منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم مشاركات اليوم Right Nav

Left Container Right Container
 

العودة   منتديات التصفية و التربية السلفية » القــــــــسم العــــــــام » الــمــــنــــــــتـــــــدى الـــــــــعــــــــام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09 Apr 2016, 03:44 PM
أبوعبدالرحمن عبدالله بادي
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي دعاء عظيم القدر جمع بين أطيب شيئ في الدنيا وأطيب شيئ في الآخرة.

الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:

فقد روى النسائي في سننه تحت حديث برقم 1305 قال:

أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي قال حدثنا حماد قال حدثنا عطاء بن السائب عن أبيه قال صلّى بنا عمّار بن ياسر صلاة فأوجز فيها فقال له بعض القوم لقد خففت أو أوجزت الصلاة فقال أما على ذلك فقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام تبعه رجل من القوم هو أبي غير أنه كنى عن نفسه فسأله عن الدعاء ثم جاء فأخبر به القوم
اللهم بعلمك الغَيْبَ وقدرتك على الخَلْقِ أحيني ما علمتَ الحياة خيرا لي وتوفني إذا علمتَ الوفاة خيرا لي
اللهم وأسألك خشيتك في الغَيْبِ والشهادة
وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب
وأسألك القصد في الفقر والغنى
وأسألك نعيما لا يَنْفَدُ وأسألك قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ
وأسألك الرضاء بعد القضاء وأسألك بَرْدَ العَيْشِ بَعْدَ المَوْتِ
وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مُضرّة ولا فتنة مضلّة
اللهُمَّ زَيِّنّا بِزينَةِ الإِيمانِ واجْعَلْنا هُدَاةً مُهْتَدِينَ.

تحقيق المُحدّث الألباني رحمه الله:
✅صحيح، انظر ما بعده (1306)
وصححه في صحيح الجامع برقم 1301.


قال الإمام ابن القيّم رحمه الله إغاثة اللهفان ج1ص28-29:

فجمع فى هذا الدعاء العظيم القدر بين أطيب شىء فى الدنيا، وهو الشوق إلى لقائه سبحانه، وأطيب شىء فى الآخرة، وهو النظر إلى وجهه سبحانه.
ولما كان كمال ذلك وتمامه موقوفا على عدم ما يضر فى الدنيا. ويفتن فى الدين قال: "فى غير ضرّاء مضرة ولا فتنة مضلة".
ولما كان كمال العبد فى أن يكون عالما بالحق متبعا له معلماً لغيره، مرشدا له قال:
"وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مهتدينَ".
ولما كان الرضى النافع المحصل للمقصود هو الرضى بعد وقوع القضاء لا قبله، فإن ذلك عزم على الرضى، فإذا وقع القضاء انفسخ ذلك العزم، سأل الرضى بعده، فإن المقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه والرضى بعد وقوعه. فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما، كما فى المسند وغيره عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "إن من سعادة ابن آدم استخارة الله ورضاه بما قضى الله، وإن من شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله، وسخطه بما قضى الله تعالى".
ولما كانت خشية الله عز وجل رأس كل خير فى المشهد والمغيب، سأله خشيته فى الغيب والشهادة.
ولما كان أكثر الناس إنما يتكلم بالحق فى رضاه، فإذا غضب أخرجه غضبه إلى الباطل، وقد يدخله أيضاً رضاه فى الباطل، سأل الله عز وجل من توفيقه لكلمة الحق فى الغضب والرضى. ولهذا قال بعض السلف: لا تكن ممن إذا رضى أدخله رضاه فى الباطل، وإذا غضب أخرجه غضبه من الحق.
ولما كان الفقر والغنى محنتين وبليتين، يبتلى الله بهما عبده. ففى الغنى يبسط يده، وفى الفقر يقبضها، سأل الله عز وجل القصد فى الحالين، وهو التوسط الذى ليس معه إسراف ولا تقتير.
ولما كان النعيم نوعين: نوعا للبدن، ونوعا للقلب، وهو قرة العين، وكماله بدوامه واستمراره، جمع بينهما فى قوله "أسألك نعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع".
ولما كانت الزينة زينتين: زينة البدن، وزينة القلب، وكانت زينة القلب أعظمهما قدرا وأجلهما خطرا، وإذا حصلت زينة البدن على أكمل الوجوه فى العقبى، سأل ربه الزينة الباطنة فقال: "زيِّنا بِزِينَةِ الإيمَانِ".
ولما كان العيش فى هذه الدار لا يبرد لأحد كائنا من كان، بل هو محشو بالغصص والنكد، ومحفوف بالآلام الباطنة والظاهرة، سأل برد العيش بعد الموت.
والمقصود: أنه جمع فى هذا الدعاء بين أطيب ما فى الدنيا، وأطيب ما فى الآخرة.


قال العلامة عبيدالله المباركفوري رحمه الله في مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 598/8:

( اللهم ) ، أي وهو هذا ( بعلمك الغيب ) ، أي المغيبات عن خلقك فضلاً عن المشاهدات ، والباء للاستعطاف والتذلل ، أي أنشدك بحق علمك ما خفي على خلقك مما استأثرت به ( وقدرتك على الخلق ) أي بقدرتك على خلق كل شيء تتعلق به مشيئك أو على جميع المخلوقات بأن تفعل فيهم ما تقضي إرادتك ، وفيه دليل على جواز التوسل إليه تعالى بصفات كماله وخصال جلاله ( أحيني ) أي أمدني بالحياة ( ما علمت الحياة ) ما مصدرية ظرفية ( خيرًا لي ) بأن يغلب خيري على شري (( وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي )) بأن تغلب سيئاتي على حسناتي أو بأن تقع الفتن ما ظهر منها وما بطن ، قاله القاري وعبر بما في الحياة لاتصافه بالحياة حالاً وبإذا الشرطية في الوفاء لانعدامها حال التمني إذا آل الحال إلى أن تكون الوفاة بهذا الوصف فتوفني ، قلت قوله (( أحيني )) إلى قوله (( خيرًا لي )) ثابت في الصحيحين من حديث أنس بلفظ (( اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي )) وهو يدل على جواز الدعاء بهذا لكن عند نزول الضرر كما وقع التقييد بذلك في حديث أنس المذكور وقد تقدم في (ج2 ص438) ( اللهم وأسألك ) عطف على (( أنشدك )) المقدر ، أي وأطلب منك و (( اللهم )) معترضة . وقال القاري : والظاهر أن اللهم عطف على الأول بحذف العاطف كما في كثير من الدعوات الحديثية ومنه تكرار (( ربنا )) من غير عاطف في الآيات القرآنية ، ولا يضره الواو في قوله (( وأسالك )) لأنها نظيرة الواو في قوله تعالى (( ربنا وآتنا )) ( خشيتك ) ، أي خوفك ( في الغيب والشهادة ) أي في السر والعلانية أو في الحالين من الخلوة والجلوة أو في الباطن والظاهر ، والمراد استيعابها في جميع الأوقات فإن الخشية رأس كل خير والشأن في الخشية في الغيب لمدحه تعالى من يخافه بالغيب ، وقال الشوكاني : أي في مغيب الناس وحضورهم لأن الخشية بين الناس فقط ليست من الخشية لله بل من خشية الناس ( وأسألك كلمة الحق ) ، أي النطق بالحق ( في الرضا والغضب ) ، أي في حالتي رضا الخلق مني وغضبهم عليَّ فيما أقوله فلا أداهن ولا أنافق ، أو في حالتي رضاي وغضبي بحيث لا تلجئني شدة الغضب إلى النطق بخلاف الحق ككثير من الناس إذا اشتد غضبه أخرجه من الحق إلى الباطل ، والمعنى أسألك أن أكون مستمرًا على النطق بالحق في جميع أحوالي وأوقاتي . قال الشوكاني : جمع بين الحالتين لأن الغضب ربما حال بين الإنسان وبين الصدع بالحق ، وكذلك الرضا ربما قاد في بعض الحالات إلى المداهنة وكتم كلمة الحق ( القصد ) أي الاقتصادفِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى ، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّة وهو التوسط بلا إفراط وتفريط ( في الفقر والغنى ) لأن المختار أن الكفاف أفضل من الفقر ومن الغنى قاله في اللمعات ، وقال المناوي : القصد أي التوسط في الفقر والغنى هو الذي ليس معه إسراف ولا تقتير ، فإن الغنى يبسط اليد ويطغي النفس ، والفقر يكاد أن يكون كفرًا ، فالتوسط هو المحبوب المطلوب . وقال الشوكاني : القصد في كتب اللغة بمعنى استقامة الطريق والاعتدال ، وبمعنى ضد التفريط وهو المناسب هنا لأن بطر الغني ربما جر إلى الإفراط وعدم الصبر على الفقر ربما أوقع في التفريط فالقصد فيهما هو الطريقة القويمة ( لا ينفد ) بفتح الفاء وبالدال المهملة أي لا يفنى ولا ينقضي ولا ينقص ، وذلك ليس إلا نعيم الآخرة ، وأما غيره فكل نعيم لا محالة زائل ( قرة عين لا تنقطع ) يحتمل أن يراد الذرية التي لا تنقطع بعده ، بل تستمر ما بقيت الدنيا . ولعله مأخوذ من قوله تعالى { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } ( 25 : 74) وقيل : أراد المداومة على الصلاة والمحافظة عليها لقوله (( وجعلت قرة عيني في الصلاة )) أو المراد ثواب الجنة الذي لا ينقطع فيكون تأكيدًا لقوله (( نعيمًا لا ينفد )) فيكون بعد تخصيصًا بعد تعميم ، وقيل : أراد قرة عينه أي بدوام ذكر الله وكمال محبته والأنس به ( وأسألك الرضاء ) بالمد ، وفي المستدرك الرضى أي بالقصر . قال الجوهري : الرضى مقصورًا مصدر محض والاسم الرضاء ممدودًا ( بعد القضاء ) وفي رواية للنسائي الرضاء بالقضاء أي بما قدرته لي في الأزل لأتلقاه بوجه منبسط وخاطر منشرح وأعلم أن كل قضاء قضيته لي فلي فيه خير ، قيل في وجه الأول : كأنه طلب الرضاء بعد تحقق القضاء وتقرره ( برد العيش ) أي طيبه وحسنه ( بعد الموت ) برفع الروح إلى منازل السعداء ومقامات المقربين ، والعيش في ه ذه الدار لا يبرد لأحد بل محشو بالغصص والكدر والنكد ممحوق بالآلام الباطنة والأسقام الظاهرة ( لذة النظر إلى وجهك ) قال الطيبي : قيد النظر باللذة لأن النظر إلى الله تعالى إما نظر هيبة وجلال في عرصات القيامة ، وإما نظر لطف وجمال في الجنة ليؤذن بأن المراد هذا ، وفيه أعظم دليل على رؤية الله تعالى في الدار الآخرة كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ( والشوق إلى لقاءك ) أي الاشتياق إلى ملاقاتك في دار المجازاة . قال الشوكاني : إنما سأله ع لأنه من موجبات محبة الله تعالى للقاء عبده لحديث (( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه )) ومحبة الله تعالى من أسباب المغفرة . وقال ابن القيم : جمع في هذا الدعاء بين أطيب ما في الدنيا وهو الشوق إلى لقاءه ، وأطيب ما في الآخرة وهو النظر إليه ، ولما كان كلامه موقوفًا على عدم ما يضر في الدنيا ويفتن في الآخرة قال ( في غير ضراء ) أي شدة ، وقيل : أي الحالة التي تضر وهي نقيض السراء وهما بناءان للمؤنث ولا مذكر لهما ( مضرة ) اسم فاعل من أضر والجار إما متعلق بقوله (( والشوق إلى لقاءك )) أي أسألك شوقًا لا يؤثر في سيري وسلوكي بحيث يمنعني عن ذلك وأن يضرني مضرة ، وإما متعلق بأحيني ، الثاني أظهر معنى وأقرب لفظًاوَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ . رواه النسائي . ٍ

قال ابن رجب الحنبلي في شرح حديث لبيك اللهم لبيك ص53:

*اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك وشوقا إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولافتنة مضلة*هذه الثلاث الخصال قد روي عن النبي أنه كان يدعو بها في غير هذا الحديث أيضا من حديث عمار بن ياسر عن النبي وقد شرحنا حديثه بتمامه في موضوع آخر.

*فأما الرضا بالقضاء فهو من علامات المخبتين الصادقين في المحبة فمتى امتلأت القلوب بمحبة مولاها رضيت بكل ما يقضيه عليها من مؤلم وملائم

*سيان إن لاموا وإن عذلوا ... مالي عن الأحباب مصطبر
*لابد لي منهم وإن تركوا ... قلبي بنار الهجر تستعر
*وعلي أن أرضى بما حكموا ... وأطيع في كل ما أمروا


إذا امتلأت القلوب بالرضا عن المحبوب صار رضاها في ما يرد عليها من أحكامه وأقداره.

قال عمر بن عبد العزير: أصبحت ومالي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر.
*دخلوا على بعض التابعين في مرضه فقال: أحبه إلي أحبه إليه.
*إن كان سركم ما قد بليت به ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم
حسب سلطان الهوى أنه يلذ كل ما يؤلم*وربما اختار بعض المحبين الذل على العز والفقر على الغنى والمرض على الصحة والموت على الحياة

*عزي ذلي وصحتي في سقمي ... يا قوم رضيت في الهوى سفك دمي
*عذالي كفوا فمن ملامي ألم ... من بات على مواعيد اللقاء لم ينم

وإنما قال الرضا بعد القضاء لأن ذلك هو الرضا حقيقة*وأما الرضا بالقضاء قبل وقوعه فهو عزم على الرضا وقد تنفسخ العزائم عند وقوع الحقائق*ومع هذا فلا ينبغي أن يستعجل العبد البلاء بل يسأل الله العافية*فإن نزل البلاء تلقاه بالرضا.
*قتل لبعضهم ولدان في الجهاد فجاءه الناس يعزونه بهما فبكى وقال ما أبكي على قتلهما ولكن كيف كان رضاهما عن الله حين أخذتهما السيوف

إن كان سكان الغضا ... رضوا بقتلي فرضا
*والله ما كنت لما ... يهوي الحبيب مبغضا*
صرت لهم عبدا وما ... للعبد أن يعترضا
*من لمريض لا يرى ... إلا الطبيب الممرضا


*وأما برد العيش بعد الموت فالمراد به طيب العيش ولذاذته وما تقر به عين صاحبه*فإن البرد يحصل به قرة عين الإنسان وطيبها وبرد القلب يوجب انشراحه وطمأنينته بخلاف حرارة القلب والعين ولهذا في الحديث طهر قلبي بماء الثلج والبرد*ودمعة السرور باردة بخلاف دمعة الحزن فإنها حارة*فبرد العيش هو طيبه ونعيمه وفي الحقيقة إنما يكمل طيب العيش ونعيمه في الآخرة لا في الدنيا كما قال النبي اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة*وسبب ذلك*أن ابن آدم مركب من جسد وروح وكل منهما يحتاج إلى ما يتقوت به ويتنعم به وذلك هو عيشه فالجسد عيشه : الأكل والشرب والنكاح واللباس والطيب وغير ذلك من اللذات الحسية*ففيه بهذا الاعتبار مشابهة بالحيوانات في هذه الأوصاف*وأما الروح فهي لطيفة وهي روحانية من جنس الملائكة فقوتها ولذتها وفرحها وسرورها في معرفة خالقها وبارئها وفاطرها وفي ما يقرب منه من طاعته في ذكره ومحبته والأنس به والشوق إلى لقائه*فهذا هو عيش النفس وقوتها فإذا فقدت ذلك مرضت وهلكت أعظم مما يهلك الجسد بفقد طعامه وشرابه ولهذا يوجد كثير من أهل الغنى والسعة يعطي جسده حظه من التنعيم ثم يجد ألما في قلبه ووحشة فيظنه الجهال أن هذا يزول بزيادة هذه اللذات الحسية وبعضهم يظن أنه يزول بإزالة العقل بالسكر وكل هذا يزيد الألم والوحشة وإنما سببه أن الروح فقدت قوتها وغذاءها فمرضت وتألمت.

*إذا كنت قوت النفس ثم هجرتها ... فلن تصبر النفس التي أنت قوتها
*ستبقى بقاء الضب في الماء أو كما ... يعيش ببيداء المفاوز حوتها*


قال بعض العارفين لقوم ما تعدون العيش فيكم قالوا الطعام والشراب ونحو ذلك فقال إنما العيش أن لا يبقى منك جارحة إلا وهي تجاذبك إلى طاعة الله.
من عاش مع الله طاب عيشه ومن عاش مع نفسه وهواه طال طيشه.
*قال الحسن إن أحباء الله هم الذين ورثوا أطيب الحياة بما وصلوا إليه من مناجاة حبيبهم وبما وجدوا من لذة حبه في قلوبهم.
*وأكل إبراهيم مع أصحابه كسرا يابسة ثم قام إلى نهر فشرب منه بكفه ثم حمد الله وقال لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور لجالدونا بالسيوف.
أيام الحياة على ما نحن فيه من لذيذ العيش وقلة التعب فقال بعض أصحابه يا أبا اسحاق طلب القوم الراحة والنعيم فأخطأوا الطريق المستقيم فتبسم ثم قال من أين لك هذا شعر

*أهل المحبة قوم شأنهم عجب ... سرورهم أبد وعيشهم طرب
العيش عيشهم والملك ملكهم ... ما الناس إلا هم بانوا أو اقتربوا*

قيل لبعض العارفين وقد اعتزل عن الخلق إذا هجرت الخلق مع من تعيش قال مع من هجرتهم لأجله.
*ويروى عن المسيح أنه قال يا معشر الحواريين كلموا الله كثيرا وكلموا الناس قليلا قالوا كيف نكلم الله كثيرا قال اخلوا بذكره اخلوا بدعائه اخلوا بمناجاته.

ما أطيب عيش من يخلو بحبيب ... من أمل فضل مثلكم كيف يخيب*


واعلم أن الجمع بين هذين العيشين في دار الدنيا غير ممكن فمن اشتغل بعيش روحه وقلبه وحصل له منه نصيب وافر لهى عن عيش جسده وبدنه ولم يقدر أن يأخذ منه نهاية شهوته ولم يقدر أن يتوسع في نيل الشهوات الحسية وإنما يأخذ منها بقدر ما تقوم به حاجة البدن خاصة فينتقص بذلك عيش الجسد ولابد*وهذه كانت طريقة الأنبياء والمرسلين وأتباعهم وكان الله يختار أن يقلل نصيبهم من عيش أجسادهم ويوف نصيبهم من عيش قلوبهم وأرواحهم.

*قال سهل التستري: ما أتى الله عبدا من قربه ومعرفته نصيبا إلا حرمه من الدنيا بقدر ما أعطاه من معرفته وقربه ولا أتاه من الدنيا نصيبا إلا حرمه من معرفته وقربه بقدرما أتاه في الدنيا*وقد كان النبي يقتصد في عيشه غاية الاقتصاد مع ما فتح الله عليه من الدنيا والملك ومات ولم يشبع من خبز الشعير وكان يقول*ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها*وقال حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة*والنساء والطيب فيهما قوة للروح بخلاف الطعام والشراب فإن الإكثار منهما يقسي القلب ويفسده وربما أفسد البدن أيضا كما قال النبي ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن فإن كان لا بد فاعلا فثلث طعام وثلث شراب وثلث نفس.
قال بعض السلف قلة الطعام عون على التسرع إلى الخيرات.
وقال آخر ما قل طعام امرىء إلارق قلبه ونديت عيناه.
*وقال إبراهيم بن آدم الشبع يميت القلب ومنه يكون الفرح والمرح والضحك.
وقال أبو سليمان إن النفس إذا جاعت وعطشت صفي القلب ورق وإذا شبعت ورويت عمي القلب
و قال مفتاح الدنيا الشبع ومفتاح الآخرة الجوع.

*وقيل للإمام أحمد يجد الرجل رقة من قلبه وهو يشبع قال ما أرى ولهذا المعنى شرع الله الصيام وقد كان النبي يواصل في صيامه أياما فلا يأكل ولا يشرب فإذا سئل عن ذلك يقول إني لست مثلكم إني أظل عند ربي يطعمني ويسقين يشير إلى أنه يستغني عن قوت جسده بما يمنحه الله من قوت روحه عند الخلوة به والأنس بذكره ومناجاته مما يورده على قلبه من المعارف القدسية والمواهب الإلهية شعر:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الطعام وتلهيها عن الزاد*
واعلم أن عيش الجسد يفسد عيش الروح وينغصه وأما عيش الروح فأنه يصلح عيش الجسد وقد يغنيه عن كثير مما يحتاج إليه من عيشه.

كان بالبصرة رجل من المجتهدين في الطاعة وكان قليل الطعام وبدنه غير مهزول فسئل عن سبب ذلك فقال ذلك من فرحي بحب الله إذا ذكرت أنه ربي وأنا عبده لم يمنع بدني أن يصلح.

*وسئل أبو الحسين بن بشار هل يكون الولي سمينا قال نعم إذا كان الولي أمينا قيل له كيف والله يبغض الحبر السمين قال إذا علم الحبر عبد من هو ازداد سمنا.

*وكان بشر يخطر في داره ويقول كفى بي عزا أني لك عبد وكفى بي فخرا أنك لي رب

نسبت لكم عبدا وذلك بغيتي ... وتشريف قدري نسبتي لعلاكم
*فكل عذاب في هواكم يلذ لي ... وكل هوان طيب في هواكم
*لحا الله قلبي إن تغير عنكم ... وإن مال في الدنيا لحب سواكم


*فمن وفى نفسه حظها من عيش جسده بالشهوات الحسية كالطعام والشراب فسد قلبه وقسى وجلب له ذلك الغفلة وكثرة النوم فنقص حظ روحه وقلبه من طعام المناجاة وشراب المعرفة فخسر خسرانا مبينا
*قال بعضهم مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب شيء فيها قيل وما هو قال معرفة الله عز و جل فمن عاش في الدنيا لا يعرف ربه ولا ينعم بخدمته فعيشه عيش البهائم شعر

نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
*وتتعب فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم


*فالصالحون كلهم قللوا من عيش الأجساد وكثروا من عيش الأرواح لكن منهم من قلل من عيش بدنه ليستوفيه في الآخرة وهذا تاجر ومنهم من فعل ذلك خوفا من الحساب عليه في الآخرة*والمحققون فعلوا ذلك تفريغا للنفس عما يشغل عن الله لتتفرغ القلوب للعكوف على طاعته وخدمته وذكره وشكره والأنس به والشوق إلى لقائه.

فإن الأخذ من عيش الأجساد أكثر من قدر الحاجة يلهي عن الله ويشغل عن خدمته*قال بعضهم كل ما يشغلك عن الله فهو عليك شؤم فلا كان ما يلهي عن الله إنه يضر ويردي إنه لشؤم*فما تفرغ أحد لطلب عيش الأجساد وأعطى نفسه حظها من ذلك إلا ونقص حظه من عيش الأرواح وربما مات قلبه من غفلته عن الله وإعراضه عنه وقد ذم الله من كان كذلك قال الله عز و جل فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا*ثم إن ما حصلوه من شهواتهم ينقطع ويزول بالموت وينقص بذلك حظهم عند الله في الآخرة فإن كان ما حصلوه من شهواتهم من حرام فذلك هو الخسران المبين فإنه يوجب العقوبة الشديدة في الآخرة فلما لم يجتمع في الدنيا للعبد بلوغ حظه من عيش روحه وبلوغ نهاية حظه من عيش جسده جعل الله للمؤمنين دارا جمع لهم فيها ما بين هذين الحظين على نهاية ما يكون من الكمال وهي الجنة*فإن فيها جميع لذات الأجساد وعيشها ونعيمها كما قال الله تعالى وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وقال لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد ولا ينقص ذلك حظهم من لذات أرواحهم فإنه تتوفر لذات قلوبهم وتتزايد على ما كانت للمؤمنين في الدنيا مما لا نسبة لما كان في الدنيا إليه فإن الخبر في الدنيا يصير هناك عيانا فأعلى نعيمهم هناك رؤية الله ومشاهدته وقربه ورضاه وتحصل لهم بذلك نهاية المعرفة به والأنس ويتزايد هنالك لذة ذكره على ما كان في الدنيا فإنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس وتصير كلمة التوحيد لهم كالماء البارد لأهل الدنيا فعلم بهذا أن العيش الطيب على الحقيقة لا يحصل في الدنيا إنما يكون بعد الموت فإن من يوفر حظه من نعيم روحه وقلبه في الدنيا يتوفر في الآخرة أيضا ومن توفر حظه من نعيم جسده في دنياه وسر بها نقص في الدنيا ونقص به أيضا حظه من نعيم الآخرة*ومع هذا فهو نعيم منغص لا يدوم ولا يبقى وكثيرا ما ينغص بالأمراض والأسقام وربما انقطع وتبدل صاحبه بالفقر والذل بعد الغنى والعز وإن سلم من ذلك كله فإنه ينغصه الموت فإذا جاء الموت فما كأن من تنعم بالدنيا ذاق شيئا من لذاتها خصوصا إن انتقل بعد الموت إلى عذاب الآخرة كما قال الله تعالى أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون*وكان الرشيد قد بنى قصرا فلما فرغ منه استدعى فيه بطعام وشراب وملاهي واستدعى أبا العتاهية فقال له صف لي ما نحن فيه من العيش فأنشأ يقول شعر

*عش ما بدا لك سالما ... في ظل شاهقة القصور
*يسعى عليك بما اشتهيت ... لدى الرواح وفي البكور
*فإذا النفوس تقعقعت ... في ضيق حشرجة الصدور
*فهناك تعلم موقنا ... ما كنت إلا في غرور

فبكى الرشيد فقال له الوزير دعاك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته فقال الرشيد دعه فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا عمى.

*نظر بعض المترفين عند موته إلى منزله فاستحسنه وقال شعر
*إن عيشا يكون آخره الموت ... لعيش معجل التنغيص
ثم مات من يومه وقال آخر*
يا غنيا بالدنانير ... محب الله أغنى

وقال آخر شعر
*إنما الدنيا وإن سرت ... قليل من قليل*
إنما العيش جوار الله في ... ظل ظليل*
حين لا تسمع ما يؤذيك ... من قال وقيل

*وقال آخر
*وكيف يلذ العيش من كان عالما ... بأن إله الخلق لابد سائله
*فيأخذ منه ظلمه لعباده ... ويجزيه بالخير الذي هو فاعله


فالأشقياء في البرزخ في عيش ضنك قال الله تعالى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا*وقد روي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا وموقوفا أن المعيشة الضنك عذاب القبر يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ويسلط عليه تسعة وتسعون تنينا.

وأما عيشهم في الآخرة فأضيق وأضيق فأما من طاب عيشه بعد الموت فإن طيب عيشه لا ينقطع بل كلما جاء تزايد طيبه ولهذا سئل بعضهم من أنعم الناس فقال أجسام في التراب قد أمنت العذاب وانتظرت الثواب فهذا في البرزخ في عيش طيب.

*رؤي معروف في المنام بعد موته وهو ينشد:
موت التقي حياة لا نفاد لها ... قد مات قوم وهم في الناس أحياء

*وكان إبراهيم بن أدهم ينشد:
ما أحد أنعم من مفرد ... في قبره أعماله تؤنسه*
منعم الجسم وفي روضة ... زينها الله فهي مجلسه


رؤي بعض الصالحين في المنام بعد موته فقال نحن بحمد الله في برزخ محمود نفترش فيه الريحان ونتوسد فيه السندس والاستبرق إلى يوم النشور*رؤي بعض الموتى في المنام فسئل عن حال الفضيل بن عياض فقال كسي حلة لا تقوم لها الدنيا بحواشيها*فأما عيش المتقين في الجنة فلا يحتاج أن يسأل عن طيبه ولذته ويكفي في ذلك قوله تعالى فهو في عيشة راضية في جنة عاليه قطوفها دانية كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية ومعنى راضية أي عيشة يحصل بها الرضى وفسر ابن عباس هنيئا بأنه لا موت فيها يشير إلى أنه لم يهنهم العيش إلا بعد الموت والخلود فيها.

قال يزيد الرقاشي أمن أهل الجنة الموت فطاب لهم العيش وأمنوا من الأسقام فهنأ لهم في جوار الله طول المقام*وقال الله تعالى إن المتقين في جنات وعيون إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه وسرره وقصوره مسيرة ألفي عام يرى أقصاه كما يرى أدناه وأعلاهم من ينظر إلى وجه ربه بكرة وعشيا*وقال طائفة من السلف إن المؤمن له باب في الجنة من داره إلى دار السلام يدخل منه على ربه إذا شاء بلا إذن.

قال أبو سليمان الداراني وإذا أتاه رسول من رب العزة بالتحية واللطف فلا يصل إليه حتى يستأذن عليه يقول للحاجب استأذن لي على ولي الله فإني لست أصل إليه فيعلم ذلك الحاجب حاجبا آخر حتى يصل إليه فذلك قوله تعالى وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا

*فلله ذاك العيش بين خيامها ... وروضاتها والثغر في الروض يبسم*
ولله كم من خيرة إن تبسمت ... أضاء لها نور من الفجر أعظم*
ولله واديها الذي هو موعد ... المزيد لوفد الحب لو كنت منهم
بذيالك الوادي يهيم صبابة ... محب يرى أن الصبابة مغنم*
ولله أفراح المحبين عندما ... يخاطبهم مولاهم ويسلم*
ولله أبصار ترى الله جهرة ... فلا الغيم يغشاها ولا هي تسأم
*فيا نظرة أهدت إلى القلب نظرة ... أمن بعدها يسلو المحب المتيم
*فروحك قرب إن أردت وصالهم ... فما غلبت نظر تشري بروحك منهم*
وأقدم ولا تقنع بعيش منغص ... فما فاز باللذات من ليس يقدم
*فصم يومك الأدنى لعلك في غد ... تفوز بعيد الفطر والناس صوم
*فيا بائعا هذا ببخس معجل ... كأنك لا تدري بلى سوف تعلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم


*قوله بعد هذا وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة*فهذا يشتمل على أعلى نعيم المؤمن في الدنيا والآخرة وأطيب عيش لهم في الدارين*فأما لذة النظر إلى وجه الله عز و جل فإنه أعلى نعيم أهل الجنة وأعظم لذة لهم كما في صحيح مسلم عن صهيب عن النبي قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى المنادي يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ألم يثقل موازيننا ألم يدخلنا الجنة ألم يجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم شيئا هو أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة ثم تلا رسول الله هذه الآية للذين أحسنوا الحسنى وزيادة*وفي رواية لابن ماجه وغيره في هذا الحديث فوالله ما أعطاهم شيئا هو أحب إليهم ولا أقر لأعينهم من النظر إليه*وخرج عثمان الدارمي من حديث ابن عمر مرفوعا إن أهل الجنة إذا بلغ بهم النعيم كل مبلغ فظنوا أنه لا نعيم أفضل منه تجلى الرب تبارك وتعالى عليهم فينظرون إلى وجه الرحمن فنسوا كل نعيم عاينوه حين نظروا إلى وجه الرحمن وخرجه الدارقطني بنقصان منه وزيادة وفيه فيقول يا أهل الجنة هللوني وكبروني وسبحوني كما كنتم تهللوني وتكبروني وتسبحوني في دار الدنيا فيتجاوبون بتهليل الرحمن فيقول الله تبارك وتعالى لداود عليه السلام ياداود مجدني فيقوم داود فيمجد الله عز و جل*وفي سنن ابن ماجه عن جابر مرفوعا بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة وهو قوله تعالى سلام قولا من رب رحيم فلا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه.

و خرج البيهقي من حديث جابر مرفوعا إن أهل الجنة يزورون ربهم تعالى على نجائب من ياقوت أحمر أزمتها من زمرد أخضر فيأمر الله بكثبان من مسك أذفر أبيض فتثير عليها ريحا يقال لها المثيرة حتى تنتهي بهم إلى جنة عدن وهي قصبة الجنة فتقول الملائكة ربنا جاء القوم فيقول مرحبا بالصادقين مرحبا بالطائعين قال فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه ويتمتعون بنوره حتى لا يبصر بعضهم بعضا ثم يقول ارجعوا إلى القصور بالتحف فيرجعون وقد أبصر بعضهم بعضا فذلك قوله تعالى نزلا من غفور رحيم*وفي مسند البزار من حديث حذيفة مرفوعا في حديث يوم المزيد أن الله يكشف تلك الحجب ويتجلى لهم فيغشاهم من نوره ما لولا أن الله تعالى قضى أن لا يحترقوا لاحترقوا مما غشيهم من نوره فيرجعون إلى منازلهم وقد خفوا على أزواجهم مما غشيهم من نوره فإذا صاروا إلى منازلهم تراد النور وأمكن وتراد وأمكن حتى يرجعوا إلى صورهم التي كانوا عليها*ويروى من حديث أنس مرفوعا إن الله يقول لأهل الجنة إذا استزارهم وتجلى لهم سلام عليكم يا عبادي انظروا إلي فقد رضيت عنكم فيقولون سبحانك سبحانك فتتصدع له مدائن الجنة وقصورها ويتجاوب فصول شجرها وأنهارها وجميع ما فيها سبحانك سبحانك فاحتقروا الجنة وجميع ما فيها حين نظروا إلى وجه الله تعالى ويروى من حديث علي مرفوعا إن الله يتجلى لأهل الجنة عن وجهه فكأنهم لم يروا نعمة قبل ذلك وهو قوله ولدينا مزيد*ويروى من حديث أبي جعفر مرسلا إن أهل الجنة إذا زاروا ربهم تعالى وكشف لهم عن وجهه قالوا ربنا أنت السلام ومنك السلام وبك حق الجلال والإكرام فيقول تعالى مرحبا بعبادي الذين حفظوا وصيتي وراعوا عهدي وخافوني بالغيب وكانوا مني على كل حال مشفقين فقالوا وعزتك وعظمتك وجلالك ما قدرناك حق قدرك وما أدينا إليك كل حقك فأذن لنا بالسجود لك فيقول لهم عز و جل إني قد وضعت عنكم مؤنة العبادة وأرحت لكم أبدانكم فطالما أنصبتم لي الأبدان وأعنيتم الوجوه فالآن أفضيتم إلي روحي ورحمتي وكرامتي فسلوني ما شئتم وتمنوا علي أعطكم أمانيكم فإني لم أجزكم اليوم بقدر أعمالكم ولكن بقدر رحمتي وكرامتي فما يزالون في الأماني والعطايا والمواهب حتى إن المقصر منهم في أمنيته ليتمنى مثل جميع الدنيا منذ خلقها الله إلى أن أفناها فيقول لهم الرب تبارك وتعالى لقد قصرتم في أمانيكم ورضيتم بدون ما يحق لكم فقد أوجبت لكم ما سألتم وتمنيتم وألحقت بكم ذريتكم وزدتكم ما قصرت عنه أمانيكم*قال عبد الرحمن بن أبي ليلى إذا تجلى لهم ربهم لا يكون ما أعطو عند ذلك بشيء*قال الحسن إذا تجلى لأهل الجنة نسوا كل نعيم الجنة وكان يقول لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لماتوا*وقال إن أحباء الله هم الذين ورثوا طيب الحياة وذاقوا نعيمها بما وصلوا إليه من مناجاة حبيبهم وبما وجدوا من حلاوة حبه في قلوبهم لا سيما إذا خطر على بالهم ذكر مشافهته وكشف ستور الحجب عنه في المقام الأمين و السرور وأراهم جلاله وأسمعهم لذة كلامه ورد جواب ما ناجوه أيام حياتهم.

*أملي أن أراك يوما من الدهر ... فأشكو لك الهوى والغليلا*
وأناجيك من قرب وأبدي ... هذا الجوى وهذا النحولا


قال وهب لو خيرت بين الرؤية والجنة لاخترت الرؤية.

*رؤي بشر في المنام فسئل عن حاله وحال إخوانه فقال تركت فلانا وفلانا ما بين يدي الله يأكلان ويشربان ويتنعمان قيل له فأنت قال علم قلة رغبتي في الطعام وأباحني النظر إليه*

يا حبيب القلوب ما لي سواك ... ارحم اليوم مذنبا قد أتاكا
*أنت سؤلي ومنيتي وسروري ... طال شوقي متى يكون لقاكا
*ليس سؤلي من الجنان نعيم ... غير أني أريدها لأراكا


قال ذو النون ما طابت الدنيا إلا بذكره ولا طابت الجنة من الجنة كما يستغيث أهل النار من النار*كان بعض الصالحين يقول ليت ربي جعل ثوابي من عملي نظرة إليه ثم يقول كن ترابا*كان علي بن الموفق يقول اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك خوفا من نارك فعذبني بها وإن كنت تعلم أني أعبدك حبا لجنتك فاحرمنيها وإن كنت تعلم أنما عبدتك حبا مني لك وشوقا إلى وجهك الكريم فأبحنيه واصنع بي ما شئت سمع بعضهم قائلا يقول:
كبرت همة عبد طمعت في أن تراكا ... أو ما حسبت أن ترى من رأكا
*ثم شهق شهقة فمات.

*لما غلب الشوق على قلوب المحبين استروحوا إلى مثل هذه الكلمات وما تخفي صدورهم أكبر:
*تجاسرت فكاشفتك لما غلب الصبر ... فإن عنفني الناس ففي وجهك لي عذر*

أبصار المحبين قد غضت من الدنيا والآخرة فلم تفتح إلا عند مشاهدة محبوبهم يوم المزيد
*أروح وقد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواك
لو أني استطعت غضضت طرفي ... فلم أنظر به حتى أراكا
*أحبك لا ببعضي بل بكلي ... وإن لم يبق حبك لي حراكا*
وفي الأحباب مخصوص بوجد ... وآخر يدعي معي اشتراكا
*إذا استكبت دموعي في خدودي ... تبين من بكى ممن تباكا
*فأما من بكى فيذوب وجدا ... وينطق بالهوى من قد تشاكا


*كان سمنون المحب ينشد:

*وكان فؤادي خاليا قبل حبكم ... وكان بذكر الخلق يلهو ويمرح*
فلما دعا قلبي هواك أجابه ... فلست أراه عن فنائك يبرح
رميت ببعد عنك إن كنت كاذبا ... وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح
*وإن كان شيء بالبلاد بأسرها ... إذا غبت عن عيني لعيني يملح
*فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل ... فلست أرى قلبي لغيرك يصلح


*وأما الشوق إلى لقاء الله فهو أجل مقامات العارفين في الدنيا وقد روي عن النبي أنه كان يدعو اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلى وخشيتك أخوف الأشياء عندي واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقرر عيني من عبادتك.

وإنما قال من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة لأن الشوق إلى لقاء الله يستلزم محبة الموت والموت يقع تمنيه كثيرا من أهل الدنيا بوقوع الضراء المضرة في الدنيا وإن كان منهيا عنه في الشرع*ويقع من أهل الدين تمنيه لخشية الوقوع في الفتن المضلة*فسأل تمني الموت خاليا من هذين الحالين وأن يكون ناشئا عن محض محبة الله والشوق إلى لقائه وقد حصل هذا المقام لكثير من السلف قال أبو الدرداء أحب الموت اشتياقا إلى ربي وقال أبو عتبة الخولاني كان إخوانكم لقاء الله أحب إليهم من الشهد*وقالت رابعة طالت علي الأيام والليالي بالشوق إلى لقاء الله*ومكث فتح بن شخروف ثلاثين سنة لم يرفع رأسه إلى السماء ثم رفع رأسه فقال طال شوقي إليك فعجل قدومي عليك وكان بعضهم يقول في مناجاته قبيح بعبد ذليل مثلي يعلم عظيما مثلك اللهم أنت تعلم أنك لو خيرتني أن تكون لي الدنيا منذ خلقت أتنعم فيها حلالا لا أسأل عنها يوم القيامة وبين أن تخرج روحي الساعة لاخترت أن تخرج نفسي الساعة
قال بعض السلف إذا ذكرت القدوم على الله كنت أشد اشتياقا إلى الموت من الظمآن الشديد ضمؤه في اليوم الحار الشديد حره إلى الشراب الشديد برده

*اشتاق إليك يا قريب نائي ... شوق الضامي إلى زلال المائي*

قال الجنيد سمعت سريا يقول :
الشوق أجل مقام العارف إذا تحقق فيه وإذا تحقق بالشوق لهى عن كل ما يشغله عمن يشتاق إليه*.

رؤي داود الطائي في المنام على منبر عال وهو ينشد:

*ما نال عبد من الرحمن منزلة ... أعلى من الشوق إن الشوق محمود

لازال المحبون يروضون أرواحهم في الدنيا حتى خرجت عن أبدان الهوى وصارت في حواصل طير الشوق فهي تسرح في رياض الأنس وترد حياض القدس ثم تأوي إلى قناديل المعرفة المعلقة في المحل الأعلى حول العرش كما قال بعض العارفين القلوب جوالة فقلب يدور حول العرش وقلب يجول حول الحش كلما حلت نسمات القدس من أرجاء الأنس على أغصان قلوب الأحباب تمايلت شوقا إلى ذلك الجناب*كان بعض السلف يمشي أبدا على قدميه من الشوق وكان بعضهم كأنه مخمور من غير شراب

*تريحني إليك الشوق حتى ... أميل من اليمين إلى الشمال
ويأخذني لذكركم رياح ... كما نشط الأسير من العقال


*أهل الشوق على طبقتين أحدهما من أقلقه الشوق ففني اصطباره كان أبو عبيدة الخواص يمشي ويضرب على صدره ويقول واشوقاه إلى من يراني ولا أراه.

*كان داود الطائي يقول بالليل همك عطل علي الهموم وخالف بيني وبين السهاء وشوقي إلى النظر إليك أوبق مني اللذات وخالف بيني وبين الشهوات فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب
*أحبابي أما جفن عيني فمقروح ... وأما فؤادي فهو بالشوق مجروح*
يذكرني مر النسيم عهودكم ... فأزداد شوقا كلما هبت الريح
*أراني إذا ما أظلم الليل أشرقت ... بقلبي من نار الغرام مصابي
أصلي بذكراكم إذا كنت خاليا ... ألا إن تذكار الأحبة تسبيح


*الطبقة الثانية من إذا أقلقهم الشوق سكنهم الأنس بالله فاطمأنت قلوبهم بذكره وأنسوا بقربه*وهذه حال الرسول وخواص العارفين من أمته وسئل الشبلي بماذا تستريح قلوب المحبين والمشتاقين فقال بسرورهم بمن أحبوه واشتاقوا إليه
*أموت إذا ذكرتك ثم أحيا ... ولولا ما أؤمل ما حييت
*فأحيا بالمنى وأموت شوقا ... فكم أحيا عليك وكم أموت


*كانت بعض الصالحات تقول أليس عجبا أن أكون حية بين أظهركم وفي قلبي من الاشتياق إلى ربي مثل شعل النار التي لا تطفأ.

أموت اشتياقا ثم أحيا بذكركم ... وبين التراقي والضلوع لهيب
*فلا عجبا موت المشوق صبابة ... ولكن بقاه في الحياة عجيب*


هذه أحوال لا يعرفها إلامن ذاقها:

*لايعرف الوجد إلامن يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها

*فأما من ليس عنده منها خبر فربما لام أهلها:

*يا عاذل المشتاق دعه فإنه ... لديه من الزفرات غير حشاكا*
لو كان قلبك قلبه ما لمته ... حاشاك مما عنده حاشاكا.
انتهى.

هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله و صحبه وسلم.


التعديل الأخير تم بواسطة أبوعبدالرحمن عبدالله بادي ; 10 Apr 2016 الساعة 11:25 AM
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09 Apr 2016, 05:19 PM
أبو ياسر أحمد بليل أبو ياسر أحمد بليل غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Jan 2016
الدولة: ولاية سعيدة - الجزائر
المشاركات: 405
افتراضي

جزاك الله خير اخونا عبد الرحمن مقال جدير بالنفع مسدد
أحسنت
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 09 Apr 2016, 05:44 PM
أبو عاصم مصطفى السُّلمي أبو عاصم مصطفى السُّلمي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2016
المشاركات: 607
افتراضي

جزاك الله خيرا أخانا أبا عبد الرحمن
دعاء عظيم القدر جليل الشأن ، وشّحته موعظة بليغة
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 09 Apr 2016, 06:16 PM
أبو عبد السلام جابر البسكري أبو عبد السلام جابر البسكري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Feb 2014
المشاركات: 1,229
إرسال رسالة عبر Skype إلى أبو عبد السلام جابر البسكري
افتراضي

جزاك الله خيرا أخي بادي ونفع بمقالك القاصي والداني.
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 21 May 2016, 12:26 PM
أبوعبدالرحمن عبدالله بادي
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي


الإخوة الفضلاء أبو عبدالسلام، أبو عاصم، أبو ياسر

شكرا على مروركم وجزاكم الله خيرا ونفع بكم.
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013