وقد تنوعت طرق العلماء في تفسيره، واختلفت مناهج الأئمة في تأويله، فتجد من يفسر القرآن بالقرآن كالشنقيطي في أضواء البيان، ومنهم من يفسر القرآن بالحديث كصنيع ابن كثير الوريث، وبعضهم يبرز جانب العقيدة كابن السعدي ذي التصانيف المفيدة، وجماعة تربط الآيات والسور كالبقاعي في نظم الدرر، وطائفة تعتني بالبلاغة كابن عاشور الفائق في حسن الصياغة ، وصنف يمشي على نسق قواعد الأصول الفقهية كالطوفي صاحب الإشارات الإلاهية.
ولما نشأت في الإسلام طوائف تعمد إلى آيات المتشابه في القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، لكون دلالتها مجملة، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها؛ احتاج العلماء إلى السنة لتوضيح المشكل، ورد المجمل إلى المفصل، ليردوا على أهل الزيغ باطلهم، ويبينوا للناس شبههم، فألفوا في ذلك المؤلفات المنشورة، وكتبوا الدواوين المنثورة، وحشدوا لها الأحاديث النبوية الواضحة والآثار السلفية المحكمة.
غير أن من حكمة الله عز وجل أن تكون هذه الأحاديث عرضة للأمراض والأسقام، وتطرأ على رواتها الغفلة والأوهام، حيث نتج من ذلك اختلاط الصحيح بالضعيف.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض رده على الرافضي:
فانبرى لذلك أطباء العلل فنفوا عن الأسانيد خبثها، وبينوا سمينها من غثها، فغدت مأمونة نقية كالعذراء الماكثة في خدرها، والمتحجبة المخبئة في سترها.
وبعد أن تقادم الزمن واندرس العلم، طفا على السطح من هجم على كتب الأوائل بجمعه لكل متردية ونطيحة، ولو كانت مخالفتها للأصول صريحة، فكان لزاما أن يتصدى لهذه الحملة المسعورة من يدافع عن دين الله عز وجل، فجاء في مقدمتهم فضيلة العلامة ريحانة اليمن مقبل الوادعي -رحمه الله- في كتابه المخطوط «الجامع الصحيح من التفسير بالمأثور» لكن المنية اخترمته قبل إكماله ونشره.
ثم يسر الله الكريم لعبده الحليم، الشيخ خالد بن عبدالرحمن بن زكي آل جاد المصري-وفقه الله- الإهتمام بهذا الجانب والكتابة فيه وهو دون العشرين، فسخر قلمه وكرس وقته لتأليف سفر عظيم سماه " من صحيح التفسير النبوي للقرآن"، ثم لما فتح الله عليه أسباب الخير، ووسائل العلم ما لم يكن قبل، قام بجمع استقرائي للأحاديث آية آية أوردها كتابه المسمى "تفسير القرآن بما ثبت من الأحاديث والآثار".
«ومن المناسب في هذا المقام ذكر ملحة من ملح العلم تتعلق بالكتاب، وذلك أن علاقة الكتاب بمؤلفه كعلاقة الأم بوليدها، ووجه الشبه كما يذكر علماء النفس أن الأم التي تتعب كثيرا في حمل ولدها وتتحمل الآلام العظيمة في ذلك، ثم تعاني في طلقات الولادة، وبعد أن تضع وليدها تكرهه لفترة بسبب ما حصل معها آنفا ثم يزول ذلك شيئا فشيئا فتحن إليه وتقربه وترضعه وتحبه وترعاه وتربيه وتنميه.
وكذلك الكتاب فبسبب الجهد الجهيد في اختيار منهجية البحث، وصياغة الكلمات وانتقاء الألفاظ، والبحث عن النصوص الموثقة ووضعها في أماكنها اللائقة، وبعد إصداره وطبعه يحس الكاتب بنفور منه وكراهية لأنه لم يضع فيه كل ما عنده في الموضوع ويكره تمثيله له، فإذا تعاهده الكاتب بمعاودة النظر فيه بالزيادة والتصحيح، والتدقيق والتنقيح، عادت إليه تلك العاطفة القوية لكتابه فينمو بين ناظريه كما يكبر الوليد في أحضان والديه»(5).
ذكرت هذا توطئة لقصة وليدنا في هذا المقام، فهلم بنا نسمع والده وكاتبه يحدث عنه فيقول:
«وأريد أن أبين لكم تجربتي في هذا الكتاب الذي اجتهدت فيه، وتعبت في جمعه تعبا لا يعلمه إلا الله ، وكنت في بلدة في صحراء الإمارات تسمى "سويحان" وكان الحر شديدا وكانت عندنا مكتبة، فكنت أمشي في الشمس فأثر علي هذا فيما بعد في المرض المعروف، وأذهب إلى المكتبة وأجمع مادة هذا الكتاب، فلما فرغت من ذلك اتصلت بالشيخ الألباني فقلت: يا شيخنا نحن نريد أن نرى أحدا يفسر كتاب الله بما ثبت من الأحاديث، فقال الشيخ: نعم، هذا أمر لا بد منه، قلت: أنا فعلت ذلك، قال: ماذا فعلت؟ قلت: جمعت ما استطعت ولكن أنا لا أصحح ولا أضعف لكن اعتمدت على أربعة، اثنين من القدامى واثنين من المعاصرين، قال: من من القدامى؟، قلت: ابن كثير وابن حجر، قال: من من المعاصرين؟، قلت: أحمد شاكر والألباني، فضحك الشيخ وقال: هذا أمر عظيم.
ومن عجائب الأمور ومن أسباب حبي للشيخ مقبل بن هادي الوادعي-رحمه الله- أني لما فرغت من كتابي سميته" من صحيح التفسير النبوي للقرآن الكريم" جمعت فيه شيئا قليلا بحسب قدرتي في ذاك الوقت ففوجئت أن الشيخ مقبل قد جمع كتابا على نفس الهيئة التي فعلتها، فتوافقت مع الشيخ من غير ميعاد، فهذا بفضل الله.
ثم بعد ذلك يسر الله لنا من أسباب الخير، ومن وسائل العلم ما كنا نعجز عن وجوده، فشرعت وعدت الآن- بعد التجربة الأولى- من قرابة سنة ونصف إلى جمع استقرائي للتفسير آية آية بما ثبت من الأحاديث والآثار فانتهيت من الجزء الأول والثاني-يقصد كتابه " تفسير القرآن بما ثبت من الأحاديث والآثار"-.»(6).
فهذا الوصف البديع بعث في النفس نسائم الأشواق، لرؤيته مطبوعا تكتحل به الأحداق، فأكرمني الله –عز وجل- بأن ظفرت بنسخة من هذا الكتاب الذي طبع قبل حوالي عقد من الزمن في خمس مجلدات وصل فيها المؤلف إلى تفسير سورة طه، وبكميات لا تفي بالغرض، أقرظني إياها أحد إخواننا الفضلاء فقوي العزم على تصويرها ونشرها لقوة الداعي لذلك، و نظرا لكثرة من يسأل عنها في المنتديات، وطمعا لنيل شرف خدمة طلبة العلم، بادرت بالاتصال بفضيلة الشيخ خالد عبدالرحمن-يسر الله أمره- واستأذنته في تصويرها فسر بذلك وأذن لي فجزاه الله خيرا.
والكتاب بحمد الله بتقريظ شيخ السلفيين في مصر الشيخ حسن بن عبدالوهاب البنا-حفظه الله- وعليه بعض تعليقاته النفيسة في المجلد الأول، حيث وصف المقرض المؤلف: بأنه حقق الأحاديث وخرجها بتحقيق الجهابذة من رجال الحديث والأثر.
ومن الطرائف أن فضيلة الشيخ محنة أهل البدع ربيع بن هادي المدخلي- أطال الله أنفاسه في طاعته- وقف على عنوان الكتاب فقال للشيخ خالد: في الطبعة الجديدة سمه " تفسير القرآن بالقرآن وبما ثبت من الأحاديث والآثار"، فقال له الشيخ خالد: أنا فعلت هذا عمليًّا في التفسير أن القرآن بالقرآن لكن انصرف ذهني إلى عنوان تفسير القرآن بما ثبت من الأحاديث والآثار.
وفي الختام، يسرني أن أهدي لإخواني طلاب العلم هذا الكتاب- المجلد الأول والبقية ترفع تباعا- مصورا حصريا على " مصورة التصفية" بحلة بهيجة وصورة حسنة، شاكرا الله عز وجل على نعمه الوفيرة وآلائه الكثيرة والحمدلله الذي بنعمته تتم الصالحات.
--------------------------------------------------------------------------------------------
(1) التحرير والتنوير، لمحمد الطاهر بن عاشور، 1/5.
(2) معالم التنزيل، للبغوي، 1/45.
(3) تفسير ابن كثير،1/7.
(4) منهاج السنة النبوية، لابن تيمية، 7/300.
(5) هذا معنى ما ذكره الشيخ محمد بن عمر بازمول –حفظه الله- في كتابه خبر الكتاب المجموعة الأولى ص 7، وذكر أيضا في تأكيد هذا المعنى في استحسان معاهدة المؤلف كتابه بعد إخراجه كما يتعاهد الوالد ولده بالتربية، فذكر فضيلة الشيخ المحدث محمد بن ناصر العجمي أنه نزل سوق الكتب لينظر في جديد المطبوعات فوقف على كتاب جديد مكتوب في مقدمته أن كتابه قدمه قبل ثلاثين سنة للمناقشة لدرجة الماجستير ولم يزد فيه شيئا فلم يشتره، وقال: خلك محلك، يريد أن الكتاب ينقص قدره، وتقل قيمته إذا لم يتابع صاحبه الجديد ويعود عليه بالتنقيح والمراجعة.
(6) الدرس الأول من سلسلته الصوتية: " تفسير القرآن بما ثبت في الأحاديث والآثار" د 50، وفيها موقف عجيب يدل على زهد الشيخ -حفظه الله- وورعه، حيث قدم بمقدمة نفيسة في علم التفسير، ثم أتى على ذكر كتابه ليذكر للطلبة تجربته حتى يستفيدوا منها فقال: وبعد اليوم، لن أبيع نسخة من كتابي هذا في هذه المنطقة حتى لا يظنن ظان أن كلامي هذا من باب التجارة.
حقاً عملٌ رائعٌ و كتابٌ نافعٌ !
جزاكَ ربي خيراً أخي أبا عبد الرحمن على هذا العمل النَّبيل ، جعله اللَّه لك صدقةً جاريةً بعد مماتكَ ؛ و جزى اللَّه الشَّيخ خالداً على هذه التُحفة القيّمة (آمين) ، التي أثرى بها المكتبة الإسلاميَّة التفسريَّة المعاصرة.