منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 10 May 2015, 03:39 PM
أبو البراء
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي تلخيص شبهات إسلام بحيري على "صحيح البخاري" والجواب عنها


بسم الله الرَّحمن الرَّحيم


الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه، ومن اتَّبع هداه إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ أهلَ الباطل ما يفتؤون يشغِّبون بالشُّبه على الحقِّ وأهله، ينشطون ويفترون، ويختفون ويظهرون، وإنَّما ظهورهم ونشاطهم بحسب قوَّة العلم والدِّين وضعفهما، فمتى ما نقص العلم والدِّين ظهروا ولبَّسوا فأكثروا، حتَّى إذا رجعت الكرَّة للدِّين وأهله فأظهرهم الله ونصرهم اختفوا ونافقوا وتستَّروا، وهم في ذلك كشيطان الجنِّ الَّذي يوسوس عند الغفلة فإذا ذُكر الله تعالى خنس، فلهذا وصفه الله تعالى بقوله: «الوسواس الخنَّاس»، قال بعض السَّلف: «يوسوس، فإذا ذُكر اللهُ خَنَس».
وفي هذه الأيَّام قد راج سوقُ الباطل والشُّبَهِ والتَّلبيس والبدع والأضاليل بسبب قلَّة العلماء بموت من مات منهم، وظهورِ شوكة الباطل، وتأييده من ذوي السُّلطان، لا سيَّما وسائل الإعلام الَّتي وصلت إلى بيت كلِّ مسلم، وقد ذكر رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فتنًا تكون بين يدي السَّاعة، منها ما لا يدع بيتًا من بيوت المسلمين إلَّا دخله، ولعلَّ منها هذا الإعلامُ الفاسد المشبَع بفتن الشُّبهات والشَّهوات.
وبسببه صار يتكلَّم كلُّ أحد، ويصل كلامه إلى أقصى البلاد، ولو كان في نفسه ليس بأهل أن يُستمع إليه، بل ولا أن يُلتَفت إليه، ومن أولئك الصُّحفيُّ إسلام بحيري الَّذي جمَّع من أباطيل من سبقَه شيئًا كثيرًا، وضمَّ إليه من عِنديَّاته أشياء تليق به ومكانه من العلم والدِّين، ومن ذلك كلامه المتعلِّق بـ «صحيح البخاريِّ»، حيث يزعم أنَّ المسلمين أهلَ السُّنَّة يقدِّسون «صحيح البخاريِّ»، ولا يرون لأحدٍ أن ينتقد شيئًا ممَّا فيه، وأنَّ هذه القداسة هي الَّتي أثَّرت في فساد حال المسلمين وصنعت الإرهاب (داعش)، وليس يذهب فيما قال إلى ما يقرِّره أهلُ العلم والدِّين من أنَّ البخاريَّ بشرٌ يُخطئ ويُصيب، وصوابه أكثر من خطئه بأضعافٍ، وإنَّما أخطأ في النَّزر اليسير من الحديث، بل أطلق أنَّ في «صحيح البخاريِّ» المئات من الأحاديث المخالفة للعقل والقرآن والعرف والذَّوق والوقائع التَّاريخيَّة!! وبنى على هذا الكلام الفاسد رُكامًا من الباطل الصِّرف:
فعمَّم بسبب ذلك زعمَه أنَّ أهل الحديث لم يطبِّقوا قواعدهم النَّظرية.
وبنى عليه أيضًا أنَّه يجوز له ولأمثاله أن يقبلوا ما يقبلون من أحاديث الصَّحيحين ويردُّوا ما يردونه منها، بحسب دراستهم وما يرونه مخالفًا للعقل أو التَّاريخ أو غير ذلك.
وأيضًا بنى عليه أنَّ علم الحديث علمٌ سهلٌ يمكن لكلِّ أحدٍ درَسَه شهرًا أو شهرين أن يتكلَّم فيه، بل وقع في بعض كلامه أنَّه ليس بعلمٍ أصلًا بالنَّظر إلى أنَّه ليس فيه نظريَّات ومقدِّمات ونتائج وما إلى ذلك.
وقد رأيتُ ـ نظرًا لاغترار كثيرٍ من النَّاس بكلامه، ولوقوف من يقف وراءه ونشرهم لشبهه وأباطيله على أوسع نطاق ـ أن أجيب عن هذه الشُّبه بمقدِّماتها ونتائجها، ذبًّا عن دين الله تعالى وأصوله الثَّابتة ثبوت الجبال الرَّواسي ولو ناطحتها صغار العنز.
والعادة المتبَّعة في مثل هذا المقام أن يُنقل كلام المردود عليه بنصِّه، لكنِّي لم أفعل ذلك لأنَّ كلامَه في مقاطِعَ صوتيَّة منتشرة على شبكة الأنترنت، وفيها كلامٌ بالعاميَّة وحشوٌ يثقل نقلُه، فلهذا لخَّصت شبهاته، وأجبت عنها بما تيسَّر، ومن أراد ألفاظه في كلامه فهي بين يَدَيْ كلِّ أحد.
وبين يَدَيْ ذلك أُحبُّ أن أنبِّه إلى أنَّ شُبه هذا الرَّجل وغيره من المعترضين على الدِّين والملَّة في هذه الأزمان إنَّما هي شُبهٌ قديمةٌ مستهلَكة، يأخذونها عمَّن سبقهم إلى الغواية، ثمَّ يعيدون صياغتها في قالب جديد، وربَّما أضافوا شيئًا يسيرًا، ولهذا فإنَّ هذه الشُّبه أكثرُها قد أجاب علماء الإسلام عنها في تصانيفهم، فتجد الكثير الطِّيب من ذلك في ردود أهل العلم عليهم، وهم أصناف، وقد كانوا أعلم من المعترضين في زماننا هذا، وأكبر منهم عقولًا، وأرحب منهم فهومًا، وأقوم بالشُّبَه وأقدر على الإيراد والتَّلبيس، ومع ذلك ردَّ عليه أئمَّة السُّنَّة وزيَّفوا أباطيلهم بواضح البرهان وبيِّنات الهدى والفرقان، وكلامهم مبثوث في الرد على اصناف المخالفين، كردودهم على:
اليهود والنَّصارى في القديم، ثمَّ المستشرقون في العصر الحديث.
وفي أجوبتهم على شبهات الملحدين كابن الرَّاوندي والمعرِّي قديمًا، والقصيمي في هذا العصر.
وفي ردودهم على الرَّافضة والمعتزلة في القديم، وعلى من نحا نحوهم أو أراد إرضاءهم كأبي ريَّة وأشكاله.
وعلى أعداء السُّنن من متعصِّبة المذاهب كالكوثري وأضرابه.
وأيضًا «المحامون الاستسلاميون» كما سمَّاهم المعلِّميُّ رحمه الله، وقد حكم ـ فعَدَلَ ـ بأنَّهم أضرُّ النَّاس على الإسلام والمسلمين كما في «الأنوار الكاشفة» (23ـ عالم الفوائد)، وهم الَّذين لهم غيرةٌ صادقة على الدِّين كمحمَّد الغزالي ومن على شاكلته، لكن لمَّا لا يجدون عندهم من العلم والإيمان ما يردُّون به عمَّا طُعِن فيه من عقائد الإسلام وشرائعه يلجؤون إلى ردِّه والتَّحيُّل لإبطاله، إمَّا بتحريف إن أمكنهم ذلك، وإلَّا فبتكذيب أو تضعيف إن أعيتهم الحيل.
وهذه المصنَّفات الَّتي ردَّ بها العلماء الأعيان على هذه الأصناف من المبطلين هي ممَّا يتعيَّن على طلَّاب العلم أن يعتنوا به ويقرؤوه وينشروه في النَّاس في هذه الأزمان، لما فيها من الخير العظيم والنَّفع والعميم.
ولا يقولنَّ قائلٌ: إنَّ هذه أمورٌ واضحة ولا نحتاج إلى الجواب عنها، وأنَّ إماتة الباطل بالسُّكوت عنه، فهذه جهالةٌ ردَّها العلماء وأبطلوها، بل الأدلَّة من الكتاب والسنَّة وعمل الأمَّة وأئمَّتها متظافرة على وجوب ردِّ الباطل إن ظهر وانتشر في النَّاس، ولو ظهر لك أنَّه واضح لا يحتاج إلى جواب، فليس كلُّ أحدٍ يعرف وجه الجواب وإن سهل على بعض النَّاس، فقد يكون ما تراه أنت شبهة سهلة هي عند غيرك شبهةٌ عظيمة إن لم تردَّه عن دينه فإنَّها توجب له حيرة واضطرابًا عظيمين، ولهذا لمَّا ردَّ شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله على الرَّافضة بكتابه العظيم «منهاج السُّنَّة النَّبويَّة» فقال فيه التَّقيُّ السُّبكيُّ حسدًا وحَنَقًا عليه:

والنَّاس في غنيةٍ عن ردِّ إفكهم // لهُجنةِ الرَّفض واستقباح مذهبِهِ

ردَّ عليه الإمام أبو المظفَّر السَّرمري رحمه الله من قصيدةٍ طُبعت في آخر الجزء الأوَّل من طبعة البابي الحلبي لـ«منهاج السُّنَّة النَّبويَّة» فقال:

أكلُّ ما ظهرت في النَّاس هُجنته // يصير أهلًا لإهمال النَّكير به
والله لا غُنية عن ردِّ إفكهم // بل ردُّه واجبٌ أعظم بموجِبِه
أيتركون يسبُّون الصَّحابة والـْ // إسلامُ يختالُ زهوًا في تصلُّبه
هذا مقالٌ شنيعٌ لم يقل أحدٌ // به ولا رهط جهمٍ في تحزُّبه
والله لولا سيوفٌ من أئمَّتنا // في كاهلِ الرَّفض لا تلوي ومنكِبِه
لأضحت السُّنَّة الغرَّاء دائرةً
// بين البريَّة كالعنقا وأغربه

فقف على قوله: إنَّه مقال شنيعٌ لم يقل به أحدٌ من أهل العلم، بل ولا حتَّى أهل البدع كجهم وأضرابه، فهم كلُّهم متَّفقون على وجوب ردِّ الباطل إذا نُشر في النَّاس وسمعوه.
أمَّا ما يقال من أنَّ إماتة الباطل بالسُّكوت عنه فهذه لها محلٌّ غير هذا، وهو باطلٌ لم يبلغ النَّاس ولم يسمعوه، فلا يصحُّ إلقاؤه إليهم ثمَّ الرَّدُّ عليه، بل الواجب السُّكوت عنه، على نحو ما قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله ـ وهو من فقهه وفهمه ـ في كتابه «العواصم» (ص116) وقد ألمح إلى أباطيل الباطنيَّة والإسماعيليَّة الَّتي كانت ظهرت بالمشرق ولم تصل إلى المغرب: «ولولا أنَّكم لا تحتملون ما أذكره عنهم، ولا ينبغي أن يُهاج به أهل هذه الأقطار لأنَّهم لم يسمعوه، لذكرت لكم من ذلك غريبا، تقضون الدَّهر منه عجبا».


دعوى اعتقاد أهل السُّنَّة السَّلفيِّين عصمةَ البخاريِّ وقداستَه


البخاريُّ رحمه الله باتِّفاق أهل المعرفة بالحديث هو أجلُّ أئمَّة الحديث في طبقته الَّتي كان فيها، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «هُدَى السَّاري» (246-247): «لا ريب في تقديم البخاريِّ ثمَّ مسلمٍ على أهل عصرهما ومن بعده من أئمَّة هذا الفنِّ في معرفة الصَّحيح والمعلَّل، فإنَّهم لا يختلفون في أنَّ عليَّ بن المديني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث، وعنه أخذ البخاريُّ ذلك، حتَّى كان يقول: «ما استصغرت نفسي عند أحد إلَّا عند عليِّ بن المديني»، ومع ذلك فكان عليُّ بن المديني إذا بلغه ذلك عن البخاريِّ يقول: «دعوا قولَه، فإنَّه ما رآى مثل نفسه»، وكان محمَّد بن يحيى الذُّهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزُّهريِّ، وقد استفاد منه ذلك الشَّيخان جميعًا، وروى الفِرَبْرِيُّ عن البخاريِّ قال: «ما أدخلت في الصَّحيح حديثًا إلَّا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقَّنت صحَّته»، وقال مكيُّ ابن عبد الله: سمعت مسلم بن الحجَّاج يقول: «عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرَّازي، فكلُّ ما أشار أنَّ له علَّة تركته».
فهذه منزلة «الصَّحيح» ومؤلِّفه عند أهل الفنِّ، أمَّا قداسته وعصمته فلا أحد يدَّعيها، بل المسلمون يعرفون للبخاريِّ وكتابه قدرهما، يشهدون له بالورع والاحتياط ورفعة المنزلة في العلم بهذا الشَّأن، ومع ذلك فالخطأ واردٌ عليه، وليس هو معصومًا، وليس كتاب غير كتاب الله تعالى إلَّا وفيه غلط واختلاف ووهم وإن قلَّ، ولا يزال العلماء ينتقدون عليه وعلى مسلمٍ أشياء إلى زماننا هذا، فابن عمَّار الشَّهيد انتقد على مسلمٍ بضعة وثلاثين حديثًا، وتعقَّب الدَّارقطنيُّ الشَّيخين في أحاديث كثيرة، نحوًا من مئتين، وكذا لأبي عليٍّ الغساني ثمَّ للجيَّانيِّ من بعده تعقُّبات على البخاريِّ، وفي كلِّ طبقة من طبقات المحدِّثين ينتقد بعضهم شيئًا في الصَّحيح، حتَّى في زماننا هذا انتقد الألبانيُّ رحمه الله شيئًا يسيرًا فيهما، وهذا منهم اتِّفاقٌ على أنَّ الخطأ واردٌ عليهما، وقد قال أبو الوليد الباجي رحمه الله بعد كلامٍ: «وقد أخرج البخاريُّ أحاديث اعتقد صحَّتها تركها مسلمٌ لمَّا اعتقد فيها غير ذلك، وأخرج مسلمٌ أحاديث اعتقد صحَّتها تركها البخاريُّ لمَّا اعتقد فيها غير معتقده، وهو يدلُّ على أنَّ الأمر طريقه الاجتهاد لمن كان من أهل العلم بهذا الشَّأن، وقليلٌ ما هم» [«التَّعديل والتَّجريح لمن خرَّج له البخاريُّ في الجامع الصَّحيح» (1/286)].
والمعلوم عند المشتغلين بهذه الصِّناعة أنَّ الصَّواب معهما في أكثر ما انتُقد عليهما، ولهذا لم يسلِّم الحافظ ابن حجر من انتقادات الدَّارقطني إلَّا شيئًا يسيرًا وسلَّم الشَّيخ مقبل الوادعي رحمه الله في تحقيق «التتبُّع» أكثر ممَّا سلَّمه الحافظ ابن حجر، وأكثر ذلك لا يرجع النَّقد فيه إلى المتن، بل إلى الإسناد، وقلَّ ما يسلم النَّقد فيه ويكون مؤثِّرا في صحَّة المتن، فإنَّ ذلك لا يكاد يجاوز أصابع اليدين، وكذلك الحال بالنِّسبة لـ«صحيح مسلم»، أفرد الشَّيخ ربيع بن هادي المدخليُّ رسالة الدُّكتوراه لدراسة ما انتقده الدَّارقطني على مسلمٍ، وخرج ـ كما في خاتمة الكتابِ «بين الإمامين» (ص544ـ دار الإمام أحمد 1431) ـ بأنَّ جملة ما انتقده الدَّارقطني منه خمسة وتسعون (95) حديثًا، خمسة وثمانون (85) منها انتقاداتٌ موجهة إلى أسانيد معيَّنة، والصَّواب في أربعين (40) منها مع مسلم، وخمسةٌ وأربعون (45) منها الصَّواب مع الدَّارقطني، لكن لا أثر لها في ضعف المتن، لأنَّه مرويٌّ بأسانيد أخرى، والعشرة الباقية انتقدها من جهة أنَّه لا يصحُّ رفعها أو أنَّ فيها زيادة لا تثبت، والصَّواب مع الدَّارقطني في ثمانية منها، ومع مسلمٍ في اثنين، انظر ، فتلخَّص أنَّ ما سلم الانتقاد فيه وكان له أثر في المتن ثمانية أحاديث فقط من مجموع خمسة وتسعين حديثًا منتقدة.
وقد بيَّن ابن الصَّلاح من أين جاء الخلل فيها، فإنَّه ذكر في كتابه «صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط» (ص13) قولَ مسلم: «إنَّما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه»، فاستشكَلَه لكونه وضع فيه أحاديث اختُلف فيها وضعَّفها غيره ثمَّ ارتضى جوابًا عن ذلك أنَّه أراد أنَّه ما وضع فيه ما اختلف فيه الثِّقات في نفس الحديث متنًا وإسنادًا لا أنَّه لم يُختلف في توثيق راوٍ من رواتها، قال ابن الصَّلاح: «ومع هذا اشتمل كتابه على أحاديث اختلفوا في إسنادها أو متنها لصحَّتها عنده، وفي ذلك ذهول منه ـ رحمنا الله وإيَّاه ـ عن هذا الشَّرط، أو سبب آخر، وقد استُدركت عليه وعُلِّلت، والله أعلم».
وكذا يقال في ما أدخله البخاريُّ في صحيحه وقد أخبر أنَّه تيقَّن صحَّته، فما ثبتت العلَّة فيه فيكون ذهولًا منه ـ رحمنا الله وإياه ـ.
ثمَّ إنَّ هذا كلُّه قوَّةٌ في أحاديث الشَّيخين وزيادة ثقةٍ فيهما، لأنَّ النَّاس من أئمَّة الفنِّ جيلًا بعد جيل نخلوهما نخلًا واستخرجوا ما فاتهما من خفيِّ علله وأسباب الضَّعف فيه، فلهذا ذكر ابن الصَّلاح وغيره أنَّ ما لم يُنتقد من أحاديث الشَّيخين مقطوعٌ بصحَّته، يفيد العلم النَّظري، فهو اتِّفاقٌ ضمنيٌّ من الأمَّة على تصحيح أحاديثهما، فلهذا فإنَّ من يتصدَّى لتضعيف ما لم يضعِّفه العلماء من أحاديثهما فقد تصدى لشيء عظيمٍ لا يُقبل منه إلَّا بأوضح برهان.
والبحيري يوهم النَّاس أنَّ ما في «الصَّحيحين» هو حكم اثنين فقط، ثمَّ يبالغ ويهوِّل فيقول إنَّه يراد من مليارات المسلمين أن يوقفوا عقولهم عن العلم والتَّصحيح والتَّعليل تقليدًا لاثنين من رجال الحديث، وليس الحال على ما زعم كما قد رأيت، بل تتابعت عقول العباقرة من أهل الفنِّ والتَّعليل على هذين الكتابين، فهما خلاصة المنهج النَّقدي الَّذي ارتضاه أئمَّة الإسلام للتثبُّت من صحَّة ما ينسب إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ومن كان من أهل الاجتهاد والنَّظر في التَّصحيح والتَّعليل فإنَّما صحَّ عنده ما في «الصَّحيحين» بمعرفته وفهمه، وأمَّا من لم يكن كذلك فهذا الَّذي يلزمه تقليدهما وتقليد من أقرَّ بصحَّة ما فيهما، ولا يسعه الخروج عن ذلك كما قال الباجيُّ رحمه الله في كتابه المذكور آنفًا (1/286): «وكما أنَّه قد وُجد في الكتابين ما فيه الوهم وأخرج ذلك الشَّيخ أبو الحسن الدَّارقطنيِّ وجمعَه في جزءٍ، وإنَّما ذلك بحسب الاجتهاد، فمن كان من أهل الاجتهاد والعلم بهذا الشَّأن لزمه أن ينظر في صحَّة الحديث وسقمه بمثل ما نظرا، ومن لم يكن تلك حاله لزمه تقليدهما في ما ادَّعيا صحَّته، والتَّوقُّف فيما لم يخرجاه في الصَّحيح».
وعلى هذا فإنَّا إذا وجدنا فيهما حديثًا لم ينتقده أهل الحديث فإنَّنا نقطع بصحَّته إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كأنَّا ننظر إليه وهو يتكلَّم به، ولا نستطيع أن ندفع هذا عن أنفسنا، ولهذا اختار جماعة من العلماء أن أحاديثهما تفيد العلم الضَّروريَّ ليس النَّظريَّ فحسب، وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: «إنَّ ذلك قول السَّلف وجمهور الخلف».
وهذا الَّذي قيل من قبول إظهار العلَّة في أحاديثهما أو أحاديث أحدهما لا بدَّ أن يكون من عارفٍ بالحديث متأهِّلٍ للنَّظر فيه، قد حصَّل الآلة الَّتي يستطيع بها النَّظر في ذلك، وهذا ما لا اختلاف فيه بين عقلاء بني آدم، فإنَّ الَّذي يعترض على أهل فنٍّ أمضوا أعمارهم بل أعمار أجيال من الأمَّة وطبقات متتابعة منها في جمع هذ الأحاديث وتنقيتها والاستدراك عليها لا بدَّ أن يكون قد بلغ من الاشتغال بذلك مبلغًا عظيمًا بحيث يُقبَل كلامُه بينهم، ولا يُقبل من أجنبيٍّ عن ذلك، درس الحديث شهرًا أو شهرين كما صرَّح البحيري، فذلك منه جهالة عظيمة، وهو بمثابة من يجيز لمن نظر في علوم الطبِّ شهرًا أو شهرين أن يستدرك على المسلَّمات الثَّابتة بالبراهين عند الأطبَّاء، أو يعترض على الفلكيِّين ما أجمع أهل الفلك عليه من أوَّلهم إلى آخرهم، لأنَّه نظر فيه شهرًا او شهرين.
فإن قال: علم الطِّبِّ والفلك مؤسَّس على أمورٍ صعبة لا يمكن إدراكها في الزَّمن القليل، أمَّا علم الحديث فهو سهلٌ يسير، أو ليس علما أصلًا كما وقع في بعض كلامه، فهذا الكلام جوابه أن يقال: إنَّ أهل الخبرة الَّذين قضوا أعمارهم في هذا الفنِّ يسلِّمون أنَّه أصعب شيء، وأنَّه علم الخاصَّة من أهل الحديث وأعني به علم العلل الَّذي هو تضعيف ما ظاهره الصِّحَّة، والَّذي يدلُّ على صحَّة هذا أنَّه ليس في علوم الإسلام علمٌ أهله الأئمَّة فيه المسلَّمة لهم قضاياه أفرادٌ قليلون في كلِّ طبقة إلَّا علم العلل ونقد الخبر، حتَّى قيل من شدَّة خفائه واعتماده على أمور دقيقة إَّنه إلهام أو شبيهٌ بالإلهام، يؤتاه الرَّجل من كثرة النَّظر والممارسة ومخالطة الرِّجال والأسانيد مع قوَّة الحفظ وتوقُّد الذِّهن.
وبهذا يجابُ جوابًا إجماليًّا عمَّا أثاره وذكره ممَّا وقع فيه غلط في البخاريِّ أو ادَّعاه غلطًا وليس كذلك.


يُتبع بالحلقة الثَّانية وأوَّلها: الجواب المفصَّل عمَّا طعن فيه من أحاديث الشَّيخين.


التعديل الأخير تم بواسطة أبو البراء ; 10 May 2015 الساعة 04:30 PM
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 10 May 2015, 04:12 PM
فتحي إدريس
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي

جزاك الله خيرًا شيخ خالد على تصدِّيك لهؤلاء الذين فتنوا شباب المسلمين وشيبهم، ونفثوا في الأمة الإسلاميَّة سمومهم التي تشكِّكهم في ثوابتهم التي نشؤوا عليها.

فبارك الله فيك على هذه المقدِّمة النَّافعة التي حوت تنبيهات سديدةٍ فيها الحثُّ على ردِّ الباطل الذي انتشر ناهلين ممَّا تركه لنا علماؤنا الأوَّلون -رحمهم الله-.

وكم وددت أن لا ينتهي المقالُ فأرجو أن لا يطول وقت رفع باقي الحلقات حفظك الله وبارك فيك.

ونسأل الله أن يكفينا شرَّ هؤلاء المتطاولين الجاهلين.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 10 May 2015, 04:32 PM
أمين البجائي أمين البجائي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2014
المشاركات: 77
افتراضي

شيخنا خالدا, تكلمت فأجدت, قلت فأفدت, لخّصت فأجبت, بيّنت فأحسنت ,رميت فأصبت, ولم تترك للقارئ سؤالا, ولا للبحيري مقالا .
جزاك الله خيرا شيخنا الفاضل ..ننتظر المزيد بشوق .

التعديل الأخير تم بواسطة أمين البجائي ; 10 May 2015 الساعة 05:27 PM
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 10 May 2015, 05:43 PM
ابومارية عباس البسكري ابومارية عباس البسكري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
الدولة: الجزائر بسكرة
المشاركات: 703
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى ابومارية عباس البسكري
افتراضي

جزاك الله خيرا خالد وبارك الله في علمك ونفع الله بك
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 10 May 2015, 06:38 PM
عبد الله بوزنون عبد الله بوزنون غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2014
المشاركات: 187
افتراضي

نفع الله بك ارجوا ان تتم الرد بنفس النفس حتى ننتفع بردك _استعن بالله ولا تعجز_
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 10 May 2015, 08:37 PM
عبد الله سنيقرة عبد الله سنيقرة غير متواجد حالياً
عفا الله عنه
 
تاريخ التسجيل: Oct 2012
المشاركات: 268
افتراضي

جزاك الله خيرا شيخ خالد وبارك فيك وفي علمك

قال الحافظ ابن حجر ( وقد رأيت الإماما البخاري في جامعه الصحيح قد تصدى للاقتباس من أنوارهما ـ الكتاب والسنة ـ تقريرا واستنباطا وكرع من مناهلهما الرواية انتزاعا وانتشاطا ورزق بحسن نيته السعادة فيما جمع حتى أذعن له المخالف والموافق وتلقى كلامه في الصحيح بالتسليم المطاوع والمفارق )

في انتظار باقي الحلقات ... موفقا مسددا
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 11 May 2015, 01:47 AM
أبو عبد المحسن زهير التلمساني أبو عبد المحسن زهير التلمساني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2010
الدولة: تلمسان حرسها الله من الشرك والبدع
المشاركات: 394
افتراضي

حفظكم الله ورعاكم
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 11 May 2015, 11:23 AM
أبو عيسى لطفي براهمي أبو عيسى لطفي براهمي غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2011
الدولة: بسكرة - الجزائر
المشاركات: 152
افتراضي

جزاكم الله خيرا و أكثر الله من أمثالكم الذين يردون على شبهات أهل الباطل و سمومهم، ويكونون بتوفيق الله سببا لرد من ضل إلى سواء السبيل
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 11 May 2015, 11:50 AM
أبو أنس يعقوب الجزائري أبو أنس يعقوب الجزائري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 382
افتراضي

ننتظر المزيد ..بارك الله فيكم وفي علمكم ونفع بكم وجعل ما تكتبون في ميزان حسناتكم
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 11 May 2015, 11:57 AM
يوسف بن عومر يوسف بن عومر غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Jan 2013
الدولة: الجزائر-ولاية سعيدة
المشاركات: 594
افتراضي

أعانك الله شيخ خالد على التمام
رد مع اقتباس
  #11  
قديم 11 May 2015, 12:46 PM
محمد بلوافي محمد بلوافي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2013
المشاركات: 60
افتراضي

جزا ك الله خيرا شيخ خالد والصواب ما قلت وإن كان المشغب نكرةفالشبه خطيرة وقد تجد قلوبا ضعيفة فتصيبها نسأل الله العافية واصل شيخنا مسددا موفقا
رد مع اقتباس
  #12  
قديم 11 May 2015, 11:13 PM
أبو عبد السلام جابر البسكري أبو عبد السلام جابر البسكري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Feb 2014
المشاركات: 1,229
إرسال رسالة عبر Skype إلى أبو عبد السلام جابر البسكري
افتراضي

جزاك الله خيرا يا أبا البراء

سدد الله قلمك وبارك في علمك وعملك.

إسلام البحيري يكذب البخاري ويصفه بأنه كذاب ثم عند المواجهة يكذب هو وينكر أنه قال ذلك .
حاشا إسمك يا[ إسلام ] فقد غرقت يا بحيري في بحر جهلك ، وليس بعيد أن هؤلاء هم النصارى الجدد يريدون أن يشككوا المسلمين في دينهم ، حتى يتحيروا أو يتنصروا .
رد مع اقتباس
  #13  
قديم 12 May 2015, 12:45 AM
أبو عبد الله طارق أبو عبد الله طارق غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Jul 2014
المشاركات: 123
افتراضي

بارك الله فيك أخي خالد
رد مع اقتباس
  #14  
قديم 14 May 2015, 08:23 AM
أبو مالك أبو بكر حشمان أبو مالك أبو بكر حشمان غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Sep 2012
الدولة: الجزائر
المشاركات: 225
إرسال رسالة عبر ICQ إلى أبو مالك أبو بكر حشمان
افتراضي

جزاك الله خيرا شيخ خالد على مقالك الموفق بإذن الله، فهو تأصيل في باب مهم من أبواب الدين.
وأعانك الله على إتمام الباقي وجعل التوفيق حليفك.
رد مع اقتباس
  #15  
قديم 14 May 2015, 03:37 PM
أبو عبد الله محمّد الذّهبي أبو عبد الله محمّد الذّهبي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Oct 2010
الدولة: الجزائر - البليدة - موزاية
المشاركات: 183
إرسال رسالة عبر MSN إلى أبو عبد الله محمّد الذّهبي
افتراضي

بارك الله بك يا شيخ ،،، سدد الله خطاك
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
منهج, ردود

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013