منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم مشاركات اليوم Right Nav

Left Container Right Container
 

العودة   منتديات التصفية و التربية السلفية » القــــــــسم العــــــــام » الــمــــنــــــــتـــــــدى الـــــــــعــــــــام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 27 Jan 2014, 09:06 PM
بلال بريغت بلال بريغت غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
الدولة: قسنطينة / الجزائر.
المشاركات: 436
إرسال رسالة عبر Skype إلى بلال بريغت
افتراضي خُلَاصَةُ تَفْسِيرِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ دَرْسِ: الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله.

خُلَاصَةُ
تَفْسِيرِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ
مِنْ دَرْسِ الأُسْتَاذِ:
الشيخ عبد الحميد بن باديس
الذي ختم به
تفسير القرآن


كلمة بين يدي التلخيص

للشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله

أكمل طرائق المتقدمين من علماء هذه الملة في تلقين العلوم- طريقة الإملاء. والإملاء نتيجة لاستحكام الملكة في العلم واستقلال الفكر فيه، أو سعة المحفوظ ورحابة آفاق الحافظة. واستحكام الملكة واستقلال الفكر وقوّة الحافظة مزايا تكاد تكون خالصة لعلماء سلف هذه الأمة لم يبلغ علماء الأمم الأخرى مُدَّ أحدهم فيها ولا [نصيفه]([1]).
وكانت وظيفة السامعين كتابة ما يُملى عليهم كلّه أو خلاصته، وكانت المحابر والأقلام والأوراق هي الأدوات اللازمة لروّاد مجالس العلم إلّا في مقامات مقابلة الأصول وضبطها. فهنا لا بدّ من إحضار النسخ الكاملة من الكتب.
ومن ثمرات تلك الطريقة المثلى في التلقين والتلقي كتب الأمالي في الحديث واللغة والأدب، وفي تراجم المحدثين والأدباء الشيء الكثير من ذلك، وإن لم يبق لنا الدَّهر منها إلّا الأقل من القليل.
ولما انتهى عصر الرواية بجمع روايات السلف في التفسير ورواياتهم للأحاديث والسنن ودونت أصول اللغة والأدب والعلوم المتفرعة عنها وجاء دور الاستغلال لها -نشأت عوامل الانحطاط في العلوم الإسلامية، وكان من أظهر مظاهرها جفاف القرائح وجدب الأفكار وضعف القوى الحافظة، وانحطت طرائق التلقين تبعًا لذلك وانحصرت في الطريق الشائعة إلى اليوم. وهي التزام كتاب تتعدّد نسخه بتعدّد المتلقين له يحل الشيخ عباراته ويشرح معانيه. وانحطت وظيفة السامعين من الكتابة والتقييد إلى الاستماع المجرد.
ولسنا نعيب طريقة التزام الكتب وشرح معانيها بالكلام، فذلك في حقيقته نوع قاصر من الإملاء. وإنما ننعى على السامعين إهمالهم لكتابة ما يسمعون فتضيع عليهم الفوائد التي يلقيها الأستاذ وقد تكون قيّمة، كما تضيع في عصرنا هذه الخطب والمحاضرات المرتجلة التي لا يكتبها ملقيها ولا متلقيها.
ولسنا بصدد التأريخ لهذه الطرائق والمقارنة بينها وبيان وجوه النقص والكمال فيها وإنما ننبّه في هذا المقام إلى أن أسوأ أثر لهذه الطريقة الشائعة اليوم هو القضاء على الملكة العلمية، لأنها شغلت المعلم والمتعلم معًا بالكتاب عن العلم إذ أصبح همّهما كله مصروفًا إلى تحليل الكتاب وفكّ عباراته والقيام على اصطلاحاته الخاصة وفي بعض هذا ما يستغرق الوقت ولا يُبقي سعة لإدراك قواعد العلم وتطبيق جزئياته على كلّياته، وبعيد جدًا على من يدرس علمًا على هذه الطريقة أن تستحكم ملكته فيه، وكيف تستحكم ملكة الفقه مثلًا لمن يقرؤه من مثل (مختصر خليل)([2]) على هذه الطريقة فيمضي وقته في تحليل عباراته وتراكيبه المعقدة التي ذهب الاختصار بكثير من أجزائها وفي بيان التقديم والتأخير في الألفاظ وربط المعمولات بالعوامل البعيدة وإرجاع الضمائر المختلفة إلى مراجعها. والطفرة بالذهن من مذكور إلى مقدر؟.

وهذا هو كل ما يشغل وقت المعلم والمتعلم، وهم في الحقيقة لا يدرسون علم الفقه وإنما يدرسون كتابًا في الفقه، ودراسة الكتب لذاتها أصبحت اليوم فنًّا كماليًّا من التَّاريخ لا أصلًا في تعلّم العلوم.
والدارس لتاريخ العلوم الإسلامية يتجلّى له هذا في تراجم علماء تلك العلوم، إذ يجد فيها دائمًا أشباه هذه العبارة:

كان أقوم الناس على كتاب (الجمل)([3]) للخونجي([4]). أو على كتاب (التهذيب)([5]) للبراذعي([6])، أو على كتاب الشامل([7]) لابن الصباغ([8]). كان نافذا في إقراء (المحصّل)([9]) للرازي([10]). كان سديد البحث في (مختصر ابن الحاجب) الأصلي([11]) كثير المناقشة لعباراته.

وأين سداد البحث وكثرة المناقشة في عبارة كتاب من تحصيل الملكة في علم؟.

إن الأصولي الحقيقي هو الذي ينفق مما عنده أو يقرئه من أي كتاب كان. ولا يفتتن بكتاب عين هذا الافتتان، وإن الفقيه الحقيقي هو الذي يفهم الفقه، لا الذي يفهم كتابًا في الفقه، وفي وقتنا هذا نسمع علماء المعاهد المشهورة يتمدحون بمثل هذا ويصفون من يحسن إقراء (التنقيح)([12]) للقرافي([13]) على هذه الطريقة بالأصولي المحقق .
ولقد حاول جماعة من العلماء الحفّاظ في القرون الأخيرة إصلاح هذه الحالة وإحياء طريقة الأمالي فلم ينجحوا لافتتان جمهور المتعلمين بالكتب وانصرافهم عن العلم إلى كتب في العلم. حاول ذلك الحافظ ابن حجر([14]) وهو أهل لذلك، ولكن أهل زمانه لم يكونوا أهلًا له، ونعى معاصره ابن خلدون المؤرخ طرق التلقين في زمنه وكثرة المؤلفات والمختصرات في العلم وعدّها عائقة عن التحصيل([15])، وحاول ذلك بعد ابن حجر تلميذه الحافظ السيوطي([16]) وهو أهل لذلك على ما فيه من تبجح واستطالة، وقد شكا في بعض رسائله إخفاقه في هذه المحاولة بعبارة مرّة، ووصف انصراف الجمهور عنها بأنه من غلبة الجهل وكلال الهمم وضعف العزائم.
نجمت في هذه العهود الأخيرة ناجمة اضطراب وتبرّم من طرائق التعليم المتبعة وكتبه الملتزمة. وارتفعت الأصوات بالشكوى من أضرارها وسوء عواقبها. وكان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده([17]) أعلى الحكماء([18]) صوتًا بلزوم إصلاحها وأبلغهم بيانًا لأضرارها وسوءاتها ومعايبها وأسدهم رَأيًا في تغييرها بما هو أجدى منها وأنفع وأكثرهم عملًا جديًّا في ذلك.
وكان من إصلاحاته العملية في هذا الباب درسه لكتاب الله بأسلوب حكيم لم يسبقه إليه سابق، وكان- رحمه الله- وهو من هو في استقلال الفكر واستنكار الطرائق الجامدة يجاري الطريقة الأزهرية بعض المجاراة لاعتبارات خاصة، ومن هذه المجاراة السطحية أنه كان يلتزم في تلك الدروس العامرة بالحكم العليا( تفسير الجلالين)([19]) ويستهلها بقراءة عبارته.
ولكن السامعين لتلك الدروس- على كثرتهم وجلالة أقدارهم في العلم والمعرفة وتساويهم في الاعتقاد بأن تلك الدروس فيض من إلهام الله أجراه على قلب ذلك الإمام وعلى لسانه، وأنها ممّا لم تنطو عليه حنايا عالم ولا صحائف كتاب- لم تتسابق أقلامهم لتقييد تلك الدروس إلّا قليلا، ولو أنهم فعلوا لما ضاع من كلام ذلك الإمام حرف واحد. ولو لم يقيّض الله محمد رشيد رضا([20]) لهذا العمل الجليل لضاع كله ولكن الله وفقه لحفظ معاني تلك الدروس وسدّد قلمه في أدائها، ثم نهج نهجه بعد موته وسار على شعاع هديه في تفسير كلام الله فأبقى لهذه الأمة تلك الأسفار القيمة المعروفة بتفسير المنار([21]).
مدّت حركة الإصلاح العلمي مدّها بعد موت الإمام، وانتشرت في الأقطار الإسلامية، وأسفرت عن إصلاح حقيقي لأساليب التعليم في المعاهد الحرّة، وعن إصلاح صوري في المعاهد الرسمية. ولا تزال الحرب قائمة في هذه المعاهد بين طلاب الإصلاح وبين أنصار الجمود، وستكون العاقبة للمصلحين بإذن الله. ولقد كان من حسن حظ الجزائر أن باعث النهضة العلمية فيها الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس قد وضع أساس هذه النهضة على قواعد صحيحة من أول يوم، فسلك في درس كلام الله أسلوبا سلفي النزعة والمادة، عصري الأسلوب والمرمى، مستمدًا من آيات القرآن وأسرارها أكثر ممّا هو مستمد من التفاسير وأسفارها. وقد قرأنا له في بعض افتتاحيات مجلة (الشهاب)([22]) أنه يعتمد في هذه الدروس على تفاسير مخصوصة في مواضيع مخصوصة، كالطبري([23]) في المأثور والكشاف([24]) للزمخشري([25]) في أسرار الإعجاز، وذلك صحيح ومفيد لمن يجعل فهوم الرجال مقاييس لفهمه ولا يعطيها أكثر من أنها فهوم تصيب وتخطيء، أما المعنى الصحيح لكتاب الله فيستجليه من البيان العربي والشرح النبوي ومن مقاصد الدين وأسرار التشريع، ومن عجائب الكون وسنن الله فيه ومن أحكام الاجتماع الإنساني. ومن تصاريف الزمن ونتائج العقول وثمرات العلوم التجريبية وإذا كان من دواعي الغبطة ختم تفسير القرآن بها على هذه الطريقة في القطر الجزائري فإن من دواعي الأسف أنه لم ينتدب من مستمعي هذه الدروس من يقيّدها بالكتابة، ولو وجد من يفعل ذلك لربحت هذه الأمة ذخزاً لا يُقوم بمال، ولاضطلع هذا الجيل بعمل يباهي به جميع الأجيال، ولتمخض لنا ربع قرن عن تفسير يكون حجة هذا القرن على القرون الآتية. ومن قرأ تلك النماذج القليلة المنشورة في (الشهاب) باسم (مجالس التذكير) على أي علم ضاع وأي كنز غطى عليه الإهمال.
ولما كان اليوم المشهود بختم هذه الدروس جمع أحد الحاضرين ما وعته ذاكرته وأمكنه تقييده من معنى درس الختم في تفسير المعوذتين وتصرف في ألفاظه بما لا يخرج عن معانيه إذ لم يكن من الميسور أن يلتقط الألفاظ كلها. فجاء بهذه الخلاصة التي ننشرها على الناس في هذا العدد (الخاص بالاحتفال) لافتين أنظارهم إلى أن هذه الخلاصة محيطة بمعاني الدرس مع تصرف ضروري اقتضته مساوقة ما كتب لما قيل.
استهل الأستاذ الدرس بعد الاستعاذة والتسمية بالتحميد المأثور:

[الحمد لله إن الحمد لله. نحمده ونشكره ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يضلل الله فلا هادي له ومن يهد فما له من مضل، ونشهد أن لا إله إلّا الله ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله]([26]).
ثم عقّب بما ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبدأ به خطبته. وجرت عادة المحدثين والمفسرين أن يفتتحوا به مجالس التحديث والتفسير، وإن اختلفت الروايات في ألفاظه وهو قوله - صلى الله عليه وسلم: ( أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثه بدعة وكل بدعة ضلالة)([27]).
ثم قال توطئة للدخول في تفسير المعوذتين ما معناه مع تصرف وتوضيح:

بني هذا الكون الدنيوي على أن يقترن فيه الخير بالشر، وأن يتصلا وأن يشتبها وأن يحيطا بالإنسان من جميع جهاته فتكون أعماله الكسبية في الحياة مكتنفة بها دائرة بينهما موصوفة بأحدهما، ولا بد من قدر الله ومن سننه العامة في هذا العالم الإنساني.

وحكمته المبينة في وجيه هي ابتلاء خلقه ليجازوا على ما يكون من كسبهم وسلوكهم بعد أن وهبهم العقل والتمييز وأكمل عليهم نعمته بهداية الدين عدلا منه تعالى ورحمة .

وحكمة أخرى: وهي تمرين هذا الإنسان في حياتيه العلمية والعملية وتدريب فكره على اختيار الأنفع على النافع، والنافع على الضار، ثم سوق الجوارح إلى العمل على ذلك الترتيب وترويضها عليه.
والإنسان يكتسب القوّة والدربة بتمرّسه على ما يلقاه من الخير والشر بعمله وبفكره، وللفكر الإنساني عمل سابق لأعمال الجوارح المجترحة وسائق لها ومُهَيِّئٌ لما يظهر أنه من بدواتها.
وهذا العمل الفكري تظهر قوته في نواح منها- وهو أهمها- التمييز بين الخير والشر وأدق منه التمييز بين خير الخيرين وشر الشرين. فإن الخير درجات وأنواع، والشر كذلك دركات وأنواع.
والإنسان في هذا الخضم الذي تلاطمت أمواجه، وفي هذا الفضاء الذي تشابهت أفواجه، محتاج إلى معونة إلهية في تمييز الخير من الشر. وقد أمده الله بهذه المعونة من دينه الحق. ومحتاج إلى تأييد إلهي يعصمه من الشر ويقيه من الوقوع فيه عن جهالة أو عمد. وقد هداه الله إلى أسبابه ووسائله بما شرع له من المنبهات عند طروق الغفلة. والمبصرات عند عروض الشبهة والمعوذات المحصنات عند إلمام لمة الشيطان وطواف طائفه.

ومن هذه المعوذات عقائد تدفع عن صاحبها الشكوك وهي شر، وحقائق تقي صاحبها الوهم وهو شر. وعبادات تربي مقيمها على الخير وتنهاه عن الفحشاء والمنكر، وأعمال تثبت فاعلها على الحق، وأقوال يلفيها القلب العامر بتقوى الله والخوف من مقامه على الألسنة لتكون شهادة لها وعنوانًا عليها،. والألسنة تراجمة القلوب.

فكان ممّا شرع الله لنا في كتابه وعلى لسان نبيه التعوذ باللسان من الشر والباطل وأنزل الله عليه هاتين السورتين وفيهما الاستعاذة بالله من أنواع من الشرور هن أمهات لما عداهن.

وكان نبينا عليه السلام يكثر التعوذ بالله وكلماته من أنواع أخرى من الشرور مفصلة في صحاح السنة([28]).
أما السورتان فيكفي في فضلهما ما أخرجه مسلم في صحيحه عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجهني قَالَ : (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ [مِثْلُهُنَّ ]([29])قَطُّ ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾[الفلق:1] و ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾[الناس:1])([30]).

وفي رواية أخرى في مسلم عنه تسميتهما بالْمُعَوِّذَتَيْنِ([31]) وفي رواية أبي أسامة في مسلم أيضًا وصف عقبة بن عامر بأنه كان من رفعاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ([32]).

فتسمية هاتين السورتين بالمعوذتين تسمية نبوية مأثورة كأسماء جميع سور القرآن وقد يقال المعوذات ويراد بها ما يشمل سورة الإخلاص.

وكفى بما فيها من أصول العقائد معاذًا من الشرك وهو أصل الشرور كلها.
وحديث مسلم هو أصح ما ورد في نزولهما.

وأما ما يذكر في نزولهما في قصة سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن ذلك لم يصح سببًا لنزولهما([33]). وإن كان لقصة السحر وصاحبها لبيد بن الأعصم أصل ثابت في الصحيح([34]) وقد تساهل كثير من المفسرين في حشر هذا السبب في تفسيرهما وفي حشر كثير مما لم يصح في فضائلهما ولنا فيما صح غنية عما لم يصح.
وهذه الخيرية التي أثبتها لهما حديث عقبة عند مسلم هي خيرية نسبية في ناحية مخصوصة. وهي ناحية التعوذ بهما من الشرور العامة والخاصة المذكورة فيهما ودليل هذه النسبية ما أخرجه النسائي في سننه([35]) عَنْ اِبْن عَابِس الْجُهَنِيّ أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : ( يَا اِبْن عَابِس! أَلَا أَدُلّك - أَوْ - أَلَا أُخْبِرك بِأَفْضَل مَا يَتَعَوَّذ بِهِ الْمُتَعَوِّذُونَ ؟قَالَ: بَلَى يَا رَسُول اللَّه قَالَ : ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾[الفلق:1] و ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾[الناس:1]هَاتَانِ السُّورَتَينِ).

فبيّن - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن خيريتهما وأفضليتهما من جهة ما تشتملان عليه من معنى التعوذ وهو من المعاني الداخلة في دائرة ما كلفنا الله به.
ولهاتين السُّورَتَينِ خصوصية غير المناسبات التي يذكرونها في ارتباط بعض السور بالبعض ويستخرجون منها بالتدبر ما لا يحصى من الأنواع وهذه الخصوصية هي ختم القرآن بهما، وهما كالسورة الواحدة.

فما هي الحكمة في ختم القرآن بهما؟ وترتيب السور توقيفي ليس من صنيع جامعي المصحف كما ذكره السيوطي في (الإتقان)([36]) وجماعة.
يستطيع ممارس القرآن ومتدبره ومتلقيه بالذهن المشرق والقريحة الصافية أن يستخرج من الحكم في هذا الختم بهما أنواعًا ولكن أجلاها وأوضحها أنهما ختم على كنوز القرآن في نفس المؤمن. وتحصين لهذه النعم المنشالة من القرآن عليه أن يكدِّرها عليه كيد كائد أو حسد حاسد، فإن من أوتي الشيء الكريم ورزق النعمة الهنية هو الذي تمتدُّ إليه أيدي الأشرار وألسنتهم بالسوء وتقذفه عيونهم بالشرر وتتطلع إليه نفوسهم بالحسد والبغضاء ويشتد عليه تكالبهم سعيًا في سلبه منه أو تكديره عليه وبقدر النعمة يكون الحسد، وعلى مقدار نفاسة ما تملك تكون هدفًا لمكائد الكائدين وتأتيك البلايا من حيث تدري ولا تدري ومن أوتي القرآن فقد طوى الوحي بين جنبيه وأوتي الخير الكثير، فهو لذلك مرمى أعين الحاسدين ومهوى أفئدة الكائدين.

فكان حقيقًا وقد ختم القرآن حفظًا أو مدارسة أو تلاوة أن يلتجىء إلى الله طالبًا منه الحفظ والتحصين من شر كل كيد وحسد يصيبه على هذا الخير العظيم الذي كمل له وهذه النعمة الشاملة التي تمت عليه.

هذه حكمة.
وأخرى وهي أن من أوتي القرآن وتفقّه فيه فقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب وأحاط بالعلم من أطرافه وملك كنزه الذي لا ينفذ.

وإنَّ من آفات العلم اغترار صاحبه به وقد يتمادى به الغرور حتى يسول له أن ما أوتيه من العلم كاف في وقايته من الأضرار ونجاته من الأشرار فكان من رحمة الله بصاحب القرآن ولطف تأديبه له، وحسن عنايته به أن ختم بهاتين السورتين كتابه لتكونا آخر ما يستوقف القاريء المتفقه، وينبهه إلى أن في العلم والحكمة مسألة لم يتعلمها إلى الآن. وهي أنه مهما امتدّ في العلم باعه واشتد بالحكمة اضطلاعه. فإنه لا يستغني عن الله ولا بد له من الالتجاء إليه والاعتصام به يستدفع به شر الأشرار وحسد الحاسدين وكفى بهذه التربية قامعًا للغرور. وإنه لشر الشرور.
هذه هي المناسبة العامة بين جميع القرآن مرتبًا ترتيبه التوقيفي وبين هاتين السورتين في اتحاد موضوعهما.
وأما المناسبة الخاصة بين السورتين وبين سورة الإخلاص فهي أن سورة الإخلاص قد عرَّفت الخلق بخالقهم بما فيها من التوحيد والتنزيه والتمجيد. فإذا قرأت القرآن وتدبّرتَه على ترتيبه ووجدت توحيد الله منبثًا في آياته وسوره متجليًّا ذلك التجلي الباهر بمعارضه وصوره سادًّا ببراهينه على النفوس كل ثنية وكل مطلع - كانت آخر مرحلة يقطعها فكرك من مراحل التوحيد في القرآن هذه السورة المعجزة على قصرها، فكأنها توكيد لما امتلأت به نفسك من معاني التوحيد وكأنها وصية مودعّ مشفق بمهمّ يخشى عليك نسيانه فليعمد فيها من الكلام إلى ما قلّ ودلّ ولم يملّ.
ومن صدقك في توحيدك لله في ربوبيته وإلهيته أن تنقطع عن هذا الكون وتكون منه وكأنك لست منه بصدق معاملتك لله وإخلاص توحيدك إياه.

فأنت وقد آمنت وصدّقت وخرجت من سورة الإخلاص متشبعًا بمعانيها ومنها معنى الصمد - تستشعر أن العالم كله عجز وقصور، وأن خيراته مكدّرة بالشرور. وأن لا ملجأ إلّا ذلك الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤًا أحد،فَتَجِيءُ المعوذتان بعد الإخلاص مبينتين لذلك الالتجاء الذي هو من تمام التوحيد.
ولأجل هذه المناسبة والارتباط بين السور الثلاث جمع بينهنَ التَسْمِيَةِ، ففي الصحيح عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَنْفُثُ عَن نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ ([37]).
وسياق النسائي لحديث عقبة بن عامر المتقدم: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ وقرأت معه الإخلاص ثم ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ و ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ فلما ختمهن قال: ما تعوّذ بمثلهن أحد)([38]).
وكما جمع - صلى الله عليه وسلم - بينهن في التسمية والتعوذ جمع بينهن عمليًّا في قراءة الوتر([39]).
هذا إجمال المناسبة الخاصة بين السور الثلاث.


-يتبع-

=======

[1] : في الأصل : ( نصيبه)، و الصواب ما أثبتنه ، و النصيف هو: النصف ، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرحه على مسلم : (وفيه أربع لغات : نصف بكسر النون ، ونصف بضمها ، ونصف بفتحها ، ونصيف بزيادة الياء ، حكاهن القاضي عياض في المشارق عن الخطابي).
[2] : مختصر خليل كتاب من أمهات الفقه المالكي لمؤلفه خليل بن إسحاق بن موسى بن شعيب، ضياء الدين أبو المودّة المصري المعروف بالجندي، أحد مشاهير فقهاء المالكية.
[3] : هو كتاب (الجمل) اختصار (نهاية الأمل) لابن مرزوق التلمسانى.
[4] : هو محمد بن ناماور بن عبد الملك الخونجى، أبو عبد الله، أفضل الدين: عالم بالحكمة والمنطق، فارسي الأصل.
انتقل إلى مصر، وولي قضاءها. وتوسع في ما يسمونه (علوم الأوائل) حتى تفرد برياسة ذلك في زمانه، وصنف كتاب (كشف الإسرار عن غوامض الأفكار) في استمبول والقاهرة، في الحكمة، و (الموجز) في المنطق، و (الجمل) اختصار (نهاية الأمل) لابن مرزوق التلمسانى، توفى بالقاهرة سنة (646هـ) [ الأعلام للزركلي (7/122)].
[5] : هو كتاب (تهذيب المدونة) وهو مشهور جدا واعتمد صاحبه في اختصاره على طريقة ابن أبي زيد القيرواني الذي كان أول من اختصر المدونة .
[6] :هو خلف بن أبي القاسم محمد، الأزدي، أبو سعيد ابن البراذعي: فقيه، من كبار المالكية. ولد وتعلم في القيروان، وتجنبه فقهاؤها، لاتصاله بسلاطينها. وانتقل إلى صقلّيّة فاتصل بأميرها وصنف عنده كتبا، منها (التهذيب - خ) في اختصار المدونة، منه نسخ في الصادقية بتونس، والقرويين بفاس، ومنه السفر الأول قديم مبتور الآخر، في خزانة الرباط (266 جلاوي (وعنه أخذت اسم أبيه، ومنه باسم (تهذيب مسائل المدونة) في شستربتي (3952) والبلدية (ن 1052 - ب) و (تمهيد مسائل المدونة) و (اختصار الواضحة) . ثم رحل إلى أصبهان فكان يدرّس فيها الأدب إلى أن توفي سنة (372هـ).[الأعلام للزركلي (2/311)].
[7] :هو كتاب الشَّامِلُ الكَبِيْرُ: شَرْحٌ لِمُخْتَصَرِ المُزَنِيِّ.
[8] : هو عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد، أبو نصر، ابن الصباغ: فقيه شافعيّ. من أهل بغداد، ولادة ووفاة. كانت الرحلة إليه في عصره، وتولى التدريس بالمدرسة النظامية أول ما فتحت. وعمي في آخر عمره. له " الشامل - خ " في الفقه، و " تذكرة العالم " و " العدة " في أصول الفقه توفي سنة (477هـ)[الأعلام للزركلي (4/10)]
[9] : المحصل في أصول الفقه أو محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من الحكماء والمتكلمين.
[10] : هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري، أبو عبد الله، فخر الدين الرازي: قرشي النسب. أصله من طبرستان، ومولده في الري وإليها نسبته، ويقال له (ابن خطيب الري) رحل إلى خوارزم وما وراء النهر وخراسان، وتوفي في هراة سنة (581هـ)[الأعلام للزركلي (6/313)]، و قد كان الرازي أشعريا و قيل أنه قد تاب من ذلك ، و له طوام يندى لها الجبين قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في شأن الفخر الرازي كما في مجموع الفتاوى (16/213-214) : ( وَهَكَذَا الْجَهْمِيَّة تَرْمِي الصفاتية بِأَنَّهُمْ يَهُودُ هَذِهِ الْأُمَّةِ . وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ مُتَقَدِّمِي الْجَهْمِيَّة وَمُتَأَخَّرِيهِمْ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِي الجهمي الْجَبْرِيُّ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَخْرُجُ إلَى حَقِيقَةِ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ . وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ كِتَابَهُ الْمَعْرُوفَ فِي السِّحْرِ وَعِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ . مَعَ أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُحَرِّمُ ذَلِكَ وَيَنْهَى عَنْهُ مُتَّبِعًا لِلْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكُتُبِ وَالرِّسَالَةِ . وَيَنْصُرُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَمَا يُشَكِّكُ أَهْلَهُ وَيُشَكِّكُ غَيْرَ أَهْلِهِ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ . وَقَدْ يَنْصُرُ غَيْرَ أَهْلِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ . فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ التَّشْكِيكُ وَالْحَيْرَةُ أَكْثَرُ مِنْ الْجَزْمِ وَالْبَيَانِ ) .
[11] : أي : (منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل) وهو كتاب في أصول الفقه ، و ابن الحاجب هو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، أبو عمرو جمال الدين ابن الحاجب: فقيه مالكي، من كبار المعلماء بالعربية. كردي الأصل. ولد في أسنا (من صعيد مصر) ونشأ في القاهرة، وسكن دمشق، ومات بالإسكندرية. وكان أبوه حاجبا فعرف به. من تصانيفه «الكافية - ط» في النحو، و «الشافية - ط» في الصرف، و «مختصر الفقه - خ» استخرجه من ستين كتابا، في فقه المالكية، ويسمى «جامع الأمهات» [ثم طُبع] و «المقصد الجليل - ط» قصيدة في العروض، و «الأمالي النحوية - خ» و «منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل - ط» في أصول الفقه، و «مختصر منتهى السول والأمل - ط» و «الإيضاح - خ» في شرح المفصل للزمخشري، و«الأمالي المعلقة عن ابن الحاجب - خ» في الكلام على مواضع من الكتاب العزيز وعلى المقدمة وعلى المفصل وعلى مسائل وقعت له في القاهرة وعلى أبيات من شعر المتنبي، منه نسخة في مكتبة عابدين بدمشق، وثانية في خزانة الرباط (209 أوقاف) توفي سنة (646 هـ)[انظر الأعلام للزركلي].
[12] : هو عبارة عن متن في أصول الفقه المعروف بـ( تنقيح الفصول في علم الأصول) تناول فيه المؤلف جميع مباحث أصول الفقه بأسلوب سهل و مختصر ، ثم جعله مقدمة لخزانته الفقهية القيمة و الفريدة من نوعها ( الذخيرة ) ، و أفردها فيما بعد بشرح أسماه ( شرح تنقيح الفصول في علم الأصول ).
[13] : هو أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس الصنهاجي المصري، الشهير بالقرافي، أحد الأعلام المشهورين في المذهب المالكي، كان حافظا مفوها، بارعا في العلوم الشرعية والعقلية، انتهت إليه رئاسة المالكية، وله مصنفات قيّمة منها: «الذخيرة» في الفقة، و«الفروق» في القواعد الفقهية، و«شرح المحصول للرازي» و«تنقيح الفصول وشرحه» في أصول الفقه، توفي سنة (684ﻫ-1285م) . انظر: الإعلام بمنثور تراجم المشاهير و الأعلام للشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله (ص:22-23).
[14] : هو أبو الفضل أحمد بن عليّ بن محمّد الشهير بابن حجر الكناني العسقلاني المصري، الحافظ الكبير، الإمام المنفرد بمعرفة الحديث وعِلَلِه في عصره، الشافعي الفقيه، ولد سنة (773 ﻫ - 1372م)، توفّي والده وهو صغير فتربّى في حضانة أحد أوصياء أبيه، ودرس حتّى برع في العلم، وتولّى التدريس، وأصبح رؤوس العلماء من كلّ مذهب تلامذته، كما تولّى القضاء والتصنيف، له مؤلّفات نفيسة، منها: «فتح الباري»، و«تهذيب تهذيب الكمال»، و«الإصابة»، و«الدرر الكامنة» وغيرها، توفّي سنة (852 ﻫ ‑ 1449م)[ الإعلام بمنثور تراجم المشاهير و الأعلام للشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله (ص: 31)].
[15] : قال ابن خلدون : ( الفصل الرابع والثلاثون: في أن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل:
اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التآليف واختلاف الاصطلاحات في التعاليم وتعد طرقها ثم مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك وحينئذ يسلم له منصب التحصيل فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها ومراعاة طرقها ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها فيقع القصور ولابد دون رتبة التحصيل ويمثل ذلك من شأن الفقه في المذهب المالكي بالكتب (المدونة) مثلا وما كتب عليها من الشروحات الفقهية مثل كتاب ابن يونس واللخمي وابن بشير و(التنبيهات) و(المقدمات) و(البيان) و(التحصيل على العتبية) وكذلك كتاب ابن الحاجب وما كتب عليه ثم إنه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانية من القرطبية والبغدادية والمصرية وطرق المتأخرين عنهم والإحاطة بذلك كله وحينئذ يسلم له منصب الفتيا وهي كلها متكررة والمعنى واحد والمتعلم مطالب باستحضار جميعها وتمييز ما بينها والعمر ينقضي في واحد منها ولو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل المذهبية فقط لكان الأمر دون ذلك بكثير وكان التعليم سهلا ومأخذه قريبا ولكنه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها ولا تحويلها ويمثل أيضا علم العربية من كتاب سيبويه وجميع ما كتب عليه وطرق البصريين والكوفيين والبغداديين والأندلسيين من بعدهم وطرق المتقدمين والمتأخرين مثل ابن الحاجب وابن مالك وجميع ما كتب في ذلك كيف يطالب به المتعلم وينقضي عمره دونه ولا يطمع أحد في الغاية منه إلا في القليل النادر مثل ما وصل إلينا بالمغرب لهذا العهد من تآليف رجل من أهل صناعة العربية من أهل مصر يعرف بابن هاشم ظهر من كلامه فيها أنه استولى على غاية من ملكة تلك الصناعة لم تحصل إلا لسييبويه وابن جني وأهل طبقتهما لعظيم ملكته وما أحاط به من أصول ذلك الفن وتفاريعه وحسن تصرفه فيه وذلك على أن الفضل ليس منحصرا في المتقدمين سيما مع ما قدمناه من كثرة الشواغب بتعدد المذاهب والطرق والتآليف ولكن ﴿فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ﴾[الحديد:21] وهذا نادر من نوادر الوجود وإلا فالظاهر أن المتعلم ولو قطع عمره في هذا كله فلا يفي له بتحصيل علم العربية مثلا الذي هو آلة من الآلات ووسيلة فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة؟ ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء﴾[القصص:56])[مقدمة ابن خلدون (ص:592-593) طبعة مؤسسة الرسالة].
[16] : هو الحافظ جلال الدين:أبو الفضل عبد الرحمن بن الكمال,أبي بكر بن محمد بن سابق الدين,بن الفخر عثمان,بن ناظر الدين ,محمد بن سيف الدين ,خضر بن نجم الدين,أبي الصلاح أيوب ,بن ناصر الدين ,محمد ابن الشيخ همام الدين الهمام الخضيري الأسيوطي الشافعي، عالم في الحديث والتفسير واللغة والتاريخ والأدب والفقه وغيرها من العلوم ، لما بلغ الأربعين من عمره، اعتزل في منزله، وعكف على التصنيف. ذُكر له من المؤلفات نحو 600 مؤلف ، توفي سنة (911هـ).
[17] : هو محمَّد عبده بن خير الله المصري من آل التركماني، فقيهٌ متكلِّمٌ كاتبٌ صحفيٌّ سياسيٌّ، له رحلاتٌ وأنشأ مجلَّة «العروة الوثقى» مع جمال الدين الأفغاني، عُيِّن قاضيًا ثمَّ مفتيًا للديار المصرية، وأُوخذ بانتهاجه -في نشاطه الدعوي- منهجَ التوفيق والتقارب بين الإسلام والحضارة الغربية وغيرها من المؤاخذات، من آثاره: رسالةٌ في وحدة الوجود، و«فلسلفة الاجتماع والتاريخ»، و«شرح نهج البلاغة»، و«شرح البصائر النصيرية»، تُوفِّي سنة 1323ﻫ).الإعلام لما في كتب الشيخ من الأعلام للشيخ ابي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله تعالى . المصدر: موقع الشيخ. و انظر ترجمة محمد عبده في معجم المؤلِّفين لعمر رضاكحالة (3/ 474) طبعة الرسالة.
[18] : لا تغتر بهذا المدح أو تسيء الظن بالشيخ لأنه لم يكن يعرف حال محمد عبده و كان يظنه على الجادة و كثير من العلماء لم تبين لهم حاله ولما عرفوا الحق تبرؤوا منه و انظر للعلامة أحمد شاكر و هو يتحدث عن محمد عبده حين قال كما في كتابه نظام الطلاق في الإسلام (ص: 8) ط.مكتبة السنة: (ثم في أوائل سنة 1899، وكان الأستاذ الوالد نائباً لمحكمة بنها الشرعية ، قدم تقريراً لأستاذه الإمام الحكيم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية).
[هذا النص فيه ثناء على محمد عبده من العلامة أحمد شاكر بما لا يتناسب مع ما بين الرجلين من تباين عقدي ومنهجي ، ويبدو أن الشيخ أحمد شاكر كان مغتراً بالدعايات التي نسجت حول محمد عبده .
ثم إنه بعد ذلك تنبه فانتقد محمد عبده وشيخه الأفغاني وتلميذه محمد رشيد رضا نقداً سديداً حيث قال شرح المسند (12/ 128_ 129) : (بل لم نرَ فيمن تقدمنا من أهل العلم من اجترأ على ادعاء أن في الصحيحين أحاديث موضوعة ، فضلاً عن الإيهام والتشنيع الذي يطويه كلامه ، فيوهم الأغرار أن أكثر ما في السنة موضوع ! هذا كلام المستشرقين.
غاية ما تكلم فيه العلماء نقد أحاديث فيهما بأعيانهم ، لا بادعاء وضعها _ والعياذ بالله _ ولا بادعاء ضعفها ، إنما نقدوا أحاديث ظنوا أنها لا تبلغ في الصحة الذورة العليا التي التزمها كل منهما.
وهذا مما أخطأ فيه كثيرٌ من الناس ، ومنهم أستاذنا محمد رشيد رضا رحمه الله على علمه وفقهه ، ولم يستطع قط أن يقيم حجته على ما يرى ، وأفلتت منه كلمات يسمو على علمه أن يقع فيها ، ولكنه كان متأثراً أشد الأثر بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ، وهما لا يعرفان في الحديث شيئاً بل كان هو بعد ذلك أعلم منهما ، وأعلى قدماً ، وأثبت رأياً ، لولا الأثر الباقي دخيلة نفسه ، والله يغفر لنا وله ).
موطن الشاهد كلام الشيخ على رشيد رضا ومحمد عبده ، وإلا فكلامه في الصحيحين محل مباحثة ، ولا شك أن كلامه هذا متأخر عن كلامه في نظام الطلاق ، وتأمل كيف أنه ذكر محمد عبده مجرداً عن الألقاب ، إذ أنه رأى أنه لا يستحقها بعد علم جهله وجرأته على السنة.
وللعلامة أحمد شاكر نقد آخر لمحمد رشيد رضا هو أقوى من هذا حيث قال في تعليقه على تفسير الطبري (16/ 484): (هذا إسناد واه جدًا، والعجب من السيد رشيد رضا في تعليقه على تفسير ابن كثير (4: 537) حيث يقول: من الغريب أن تبلغ الجرأة بكعب إلى هذا الحد الباطل شرعًا وعقلا. ثم يعتدون بدينه وعلمه ويردون عنه، والغريب هو تحامله على كعب الأحبار قبل التثبت من إسناد الخبر، وما ذنب كعب إذا ابتلاه بذلك مثل(أبي حمزة الأعور)؟ ولكن هكذا ديدن الشيخ، إذا جاء ذكر كعب الأحبار، يتهمه بلا بينة).
ولم يكن الشيخ العلامة أحمد شاكر يعتبر محمد رشيد رضا داعياً إلى السلفية بدليل أنه قال مقال: (بيني وبين الشيخ محمد حامد الفقي) مخاطباً للشيخ محمد حامد : ( ولعلنا _ فيما قمنا به معاً _ من أول العاملين على نشر العقيدة الصحيحة في بلادنا هذه . وما أريد بهذا فخراً بعملي ولا بعملك ، فما كنا نعمل إلا لله، وكان من أعظم المصادر العلمية التي استضأنا بنورها _ بعد الكتاب الكريم والسنة المطهرة _ كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه الإمام الحافظ ابن القيم ، ثم كتب شيخ الإسلام ( مجدد االقرن الثاني عشر ) محمد بن عبد الوهاب).
أقول:فلوكان محمد رشيد رضا داعياً للسلفية عند أحمد شاكر لما ادعى تلك الأولية في نشر العقيدة الصحيحة له ولمحمد حامد الفقي ، مع كونه أعلى طبقةً منهما ، ولما ذكر مراجعه لم يذكر المنار وإنما ذكر كتب الإسلام وتلميذه ابن القيم والإمام محمد بن عبد الوهاب.
وهذا سيد قطب على ضلاله الجامح يتذمر من عقلانية محمد عبده ومحمد رشيد رضا فيقول في ظلاله في تفسير سورة الفيل: (ولكن مواجهة ضغط الخرافة من جهة وضغط الفتنة بالعلم من جهة أخرى تركت آثارها في تلك المدرسة . من المبالغة في الاحتياط , والميل إلى جعل مألوف السنن الكونية هو القاعدة الكلية لسنة الله . فشاع في تفسير الأستاذ الشيخ محمد عبده - كما شاع في تفسير تلميذيه الأستاذ الشيخ رشيد رضا والأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي - رحمهم الله جميعا - شاع في هذا التفسير الرغبة الواضحة في رد الكثير من الخوارق إلى مألوف سنة الله دون الخارق منها , وإلى تأويل بعضها بحيث يلائم ما يسمونه (المعقول) ! وإلى الحذر والاحتراس الشديد في تقبل الغيبيات .
ومع إدراكنا وتقديرنا للعوامل البيئية الدافعة لمثل هذا الاتجاه , فإننا نلاحظ عنصر المبالغة فيه , وإغفال الجانب الآخر للتصور القرآني الكامل . وهو طلاقة مشيئة الله وقدرته من وراء السنن التي اختارها - سواء المألوف منها للبشر أو غير المألوف - هذه الطلاقة التي لا تجعل العقل البشري هو الحاكم الأخير . ولا تجعل معقول هذا العقل هو مرد كل أمر بحيث يتحتم تأويل ما لا يوافقه - كما يتكرر هذا القول في تفسير أعلام هذه المدرسة )
هذا مع كونه وافقهم على كثير من ضلالهم ، فذهب إلى حصر المعجزات في القرآن ، وأنكر خلق حواء من ضلع آدم ، وغيرها من الضلالات التي بينها العلامة ربيع المدخلي في كتبه على هذا الرجل ، وكذا العلامة عبد الله الدويش.
وقد بلغ حذق العلامة أحمد شاكر المبلغ الذي أدرك به ، خطر جماعة الإخوان المسلمين الذي اتصل سندها بمحمد رشيد رضا حيث قال في كتابه شؤون التعليم والقضاء (ص: 48) : (حركة الشيخ حسن البنا وإخوانه المسلمين الذين قلبوا الدعوة الإسلامية إلى دعوة إجرامية هدامة، ينفق عليها الشيوعيون واليهود كما نعلم ذلك علم اليقين ) اهـ]مقال بعنوان : تحرير موقف العلامة أحمد شاكر من محمد عبده وشيخه جمال الدين الأفغاني. للأخ : عبد الله الخليفي .منشور على شبكة سحاب الغراء .
[19] :أول من بدأ هذا التفسير هو جلال الدين المحلي الذي وصل فيه إلى سورة الإسراء ، و قد قام جلال الدين السيوطي بإكماله ولذلك سمي تفسير الجلالين , وقد نقى تفسيره من عبث الأساطير والإسرائيليات .
[20] : محمد رشيد رضا (1282 - 1354 هـ/ 1865 - 1935 م) هو: [محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني، البغدادي الأصل،الحسيني النسب: صاحب مجلة (المنار) وأحد رجال الإصلاح الإسلامي.
من الكتاب، العلماء بالحديث والأدب والتاريخ والتفسير.
ولد ونشأ في القلمون (من أعمال طرابلس الشام) وتعلم فيها وفي طرابلس.
وتنسك، ونظم الشعر في صباه، وكتب في بعض الصحف، ثم رحل إلى مصر سنة 1315 هـ ، فلازم الشيخ محمد عبده وتتلمذ له.
وكان قد اتصل به قبل ذلك في بيروت.
ثم أصدر مجلة (المنار) لبث آرائه في الإصلاح الديني والاجتماعي.
وأصبح مرجع الفتيا، في التأليف بين الشريعة والأوضاع العصرية الجديدة.
ولما أعلن الدستور العثماني (سنة 1326 هـ) زار بلاد الشام، واعترضه في دمشق، وهو يخطب على منبر الجامع الأموي، أحد أعداء الإصلاح، فكانت فتنة، عاد على أثرها إلى مصر.
وأنشأ مدرسة (الدعوة والإرشاد) ثم قصد سورية في أيام الملك فيصل بن الحسين، وانتخب رئيسا للمؤتمر السوري، فيها. وغادرها على أثر دخول الفرنسيين إليها
(سنة 1920 م) فأقام في وطنه الثاني (مصر) مدة.
ثم رحل إلى الهند والحجاز وأوربا.
وعاد، فاستقر بمصر إلى أن توفي فجأة في (سيارة) كان راجعا بها من السويس إلى القاهرة.
ودفن بالقاهرة.
أشهر آثاره مجلة (المنار) أصدر منها 34 مجلدا، و (تفسير القرآن الكريم – ط) اثنا عشر مجلدا منه، ولم يكمله، و (تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده - ط) ثلاثة مجلدات، و (نداء للجنس اللطيف - ط) و (الوحي المحمدي - ط) و (يسر الإسلام وأصول التشريع العام - ط) و (الخلافة - ط) و (الوهابيون والحجاز - ط) و (محاورات المصلح والمقلد - ط) و(ذكرى المولد النبوي - ط) و (شبهات النصارى وحجج الإسلام – ط).
وللأمير شكيب أرسلان كتاب في سيرته سماه (السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة – ط)]أنظر: الأعلام للزركلي.
[21] : و بدايته كانت دروسا في التفسير ألقاها محمد عبده ، وكان رشيد رضا يدِّون ما يسمعه من هذا التفسير ويرتِّبه، ثم نشره في مجلة المنار، ولهذا عرف بهذا الاسم ، و تفسير محمد عبده وصل إلى الآية :(125) من سورة النساء ثم توفي، فواصل رشيد التفسير إلى الآية: (101) من سورة يوسف، ثم توفي، وطبع هذا التفسير في اثني عشر مجلداً.
وهذا التفسير عليه عدة مؤاخذات من بينها رده للأحاديث الصحيحة بلا بينة و لا برهان.
[22] : جاءت [مجلة «الشهاب» خلفًا «للمنتقد» تعمل على نفس المبدأ والغاية، وتؤدّي رسالتها النبيلة بكلّ صمود، مصدّرة في الغالب بآيات مفسرة وأحاديث مشروحة إلى غاية سنة (1358ﻫ-1939م)] انظر : الإعلام بمنثور تراجم المشاهير و الأعلام للشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس (ص:191).
[23] : هو أبو جعفر محمّد بن جرير بن يزيد الطبري، العلم المجتهد المطلق كان إمامًا في علوم شتى، قال عنه الخطيب البغدادي: «فكان حافظًا لكتاب الله، عارفًا بالقراءات، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكام القرآن، عالمًا بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها ناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم، وله تصانيف عديدة منها: «كتاب التفسير وتهذيب الآثار»، و«التبصرة في أصول الدين»، و«تاريخ الأمم والملوك»، و«اختلاف العلماء»، توفي سنة: 310ﻫ.[ انظر : الإعلام بمنثور تراجم المشاهير و الأعلام للشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس (ص:347)].
و تفسيره جامع البيان عن تأويل آي القرآن المشهور بـ (تفسير الطبري) من أجلِّ التفاسير وأعظمها شأناً، وقد حُكِي الإجماع على أنه ما صُنِّف مثله لما تميَّز به من استدلاله بالمأثور و خلوه من البدع، وانتصاره لمذهب أهل السنة و الجماعة.
[24] : كتاب الكشاف للزمخشري كتاب في التفسير ، و هو جيد من حيث البلاغة واللغة لكنه ليس بسليم من حيث العقيدة ، وفيه كلمات تمر بالإنسان لا يعرف مغزاها ، لكنها إذا وقرت في قلبه فربما يتبين له مغزاها فيما بعد ، ويكون قد استسلم لها فيضل ، و قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (13 /386 – 387) : ( وأما ( الزمخشري ) فتفسيره محشو بالبدعة وعلى طريقة المعتزلة من إنكار الصفات والرؤية والقول بخلق القرآن ، وأنكر أن الله مريد للكائنات وخالق لأفعال العباد ، وغير ذلك من أصول المعتزلة ... وهذه الأصول حشا بها كتابه بعبارة لا يهتدي أكثر الناس إليها ولا لمقاصده فيها ، مع ما فيه من الأحاديث الموضوعة ، ومن قلة النقل عن الصحابة والتابعين ) ، وقال رحمه الله في معرض كلامه عن التفاسير الغير مقبولة : ( و منهم حسن العبارة ، يدس البدع في كلامه ، كصاحب الكشاف ، حتى إنه يروج على خلق كثير)[ حاشية مقدمة التفسير لابن القاسم الحنبلي (ص:129) الطبعة الثالثة.]
و لجهلنا بقواعد اللغة و معاني القرآن لا ينبغي لطالب العلم المبتدئ أن يقرأ هذا التفسير لأنه لا يميز بين الحق و الباطل فحتى العلماء الأكابر قد أقلقهم وأزعجهم ، فهاهو الإمام البلقيني شيخ الحافظ ابن حجر يقول : ( استخرجت من الكشاف اعتزالاً بالمناقيش) ، وهذا يدل على أنها خفية ، و الرجل لبلاغته و تمكنه من اللغة و الإحاطة بأسرارها في الجملة كان يستطيع يدس ما يدس من غير أن يفطن إليه إلا اللبيب الحاذق، وإذا كان هذا الإمام يقول هذا الكلام فما بال الذي لا يستطيع إعراب جملة و الله المستعان.
[25] : الزمخشري صاحب الكشاف من أبرز دعاة المعتزلة على الإطلاق إذ كان فخورا بالإنتساب إليهم وحريصا على إثبات تلك النسبة إليه ، فكان إذا طرق الباب قيل: من؟ قال : (جار الله المعتزلي)، والزمخشري هو محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي الزمخشري، جار الله، أبو القاسم: من أئمة العلم بالدين والتفسير واللغة والآداب ، ولد في زمخشر -من قرى خوارزم- وسافر إلى مكة فجاور بها زمنا فلقب بجار الله ، وتنقل في البلدان، ثم عاد إلى الجرجانية -من قرى خوارزم- فتوفى فيها سنة (538 هـ) ، قال الذهبي رحمه الله : ( الزمخشري ، العلامة ، كبير المعتزلة ، أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشري الخوارزمي النحوي ، صاحب ( الكشاف ) و ( المفصل ) (في النحو )... وكان داعية إلى الاعتزال ، الله يسامحه)[سير أعلام النبلاء (20/151-156).] ، وقال : ( صالح لكنه داعية إلى الاعتزال، أجارنا الله فكن حذراً من كشافه) [ ميزان الاعتدال : (4/78).]
[26] :هذه الخطبة التي كان النبي صلى الله عليه و سلم يبتدأ بها خطبه و هي معروفة عند العلماء بـ(خطبة الحاجة) ،وكانت تُفتح بها جميع الخطب ، سواء كانت خطبة نكاح ، أو خُطبة جمعة ، أو غيرها ، فليست خاصة بالنكّاح وحده، و قد وردت من عدة طرق ، فمن طريق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أخرجه أبوداود في سننه : كتاب النكاح : باب في خطبة النكاح ، رقم (2118).و الترمذي مطولا: باب ما جاء في خطبة النكاح ، رقم (1105) و قال : ( حديث عبد الله حديث حسن) ،و ابن ماجة مطولا : باب خطبة النكاح ، رقم (1892)،وغيرهم.
و من طريق ابن عباس أخرجه مسلم في صحيحه : كتاب الصلاة : باب تخفيف الصلاة و الخطبة برقم (868) و ابن ماجة برقم (1893) ، و من طريق جابر أخرجه مسلم برقم (867).
و راجع في هذا : (خطبة الحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه) للشيخ الألباني رحمه الله تعالى.
و قول الشيخ رحمه الله (نشكره) و ( نتوب إليه) زيادة مدرجة في الأحاديث الوارد في خطبة الحاجة، والأولى ذكر ها بما هو ثابت.
و أما ذكره للشهادتين بصيغة الجمع فهو مخالف للمنصوص عليه من الأحاديث النبوية المثبتة لها بصيغة الإفراد قال ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن (2/791-792) ط. المعارف: ("والأحاديث كلها متفقة على أنَّ: "نستعينه ونستغفره ونعوذ به" بالنون، والشهادتان بالإفراد، "وأشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأشهد أنَّ محمدا عبده ورسوله".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لما كانت كلمة الشهادة لا يتحملها أحد عن أحد، و لاتقبل النيابة بحال أفرد الشهادة بها، ولما كانت الاستعانة والاستعاذة والاستغفار يقبل ذلك فيستغفر الرجل لغيره، ويستعين الله له، ويستعيذ بالله له، أتى فيها بلفظ الجمع، ولهذا يقول: "اللهم أعنا، وأعذنا، واغفر لنا. قال ذلك في حديث ابن مسعود، وليس فيه "نحمده"، وفي حديث ابن عباس"نحمده" بالنون ، مع أنَّ الحمد لا يتحمله أحد عن أحد، ولا يقبل النيابة، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة فيه إلى ألفاظ الحمد والاستعانة على نسق واحد.
وفيه معنى آخر، وهو أنَّ الاستعانة والاستعاذة والاستغفار طلب وإنشاء، فيستحب للطالب أن يطلبه لنفسه ولإخوانه المؤمنين، وأمَّا الشهادة فهي إخبار عن شهادته لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، وهي خبر يطابق عقد القلب وتصديقه، وهذا إنما يخبر به الإنسان عن نفسه لعلمه بحاله بخلاف إخباره عن غيره، فإنه إنما يخبر عن قوله ونطقه، لا عن عقد قلبه. والله أعلم).
[27] :الحديث أخرجه بهذا اللفظ النسائي في الكبرى (2/308)في العيدين باب: كيف الخطبة، برقم(1799) [طبعة الرسالة] مع زيادة(وكل ضلالة في النار)،ومسلم في صحيحه برقم(867) وابن ماجة : باب اجتناب البدع و الجدال ، رقم (45)
[28] : منها ما أخرجه البخاري في صحيحه (3371) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: ( كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيَقُولُ إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ) ، و ما أخرجه مسلم في صحيحه (2708) عن خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةَ قالت: ( سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ قَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ).
[29] : في الأصل : ( خير منهن).
[30] :صحيح مسلم : كتاب : فضائل القرآن و ما يتعلق به : بَاب فَضْلِ قِرَاءَةِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، رقم (814).
[31] :قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى : (وحدثنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ عَنْ قَيْسٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُنْزِلَ أَوْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ).
[32] : قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى : (وحدثنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ح وحدثنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ كِلَاهُمَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ وَكَانَ مِنْ رُفَعَاءِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
[33] :قصة سحر اليهودي للنبي صلى الله عليه و سلم قصة صحيحة صححها الألباني رحمه الله تعالى في السلسلة الصحيحة ، رقم (2761).
[34] : أخرجه البخاري : كتاب الطب : باب السحر ، رقم (5763) ، و في باب : هل يستخرج السحر؟ ، رقم (5765) ، وفي باب السحر ن رقم (5766) ، و مسلم في صحيحه : برقم (2189) عن عائشة رضي الله عنها قالت : (سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي لكنه دعا ودعا ثم قال يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل فقال مطبوب قال من طبه قال لبيد بن الأعصم قال في أي شيء قال في مشط ومشاطة وجف طلع نخلة ذكر قال وأين هو قال في بئر ذروان فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه فجاء فقال يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء أو كأن رءوس نخلها رءوس الشياطين قلت يا رسول الله أفلا استخرجته قال قد عافاني الله فكرهت أن أثور على الناس فيه شرا فأمر بها فدفنت تابعه أبو أسامة وأبو ضمرة وابن أبي الزناد عن هشام وقال الليث وابن عيينة عن هشام في مشط ومشاقة يقال المشاطة ما يخرج من الشعر إذا مشط والمشاقة من مشاقة الكتان).
[35] : سنن النسائي(طبعة مشهور) : كتاب الاستعاذة :برقم (5432) ، و صححه الألباني في صحيح سنن النسائي برقم (4547)،و في السلسلة الصحيحة برقم (1104).
[36] : في (ص: 134) طبعة الرسالة : ( فصل : الإجماع و النصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي ، لا شبهة في ذلك).
[37] : البخاري : كتاب فضائل القرآن : بَاب فَضْلِ الْمُعَوِّذَاتِ، رقم (5016) ، و مسلم في : كتاب السلام : باب رقية المريض بالمعوذات و النفث ، رقم (2192) ، من طرق ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بن الزبير عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا).
[38] : سنن النسائي (طبعة مشهور) : كتاب الاستعاذة ، حديث رقم (4530) ، وصححه الألباني في صحيح سنن ابي داود ، حديث رقم (1315)، و هو بهذا اللفظ : قال النسائي رحمه الله تعالى : (أخبرنا محمد بن علي قال: حدثني القعنبي عن عبد العزيز، عن عبد الله بن سليمان، عن معاذ بن عبد الله بن خبيب، عن أبيه، عن عقبة بن عامر الجهني قال: بينا أنا أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته في غزوة إذ قال: يا عقبة !قل، فاستمعت، ثم قال: يا عقبة ! قل، فاستمعت فقالها الثالثة، فقلت: ما أقول؟ فقال: ﴾قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص:1].، فقرأ السورة حتى ختمها، ثم قرأ ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ ، وقرأت معه حتى ختمها، ثم قرأ ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ ، فقرأت معه حتى ختمها، ثم قال: ما تعوذ بمثلهن أحد).
[39] : كما في الحديث الذي رواه ابن حبان كما في صحيح موارد الضمآن (675) و (682)، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَة الأولى من الْوتر بـ﴿سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى﴾ وَفِي الثَّانِيَة بـ﴿قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ﴾ وَفِي الثَّالِثَة بـ﴿قل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ وَ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ وَ﴿قل أعوذ بِرَبّ النَّاس﴾).

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 02 Feb 2014, 06:38 PM
بلال بريغت بلال بريغت غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
الدولة: قسنطينة / الجزائر.
المشاركات: 436
إرسال رسالة عبر Skype إلى بلال بريغت
افتراضي

سُورَةُ الْفَلَقِ

قال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾[الفلق:01]:

الأمر المفرد للنبي عليه السلام.

ومن حسن الأدب في مقدرات القرآن أن تقدِّر في مثل هذا الأمر أيُّها الرسول أو أيُّها النبي، لأنهما الوصفان اللذان نطق بهما القرآن في نداء النبي- عليه السلام-، وأن لا نقدر يا محمد كما هو جار على الألسنة وفي التصانيف، فإن القرآن لم يخاطبه باسمه والأمر لنبيّنا أمر لنا لأننا المقصودون بالتكليف ولا دليل على الخصوصية فهو في قوّة: قل أنت، وقل لأمتك يقولون.
وأعوذ: أستجير وألتجيء ويتعدى هو وجميع تصاريفه بالباء، كأستجير. والعوذ والعياذ مصدران منه كالصوم والصيام، وفي القرآن مما جاء على المعنى اللغوي: ﴿ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ﴾[الجن:06] ومن كلام العرب: (قد استعذت بمعاذٍ)([1]).
والرب: الخالق المكوّن المربي، ومواقع استعمال هذه الكلمة في القرآن هي التي تكشف كل الكشف عن معناها الكامل.

والفلق: الفجر المفلوق المفري.

ومن لطائف هذه اللغة الشريفة أن الفتح والفلح والفجر والفلق والفرق والفتق والفري والفأ والفقأ والفقه كلها ذات دلالات واحدة، وتخصيصها بمتعلقاتها باب من فقه اللغة عظيم.
ومما وصف به ربنا نفسه في القرآن: ﴿فَالِقُ الإِصْبَاحِ﴾[الأنعام:96] ،و ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾[الأنعام:95] ، فهما من أسمائه تعالى([2]).
ومواقع هذه الألفاظ التي تضاف إلى كلمة (رب) في القرآن كمواقع أسماء المخلوقات التى أقسم بها الله، كلاهما عجيب معجز، فكل لفظة تستعمل في المقام الذي يناسبها وتناسبه، وكل لفظة تبعث في الأسلوب الذي وقعت فيه متانة وقوّة وفي معناه وضوحا وجلاء، وسر إضافة الفلق إلى ربّ هنا أن الفجر بمعناه العرفي هو تشقق الظلمة عن النور، فإن الليل يكون مجتمع الظلمات مسدول الأرواق([3]). فإذا جاء الصبح حصل الانفلاق. والذي يبقى بعد ذلك الانفلاق هو النور الذي نفى الظلمة. ولا ينفي ظلمات الشر والضلال والباطل إلّا أنوار الخير والهدى والحق من خالقها، وفالق أنوارها. وكما أضيف (الفلق)، بمعنى الفجر، إلى كلمة (رب) هنا أقسم به في آية أخرى وهي قوله تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ﴾[الفجر:01].


-يتبع-
===
[1] : قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ( اعلم أن لفظة (عاذ) و ما تصرف منها تدل على التحرز و التحصن و النجاة و حقيقة معناها: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه ، و لهذا يسمى المستعاذ : معاذاً كما سمى : ملجأً ووزراً.
و في الحديث : أن ابنة الجَون لما أدخلت على النبي صلى الله عليه و سلم فوضع يده عليها قالت : (أعوذ بالله من).فقال: ( لقد عُذْت بمَعاذ ، الحقي بأهلك )[أخرجه البخاري برقم (5254]) .أنظر: بدائع التفسير (3/388).
وراجع تفسير المعوذتين لابن القيم فهو تفسير لم يسبقه إليه أحد.
[2] : باب الأسماء توقيفي : يعني: يتوقف في ألفاظه، على ما جاء في الشرع، فلا يسمى الله ولا يوصف إلا بما جاء في الكتاب والسنة ، و ما كان من باب الإخبار فهو أوسع من باب الأسماء كما أفاده ابن القيم رحمه الله تعالى في البدائع (1/161).
[3] : من راق يروق : و جاء في اللسان : (هو جمع رواق وربما قالوا : روق الليل إذا مد رواق ظلمته وألقى أروقته)، و معنى: رَوَّقَ اللَّيلُ : مَدَّ رُواق ظُلمَتِهِ .و الله أعلم.

التعديل الأخير تم بواسطة بلال بريغت ; 03 Feb 2014 الساعة 06:40 PM
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 03 Feb 2014, 06:34 PM
بلال بريغت بلال بريغت غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
الدولة: قسنطينة / الجزائر.
المشاركات: 436
إرسال رسالة عبر Skype إلى بلال بريغت
افتراضي

﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾[الفلق:02]:

من كل مخلوق فيه شر، فلا يدخل في عمومه إلّا كل شرير من أي العوالم كان، كما يدخل في عموم الناطق كل ذي نطق، أو من شر كل مخلوق. ومن مخلوقات الله ما هو خير محض كالأنبياء والملائكة. ومعلوم أن المخلوقات كلها خلقت بحق ولحكمة فهي في نفسها خير، فإن كان لا ينشأ من أعمالها أو آثارها إلا الخير فهي الخير المحض، وإن كان ينشأ عنها الشر أحيانًا أو دائمًا فعملها هو الشر وهو المستعاذ منه.

وتصح نسبة هذا القسم إلى الله من حيث الخلق والحكمة، ونسبة أعماله إليه من حيث التقدير والتكوين لا من حيث الرضى والتكليف، فالله لا يرضى بالشرّ ولا يكلف به، وقصارى إبليس -وهو مادة الشر في هذا الوجود- أن يزيد الشر ويلبسه بالخير، فالشر بيد الله خلقة وحكمة لا رِضًا وتكليفًا، والخير بيد الله خلقة وحكمة ونعمة وأمرًا.
وقد يكون الشرّ ذاتيًا لا ينفك، وقد يكون نسبيًّا باعتبار حالة تعرض واتجاه يقصد ونعم الله على عباده قد تنقلب عليهم شرًا وبلاءً بسبب سوء تصرفهم فيها، كالمال الذي سماه الله خيرًا في القرآن([1]) - يكسبه صاحبه من الوجوه الشرعية وينفقه في الوجوه المشروعة. ويتحرى رضا الله في جمعه وتفريقه فيكون خيرًا بذاته وبعمل صاحبه، ويتصرف فيه بعكس ذلك فيكون شرًا لا من ذاته بل من عمل صاحبه.
وهذا العالم الإنساني المكلف هو الذي يتجلّى الخير والشرّ في أعماله، ويتصلان بحياته اتصالًا وثيقًا، وإنما عيب عليه الشر وقبح منه لأنه قادر على تمييزه واجتنابه ومكلف بذلك، وقد وضع له الدين قوانين ثابتة للخير والشر، وَوَضَّح له أن الخير ما نفع وأن الشر ما أضر.

ولكنه وإن أُوتي قوّة التمييز لم يؤت قوّة الاستعصام ابتلاء من الله.

فأما المخذول فيأتي الشر عامدًا متعمدًا وهو يعلم أنه شر.

وأما الموفق فيواقع الشر في مواقف يشتبه عليه فيها الخير بالشر ويعسر التمييز.

والخير والشر لا يوزنان بميزان حسِّيٍّ يستوي الناس كلهم في إدراكه، وقد تَدِقُّ الفوارق بينهما حتى تخفى، وفي هذه المواقف يجب الالتجاء إلى الله ليرينا الخير خيرًا ويكشف لبصائرنا عن حقائق الشر فلا يلتبس علينا شيء بشيء، وبعد أن يوجه الاضطرار نفوسنا هذا التوجيه الصحيح تندفع ألسنتنا ونقول:

﴿أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾.
وبهذا تظهر المناسبة الدقيقة بين (رب) و(الفلق).

فإن ربَّ الناس ومربيهم وسائقهم إلى ما يكمل وجودهم هو الذي تنكشف لعلمه سرائرهم.

والفلق نور يكشف للعيان كل المبصرات فتُرَى على حقائقها ومقاديرها، لا يزيغ البصر في شيء منها ولا يطغى، والإنسان مهما يكن عالمًا فقد تخفى عليه حقائق المعقولات فيزيغ فكره ويطغى.
ومناسبة أخرى: وهي أنَّ الشر ظلام، وقد أجرى الله في فطر البشر تصور الشر كالظلام وأجرى على ألسنتهم تشبيه الشر بالظلام، ذلك أن ما يلابس إحساسهم من الأنس بالنور والبشاشة له هو عين ما يلابسه من الأنس والبشاشة للخير، وأن ما يضايقهم من وحشة الظلام وتوقع الهلاك فيه هو عين ما يضايقهم من ذلك في الشر.
هذا كله في الشر على عمومه، ثم خصص تعالى من هذا العموم ثلاثة أنواع من الشر لشدة تعلقها بحياة الإنسان وكثرة عروضها له، ويجيء أكثرها من أخيه الإنسان، ورتبها ترتيبًا بديعًا لا يستغرب في جنب بلاغة القرآن، ودقته في رعاية المراتب وتنسيقها في العرض على الأذهان.
هذه الثلاثة هي:

- الغاسق إذا وقب.

- والنفاثات في العقد.

- والحاسد إذا حسد.


و الغاسق: الليل المظلم، والمراد هنا المصيبة تطرق ليلًا وعلى غرّة.

و وقب: دخل في الوقب، وهو النقرة في الشيء.

والنفاثات: السواحر ينفثن الريق واللفظ، جمع نفاثة، كثيرة النفث.
والعقد: جمع عقدة، بيان لعادة السواحر المعروفة من عقد الخيوط ونفث الريق عليها.
والجامع بين الثلاثة هو اشتراكها في الخفاء، فإن الغاسق ظلام تخفى فيه الشرور، والنفاثات مبني أمرهن على الإخفاء تخييلًا وإيهامًا، والحسد داء دفين.

فالثلاثة كما ترون شرها خفي، وكل شر يخفي عمله أو يخفى أثره يجلّ خطبه ولعظم خطره. فيعسر التوقّي منه والاحتياط له. لأنك تتقي ما يظهر ويستعلن لا ما يخفى ويستتر، لا جرم كانت الثلاثة جديرة بالتخصيص.

أما نكتة الترتيب فإن الليل ليس شرًا في نفسه ولا الشر من عمله، وإنما هو ظرف للشرور، والعلاقة بين الشيء وظرفه مكينة في النفوس قوية في الاعتبار مسبّبة للحكم على أحدهما بحكم الآخر.

بخلاف النفاثات والحساد فإن الشر من عملهما ومن وصفهما، ولانطباعهما عليه صار ذاتيا لهما.

ولا شك أن الشر الذاتي أمكن من العرضي، كما أن بين الاثنين تفاوتا في ذاتية الشر وقوّته وعسر التوقِّي منه.

فالنفاثات وإن كن يتحرين إخفاء عملهن ولكنه مما يمكن ظهوره وافتضاحه، بخلاف الحاسد فإنه يخفي شره ويبالغ فيظهر بمظهر الخير فشره أشد والتوقي منه أعسر، ففي الترتيب بين الثلاثة ترقٍّ من الأخف إلى الأشد.

ومن جهة أخرى نجد التناسب ظاهرًا بين الثلاثة: (الغاسق) و (النفاثات) و (الحاسد)، فإن الجميع ظلام، ظلام الزمن وظلام السحر وظلام الحسد.

وفي تقييد الغاسق بالوقوب احتمالان كلاهما صحيح مفيد للمراد.

الأول: أن وقوب الغاسق عبارة عن اعتكار الظُّلَم وتكاثفها، فكأن بعض أجزائها يدخل بعضًا، والظلام يبدأ خفيفًا مشوبا بإسفار من أو من طبيعة الأرض، ثم يشتد ويحلو لك حتى يغطّي على كل شيء، فتلك التغطية هي الوقوب.

والوقوب على هذا الاحتمال منظور فيه إلى ظرفه الزماني.

وفائدة القيد حينئذٍ أن تلك الحالة المصورة بهذه الجملة هي التي تقع فيها الشرور من الآدميين وغيرهم.

فالطارق يطرق والسارق يسرق والحيات تنتهش، والضواري تفترس، وظلام الليل يستر ذلك كله ويعين عليه ويعوق عن الاستصراخ والاستنجاد، والعرب تقول في ما يشير إلى هذا: (اللَّيْلُ أَخْفَى لِلْوَيْلِ).
فالمستعاذ منه على هذا الاحتمال شرٌ يقع في زمان، والاحتمال الثاني أن الوقوب في حقيقته هو دخول شيء في شيء دخولًا حسّيًّا فيقتضي ظرفًا مكانيًّا، وما هذا الظرف إلّا الأبنية والمساكن، والظلام حين يهجم يدخل المساكن فيملأها ويكون دخوله فيها أبين من دخولها في الفضاء وملؤه إياها أشد، فالوقوب على هذا منظور فيه إلى ظرفه المكاني، لأن الشرور التي ترتكب في البيوت حين يغمرها الظلام أكثر مما يرتكب منها في الفضاء خصوصا من الآدميين، والمستعاذ منه شر يقع في مكان، وعلى الاحتمالين لما كان الليل معوانًا لذوي الشر على شرهم أضيف الشر إليه واستعيذ بالله منه. والنفاثات: صفة إما للنفوس فتشمل الرجال والنساء وتكون الاستعاذة من شر كل من يتعاطى هذا الفعل رجلًا كان أو امرأة، وأما للنساء وخُصِّصن بذلك لأن وقوع هذا الفعل منهن أكثر، وهُنَّ به أشهر.

والنفث: إخراج الهواء من الفم مدفوعًا بالنفس بدون بصاق، أو مع قليل منه تتطاير ذراته وهو دون التفل، والنفث وإن كان عامًا لكنه اشتهر فيما يفعله السحرة، يعقدون خيطًا ويتمتمون عليه برقى معروفة عندهم وينفثون على كل عقدة منه بقصد إيصال الشر من نفوسهم الخبيثة إلى نفس المسحور.﴿ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾[البقرة:102]. وما أمرنا الله بالاستعاذة من شره إلّا لأنه يؤثّر في بعض النفوس القابلة للتأثر به، حاش النفوس المعصومة كنفوس الأنبياء، فإن شرور الدنيا وأسوأها لا تعدو أبدانهم إلى أرواحهم.

ولا يتعاصى على هذه القاعدة ما ورد في سحر لبيد بن الأعصم اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم([2]) وما يوهمه لفظ الرواية فإن ذلك كله لا يخرج عن التأثر البدني.
ونحن نعتقد دينًا أن تأثير المؤثرات هو من وضع الله وحده. ونقطع علمًا وتجربة أن للقوى النفسية تأثيرًا أعظم من تأثير القوى الجسمانية، وأن من مظاهر هذا التأثير النفساني تأثير العين في المعيون وتأثير التنويم في المنوّم، وأن التأثير والتأثر النفسانيين يختلفان باختلاف النفوس الفاعلة والمنفعلة قوّة وضعفًا، وأن تأثير العين ليس من ذاتها وإنما هو من النفس التي من وراء العين، ولو كان التأثير من ذات العين لكانت كل عين ناظرة تُحدث ذلك الأثر، وإن هذا التأثير لون من ألوان النفس، فإن كانت خيرة كان تأثيرها خيرًا، وإن كانت شريرة كان شرًا.

فالنفث المذكور في الآية إنْ أثَّر فإنما يؤثر بالقوّة النفسية التي من ورائه، والساحر لا ينفث من نفسه الخبيثة إلّا نفث الشر، لأن الشر هو صفته الطبيعية، كالحية لا تنفث الترياق وإنما تنفث السم. وكالعدو يلقاك بطعن الأَسَل([3])، لا بطعم العسل إذ كان ذلك من طبيعة العداوة.

هذا نفث الشر من النفوس الشريرة كنفوس السحرة، وأما النفوس الخيرة الطيبة كنفوس المؤمنين فإنها تنفث الخير للخير. وفي الصحيح عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ جَمَعَ بَيْنَ كَفَّيْهِ ثم نَفَثَ فِيهِمَا وَهُو يَقْرَأُ المُعَوذتين ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ بَدَنِه، يَبْدَأُ بِرَأْسَهُ وَوَجْهَهُ ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ)([4]).

فهذا نفث الخير من خير نفس خلقها الله.

ثم قالت في تمامه: (فَلَمَّا اشْتَكَى كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ [بِهِ]([5]))([6]).

وفي رواية: كان يقرأ بالمعوذات، فلمَّا ثقل كنتُ أنفثُ عليه بهذا، وأمسح بيد نفسه؛ رجاء بركتها([7]).

وفي رواية مسلم عنها: (أنه كان يفعل ذلك إذا مرض أحد أهله)([8]).
فهذه الأحاديث- وهي ثابتة صحيحة- تثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ المعوذات وينفث حين القراءة نفث الخير قطعًا. وتبين لنا أن كل نفس تنفث ما وقر فيها. وأن النفث إيصال للقوة الروحانية إلى ما يراد وصول الأثر إليه، وهي دليلنا على ما أسلفنا من أن في النفث خيرًا وشرًا، ولولاهما لما كان النفث إلّا من فعل السحرة.

والنفوس إذا استفزها شيء من ملابستها تتفشى فيها الروحانية وتضطرب، فكأنها بذلك النفث تنفض جزءًا من روحانيتها على نفس أخرى أو على بدن، وكأن تحريك اللسان بقراءة أو غيرها إثارة لتلك الروحانية واستدعاء لها حتى تتصل بالريق الذي ينفث كما يتصل السيال الكهربائي بشيء مادِّي، وقد علمنا أن السحرة لا ينفثون نفثًا مجردًا بل يغمغمون برقى شيطانية وأسماء أرواح خبيثة.

ومن الشواهد لنفث الريق ما أخرجه مسلم من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه أو كانت به قرحة أو جرح قال النبي بأصبعه هكذا -تعني وضعها على الأرض كما فسرها سفيان([9]) بالعمل- ثم رفعها وقال: (بِسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا)([10]).

...


[بعد رواية الأستاذ لهذا الحديث سكت لحظة كمن يستجمع خواطره ثم اندفع فقال ما معناه بتوسع]:

إن القرآن كتاب الدهر ومعجزته الخالدة فلا يستقل بتفسيره إلّا الزمن، وكذلك كلام نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المبين له، فكثير من متون الكتاب والسنة الواردة في معضلات الكون ومشكلات الاجتماع لم تفهم أسرارها ومغازيها إلّا بتعاقب الأزمنة وظهور ما يصدقها من سنن الله في الكون، وكم فسرت لنا حوادث الزمن واكتشافات العلم من غرائب آيات القرآن ومتون الحديث، وأظهرت منها للمتأخرين ما لم يظهر للمتقدمين، وأرتنا مصداق قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصف القرآن: (لا تنقضي عجائبه)([11]).
والعلماء القوامون على كتاب الله وسنة رسوله لا يتلقونهما بالفكر الخامد والفهم الجامد، وإنما يترقبون من سنن الله في الكون وتدبيره في الاجتماع ما يكشف لهم عن حقائقهما، ويكلون إلى الزمن وأطواره تفسير ما عجزت عنه أفهامهم، وقد أثر عن جماعة من فقهاء الصحابة بالقرآن قولهم في بعض هذه الآيات، لم يأت مصداقها أو تأويلها بعد. يعنون أنه آتٍ وأن الآتي به حوادث الزمان ووقائع الأكوان وكل عالم بعدهم فإنما يعطي صورة زمنه بعد أن يكيف بها نفسه.
ولو أننا عرضنا حديث التربة والريقة على طائفة من الناس مختلفة الأذواق متقسمة الحظوظ في العلم وسألناهم: أية علاقة بين الشفاء وبين ما تعاطاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أسبابه في هذا الحديث؟ فماذا (تراهم)([12]) يقولون؟
يقول المتخلف القاصر: تربة المدينة بِرِيق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شفاء ما بعده من شفاء.
ويقول الطبيب المستغرب: هذا محال في التراب مكروب، وفي الريق مكروب. فأنَّى يشفيان مريضا أو ينفسان عن مكروب؟!.
ويقول الكيمياوي: ها هنا تفاعل بين عنصرين، ودعوا التعليل، فالقول ما يقول التحليل.
ويقول ذوو المنازع القومية والوطنية، ولو كانوا يدينون بالوثنية: آمنا بأن محمدًا رسول الله. فقد علّم الناس من قبل أربعة عشر قرنًا أن تربة الوطن معجونة بريق أبنائه تشفي من القروح والجروح، ليربط بين تربته وبين قلوبهم عقدًا من المحبة والإخلاص له. وليؤكد فيها معنى الحفاظ له والاحتفاظ به وليقرر لهم من منن الوطن منة كانوا عنها غافلين، فقد كانوا يعلمون من علم الفطرة أن تربة الوطن تُغذي وتُروي، فجاءهم من علم النبوة أنها تَشْفي، فليس هذا الحديث إرشادا لمعنى طبي ولكنه درس في الوطنية عظيم.

ولو أنصف المحدثون لما وضعوه في باب الرقى والطب فإنه بباب حب الوطن أشبه، وما نرى رافع لعقيرة بقوله:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً *** بِوَادٍ وَحَوْلِي (إِذْخِرٌ)([13]) وَ(جَلِيلُ)([14])
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ *** وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ([15]).

إلّا سائرًا على شعاعه، وما نرى ذلك الغريب المريض الذي سئل: فيم شفاؤك؟ فقال:[ شمة من تربة اصطخر، وشربة من ماء (نهاوند)([16])]([17]) إلّا من تلامذة هذا الدرس.

ولقد زادنا إيمانًا به بعد إيمان أنه يقول: (تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا)، و لم يقل: (تربة الأرض بريق بني آدم)، فليس السر في تربة وريق ومرض، ولكن السر في أرضنا وبعضنا ومريضنا فهذه- والله ربنا- صخرة الأساس في بناء الوطنية والقومية لا ما يتبجح به المفتونون([18]).
ويقول الروحانيون: إن هناك روحًا طاهرة تتصل بتربة الأرض التي خلق المريض منها وتغذى بنباتها ومائها، وتنفس كبده في جوّها وهوائها. من ريقة منفوثة نفث الخير من نفس مؤمنة قوية الروحانية، فيكمل التكوين بين الريق والتربة مع اسم الله الذي قامت به السموات والأرض وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، فيحصل الشفاء بهذا العمل النفساني، وإذا تجلت النفس بعجائبها لم يبق في الوجود عجيب.
ويقول غير هؤلاء ما يقول، وهذه المتون كاسمها متون، وهذه الأصول كاسمها أصول.

وهكذا تأتي بعض المتون من كلام الله وكلام رسوله معجزة للعقول، فتتطاير من حولها الفهوم والآراء تطاير الشعراء، ويظن كل عقل أن حرفته آلة لتفسير تلك المتون، والعلوم حرف العقول، والزمان من وراء الكل يصيح أن انتظروا ...


-يتبع-


====


[1] : و ذلك في قوله تعالى : ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾[البقرة: 180] ، و قوله تعالى : ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾[البقرة:272].
قال ابن كثير في تفسيره : (وقوله : ﴿ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ : أي : مالا . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، و عطاء ، و سعيد بن جبير ، و أبو العالية ، وعطية العوفي ، والضحاك ، والسدي ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، وقتادة ، وغيرهم .
و قال البغوي في تفسيره : (﴿ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾أي مالا نظيره قوله تعالى : ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾).
[2] : تقدم تخريجه.
[3] : أي بطعن النَّبْل و الرماح.
[4] : أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب فضائل القرآن : باب فضل المعوذات ، رقم (5017) عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:( أنَّ النَّبِيَّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ ؛ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثم نَفَثَ فِيهِمَا ، فَقَرَأَ : ﴿قل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ وَ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ وَ﴿قل أعوذ بِرَبّ النَّاس﴾ ثُمَّ يمْسَحَ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ ، يَبْدَأُ بِهِمَا على رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ).
[5] : ساقطة من الأصل .
[6] : أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب الطب : باب النفث في الرقية ، رقم (5748).
[7] : أخرجه البخاري في صحيحه : كتاب الطب : باب المرة ترقي الرجل رقم (5751) عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: (أنَّ النَّبِيَّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،كان يَنْفِثُ على نَفْسِه في مرضه الذي قُبِضَ فيه بالمعوّذات، فلمَّا ثَقُلَ كنتُ أنا أنفثُ عليه بهنّ، وأمسحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لبَرَكتِها).
[8] : صحيح مسلم : كتاب السلام : باب رقية المريض بالمعوذات و النفث ، رقم (2192) عن عائشة قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدي وفي رواية يحيى بن أيوب بمعوذات).
[9] : سفيان هو : ابن عيينة رحمه الله.
[10] : كتاب السلام : باب رقية المريض بالمعوذات و النفث ، رقم (2194) قال : (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن أبي عمر واللفظ لابن أبي عمر قالوا حدثنا سفيان عن عبد ربه بن سعيد عن عمرة عن عائشة به).
و فيه : (ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها) و هذا ما يفسر قول الشيخ رحمه الله : (كما فسرها سفيان بالعمل).
[11] : ضعيف. وهو قطعة من حديث أخرجه الترمذي في سننه : كتاب فضائل القرآن : باب ما جاء في فضل القرآن ، رقم (2906).
و انظر السلسلة الضعيفة للعلامة الألباني رحمه الله برقم (6393).
[12] : كذا في آثار الإبراهيمي ، و في آثار ابن باديس جمع عمار طالبي ( تقولهم).
[13] : (إِذْخِرٌ): بكسر الهمزة وسكون الذال وكسر الخاء المعجمتين حشيش مكة ذو الرائحة الطيبة[شرح الزرقاني على الموطأ].
[14] : (جَلِيلُ): بجيم وكسر اللام الأولى نبت ضعيف يحشى به البيوت وغيرها[شرح الزرقاني على الموطأ].
و جاء في شرح الزرقاني : قال أبو عمر(وهو ابن عبد البر): (إذخر وجليل نبتان من الكلأ طيبا الرائحة يكونان بمكة وأوديتها لا يكاد أن يوجدان في غيرها ).
[15] : البيتان لبلال رضي الله عنه أخرج مالك في الموطأ : كتاب الجامع : باب فضائل المدينة : ما جاء في وباء المدينة ،رقم (1703) ط.الرسالة ، و من طريقه البخاري في صحيحه : كتاب مناقب الأنصار : باب مقدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة ، رقم (3926) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال قالت فدخلت عليهما فقلت يا أبت كيف تجدك ويا بلال كيف تجدك قالت فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول

كل امرئ مصبح في أهله *** والموت أدنى من شراك نعله.

وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته فيقول :

أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً *** بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ *** وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ.
قالت عائشة فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها وانقل حماها فاجعلها بالجحفة).
[16] : نهاوند : اسم لمدينة إيرانية تقع قرب همدان ، و بها قامت المعركة العظيمة ، معركة ناهوند ، قال الذهبي في السير : (وقال النهاس بن قهم عن القاسم بن عوف الشيباني ، عن السائب بن الأقرع ، قال : زحف للمسلمين زحف لم ير مثله قط ، زحف لهم أهل ماه وأهل أصبهان وأهل همذان والري وقومس ونهاوند وأذربيجان ، قال : فبلغ عمر رضي الله عنه فشاور المسلمين ، فقال علي ، رضي الله عنه : أنت أفضلنا رأيا وأعلمنا بأهلك . فقال : لأستعملن على الناس رجلا يكون لأول أسنة يلقاها ، يا سائب اذهب بكتابي هذا إلى النعمان بن مقرن ، فيسر بثلثي أهل الكوفة ، وليبعث إلى أهل البصرة ، وأنت على ما أصابوا من غنيمة ، فإن قتل النعمان فحذيفة الأمير ، فإن قتل حذيفة فجرير بن عبد الله ، فإن قتل ذلك الجيش فلا أراك .
وروى علقمة بن عبد الله المزني ، عن معقل بن يسار أن عمر شاور الهرمزان في أصبهان وفارس وأذربيجان فأيتهن يبدأ ، فقال : يا أمير المؤمنين أصبهان الرأس ، وفارس وأذربيجان الجناحان ، فإن قطعت أحد الجناحين مال الرأس بالجناح الآخر ، وإن قطعت الرأس وقع الجناحان ، فدخل عمر المسجد فوجد النعمان بن مقرن يصلي فسرحه وسرح معه الزبير بن العوام ، وحذيفة بن اليمان ، والمغيرة بن شعبة ، وعمرو بن معد يكرب ، والأشعث بن قيس ، وعبد الله بن عمر ، فسار حتى أتى نهاوند ، فذكر الحديث إلى أن قال النعمان لما التقى الجمعان : إن قتلت فلا يلوي علي أحد ، وإني داعي الله بدعوة فأمنوا ، ثم دعا : اللهم ارزقني الشهادة بنصر المسلمين والفتح عليهم ، فأمن القوم ، وحملوا فكان النعمان أول صريع .
وروى خليفة بإسناد ، قال : التقوا بنهاوند يوم الأربعاء فانكشفت مجنبة المسلمين اليمنى شيئا ، ثم التقوا يوم الخميس فثبتت الميمنة وانكشف أهل الميسرة ، ثم التقوا يوم الجمعة فأقبل النعمان يخطبهم ويحضهم على الحملة ، ففتح الله عليهم .
وقال زياد الأعجم : قدم علينا أبو موسى بكتاب عمر إلى عثمان بن أبي العاص : أما بعد ؛ فإني قد أمددتك بأبي موسى ، وأنت الأمير فتطاوعا والسلام . فلما طال حصار إصطخر بعث عثمان بن أبي العاص عدة أمراء فأغاروا على الرساتيق .
وقال ابن جرير في وقعة نهاوند : لما انتهى النعمان إلى نهاوند في جيشه طرحوا له حسك الحديد ، فبعث عيونا فساروا لا يعلمون ، فزجر بعضهم فرسه وقد دخل في حافره حسكة ، فلم يبرح ، فنزل فإذا الحسك ، فأقبل بها ، وأخبر النعمان ، فقال النعمان : ما ترون ؟ فقالوا : تقهقر حتى يروا أنك هارب فيخرجوا في طلبك ، فتأخر النعمان ، وكنست الأعاجم الحسك وخرجوا ، فعطف عليهم النعمان وعبأ كتائبه وخطب الناس ، وقال : إن أصبت فعليكم حذيفة ، فإن أصيب فعليكم جرير البجلي ، وإن أصيب فعليكم قيس بن مكشوح ، فوجد المغيرة في نفسه إذ لم يستخلفه ، قال : وخرجت الأعاجم وقد شدوا أنفسهم في السلاسل لئلا يفروا ، وحمل عليهم المسلمون ، فرمي النعمان بسهم فقتل ، ولفه أخوه سويد بن مقرن في ثوبه وكتم قتله حتى فتح الله عليهم ، ودفع الراية إلى حذيفة .
وقتل الله ذا الحاجب ، يعني مقدمهم ، وافتتحت نهاوند ، ولم يكن للأعاجم بعد ذلك جماعة .
وبعث عمر السائب بن الأقرع مولى ثقيف - وكان كاتبا حاسبا - فقال : إن فتح الله على الناس فاقسم عليهم فيئهم واعزل الخمس ، قال السائب : فإني لأقسم بين الناس إذ جاءني أعجمي ، فقال : أتؤمنني على نفسي وأهلي على أن أدلك على كنز يزدجرد يكون لك ولصاحبك ؟ قلت : نعم . وبعثت معه رجلا ، فأتى بسفطين عظيمين ليس فيهما إلا الدر والزبرجد واليواقيت ، قال : فاحتملتهما معي ، وقدمت على عمر بهما ، فقال : أدخلهما بيت المال ، ففعلت ورجعت إلى الكوفة سريعا ، فما أدركني رسول عمر إلا بالكوفة ، أناخ بعيره على عرقوب بعيري ، فقال : الحق بأمير المؤمنين ، فرجعت حتى أتيته ، فقال : ما لي ولابن أم السائب ، وما لابن أم السائب ولي ، قلت : وما ذاك ؟ قال : والله ما هو إلا أن نمت ، فباتت ملائكة تسحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان نارا ، يقولون : " لنكوينك بهما " فأقول : " إني سأقسمهما بين المسلمين " فخذهما عني لا أبا لك فالحق بهما فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم ، قال : فخرجت بهما حتى وضعتهما في مسجد الكوفة ، وغشيني التجار ، فابتاعهما مني عمرو بن حريث بألفي ألف درهم ، ثم خرج بهما إلى أرض العجم فباعهما بأربعة آلاف ألف ، فما زال أكثر أهل الكوفة مالا )[ سير أعلام النبلاء للذهبي (26/126-127-128-129)].
[17] : أظن أن الشيخ رحمه الله قد اقتبسها من إحدى رسائل الجاحظ و هي رسالة : ( الحنين إلى الأوطان) و فيها : (ووجدنا من العرب: من قد كان أشرف على نفسه، وأفخر في حسبه؛ ومن العجم: من كان أطيب عنصراً وأنفس جوهراً أشد حنيناً إلى وطنه، ونزاعاً إلى تربته.
وكانت الملوك على قديم الدَّهر لا تؤثر على أوطانها شيئاً.
وحكى المُوبذ أنَّه قرأ في سيرة إسْفنديار بن يستاسف بن لُهْواسف، بالفارسية، أنه لمَّا غزا بلاد الخزر ليستنقذ أخته من الأسر، اعتلَّ بها، فقيل له: ما تشتهي؟ قال: شمَّةً من تُربة بلخ، وشربةً من ماء واديها.
واعتلَّ سابور ذو الأكتاف بالرُّوم، وكان مأسوراً في القدّ، فقالت له بنت ملك الرُّوم وقد عشقتْه: ما تشتهي مما كان فيه غذاؤك؟ قال: شربةً من ماء دجْلة، وشمَّةً من تربة إصطخر! فغبرت عنه أيّاماً ثم أتته يوماً بماءِ الفرات، وقبضةً من تراب شاطئه، وقالت: هذا من
ماء دجلة، وهذه من تربة أرضك، فشرب واشتمَّ من تلك التُّربة فأفاق من مرضه)[ رسالة الحنين إلى الأوطان للجاحظ (ص:39-40)ط.دار الرائد العربي –لبنان-].
[18] : قال محمد عثمان فتحي : ( و لم تكن القومية في رأي ابن باديس إلا الحفاظ على شخصية الشعب الجزائري الإسلامية العربية أمام المحاولات الدائبة لفرنسته). انظر: عبد الحميد بن باديس رائد الحركة الإسلامية في الجزائرية (ص:38) [بواسطة الرد النفيس على الطاعن في العلامة ابن باديس لمحمد حاج عيسى الجزائري (ص:264)] و راجع المطلب التاسع من الرد النفيس في قضية تقديم الوطن و القومية على الدين فإنه مهم.

التعديل الأخير تم بواسطة بلال بريغت ; 03 Feb 2014 الساعة 06:38 PM
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 03 Feb 2014, 08:41 PM
بلال بريغت بلال بريغت غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
الدولة: قسنطينة / الجزائر.
المشاركات: 436
إرسال رسالة عبر Skype إلى بلال بريغت
افتراضي

﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾[الفلق:5] :

الحاسد: الذي قامت به صفة الحسد. وهو الذي يُحب أن تُسلَب النِّعَم من غيره وقد تلج به هذه الصفة الذميمة فتزين له سلب النعم حتى من نفسه إذا توقف على ذلك سلبها من غيره، فهو لا يحب الخير لأحد ويتمنى أن لا يبقى على وجه الأرض منعم عليه.

وإنما ينشأ الحسد من العجب وحب الذات فتسول له نفسه أن غيره ليس أهلًا لنعم الله، وكفى بهذا محادّة للمنْعِم.
والحسد شرٌّ تلازمه شرور، العُجب والاحتقار والكِبْر.

وقد جمع إبليس هذه الشرور كلها؛ حسد آدم عُجْبًا بنفسه: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾[الأعراف:12]و [ص:76]، ورآه لا يستحق السجود احتقارًا له فقال: ﴿هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾[الإسراء:62]ثم تكبر ولم يسجد ورضي باللعنة والخزي، ولا أشنع من صفة يكون إبليس فيها إمامًا.
والحسد شرٌّ على صاحبه قبل غيره؛ لأنه يأكل قلبه ويؤرق جفنه ويقضّ مضجعه، ولا يكون شرًا على غيره إلا إذا ظهرت آثاره بأن كان قادرًا على الإضرار أو ساعيًا فيه، ولهذا قال تعالى: ﴿إِذَا حَسَدَ﴾. والمتمني للشيء لا يمنعه من إتيانه إلا العجز.

وأعظم ما ينمي الحسد ويغذيه امتداد العين إلى ما متع الله به عباده من متاع المال والبنين، ونعمة العافية والعلم، والجاه والحكم وقد نهى الله نبيه عن مد العين إلى ما عند الغير فقال: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾[طه:131].
وفي هذه الآية مع النهي إرشاد إلى علاج الحسد، فإن الحسد مرض نفساني معضل، ولكنه كغيره من الأمراض النفسية يعالج، وقد وصف الحكماء له أنواعًا من العلاج فصلتها كتب السنة وكتب الفقه النفسي ككتاب الإحياء([1]) للغزالي([2])




آثار ابن باديس (101/2-120) إعداد و تصنيف عمار طالبي .ط.دار الغرب الإسلامي تونس.

آثار الإبراهيمي (341/1-355) جمع و تقديم أحمد طالب الإبراهيمي.ط. دار الغرب الإسلامي تونس.


- يتبع مع سورة الناس -

=====

[1] : قال الإمام الطرطوشي المالكي عن كتاب الإحياء : ( شحن كتابه –أي الغزالي- بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا أعلم كتاباً على بسيط الأرض في مبلغ علمي أكثر كذبا على رسول الله صلى الله عليه و سلم منه، شبكه بمذاهب الفلاسفة و معاني (رسائل إخوان الصفا) و هم قوم يرون النبوة مكتسبة ، وزعموا أن المعجزات حيل و مخاريق)[ سير أعلام النبلاء للذهبي: (19/334)].
[2] : هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي الشافعي، حجة الإسلام جامع أشتات المنقول والمعقول، ومن مصنفاته: «إحياء علوم الدين»، «المستصفى» في الأصول، «المنخول» توفي سنة (505ﻫ).[انظر: الإعلام بمنثور تراجم المشاهير و الأعلام لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله (ص:378-379)].

التعديل الأخير تم بواسطة بلال بريغت ; 03 Feb 2014 الساعة 08:45 PM
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 05 Feb 2014, 10:06 PM
بلال بريغت بلال بريغت غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
الدولة: قسنطينة / الجزائر.
المشاركات: 436
إرسال رسالة عبر Skype إلى بلال بريغت
افتراضي

سُورَةُ النَّاسِ


قال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس :1]:

قد علمنا أن الصفة الجامعة بين هذه السورة وبين التي قبلها (هي المعوذتان) وعلمنا أنها تسمية نبوية، وقد جرت هذه الصفة مجرى الاسم لهما. أما الاسم الخاص بهذه السورة فهو الناس، كما أن الاسم الخاص بالسورة الأولى: الفلق. والمناسبة بين السورتين يرشد إليها اشتراكهما في الوصف وهو التعوذ بهما من الشرور المذكورة فيهما، وفي السورة الأولى الاستعاذة من الشر العام ومن ثلاثة أنواع منه ذكرنا الحكمة في تخصيصها بالذكر. وفي هذه السورة الاستعاذة من شر واحد لكنه سبب في شرور كثيرة.
والمناسبة القريبة بين السورتين هي أن النفوس الشريرة ثلاثة أقسام: قسم يصدر عنه الضرر ويعمله، وقسم لا يريد الخير فيسعى في سلبه وانتزاعه، وهو شر من الأول. وقسم يعمل إلى إيصال الشر إلى سلطان الجوارح ومالك هديها، وهو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. فهو يحسن له الأشياء القبيحة ويأتيه من جميع النواحي على وجه النصح وإرادة الخير، ويزين للإنسان كل ما يرديه من القبائح ويأتيه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، قريبا منه متصلا بهواه، وهذا القسم الأخير هو الذي يوسوس بكلمة السوء مزينة الظاهر مغطاة القبح حتى تستنزل صاحبها إلى الهلاك. ولما كان هذا القسم الثالث أعظم خطرًا وأكثر شرًا وأخسر عاقبةً خصص التعوذ منه بسورة كاملة.
رب الناس: هو مربّيهم ومعطيهم في كل مرتبة من مراتب الوجود ما يحتاجون إليه لحفظها، وهاديهم لاستعمال ما منَّ به عليهم فيما ينفعهم، ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[طه:50].

وأصله من ربه يربه ربا، إذا قام على إنشائه وتعاهده في جميع أطواره إلى التمام والكمال. ولفظه المصدر ولكن معنى اسم الفاعل كالعدل يراد به العادل.

و[مَلِكِ]([1]) النَّاسِ: هو الذي يملك أمر موتهم وحياتهم، ويشرع لهم من الدين ومن الأحكام ما يوافق حياتهم الدنيوية والأخروية.

وإِلَهِ النَّاسِ: هو الذي يدينون له بالعبادة والعبودية.
وبلاغة الترتيب إنما تظهر جلية عند استعراض أطوار الوجود الإنساني، فالأول: طور التربية والإعداد، وهما من مظاهر الربوبية.

والثاني: طور القوّة والتدبير، وهما من مظاهر الملك.

والثالث: طور الكمال والقيام بوظائف العبودية، وهو من مظاهر الألوهية.
والمستعاذ منه تارة يوسوس للإنسان بما يفسد عليه صلته بربه، وتارة بما يفسد عليه تدبيره وما شرع له لمنفعته وصلاحه. وتارة بما يفسد عليه عبوديته له وهي أشرف علائقه به وأقوى صلاته، وجماع ذلك أن يبعده عن الله بالوسوسة بواحدة من هذه أو بكلها أو بما يتفرع عنها مما تضمنته الآيات المبينة لأفعال أصل هذه القوّة الموسوسة مثل قوله تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [البقرة:268].

أو لذلك الشأن الجاري مجرى الحوار بين إبليس وخالقه كقوله تعالى: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾[ص:82]. وكقوله تعالى: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:62]. وكقوله تعالى: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾[النساء:119].

فهو جاهد في أن يبعد الناس عن الله بإفساد العقيدة الصحيحة فيه، أو بالصرف عن شرع الله، أو بالحمل على عبادة غيره.

فلذلك كله جاء الترتيب على هذا النمط المذكور بتلك العلائق القوية التي يريد الشيطان أن يقطعها. والرب رب الناس وغيرهم، بل رب العالمين، وإنما خص الناس بالذكر لأنهم هم هدفه ومرمى وسوسته. ولأنهم هم المأمورون بالاستعاذة منه، ولأن عالم التكليف أشرف، فإليهم يوجّه الخطاب وإليهم يساق التحذير.

وهذه الوسوسة نتيجة للعداوة بين أصليهما.

فأمر الله بالاستعاذة منها هو تسليح إلهي لبني آدم لتثبيت سنّة التعمير التي هي حكمة الله من وجودهم.
ونكتة أخرى في تخصيص الناس بالذكر دون بقية أفراد المربويين وهي أنهم هم الذين ينطبق عليهم ناموس الهداية والضلال.

وقد ضلُّوا بالفعل في ربويية الله وفي ألوهيته ..

ضلوا في الربوبية باتخاذ المشرعين ليشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ويصدّوهم بذلك عما شرع الله.

وضلوا في الألوهية بعبادة غير الله بما لا يعبد به أحد غيره كالدعاء.
واختير لفظ الناس من بين الألفاظ المشاركة له في الدلالة كالبشر والبرية لأنه يَنُوسُ ويضطرب وينساق وهي صفات يلزمها التوجه ويسهل التوجيه فلا غنى لصاحبها عن توفيق الله للوجهة الصالحة والتسديد فيها ما دام لا يملك لنفسه ذلك وما دام محاسبًا عليه وما دامت هناك قوّة مسلطة تنزع به إلى الشر.
ففي تخصيص الناس بالذكر تنبيه إلى أنهم أحوج المربُويِينَ إلى تأييد الله وأحقهم بطلب ذلك منه، وقد أرشدهم إلى ذلك وله الحمد.
ولو تفقه الناس في معنى اسمهم واشتقاقه لعلموا بفطرتهم أنهم مخلوقات ضعيفة لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا ولأيقنوا أنه لا بد لهم من رب يربيهم ويحميهم، ومالك يدبر أمورهم وإله يعبدونه ويتخذون العبودية له جُنَّة من استعباد الأقوياء.
ويجوز- إذا راعينا الأدب وكمال التنزيه في حمل الألفاظ التي تضاف إلى كلمة رب على أشرف معانيها- أن تحمل كلمة (الناس) على معنى أخص مما يتناوله عموم الجنس، وهو الأماثل والأخيار منهم الجامعون لمعاني الإنسانية الفاضلة، وهذا المعنى تعرفه العرب فإنهم كثيرًا ما يطلقون اسم الجنس على الفرد أو الأفراد الكاملين في حقيقته. وإن كان هذا من المجاز في كلامهم وقد حملوا على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ﴾[البقرة:13].
ونكتة الإعادة والإظهار للفظ الناس، توضيح المعنى وإلفات النفس إليه وإيقاظ شعورها به والتسجيل على الناس بأن لهم ربًا هو مالكهم وإلههم([2]).


====

[1] : في الأصل (مالك) !.
[2] : قال ابن القيم رحمه الله تعالى : (ثم إنه سبحانه كرر الاسم الظاهر، ولم يوقع المضر موقعه، فيقول: رب الناس وملكهم وإلههم: تحقيقا لهذا المعنى. وتقوية له، فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه، ولم يعطف بالواو لما فيها من الإيذان بالمغايرة.
والمقصود: الاستعاذة بمجموع هذه الصفات، حتى كأنها صفة واحدة.
وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب.
وأخر الإلهية لخصوصها؛ لأنه سبحانه إنما هو إله مَنْ عبده ووحّده واتخذه دون غيره إلهًا، فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه. وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه، ولكن المشرك ترك إلهه الحق واتخذ إلهًا غيره باطلاً)[بدائع التفسير (3/439)].

التعديل الأخير تم بواسطة بلال بريغت ; 05 Feb 2014 الساعة 10:35 PM
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 05 Feb 2014, 10:07 PM
بلال بريغت بلال بريغت غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
الدولة: قسنطينة / الجزائر.
المشاركات: 436
إرسال رسالة عبر Skype إلى بلال بريغت
افتراضي

﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ﴾[الناس:4]:

الوسواس هنا صفة الموسوس وإن خالف المعهود في أبنية الصفات، أو هو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال والزلزلة.

وأصل هذه الكلمة دائر على معنى الخفاء، والعرب تسمي حركة الحلي وسواسًا([1])، وهذا المعنى واضح في المراد هنا فإن الموسوس من الجن في نهاية الخفاء هو وعمله، والموسوس من الإنس يتحرى الإخفاء ما استطاع ويحكي الحيلة في ذلك ولا يرمي رميته إلّا في الخلوات.

وإن الناس ليعرفون عرفانًا ضرورًّيا من الفرق بين المصلحين والمفسدين أن الأولين يصدعون لكلمة الحق مجلجلة ويرسلون صيحته داوية ويعملون أعمالهم في وضح النهار ومحافل الخلق وأن الآخرين يتهامسون إذا قالوا ويستترون إذا فعلوا ويعمدون إلى الغمز والإشارة والتعمية ولو وجدوا السبيل لكانت لهم لغة غير اللغات، ولكان الزمن كله ظلمات، والأرض كلها مغارات.
والخناس: وصف مبالغة في الخانس من الخنوس وهو التأخر بعد التقدم ومن ملابسات هذا المعنى ومكملاته في المحسوس أنه يذهب ويجيء ويظهر ويختفي إغراقًا في الكيد وتقصيًا في التطور حتى يبلغ مراده([2]).

فالله تعالى يرشدنا بوصفه بهذه الصفة إلى أن له في عمله كرًا وفرًا وهجومًا وانتهازًا واستطرادًا على التصوير الذي صوره إبليس في ما حكى الله عنه: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾[الأعراف:17]. يرشدنا بذلك لنعِدَّ لكل حالة من حالاته عُدَّتها، ولنُضيِّق عليه المسالك التي يسلكها.

كما أن وصفه بهذه الصفة يشعر بأنه ضعيف الكيد لأن الخنوس ليس من صفات الشجاع المقدام، وإنما هو كالذباب تذبه بذكر الله من ناحية فيأتيك من ناحية ثم دواليك حتى تملّ أو يملّ.

وأما التهويل في وصفه بما يأتي بعد فهو مبالغة في التحذير منه لأن وصفه بالضعف مظنة لاحتقاره والتساهل في أمره.


-يتبع-

======

[1] :قال ابن القيم رحمه الله : (وأصل الوسوسة: الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يحس، فيحترز منه.
فالوسواس: الإلقاء الخفي في النفس، إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه، وإما بغير صوت، كما يسوس الشيطان إلى العبد.
ومن هذا: وسوسة الحلي وهو حركته الخفية في الأذن.
والظاهر- واللّه أعلم- أنها سميت وسوسة لقربها، وشدة مجاورتها لمحل الوسوسة من شياطين الإنس. وهو الإذن. فقيل: وسوسة الحلي.
لأنه صوت مجاور للأذن، كوسوسة الكلام الذي يلقيه الشيطان في أذن من يوسوس له.
ولما كانت الوسوسة كلاما يكرره الموسوس، ويؤكده عند من يلقيه إليه كرروا لفظها بإزاء تكرير معناها. فقالوا: وسوس وسوسة. فراعوا تكرير اللفظ ليفهم منه تكرير مسماه) [بدائع التفسير (3/441-442)]
[2] : قال ابن القيم رحمه الله : (وأما الخناس : فهو فعال ، من خنس يخنس : إذا توارى واختفى.
ومنه قول أبي هريرة رضي الله عنه : (لقيني النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة ، وأنا جنب. فانخنست منه)[رواه البخاري (283) ، و مسلم (371)]. وحقيقة اللفظ : اختفاء بعد ظهور. فليست لمجرد الاختفاء، ولهذا وصفت بها الكواكب في قوله تعالى : ﴿فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ﴾[التكوير:15] قال قتادة : هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار ، فتختفي ولا ترى. وكذلك قال علي رضي الله عنه : هي الكواكب تخنس بالنهار فلا ترى)[بدائع التفسير (3/446)]

التعديل الأخير تم بواسطة بلال بريغت ; 07 Feb 2014 الساعة 10:28 PM
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 06 Feb 2014, 09:16 AM
ياسين لوني ياسين لوني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
الدولة: الجزائر
المشاركات: 28
افتراضي

بارك الله فيك أخي على هذا المجهود وعلى هذه الفوائد
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 06 Feb 2014, 10:31 PM
بلال بريغت بلال بريغت غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
الدولة: قسنطينة / الجزائر.
المشاركات: 436
إرسال رسالة عبر Skype إلى بلال بريغت
افتراضي

و فيك بارك أخي الحبيب
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 06 Feb 2014, 10:35 PM
بلال بريغت بلال بريغت غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
الدولة: قسنطينة / الجزائر.
المشاركات: 436
إرسال رسالة عبر Skype إلى بلال بريغت
افتراضي

﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾[الناس:5]:

قال :﴿يُوَسْوِسُ﴾بالمضارع إشعارًا بعد إشعار بتجدد الوسوسة منه وعدم انقطاعها.
وقال: ﴿فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ والصدر ملتقى حنايا الأضلع، ومستودع القوى التي كان الإنسان إنسانًا بها ومجمع المضغ التي تحمل تلك القوى، والقلب واحد منها، فالقلب غير الصدر، وإنما هو فيه، ولذلك قال: ﴿وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج:46].
ومواقع استعمال القرآن لكلمة الصدر مفردًا وجمعًا والحكم عليها بالشرح والحرج والضيق والشفاء والإخفإء والإكنان- ترشدنا إلى أنه ليس المراد منه الصورة المادية ولا أجزاءها المادية وإنما المراد القوى النفسية المستودعة فيه، وأن الوسواس الخناس يوجّه كيده ووسوسته دائمًا إلى هذه القلعة التي هي الصدر لأنها مجمع القوى.
وقال: ﴿فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ ولم يقل في قلوب الناس، لأن القلب مجلى العقل ومقر الإيمان، وقد يكون محصنًا بالإيمان فلا يستطيع الوسواس أن يظهره ولا يستطيع له نقبًا.


-يتبع-
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 06 Feb 2014, 10:47 PM
يوسف بن عومر يوسف بن عومر غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Jan 2013
الدولة: الجزائر-ولاية سعيدة
المشاركات: 594
افتراضي

جزاك الله خيرا أخي بلال
رد مع اقتباس
  #11  
قديم 07 Feb 2014, 10:19 PM
بلال بريغت بلال بريغت غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
الدولة: قسنطينة / الجزائر.
المشاركات: 436
إرسال رسالة عبر Skype إلى بلال بريغت
افتراضي

﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾[الناس:6]:

الجِنَّة جماعة الجن وهم خلاف الإنس، والمراد هنا أشرار ذلك الجنس لأن منهم المسلمين ومنهم القاسطين.

واستعمل لفظ الجنة في القرآن بمعنى المصدر الذي هو الجنون في قوله تعالى: ﴿مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾[سبأ:46]. ولما كان الموسوسون فريقين متعاونين على الشر ذكرهما الله تعالى في مقام الاستعاذة من شر الوسوسة ليلتئم طرفا الكلام ويحصل التقصي الوصفي في المستعاذ به والمستعاذ منه.
وقد قسم القرآن الشياطين، وهم القائمون بوظيفة الوسوسة، إلى قسمين: شياطين الإنس وشياطين الجن، وذكر أن بعضهم يوحي إلى بعضٍ زخرف القول([1])، وشيطان الجن ميسر للشر فكل من يعمل عمله من الإنس فهو مثله. ومن شياطين الإنس بطانة السوء وقرين السوء.
وورد في الآثار أن لكل إنسان قرينًا من الجن([2]).

وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾[الزخرف:36]، وقال: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ﴾[فصلت:25]. وهو من باب توزيع الجمع على الجمع، أي لكل واحد قرين، فهذا الإنسان الضعيف يلازمه قرين من الجن ثم لا يخلو من قرين أو قرناء من الإنس يزينون له ما بين يديه وما خلفه ويصدّونه عن ذكر الله فماذا يصنع؟ ما عليه إلّا أن يلتجئ إلى الله ويستعيذ به ويتذكر فإنه لا يؤخذ وهو ذاكر مستيقظ وإنما يؤخذ إذا كان غافلًا، قال تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾[الأعراف:200]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾[الأعراف:201].
ومن دقائق القرآن ولطائفه في البلاغة أنه يقدم أحد الاسمين المتلازمين في آية لسر من أسرار البلاغة يقتضيها ذلك المقام، ثم يؤخِّر ذلك المقدم في آية أخرى لسرّ آخر، فيقدم السماء على الأرض في مقام ويؤخرها عليها في مقام آخر، ومن هذا الباب تقديم الإنس على الجن في آية الأنعام لأن معرض الكلام في عداوتهم للأنبياء وهي من الإنس أظهر ودواعيها من التكذيب والإيذاء أوضح، وفي آية (الناس) قدم الجنة على الناس لأن الحديث عن الوسوسة وهي من شياطين الجنّ أخفى وأدقّ وإن كانت من شياطين الإنس أعظم وأخطر وأدهى وأمرَّ.

فشيطان الجن يستخدم شيطان الإنس للشر والإفساد فيربى عليه ويكون شرا منه لأنه بمثابة السلاح الذي يفتك به، ورب كلمة واحدة صغيرة يوحيها جِنِّيٌ لإنسي ويوسوس إليه بتنفيذها، فتتولّد منها فتن ويتمادى شرها من قرن إلى قرن ومن جيل إلى جيل، وهذا النوع الإنساني المهيأ لقابلية الخير وقابلية الشر، إذا انحط وتسفّل كان شرّا محضًا، وإذا ترقى وتعالى شارف أفق الملأ الأعلى وأوشك أن يكون خيرًا محضا لولا أن العصمة لم تكتب إلّا لطائفة منه وهم الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام.
فالإنسان إذا انحط يكون شرًا من الشيطان، وإذا ارتقى يكون أفضل من الملك- أعني جنس الإنسان- ومن هذا الجنس كان محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أكمل الخلق الذي ليس لمخلوق رتبة مثله في الكمال.



...


انتهى تلخيص الدرس وقد حرصنا على ما وعته الذاكرة من معانيه وقيده القلم من ألفاظه ثم تصرفنا في المواضيع التي طرقها الأستاذ بما لا يخرج عن مراده ولا يخالف طريقته في تفسير كلام الله. والله ينفعنا بالقرآن ويوفقنا إلى خدمته.



آثار ابن باديس (2/121-128) إعداد و تصنيف عمار طالبي .ط.دار الغرب الإسلامي تونس.

آثار الإبراهيمي (1/355-359) جمع و تقديم أحمد طالب الإبراهيمي.ط. دار الغرب الإسلامي تونس.


=====

[1] : كما في قوله تعالى : ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾[الأنعام:112].
[2] : منها ما أخرجه مسلم في صحيحه مرفوعا :كتاب : صفات المنافقين و أحكامهم : باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس وأن مع كل إنسان قرينا ، رقم (2814) عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ( قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير).
و من حديث عائشة رضي الله عنها برقم (2815) : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلا قالت فغرت عليه فجاء فرأى ما أصنع فقال ما لك يا عائشة أغرت فقلت وما لي لا يغار مثلي على مثلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقد جاءك شيطانك قالت يا رسول الله أو معي شيطان قال نعم قلت ومع كل إنسان قال نعم قلت ومعك يا رسول الله قال نعم ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم ).

التعديل الأخير تم بواسطة بلال بريغت ; 07 Feb 2014 الساعة 10:21 PM
رد مع اقتباس
  #12  
قديم 08 Feb 2014, 11:40 AM
بلال بريغت بلال بريغت غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
الدولة: قسنطينة / الجزائر.
المشاركات: 436
إرسال رسالة عبر Skype إلى بلال بريغت
افتراضي

بارك الله فيك أخي يوسف

التعديل الأخير تم بواسطة بلال بريغت ; 08 Feb 2014 الساعة 11:43 AM
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013