرق بينهما في هذه الحال الثانية وغيرها، وأنّه لا يفسد صومه بالإمذاء مطلقاً سواء كان بمباشرة أو بنظر.


ثالثاً: التّفكير لا يفسد به صومه سواءٌ أمنى أو أمذى على ما سبق.


مسألة:


لو تحدّث الرّجل مع امرأته حتّى أنزل هل نلحقه بالمباشرة فنقول: يفسد صومه أو نلحقه بالنظر؟

الظّاهر أنّه يلحق بالنّظر فيكون أخف من المباشرة، وعليه يلحق تكرار القول بتكرار النظر، فإن الإنسان مع القول قد يكون أشدّ تلذّذاً من النّظر.


***أَوْ حَجَمَ أوْ احْتَجَمَ وَظَهَرَ دَمٌ ..........

قوله: «أو حجم أو احتجم وظهر دم»

«حجم» أي: حجم غيره.

«احتجم» بمعنى طلب مَن يحجمه، فإذا حجم غيره أو احتجم، وظهر دم فسد صومه، فإن لم يظهر دم، لكون المحجوم قليل الدم ولم يخرج منه شيء لم يفسد صومه.

وظاهر قول المؤلف: «وظهر دم» أنّه لا فرق بين أن يكون الدم الظاهر قليلاً أو كثيراً، وسواء كانت الحجامة في الرأس، أو في الكتفين، أو في أي مكان من البدن.

ومواضع الحجامة وأوقاتها وأحوال المحجوم، ومن يمكن أن يحجم، ومن لا يمكن معروفة عند الحجامين،

ولهذا يجب على الإنسان إذا أراد الحجامة أن يحتاط، ويختار لمن يحجمه من هو معروف بالحِذْق، لئلا ينزف دمه من حيث لا يشعر.

وهذه المسألة اختلف العلماء فيها كثيراً وهي من مفردات الإمام أحمد، فأكثر أهل العلم يرون أنّ الحجامة لا تفطر ويستدلّون بالآثار والنّظر،

-فالآثار يقولون إنّه ثبت في البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم» [(366)]، واستدلوا أيضاً بأحاديث أخرى من رواية أنس وغيره وفي بعضها التّفصيل بأنّ الحجامة كانت من أجل الضعف[(367)]، ثم رخّص فيها،

واستدل القائلون بالإفطار بحديث شداد بن أوس وغيره أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» [(368)].

وهذا الحديث ضعّفه بعض أهل العلم، وقالوا: إنّه لا يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فمَن ضعّفه فإنّه لا يستدل به ولا يأخذ به، لأنّه لا يجوز أن يحتجّ بالضعاف على أحكام الله ـ عزّ وجل ـ،

ومن العلماء مَن صحّحه كالإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما من الحفاظ، وعلى هذا يكون الحديث حُجّة.

فإذا كان حُجّة وقلنا: إنّه يفطر بالحجامة الحاجم والمحجوم،

فما هي الحكمة؟

الجواب

قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ: إنّ هذا من باب التّعبّد[(369)]، والأحكام الشّرعية التي لا نعرف معناها تُسَمَّى عند أهل الفقه تعبّدية، بمعنى أنّ الواجب على الإنسان أن يتعبّد لله بها سواء عَلِمَ الحكمة أم لا.

ولكن هل لها حكمة معلومة عند الله؟

الجواب:

نعم لا شك، لأنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال: {{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}} [الممتحنة: 10]

فما من حكم من أحكام الشّريعة إلاّ وله حكمة عند الله ـ عزّ وجل ـ لكن قد تظهر لنا بالنص أو بالإجماع أو بالاستنباط، وقد لا تظهر لقصورنا، أو لتقصيرنا في طلب الحكمة.

وهذه الأحكام التّعبّدية لها أصل أشارت إليه أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ حين سألتها معاذة بنت عبد الله العدوية قالت: «ما بال الحائض تقضي الصّوم ولا تقضي الصّلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصّوم ولا نؤمر بقضاء الصّلاة» [(370)]

فوكّلت الأمر إلى حكم الله ورسوله، ولم تقل: لأنّ الصّلاة تتكرّر، والصّيام لا يتكرّر، وما أشبه ذلك ممّا ذكره الفقهاء،

ولأنّ المؤمن إذا قيل له: هذا حكم الله، انقاد، فهذه هي الحكمة لقول الله تعالى: {{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}} [الأحزاب: 36] .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ[(371)]: إنّ إفطار الصّائم بالحجامة له حكمة،

أمّا المحجوم فالحكمة هو أنّه إذا خرج منه هذا الدّم أصاب بدنه الضّعف، الذي يحتاج معه إلى غذاء لترتد عليه قوّته، لأنّه لو بقي إلى آخر النّهار على هذا الضّعف فربّما يؤثّر على صحّته في المستقبل، فكان من الحكمة أن يكون مفطراً، وعلى هذا، فالحجامة للصائم لا تجوز في الصيام الواجب إلاّ عند الضّرورة،

فإذا جازت للضّرورة جاز له أن يفطر، وإذا جاز له أن يفطر جاز له أن يأكل، وحينئذ نقول: احْتَجِمْ وكُلْ واشْرَبْ من أجل أن تعود إليك قوّتك وتسلم، ممّا يتوقع من مرض بسبب هذا الضّعف.

أمّا إذا كان الصّوم نَفْلاً فلا بأس بها، لأنّ الصّائم نفلاً له أن يخرج من صومه بدون عذر، لكنّه يكره لغير غرض صحيح.

وأمّا الحكمة بالنّسبة للحاجم، فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: إنّ الحاجم عادة يمصّ قارورة الحجامة، وإذا مصّها فإنّه سوف يصعد الدّم إلى فمه، وربّما من شدّة الشفط ينزل الدم إلى بطنه من حيث لا يشعر، وهذا يكون شُرْباً للدم فيكون بذلك مفطراً، ويقول: هذا هو الغالب ولا عبرة بالنادر.

وقوارير الحجامة عبارة عن قارورة من حديد يكون فيها قناة دقيقة يمصّها الحاجم، ويكون في فمه قطنة إذا مصّها سدّها بهذه القطنة؛ لأنّه إذا مصّها تفرّغ الهواء، وإذا تفرّغ الهواء فلا بد أن يجذب الدم، وإذا جذب الدم امتلأت القارورة ثم سقطت، وما دامت لم تمتلئ فهي باقية.

والحكمة إذا كانت غير منضبطة فإنّه يؤخذ بعمومها، ولهذا قال: لو أنّه حجم بآلات منفصلة لا تحتاج إلى مصّ، فإنّه لا يفطر بذلك.

أمّا الذين قالوا العلّة تعبّدية فيقولون: إنّ الحاجم يفطر، ولو حجم بآلات منفصلة لعموم اللفظ.

والذي يظهر لي ـ والعلم عند الله ـ أنّ ما ذهب إليه شيخ الإسلام أولى، فإذا حجم بطريق غير مباشر ولا يحتاج إلى مصّ فلا معنى للقول بالفطر، لأنّ الأحكام الشّرعية ينظر فيها إلى العلل الشرعية.

فإن قيل: العلّة إذا عادت على النّص بالإبطال دل ذلك على فسادها، وهذا حاصل في قول شيخ الإسلام إذا حجم الشخص بآلات منفصلة؟

فالجواب أن يقال: إنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم يتكلّم عن شيء معهود في زمنه، فتكون «أل» في «الحاجم» للعهد الذهني المعروف عندهم.

والقول بأنّ الحجامة مفطرة هو مذهب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ، وهو منفرد به عن المذاهب، وانفراد الإمام أحمد عن المذاهب لا يعني أنّ قوله ضعيف، لأنّ قوّة القول ليست بالأكثرية، بل تعود إلى ما دل عليه الشّرع، وإذا انفرد الإمام أحمد بقول دلّ عليه الشّرع فإنّه مع الجماعة[(372)].


مسألة:

هل يلحق بالحجامة الفصد، والشرط، والإرعاف، وما أشبه ذلك، كالتّبرع بالدم؟

الفصد: قطع العرق، والشرط: شق العرق.

فإن شققته طولاً فهو شرط، وإن شققته عرضاً فهو فصد.

فالمذهب لا يلحق بالحجامة، لأنّ الأحكام التّعبدية لا يُقَاس عليها، وهذه قاعدة أصولية فقهية «الأحكام التّعبدية لا يُقَاس عليها»، لأنّ من شرط القياس اجتماع الأصل والفرع في العلّة، وإذا لم تكن معلومة فلا قياس،

فيقولون: إنّ الفطر بالحجامة تعبّدي، فلا يلحق به الفصد والشرط والإرعاف ونحوها فتكون هذه جائزة للصائم فرضاً ونفلاً.

أمّا على ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أنّ علة الفطر بالحجامة معلومة، فيقول: إنّ الفصد والشرط يفسدان الصوم، وكذلك لو أرعف نفسه حتى خرج الدم من أنفه، بأن تعمّد ذلك ليخف رأسه، فإنّه يفطر بذلك، وقوله ـ رحمه الله ـ أقرب إلى الصّواب.

وأمّا مغالاة العامّة بحيث إنّ الإنسان لو استاك وأدمت لثّته قالوا: أفطر، ولو حكّ جلده حتى خرج الدم قالوا: أفطر، ولو قلع ضرسه وخرج الدم قالوا: أفطر، ولو رعف بدون اختياره قالوا: أفطر،

فكلّ هذه، مبالغة، فـ:قلع الضرس لا يفطر ولو خرج الدم، لأنّ قالع ضرسه لا يقصد بذلك إخراج الدم، وإنّما جاء خروج الدم تبعاً، وكذلك لو حكّ الإنسان جلده، أو بط الجرح حتى خرجت منه المادة العفنة فكل ذلك لا يضر.


***عامداً ذَاكِراً لِصَوْمِهِ فَسد لا ناسياً ..........

قوله: «عامداً» حال من فاعل «أكل» وما عطف عليه،

اشترط المؤلّف لفساد الصّوم بما ذكر شرطين:

الشرط الأول: أن يكون عامداً، وضده غير العامد، وهو نوعان،

-أحدهما: أن يحصل المفطر بغير اختياره بلا إكراه، مثل أن يطير إلى فمه غبار أو دخان أو حشرة أو يتمضمض، فيدخل الماء بطنه بغير قصد فلا يفطر، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}} [الأحزاب: 5] وهذا لم يتعمّد قلبه فعل المفسد فيكون صومه صحيحاً.

-الثاني: أن يفعل ما يفطر مكرهاً عليه فلا يفسد صومه لقوله تعالى: {{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *}} [النحل]

فإذا كان حكم الكفر يعفى عنه مع الإكراه، فما دون الكفر من باب أولى، وعلى هذا فلو أكره الرجل زوجته على الجماع وهي صائمة، وعجزت عن مدافعته فصيامها صحيح،

ويشترط لرفع الحكم أن يفعل هذا الشيء لدفع الإكراه لا للاطمئنان به، يعني أنّه شرب أو أكل دفعاً للإكراه لا رضاً بالأكل أو الشرب بعد أن أكره عليه، فإنّ فعله رضاً بالأكل أو الشّرب بعد أن أكره عليه فإنّه لا يعتبر مكرهاً، هذا هو المشهور من المذهب،

وقيل: بل يعتبر مكرهاً، لأنّ أكثر الناس لا سيّما العوام لا يفرّقون بين أن يفعلوا هذا الشيء لدفع الإكراه أو أن يفعلوه اطمئناناً به، لأنّهم أكرهوا وعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» [(373)] يشمل هذه الصورة، وهذا اختيار شيخ الإسلام.


-قوله: «ذَاكِراً لصومه فسد لا نَاسِياً» .

هذا هو الشرط الثاني: أن يكون ذَاكِراً، وضده الناسي.

فلو فعل شيئاً من هذه المفطرات ناسياً، فلا شيء عليه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَن نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتمّ صومه فإنّما أطعمه الله وسقاه» [(374)].

وقوله صلّى الله عليه وسلّم «وهو صائم» يشمل الفريضة، والنافلة.

وانظر قوله في الحديث «أطعمه الله» فلم ينسب الفعل إلى الفاعل، بل إلى الله، لأنّه ناسٍ لم يقصد المخالفة والمعصية، ولهذا نُسب فعله إلى مَن أنساه وهو الله ـ عزّ وجل ـ وهذا دليل خاص.

ولدينا دليل عام وهو قاعدة شرعية من أقوى قواعد الشّريعة وهي قوله تعالى: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}} [البقرة: 286] فقال الله تعالى: «قد فعلت».

فصار في النّسيان دليلان عام وخاص، وإذا اجتمع في المسألة دليلان عام وخاص فالأولى أن نستدل بالخاص، لأنّنا إذا استدللنا بالعام، فإنّه قد يقول قائل هذا عام والمسألة هذه مستثناة من العموم، فقد يدّعي هذا، مع أنّه لو ادّعاه لكانت الدعوى مردودة، لأنّ الأصل أنّ العموم شامل لجميع أفراده، والدليل على أنّ العام شامل لجميع أفراده، قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّكم إذا قلتم السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين فقد سلّمتم على كلّ عبد صالح في السّماء والأرض» [(375)] لأنّ «عباد الله الصّالحين» عامّة، ولذلك قال: «فقد سلّمتم على كل عبد صالح في السّماء والأرض»

فلو استدللنا على أنّ الناسي إذا أكل أو شرب لا يفسد صومه بآية البقرة، فإنه استدلال صحيح،

ولو ادّعى مدعٍ أنّ هذا خارج عن العموم قلنا له أين الدليل؟ لأنّ الأصل أنّ العام شامل لجميع أفراد العموم.

لكن لو أكل ناسياً أو شرب ناسياً، ثم ذكر أنّه صائم واللّقمة في فمه، فهل يلزمه أن يلفظها؟

الجواب:

نعم يلزمه أن يلفظها، لأنّها في الفم وهو في حكم الظاهر، ويدل على أنّه في حكم الظاهر، أنّ الصائم لو تمضمض لم يفسد صومه، أمّا لو ابتلعها حتى وصلت ما بين حنجرته ومعدته لم يلزمه إخراجها، ولو حاول وأخرجها، لفسد صومه لأنّه تعمّد القيء.

أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ بعموم كلامه أنّ الجماع كغيره، والجماع على المشهور من المذهب لا يشمله هذا الحكم والصّحيح أنّه كغيره والدليل عدم الدليل على الفرق، ونحن لا نفرق إلاّ ما فرق الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) بينه، ولم يفرّق الله، ـ عزّ وجل ـ ورسوله (صلى الله عليه وسلم) بين الجماع وغيره إلاّ في مسألة واحدة وهي الكفّارة.


-أَوْ مُكْرَهاً .........

قوله: «أو مكرهاً» يعني أنّه إذا كان مُكرهاً على المفطرات، فإنّه لا يفطر، فيشترط أن يكون عمداً، لقول الله تعالى: {{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}} [الأحزاب: 5] [(376)].

قال في الروض: «ولو بِوُجُور مُغْمَى عليه، مُعَالَجَةً» أي: إذا أغمي عليه وهو صائم، فصبّوا في فمه ماء لعلّه يصحو فصحا فلا يفطر بهذا، لأنّه غير قاصد، فالذي صبّ في فمه الماء شخص آخر، وهو مغمى عليه لا يحس،

كما لو أتيت إلى شخص نائم وصببت في فمه ماء فإنّه لا يفطر، لأنّه بغير قصد، وإذا صببت في فمه الماء فسوف يبتلعه وهو نائم، ولكنّه يبتلعه وهو غير تام الشعور فلا يفسد صومه.

ومقتضى كلام المؤلف، أنّه لا يشترط أن يكون عالماً، لأنّه لم يذكر إلاّ شرطين، العمد والذكر، فإن كان جاهلاً فإنّه يفطر.

والصّحيح اشتراط العلم، لدلالة الكتاب والسُّنَّة عليه، فتكون شروط المفطرات ثلاثة: العلم، والذكر، والعمد.

وضدّ العلم الجهل،

والجهل ينقسم إلى قسمين:

1 ـ جهل بالحكم الشّرعي، أي: لا يدري أن هذا حرام.

2 ـ جهل بالحال، أي: لا يدري أنّه في حال يحرم عليه الأكل والشّرب، وكلاهما عذر.

والدليل لذلك قوله تعالى: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}} [البقرة: 286] وإذا انتفت المؤاخذة انتفى ما يترتّب عليها، وهذا دليل عام.

وهناك دليل خاص في هذه المسألة للنوعين من الجهل:

-أمّا الجهل بالحكم، فدليله حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه «أنّه أراد أن يصوم وقرأ قول الله تعالى: {{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ}} [البقرة: 187] فأتى بعقال أسود، ـ حبل تربط به يد البعير ـ وأتى بعقال أبيض، وجعلهما تحت وسادته، وجعل يأكل وينظر إلى الخيطين حتّى تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود»

فهذا أخطأ في فهم الآية، لأنّ المراد بها أنّ الخيط الأبيض بياض النهار، والأسود سواد الليل،

فلمّا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبره قال له: «إنّ وسادك لعريض أن وسع الخيط الأبيض والأسود» [(377)] ولم يأمره بالقضاء، لأنّه جاهل لم يقصد مخالفة الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم )، بل رأى أنّ هذا حكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فعذر بهذا.

-وأمّا الجهل بالحال: فقد ثبت في الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ قالت: «أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم طلعت الشمس» [(378)]

فأفطروا في النهار بناءً على أنّ الشمس قد غربت فهم جاهلون، لا بالحكم الشّرعي ولكن بالحال، لم يظنّوا أنّ الوقت في النهار، ولم يأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقضاء، ولو كان القضاء واجباً لأمرهم به، لأنّه من شريعة الله وإذا كان من شريعة كان محفوظاً تنقله الأمّة، لأنّه ممّا تتوافر الدواعي لنقله، فلمّا لم يحفظ، ولم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فالأصل براءة الذّمة، وعدم القضاء.

وهذه قاعدة مهمّة أشرنا إليها من قبل وهي أنّنا إذا شككنا في وجوب شيء أو تحريمه فالأصل عدمه، إلاّ في العبادات فالأصل فيها التّحريم.

ولكن مَن أفطر قبل أن تغرب الشمس إذا تبيّن أنّ الشمس لم تغرب، وجب عليه الإمساك، لأنّه أفطر بناءً على سبب، ثم تبيّن عدمه، وهذا يجرّنا إلى مسألة مهمّة وهي أنّ مَن بنى قوله على سبب، تبيّن أنّه لم يوجد فلا حكم لقوله، وهذه لها فروع كثيرة من أهمّها:

ما يقع لبعض الناس في الطلاق، يقول لزوجته مثلاً: إن دخلت دار فلان فأنت طالق، بناءً على أنّه عنده آلات محرّمة مثل المعازف أو غيرها، ثم يتبيّن أنّه ليس عنده شيء من ذلك، فهل إذا دخلت تطلق أو لا؟

الجواب: لا تطلّق، لأنّه مبني على سبب تبيّن عدمه، وهذا هو القياس شرعاً وواقعاً.


مسألة:

لو أن رجلاً صائماً أكل ناسياً حتّى بقي عليه قليل من الطعام، فأكله متأولاً بأنه، إن كان ما سبق أكلُهُ ناسياً لا يفطر مع أنه أكثر، فأقله لا يفطر تبعاً، وإن كان ما سبق مفطراً فهو الآن غير صائم فله أكل البقية، فهل يكون معذوراً بذلك؟ فالمذهب أنه غير معذور بالجهل فلا يكون هذا معذوراً، وعلى القول الراجح وهو العذر بالجهل يحتمل أن يكون معذوراً لتأوله، ويحتمل ألاّ يكون معذوراً لتفريطه، لأنّ الواجب عليه هنا أن يسأل، وعلى كل حال فـقضاء الصوم أحوط، والله أعلم.




الصور المرفقة
نوع الملف: jpg من لم يدع الخنا والكذب.jpg‏ (148.7 كيلوبايت, المشاهدات 3184)
رد مع اقتباس
 

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013