الشيخ عبدالله القرعاوي : ولادته ـ نشأته ـ صفاته ـ وفاته :
في غرة ربيع الأول من عام ثمانية وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة النبوية الشريفة ، نزل في مدينة صامطة رجل نجدي في هيئة تاجر متنقل ، يحمل قليلاً من بضاعة ذلك الزمان ، تنقل فيما حول تلك المدينة وتعرف على ضواحيها ، ثم ما لبثت الأيام أن أفصحت عن تاجر من نوع آخر ، أخذ يتنقل في مدن منطقة جيزان مدينة مدينة ، ولف قراها قرية قرية ، صعد الجبال بعزم أهلها ، وتحمل تلك البيئة الساحلية بغُبرتها ، ثم ما فتئ أن امتدت جهوده المباركة ؛ لتطال معظم مدن الجنوب وقراه ، افتتاحًا للمدارس والحلقات العلمية ، وبناءً للمساجد ، وحفرًا للآبار ، وتعليمًا للناس الخير وتبصيرًا لهم بأمور دينهم ، بل وإصلاحًا شاملاً دينيًّا ودنويًّا .
لم يكن ذلك التاجر الداعية المبارك ، سوى الشيخ / عبدالله بن محمد بن حمد القرعاوي ـ رحمه الله ـ داعية الجنوب ، والذي تدين تلك المنطقة الشاسعة وأهلها لـه بكثير من الفضل بعد الله ـ سبحانه ـ في إخراجها من كثير من ظلمات الجهل والفقر إلى أنوار العلم والغنى .
في هذه المنطقة النائية ، التي تعانق فقر أهلها مع ما كان يخيم عليها من جهل ومرض ، ولدت دعوة إصلاحية إغاثية مباركة ، قادها الشيخ العلامة القرعاوي على مدى أكثر من ثلاثين عامًا اتسمت بالخير والعطاء ، وما زال أولاد الشيخ وأحفاده وطلابه وطلابهم يرعون تلك الشجرة الباسقة ، وما زال الناس هناك صغارًا وكبارًا يهدبون ثمارها ويتفيؤون ظلالها .
ولد الشيخ القرعاوي سنة 1315 للهجرة في مدينة عنيزة، وكان أبوه قد توفي قبل مولده بشهرين .
والقرعاوي نسبة إلى (القرعاء) التي انتقلت إليها أسرة الشيخ فترة من الفترات ثم عادت إلى عنيزة لتعرف بعد ذلك بأسرة القرعاوي .
تولت أمه رعايته وكفلته ، وهي المرأة الصالحة التي كانت تحرص على مجالس الذكر وحضور صلاة الجماعة في الأماكن المخصصة للنساء في المساجد ، فكان لهذه الأم الصالحة أكبر الأثر في تنشئته صالحًا ، وقد نشأ الشيخ في كنف أعمامه ومن أشهرهم الشيخ عبدالعزيز بن حمد القرعاوي وكان من وجهاء مدينة عنيزة .
كان الشيخ رحمه الله رَبْعةً بين الرجال ، عريض المنكبين ، قوي البنية ، أصفر اللون ، مستطيل الوجه ، أقنى الأنف ، كث اللحية ، خفيف العارضين ، ناتئ الجبهة ، أرزج الحاجبين أقرنهما ، ضيق العينين .
نلك بعض صفاته الخَلْقِيَّة ، وأما صفاته الخُلُقِيَّة فقد كان جهوري الصوت وقورًا ، مهيبًا ، دؤوبًا على عمله ، حاضر البديهة ، بعيد النظر ، له فراسة قوية ، كثير المبادرة إلى كل سبيل من سبل الخير ، يغضب للحق ويعيش من أجله ، شديد الغيرة على محارم الله ، أبي النفس لا يقبل الضيم ، ومع هذا كان حليمًا لين الجانب محبًّا للصغار ، عطوفًا على المساكين والعجزة من القوم ، كثير الذكر لله ـ عز وجل ـ متبعًا للسنة في كل شأنه متأسيًا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على كل أحواله .
وقد بدت على الشيخ عبدالله القرعاوي منذ صباه ملامح النجابة والذكاء ، والعمل فيما ينفع ، ساعده عمه عبدالعزيز حتى كون له بضاعة ثم جعل يسافر معه إلى بلاد الشام لمزاولة التجارة ، فما لبث حتى صار يمارس التجارة بنفسه ويسافر وحده ، وبعد أن تزوج وتحسن وضعه المادي ، انصرف لمزاولة الفلاحة إلا أنه لم يجد فيها ما يغطي حاجته ، ففتح له دكانًا في عنيزة ، إلا أنه لم يسد حاجته إلى جانب الزراعة ، فعاد لمزاولة التجارة مرة أخرى ، حتى وفقه الله فانصرف لطلب العلم .
وكان في أيامه تلك محبًّا للخير آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر ، يصدع بالحق ولا تأخذه في الله لومة لائم ، وكان يتجول في شوارع عنيزة وأسواقها لهذه الغاية النبيلة ، فلا يرى متخلفًا عن الجماعة في المسجد أو امرأة لابسة شيئًا من زينتها إلا علاهما بعصاه أو زجرهما بلسانه ، فصارت له هيبة وسطوة لدى الكسالى والمتهاونين .
وما زال الشيخ يطلب العلم ويعلمه ويدعو إلى الله ـ عز وجل ـ على مدى أربعة وسبعين عامًا ، إلى أن توفاه الله ـ عز وجل ـ بعد عمر حافل بالعلم والدعوة والأعمال الخيرية ، وقد كانت وفاته على إثر مرض ألم به وهو في جيزان ، ثم نقل إلى الرياض وأدخل المستشفى ، وبها توفي في شهر جمادى الأولى عام 1389 للهجرة . رحمه الله رحمة واسعة . طلبه العلم وبدؤه الدعوة :
مع شغف الشيخ بمزاولة التاجرة إلا أن أمه تلك المرأة الصالحة كانت ترغب في طلبه للعلم ، ولذا فقد كانت تدعو الله ليل نهار أن يشرح صدره للعلم ، وقد أجاب الله دعاء تلك الصالحة ، فأوقف الشيخ تجارته وهو ما يزال شايًّا جلدًا ، ورحل إلى العراق ونزل مدينة البصرة ، ولم يكن رحيله للعراق لقلة العلماء في بلده ، ولكنه رغب في أن يتفرغ هناك لطلب العلم ، بعيدًا عن المشغلات والملهيات .
وفي البصرة التقى أحد المشايخ النجديين المقيمين بها ، فنصحه بالتوجه إلى الهند والتي كان بها في ذلك الوقت نخبة ممتازة من العلماء وخاصة في علم الحديث ، وبعد أن استخار الشيخ ربه سافر إلى الهند في عام 1344 للهجرة ، وتجشم في سبيل ذلك المصاعب والمتاعب حتى وصل إلى (بومبي) ، ومنها توجه إلى (دلهي) بناء على مشورة من بعض طلاب العلم الذين التقى بهم هناك .
وفي (دلهي) التحق بالمدرسة الرحمانية ، تلك المدرسة السلفية المشهورة ، وفيها انتظم وعكف على طلب العلم ، وواصل سهر الليل بتعب النهار ، وكان يزور المشايخ في بيوتهم ويدرس على أيديهم ويأخذ عنهم الإجازات العلمية . وبينما هو منهمك في هذه اللذة العظيمة ، إذ جاءه الخبر عن مرض أمه فاستأذن شيوخه وعاد إلى بلده ، غير أنه تفاجأ عند وصوله بوفات والدته قبل مجيئه .
رغب الشيخ في الإقامة ببلده عنيزة ، وأقام مدرسة صغيرة لأبناء البلد ، فالتف حوله مجموعة من التلاميذ الصغار ، فشرع يعلمهم كتاب الله وحفظهم بعض الأحاديث ، ودرسهم ما رآه مناسبًا في التوحيد والتجويد ، ودربهم على الكتابة ، وكان في تلك الأثناء لا يفتأ يتجول في المساجد للوعظ والإرشاد في بلدته وبغض القرى المجاورة ، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر ، وقد قرأ في هذه الأثناء على بعض علماء عنيزة والرياض والمجمعة .
ثم رحل الشيخ مرة أخرى للهند في سنة 1354 للهجرة ، ونزل بالمدرسة الرحمانية في (دلهي) ، واستأنف دراسته بجد ونشاط دائبين ، وبرغبة لا تعرف الكسل ولا الملل ، وكعادته لم يقتصر الشيخ على دراسته بالمدرسة فحسب ، بل كان على اتصال بالعلماء، يذهب إليهم في أماكن بعيدة ، ويتجشم لذلك صعود الجبال وسلوك الطرق الوعرة .
وقد أكمل الشيخ دراسته النظامية ومنح إجازة علمية عالية من شيخه رئيس المدرسين أحمد الله بن أمير القرشي الدِّهلَوِي ، وقد بين الشيخ أحمد في إجازته للشيخ عبدالله أهليته العلمية وفضله ومكانته بين العلماء ، وذكر فيها أسماء الكتب التي درسها عليه وأجازه بتدريسها .
وقد عرض عليه التدريس بمدرسة في تلك البلاد ، يكون مديرًا لها لكنه فضل العودة إلى بلاده ، ونزل مدينة الرياض التي قدم عليها في رمضان من سنة 1357 للهجرة ، وأقام عند شيخه الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ .
وفي هذه الأثناء ذهب إلى الأحساء ودرس عند الشيخ عبدالعزيز بن بشر ، ثم رحل إلى قطر وقرأ على الشيخ محمد بن مانع ، وقد قرأ عليهما كليهما في الحديث .
بعد عودته من قطر والأحساء قصد مكة المكرمة في آخر ذي القعدة من عام 1357 للهجرة ، والتقى شيخه الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ واستفاد منه في هذه الفترة ، وتردد على مدرسة الحلواني بمكة لدراسة بعض المواد التي لم يدرسها من قبل كالحساب .
وفي أثناء وجوده بمكة اشترى مجموعة قيمة من الكتب والمراجع ، وكان كثير التردد على مجالس شيخه ابن إبراهيم ، وقد سمع في تلك المجالس كما كان قد سمع من قبل في الرياض عما انتشر في بعض المناطق من الشرك والجهل ووقوع الناس في التبرك بالأولياء وقبور بعض الصالحين ، ومن تلك المناطق منطقة الجنوب ، وفي تلك الفترة عُرِض عليه القضاء فلم يرض به ، ثم عرضت عليه إدارة مدرسة المجمعة أو بريدة ، أو أن يكون معلمًا في دار الحديث بمكة أو إمامًا فلم يرق له شيء من ذلك ، فقد كانت نفسه متعلقة بأمر الدعوة إلى الله والإصلاح ولا سيما في منطقة الجنوب .
وقد ورد عن بعض طلاب الشيخ وهو الشيخ محمد بن جابر المدخلي رحمه الله أن الشيخ في إحدى الليالي وبعد أن انصرف من عند شيخه ابن إبراهيم رأى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في المنام ، وكان يشير بيده الشريفة عليه أن يتوجه إلى الجنوب ، وأن الشيخ بات من ليلته يفكر في هذا الأمر بجد ، بل عزم عليه ، وأجمع أمره على الذهاب إلى منطقة جيزان ، فخرج من مكة إلى جدة ، ومنها توجه عن طريق البحر إلى جيزان .
ومهما يكن من أمر تلك الرؤيا التي رآها الشيخ في منامه ، فقد كان ـ رحمه الله ـ مسددًا وموفقًا ، بل صاحب نظرة بعيدة ثاقبة ، امتطى لتحقيقها مركب الصبر ومطية الحكمة .
نعم ، لقد كان الشيخ موفقًا وذا رأي سديد وهدف سامٍ بعيدٍ ، عندما اختار تلك المنطقة التي لا شيء يربطه بها ، سوى الأمل في أن يخرج الله من رجالها من يعبد الله على علم ، ويدعو إلى دينه على بصيرة .
وقد تحقق للشيخ كثير مما أراد ، ففتح الله ببركته أعينًا عميًا وآذانًا صمًّا ، وافتتحت على يديه مدارس كثيرة ، وبنيت مساجد وحفرت آبار ، وبدأت قصة مشروعات خيرة ، لم تقتصر على منطقة جيزان فحسب ، بل امتدت لتشمل ما جاورها من مناطق الجنوب ، بل وبعض جهات اليمن ، فرحم الله الشيخ عبد الله رحمة واسعة ، وجزاه خير الجزاء على ما قدم لدينه وأمته .
واليوم ونحن ندخل العقد الخامس بعد وفاة الشيخ ـ رحمه الله ـ إلا أن الزائر لأي مدينة أو قرية من قرى الجنوب عامة ، ومنطقة جيزان بوجه خاص ، لا يكاد يحصي ما تتفوه به أفواه الناس هناك وتنطق به ألسنتهم ، من ثناء على الشيخ وإطراء له ، وترداد كثير من المواقف والأحداث التي جرت للشيخ هناك ، وأفصحت عن مدى حكمته وصبره ، وطول نفسه وبعد نظرته .
وإنك لتعجب وأنت تتجول في تلك القرى التي يكاد اليأس يلتهم قلبك قبل بلوغها حين تجد فيها من يحدثك عن الشيخ عبد الله ودموعه تخضل لحيته ، داعيًا له ومترحمًا عليه .
والزائر لتلك المنطقة ، حين يلقى بعض طلاب الشيخ أو من رأوه أو تعلموا على يده ، لا يفتأ يسمع منهم مواقف حصلت للشيخ ـ رحمه الله ـ إما مع طلابه أو مع بعض العامة ، وكانت السمة العامة لهذه المواقف هي الحكمة ، التي يجمع من رأى الشيخ وصاحبه وتتلمذ على يده أنها كانت من أبرز ما يميزه ، وأن الفضل يرجع إلى اتصافه بها بعد توفيق الله في نجاح الشيخ في مسيرته التعليمية والدعوية .
ومن شديد الأسف أنه ومع أهمية هذه المواقف والأحداث وكثرة ما فيها من العبر على وجازة بعضها وقصره ، إلا أننا لم نر أيًا من المهتمين بالدعوة ، سواء من طلاب الشيخ أو غيرهم ، من انبرى لها بالتسجيل أو التقييد ، وإظهار ما فيها من الدروس الدعوية العظيمة ، والتي ينبغي أن يستلهمها رجال الدعوة اليوم .
ومع أن عددًا من طلاب الشيخ ـ أثابهم الله ـ كتب عن حياته وسيرته وأرخ لبعض ما حصل لـه ، إلا أننا ما زلنا نطمح إلى أبعد من ذلك التسجيل المجرد ، ما زلنا نطمح إلى سبر لأعماق تلك المواقف العظيمة ، لاستخراج ما تنطوي عليه من كنوز دعوية مباركة ، لا يستغني عنها كل من تصدى لمثل ما تصدى لـه الشيخ ـ رحمه الله ـ من الدعوة وهداية الناس إلى طريق الله المستقيم ، إذ إننا نرى كثيرًا من الدعاة يفتقدون الحكمة التي هي من أهم صفات الداعية ، والتي كان الشيخ قد أوتي منها شيئا كثيرًا ، ولذا نفع الله بدعوته ، ولقي قبولاً من الناس في تلك المنطقة وفي مثل ذلك الوقت .
ومع أن الناس في زمننا هذا أكثر تفتحًا وأشد رغبة وإقبالاً على الدين بعد أن ذاقوا الويلات تلو الأخرى بسبب بعدهم عنه ، إلا إنهم بحاجة إلى شخصية حكيمة موفقة ، كشخصية الشيخ القرعاوي ، تمتص سورة الغضوب ، وتكبح جماح الشارد ، وتقنع بالبيان وتقرع بالحجة ، حتى يستبين الحق وتنار المحجة .
وإن ترك مواقف الشيخ وقصصه وما جرى له من أحداث دون تسجيل لها ودراسة ونشر ، إنه لغبن فاحش تمنى به الدعوة والدعاة ، ثم إن طلاب الشيخ ومن عاش في عصره آخذون في التناقص بشكل مخيف حقًّا ، حيث اخترمت يد المنون كثيرًا منهم ، ولم يبق إلا قليل من كثير ، رحم الله من تقدم وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة ، ومتع الله من بقي بالصحة والعافية وختم لـه بخير ، فلعل أبناء الشيخ ومن بقي من طلابه يتداركون ما بقي ، ويحصرون مواقف داعية كالشيخ عبد الله يصعب حصرها على من عايشه ورآه ، فكيف بمن بينه وبينه عقود وسنوات ... حالة المنطقة قبل الشيخ القرعاوي ومجيء الشيخ لها :
كانت حالة منطقة الجنوب الدينية كما هي في كل بلد في تلك الفترة ، إذ كان الدعاة قليلين ، والمصلحون ندرة ، وكان الناس مع أنهم يحافظون على أداء الشعائر الظاهرة كالصلاة والصيام وغيرها ، إلا أن الأساس لديهم لم يكن متينًا ، بل كانت القاعدة مخرومة ، وكان الجهل سائدًا ، وانطمست الأصول لدى كثيرين ، وانتشرت الاعتقادات الفاسدة ، وفشت فيهم الشركيات ، كتقديس من يسمونهم بالسادة والأولياء ، والتبرك بالقبور والبناء عليها ، والذبح والنذر لأهلها الأموات ، واعتقاد النفع والضر فيها ، وإتيان السحرة والمشعوذين والكهان وتصديقهم .
كما كانت ثمة منكرات أخرى من أهمها إقامة الحفلات المختلطة نساء ورجالاً والسفور العام ، ومخالفة السنة في الختان ، وانتشار حفلات الزار والطبول .
وأما التعليم فقد كان مقتصرًا على الكتاتيب ، وهي مع ضعفها كانت معدودة محدودة ، وكان التعليم فيها مقتصرًا على مبادئ القراءة والكتابة .
لم يكن في المنطقة علماء سوى عدد محدود جدًّا تيسر له السفر إلى اليمن والدراسة في بعض حواضرها .
ولم تكن ثمة جهود دعوية أو إصلاحية واضحة إلا جهود يسيرة بدأها بعض من أوفدتهم الحكومة آنذاك من القضاة ، وكانت مع قلتها محصورة في مقار أعمالهم ، وكانت في مراحلها الأولى لقرب عهد المنطقة بحكم الدولة السعودية .
وقد كان أول قدوم الشيخ عبدالله القرعاوي لجيزان في ربيع الأول من عام 1358 للهجرة ، حيث نزل في مدينة صامطة عند قاضيها عبدالرحمن المحيميد ، ثم ما لبث أن استأجر له دكانًا في وسط البلد قريبًا من المسجد الجامع ومن مركز الإمارة ، وظل يتردد على الأمير والقاضي ، ويدعو إلى الله في المساجد .
وقد كان لدى القاضي مجموعة من الطلاب يدرسون عليه ، فاستأذنه الشيخ عبدالله أن يدرسهم فأذن له لكونه مشغولاً بأعمال القضاء ، فبدأ الشيخ من دكانه يدرس هؤلاء الفتية بتحفيظهم قصار السور وتعليمهم أحكام التجويد ومبادئه ، وكان هذا الدكان المبارك هو المدرسة الأولى التي انطلق منها الشيخ للتدريس والدعوة ، وبها افتتح سلسلة مدارسه المباركة في الجنوب .
وقد وجد في أول أيامه مدرسة أهلية يدرس فيها رجل من أهل صامطة يقال له محمد ماطر رضوان ، يدرس فيها القرآن ويعلم الكتابة ، فجعل الشيخ يزور هذه المدرسة ويتردد عليها بين حين وآخر ، ويجلس مع طلابها ومع شيخهم ، ويسمع قراءتهم وينظر إلى كتابتهم ، فأعجبه ذلك ، فما كان منه إلا أن شجع الطلاب وقدم لهم بعض الهدايا من دفاتر وأقلام وبعض النسخ النافعة من المواد التي يدرسها لطلابه ، وحرص على أن ينشؤوا على عقيدة صحيحة وروح إسلامية ، وزود أستاذهم بما يحتاجه من المال تشجيعًا له على عمله الطيب .
ذاع صيت الشيخ وقدم إليه كثير من الطلاب من القرى المجاورة ، وزاد نشاطه في التعليم وتوعية الناس ودعوتهم ، وعالج بصحبة بعض طلبته كثيرًا من الأمور الشركية وأزال عددًا من البدع والخرافات ، وقضى على كثير من المنكات كالاختلاط في الألعاب الشعبية في المناسبات كالزواج والختان والأعياد ، وأبطل قراءة المولد ونهاهم عن الزيارة البدعية والشركية للأضرحة والقبور ، وباشر بنفسه إزالة المنكرات مما أوغر صدور أعداء الدعوة عليه ، فعارضوه معارضة شديدة ، أدت إلى خروجه من صامطة متوجهًا إلى جيزان ، ومنها خرج بمشورة أمير جيزان إلى جزيرة فرسان وفتح بها مدرسة ، واشتغل بالوعظ والإرشاد ، وظل فيها شهرًا كاملاً ، غير أن طلابه بمدينة صامطة الذين أحزنهم خروج شيخهم الفاضل لم يسكتوا فكتب أحدهم وهو الشيخ ناصر خلوفة طياش المباركي رسالتين إلى أمير جيزان يستعطفه ويطلب منه عودة شيخه إلى مدينة صامطة ، فعاد الشيخ إلى مدينة جيزان ، إلا أنه مر بقرية يقال لها مزهرة ولبث بها قليلاً ، غير أن تلميذه البار ناصر خلوفة لم يلبث أن أرسل لأمير جيزان يناشده الله في عودة شيخه ، بل بحث عنه ، إلى أن التقى به في مدينة أحد المسارحة ومنها عادا إلى صامطة التي فرحت بعودة الشيخ إليها بعد أن غاب عنها شهرين كاملين ، وقد استأنف الشيخ نشاطه في هذه المدينة ، وبنى مدرسة بنفسه ومساعدة طلابه ، وقد بناها في بيت الشيخ ناصر خلوفة نظرًا لأنه كان مقعدًا ويصعب عليه الانتقال من مكانه وهو حريص على ملازمة شيخه وإخوانه الطلاب وما زال الشيخ يرعى مدرسته في صامطة ، وهو في ذلك يزداد شهرة في المنطقة يومًا بعد الآخر .
ومن قرية الجاضع كتب الشيخ حافظ الحكمي للشيخ عبدالله رسالة ، وكان وقتها فتى يرعى الغنم ، وأرسلها رسالته مع أخيه الأكبر الشيخ محمد ـ رحمهما الله ـ فأعجب الشيخ بحسن خطه وقدرته على التعبير مع حداثة سنه ، وكان قد دعا الشيخ لزيارة قريته ، فما كان من الشيخ إلا أن لبى الدعوة ، ولبث في الجاضع وقتًا ، إلا أن إصرار طلابه في صامطة دفعه للرجوع إليهم ، فما كان منه إلا أن رجع بعد أن أسس في الجاضع مدرسة ، وحث الطلاب على طلب العلم والسفر إليه في صامطة ، فاستجاب بعضهم ممن كانوا مكافحين ووجدوا الفرصة ، وبقي آخرون ممن لم يتمكنوا لظروفهم . وكان ممن التحق به الشيخ حافظ وأخوه محمد وغيرهم ، وكان الشيخ حريصًا عليهم ، حتى إنه كان ربما جاءهم بنفسه إذا تأخروا ليواصل معهم ما فاتهم بسبب غيابهم . وهذا من حرصه ـ رحمه الله ـ على على إفادة طلابه وتعليمهم .
وقد افتتح الشيخ في هذه الأثناء بعض المدارس والمساجد في مركز المسارحة بناء على طلب من شيخ قبائل المسارحة .
وفي عام 1360 للهجرة قام الشيخ بتوسعة مدرسته في صامطة وخططها على طراز المدارس الحديثة ، حيث جعلها مكاتب وفصولاً دراسية ، فكثر الطلاب وزادتهم رغبتهم في هذه المدرسة . وقد بلغ عدد الطلاب أكثر من مئة وثلاثين طالبًا مما اضطر الشيخ إلى الاستعانة بطلابه الكبار ، وأسند إليهم تدريس المبتدئين ، وقد كان قبل ذلك قد كلف أولئك الطلاب الكبار بحفظ المتون الشرعية واللغوية وشرحها لهم واهتم بتدوينهم لما يقوله ويفصله لهم
وقد كثر طلاب الشيخ من جميع مدن وقرى المنطقة ، بل أتوا إليه من الخارج من اليمن والحبشة والصومال ، وقد اهتم الشيخ بأمر طلابه الوافدين ، إذ كان أغلبهم من الفقراء والغرباء ، فوزعهم من حيث السكن ما بين المدرسة والمساجد القريبة ، واتفق مع أصحاب الآبار لإيصال الماء إليهم ، ووفر لهم الأوعية اللازمة والغذاء .
وبعد ذلك توالى افتتاح المدارس في الجنوب ، في الجرادية ، والنجامية ، واللقية ، وبيش ، والحصامة ، وقد كانت الظروف تدعو بعض الطلاب للانقطاع عن الشيخ أحيانًا والذهاب مع أهليهم في أوقات الجدب والبحث عن مراعي لمواشيهم ، غير أنهم كانوا ينشرون دعوة التوحيد في مسيرهم ويعلمون الناس الخير ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . من أسباب نجاح دعوة الشيخ ـ رحمه الله ـ في دعوته :
· بدؤه ببناء القاعدة الكبرى التي بنيت عليها دعوات الأنبياء والمصلحين من قبله ألا وهي العروة الوثقى ، كلمة الحق والصدق والإخلاص ، لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فقد جعل الشيخ منهجه الذي جدد به الدعوة الرجوع بالقلوب إلى العقيدة الصادقة والتوحيد الصافي وأن تكون العبادة وفقًا لما جاء به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
· سلوكه منهج البساطة وعدم التكلف أو افتعال الأعذار والعقبات ، ومن ثم فقد كان الشيخ ـ رحمه الله ـ حريصًا على نشر العلم في كل فرصة تسنح له ، فكان البيت مدرسة والمسجد مدرسة والشجرة مدرسة وبطن الوادي مدرسة ورأس الجبل وهكذا ، فبساطة المدارس سهلت انتشارها في كل مكان ، إذ لم تكن تلك المدارس أحيانًا سوى شجرة يستظل بها الطلاب مفترشين التراب والحجر أو الخصف البالي .
· تنقل تلك المدارس في القرى والبادية من مكان لآخر حسب ظروف أهل المنطقة ، وعدم استقرارها في مكان واحد لا تبرحه .
· الاهتمام بالبوادي والقرى التي كان يسيطر عليها الجهل وتعميم الخير على الجميع ، لا يخص به أحد دون آخر ، فالقصد هو علاج ما كان ينتشر إذ ذاك من أمراض القلوب كالشركيات والخرافات والبدع .
· سلوكه في الدعوة سياسة ناجحة ذات أثر كبير ، ألا وهي أنه كان يختار من كل قوم أو قبيلة الرجل البارز القوي في قومه ، صاحب الكلمة النافذة ، فيرشحه للعمل في مدارسه مراقبًا ومتابعًا ، وقد كسب بهذا أمرين :
1. سهولة التأثير فيمن تحت هذا الرجل ، إذ الناس في الغالب تبع للقوي فيهم .
2. تأليف قلوب بعض أصحاب النفوذ واتقاء شرهم والتخلص من معارضتهم ، بل ونقلهم من دَرَكِ المعارضة للخير إلى درجات المشاركة السامية في رفع لواء الخير .
· حرصه على تعليم أبناء رؤساء القبائل ، ومصاهرتهم لكسب ودهم ليكونوا أنصارًا للدعوة .
· تحمل الشيخ لكثير من الصعاب ، فقد كان ـ رحمه الله ـ يتنقل على دابته ويطوف أرجاء المنطقة متنقلاً بين القرى والبوادي ، من شعف الجبال وبطون الأودية ، وقد عرف عنه ـ رحمه الله ـ شجاعته في تلك الأسفار وإقدامه .
· اهتمامه بالمنهج الصحيح ، حيث حرص على جعل العلم عملاً وواقعًا ، إذ حرص على التنقل بين الناس في بيوتهعم وأسواقهم ومساجدهم واجتماعاتهم الكبيرة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
· دخوله على هيئة تاجر ، وجعله التجارة وسيلة ومدخلاً للدعوة والاتصال بالناس وتقديم الهدايا لهم لتأليفهم .
· بذله في سبيل الخير ما في وسعه ، ودفعه المال للإصلاح ، ومن أمثلة ذلك أنه فكر في القضاء على حفلات الختان ، فأعلن في المدرسة إعلانًا لجميع الطلاب أن من جاء به ولي أمره وأجرى له عملية ختان داخل المدرسة دون اختلاط ونفقات سيئة أنه مستعد بالنفقة التي تلزم ولي أمره بعد الختان ، وعندما سمع الأهالي بذلك بادر بعضهم بختان أولادهم داخل المدرسة ، وبهذا تركوا الألعاب المنكرة والأعمال السيئة ، واستمرت عملية الختان في المدرسة طول حياة الشيخ ـ رحمه الله ـ طريقة الشيخ في التعليم :
لقد كانت المدرسة الكبيرة التي أسسها الشيخ في صامطة هي أم المدارس ، وهي الجامعة الأولى التي تخرج منها طلابه ، الذين أصبحوا هم المعلمين في المدارس الأخرى ، وهم القضاة والدعاة ، والأئمة والمصلحين ، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر .
وكانت طريقة الشيخ في التعليم مميزة مثمرة ، وعمادها أن يجعل من الطالب دارسًا ومدرسًا في الوقت نفسه ، ولا سيما الطلاب المتميزين الجادين المجتهدين ، فقد كان الشيخ ـ رحمه الله ـ يتولى تدريس الطلاب بنفسه ، فإذا رأى منهم ذكيًّا نابغًا جعله مدرسًا للمبتدئين ، وبهذا تفرغ هو لتدريس المتوسطين والكبار ، وترك تدريس المتلقين لأولئك الطلاب النابغين .
وكان من طريقة الشيخ أن يأخذ طلابه بالجد والعزيمة والقوة والمثابرة ، وكان حريصًا على استثمار الوقت كله في العلم ومذاكرته ، فيدرس من الفجر ويستمر سحابة نهاره مع طلابه ، لا يفصل بين مجالسهم إلا وجبة الإفطار أو قيلولة بعد الظهر للراحة ، أو فسحة قصيرة قيبل المغرب للعب والاستجمام في الوادي ، وبعد المغرب يتواصل مع طلابه إلى أن ينتصف الليل ، حتى عصر يوم الخميس ، حيث كان يجتمع بعد العصر مع طلابه ويخصص مجموعة من كبارهم فيذهب بهم إلى القرى المجاورة لتوعية العامة وإرشادهم ، ويستمر على هذا إلى غروب الشمس من يوم الجمعة . وقد كان لتلك الجولات أثر كبير في إزالة البدع والخرافات وتعليم الناس أمور دينهم .
وكان من طريقته أن يكلف الطلاب الجادين النابغين بإعادة الدرس بعد أن يلقيه هو ، فيعيدونه للطلاب ، مما يحقق لهم حفظه ، وللطلاب الآخرين فرصة فهمه بشكل أدق وأعمق .
كان الشيخ ـ رحمه الله ـ حافظًا ، وكانت أكثر الدروس التي يلقيها على طلابه من إملائه ، سواء في ذلك دروس العربية أو التوحيد أو الفقه أو غيرها . وقد كان يهتم بالمناقشة ويشبع الدرس بحثًا .
ومن الكتب التي كان الشيخ يدرسها لطلابه :
كتاب التوحيد ، وكشف الشبهات ، والثلاثة الأصول ، وكلها للشيخ محمد بن عبدالوهاب .
كتاب التوحيد لابن خزيمة .
شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي .
الواسطية لابن تيميمة .
لمعة الاعتقاد لابن قدامة المقدسي .
متن الرحبية في الفرائض .
بلوغ المرام لابن حجر وشرحه سبل السلام لابن الأمير الصنعاني .
شرح الشوكاني على المنتقى لابن تيمية الجد .
تفسير ابن كثير .
وغيرها . هل كان الشيخ صاحب منهج جديد على هذه البلاد وأهلها ؟!
قد يحلو لبعض الناس الذين لا يمحصون ولا يتثبتون أن يتهموا الشيخ بهذا معتمدين على ما أشاعه بعض خصوم الشيخ في تلك المنطقة إذ جاءهم بما كان يمثل لبعضهم صدمة ، وهم الذين توارثوا بعض البدع والأخطاء التي كانوا يرونها حقًّا وقربات يتقربون بها إلى الله ، أو قد يكون لبعضهم فيها مكاسب خشي أن يفقدها بسبب تصحيح عقائد الناس وتوجيههم لعبادة ربهم على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ
والحق أن الشيخ عبدالله ـ رحمه الله ـ لم يكن صاحب منهج جديد مخالف لمنهج سلف الأمة وما عاشت عليه هذه البلاد من لدن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ بل لقد كان الشيخ ممن تربى في مدرسة أئمة الدعوة وتلقى العلم على يد بعض علمائها ومشايخها ومؤلفات علمائها الأجلاء .
وقد كانت بعض الإشاعات سببًا في أن ترسل الحكومة بعثات لمراقبة مدارس الشيخ واستجلاء حقيقتها ، غير أنها كانت من أسباب أن تجعل الحكومة مخصصات ومرتبات لبعض الطلاب ، وأن تتوالىالإعانات حينًا بعد حين على الشيخ ، الذي كان يستغلها في الخير وتشجيع الناس على طلب العلم والخير . الرابط:http://www.qarawi.org/publish/article_383.php